ج7ج8.
ج7 وج8. .كتاب : أحكام القرآن ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : رُخِّصَ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مَنْ
ظَلَمَهُ ، وَإِنْ صَبَرَ وَغَفَرَ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ ؛ وَصِفَةُ دُعَائِهِ
عَلَى الظَّالِمِ أَنْ يَقُولَ : اللَّهُمَّ أَعْنِي عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ
اسْتَخْرِجْ حَقِّي مِنْهُ ، اللَّهُمَّ حُلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ؛ قَالَهُ
الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا صَحِيحٌ ،
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سَمِعَتْ مَنْ يَدْعُو عَلَى
سَارِقٍ سَرَقَهُ ، فَقَالَتْ : لَا تَسْتَحْيِي عَنْهُ ، أَيْ لَا تُخَفِّفْ
عَنْهُ بِدُعَائِك ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُؤْمِنًا ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ كَافِرًا
فَأُرْسِلْ لِسَانَك وَادْعُ بِالْهَلَكَةِ ، وَبِكُلِّ دُعَاءٍ ، كَمَا فَعَلَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّصْرِيحِ عَلَى الْكُفَّارِ
بِالدُّعَاءِ وَتَعْيِينِهِمْ وَتَسْمِيَتِهِمْ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُجَاهِرًا
بِالظُّلْمِ دَعَا عَلَيْهِ جَهْرًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِرْضٌ مُحْتَرَمٌ ،
وَلَا بَدَنٌ مُحْتَرَمٌ ، وَلَا مَالٌ مُحْتَرَمٌ .
وَقَدْ فَصَّلْنَا ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْعِبَادِ فِي
الْمَعَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
مَنْ ظُلِمَ } : قُرِئَ بِفَتْحِ الظَّاءِ ، وَقُرِئَ بِضَمِّهَا ، وَقَالَ أَهْلُ
الْعَرَبِيَّةِ : كِلَا الْقِرَاءَتَيْنِ هُوَ اسْتِثْنَاءٌ لَيْسَ مِنْ
الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى : لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ " مَنْ "
رَفْعًا عَلَى الْبَدَلِ مِنْ أَحَدٍ
.
التَّقْدِيرُ : لَا يُحِبُّ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ
لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ .
وَاَلَّذِي قَرَأَهَا بِالْفَتْحِ هُوَ زَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ ، وَكَانَ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْقُرْآنِ ، وَقَدْ أَغْفَلَ
الْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى الْآيَةِ تَقْدِيرَهَا وَإِعْرَابَهَا ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
وَاخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ
حَذْفٍ مُقَدَّرٍ ، تَقْدِيرُهُ فِي فَاتِحَةِ الْآيَةِ لِيَأْتِيَ
الِاسْتِثْنَاءُ مُرَكَّبًا عَلَى مَعْنًى مُقَدَّرٍ خَيْرٌ مِنْ تَقْدِيرِهِ
هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ فَنَقُولُ : مَعْنَى الْآيَةِ لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ
بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ بِضَمِّ الظَّاءِ .
أَوْ نَقُولُ مُقَدَّرًا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى : لَا
يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ لِأَحَدٍ إلَّا مَنْ ظُلِمَ
، فَهَذَا خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَقُولَ تَقْدِيرُهُ : لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ بِضَمِّ
الظَّاءِ فَإِنَّهُ كَذَا .
أَوْ مَنْ ظُلِمَ فَإِنَّهُ كَذَا ، التَّقْدِيرُ
أَبْعَدُ مِنْهُ وَأَضْعَفُ ، كَمَا قَدَّرَ الْعُلَمَاءُ الْمُحَقِّقُونَ فِي
قَوْله تَعَالَى : { إنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إلَّا مَنْ ظَلَمَ
ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
قِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ تَقْدِيرًا انْتَظَمَ بِهِ
الْكَلَامُ وَاتَّسَقَ بِهِ الْمَعْنَى ؛ قَالُوا : تَقْدِيرُ الْآيَةِ إنِّي لَا
يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ، لَكِنْ يَخَافُ الظَّالِمُونَ ، إلَّا مَنْ
ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ ، فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ
بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ
فِي مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ ،
وَأَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، وَلَا خِلَافَ فِي
مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي أَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ
أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ الرِّبَا وَأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ ، فَإِنْ كَانَ
ذَلِكَ خَبَرًا عَمَّا نَزَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْقُرْآنِ ، وَأَنَّهُمْ
دَخَلُوا فِي الْخِطَابِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَبَرًا عَمَّا
أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُوسَى فِي التَّوْرَاةِ ، وَأَنَّهُمْ
بَدَّلُوا وَحَرَّفُوا وَعَصَوْا وَخَالَفُوا فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا
مُعَامَلَتُهُمْ ، وَالْقَوْمُ قَدْ أَفْسَدُوا أَمْوَالَهُمْ فِي دِينِهِمْ أَمْ
لَا ؟ فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ أَنَّ مُعَامَلَتَهُمْ لَا تَجُوزُ ؛ وَذَلِكَ لِمَا
فِي أَمْوَالِهِمْ مِنْ هَذَا الْفَسَادِ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ رِبَاهُمْ
وَاقْتِحَامِهِمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ ، فَقَدْ قَامَ
الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى ذَلِكَ قُرْآنًا وَسُنَّةً : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
: { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ
لَهُمْ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي مُخَاطَبَتِهِمْ بِفُرُوعِ
الشَّرِيعَةِ ، { وَقَدْ عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْيَهُودَ ، وَمَاتَ وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ فِي شَعِيرٍ
أَخَذَهُ لِعِيَالِهِ } .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ
سُئِلَ عَمَّنْ أَخَذَ ثَمَنَ الْخَمْرِ فِي الْجِزْيَةِ وَالتِّجَارَةِ ، فَقَالَ
: وَلُّوهُمْ بَيْعَهَا وَخُذُوا مِنْهُمْ عُشْرَ أَثْمَانِهَا ؛ وَالْحَاسِمُ
لِدَاءِ الشَّكِّ وَالْخِلَافِ اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ عَلَى جَوَازِ التِّجَارَةِ
مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَقَدْ سَافَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَيْهِمْ تَاجِرًا ، وَهِيَ
:
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَذَلِكَ مِنْ سَفَرِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ قَاطِعٌ عَلَى جَوَازِ السَّفَرِ
إلَيْهِمْ وَالتِّجَارَةِ مَعَهُمْ
.
فَإِنْ قِيلَ : كَانَ ذَلِكَ قَبْل النُّبُوَّةِ .
قُلْنَا :
إنَّهُ لَمْ يَتَدَنَّسْ قَبْل النُّبُوَّة بِحَرَامٍ ،
ثَبَتَ ذَلِكَ تَوَاتُرًا ، وَلَا اعْتَذَرَ عَنْهُ إذْ بُعِثَ ، وَلَا مَنَعَ
مِنْهُ إذْ نُبِّئَ ، وَلَا قَطَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي حَيَاتِهِ
وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؛ فَقَدْ كَانُوا يُسَافِرُونَ
فِي فَكِّ الْأَسْرَى ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ ؛ وَفِي الصُّلْحِ كَمَا أَرْسَلَ
عُثْمَانَ وَغَيْرَهُ ، وَقَدْ يَجِبُ وَقَدْ يَكُون نَدْبًا ، فَأَمَّا السَّفَرُ
إلَيْهِمْ لِمُجَرَّدِ التِّجَارَةِ فَذَلِكَ مُبَاحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا
قُلْتُمْ إنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، كَيْف يَجُوزُ
مُبَايَعَتُهُمْ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ ؟
قُلْنَا : سَامَحَ الشَّرْعُ فِي مُعَامَلَتِهِمْ وَفِي طَعَامِهِمْ رِفْقًا بِنَا
، وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِي الْمُخَاطَبَةِ تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُ مَا
جَعَلَ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ إلَّا وَنَفَاهُ ، وَلَا كَانَتْ فِي
الْعُقُوبَةِ شِدَّةٌ إلَّا وَأَثْبَتَهَا عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مَعَ أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ
لَهُمْ الشَّرْعَ ، وَبَيَّنَ لَهُمْ الْأَحْكَامَ فَقَدْ بَدَّلُوا وَابْتَدَعُوا
رَهْبَانِيَّةً الْتَزَمُوهَا ، فَأَجْرَى الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ عَلَى مَا هُمْ
عَلَيْهِ فِي بَيْعٍ وَطَعَامٍ حَتَّى فِي اعْتِقَادِهِمْ فِي أَوْلَادِهِمْ
وَبَنَاتِهِمْ ، سَوَاءٌ تَصَرَّفُوا فِي ذَلِكَ بِشِرْعَتِهِمْ أَوْ
بِعَصَبِيَّتِهِمْ ، حَتَّى قَالَ مَالِكٌ ؛ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
: يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِي الصُّلْحِ أَبْنَاؤُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ إذَا
كَانَ الصُّلْحُ لِلْعَامَيْنِ وَنَحْوَهُمَا ؟ لِأَنَّهُمَا مُهَادَنَةٌ ، وَلَوْ
كَانَ دَائِمًا أَوْ لِمُدَّةٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَجُزْ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُمْ
مِنْ الصُّلْحِ مِثْلُ مَا لِآبَائِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ فَرَاعَى
مَالِكٌ اعْتِقَادَهُمْ فِي
الْأَوْلَادِ وَالنِّسَاءِ ، كَمَا رَاعَى
اعْتِقَادَهُمْ فِي الطَّعَامِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا مَعَ
بَطَارِقَتِهِمْ يَعْنِي بِاتِّفَاقٍ مِنْهُمْ جَازَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ عَامَلَ مُسْلِمٌ
كَافِرًا بِرِبًا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ
الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ
فِي دَارِ الْحَرْبِ جَازَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَبْدِ الْمَلِكِ مِنْ
أَصْحَابِنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ،
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَالَهُ حَلَالٌ فَبِأَيِّ وَجْهٍ أُخِذَ
جَازَ .
قُلْنَا : إنَّ مَا يَجُوزُ أَخْذُهُ بِوَجْهٍ جَائِزٍ
فِي الشَّرْعِ مِنْ غَلَّةٍ وَسَرِقَةٍ فِي سَرِيَّةٍ ، فَأَمَّا إذَا أَعْطَى
مِنْ نَفْسِهِ الْأَمَانَ وَدَخَلَ دَارَهُمْ فَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِمْ أَنْ
يَفِيَ بِأَلَّا يَخُونَ عَهْدَهُمْ ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِمَالِهِمْ ، وَلَا
شَيْءَ مِنْ أَمْرِهِمْ ؛ فَإِنْ جَوَّزَ الْقَوْمُ الرِّبَا فَالشَّرْعُ لَا
يُجَوِّزُهُ .
فَإِنْ قَالَ أَحَدٌ : إنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ
بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ فَالْمُسْلِمُ مُخَاطَبٌ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ
ابْنَ الْمَاجِشُونِ لَمَّا قَالَ
: إنَّ مَنْ زَنَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بِحَرْبِيَّةٍ
لَمْ يَحُدَّ أَنَّ ذَلِكَ حَلَالٌ
.
وَهُوَ جَهْلٌ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
وَمَأْخَذِ الْأَدِلَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } ؛ فَلَا يُبَاحُ الْوَطْءُ إلَّا بِهَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ ، وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَرَى أَنَّ دَارَ الْحَرْبِ لَا حَدَّ
فِيهَا ، نَازَعَ بِذَلِكَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مَعَهُ ؛ فَأَمَّا التَّحْرِيمُ
فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَلَا تستنزلنكم الْغَفْلَةُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ سِتِّينَ قَوْله تَعَالَى : {
إنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا
تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
وَكَفَى بِاَللَّهِ وَكِيلًا }
.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى "
فِي تَسْمِيَةِ عِيسَى بِالْمَسِيحِ : قَدْ ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ نَحْوًا مِنْ
خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ وَجْهًا فِي مَعْنَاهُ ، وَأُمَّهَاتُهَا أَنَّهُ اسْمٌ
عَلَمٌ لَهُ .
أَوْ هُوَ فَعِيلَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ ، وُلِدَ
دَهِينًا لِأَنَّهُ مُسِحَ بِالدُّهْنِ أَوْ بِالْبَرَكَةِ ، أَوْ مَسَحَهُ حِينَ
وُلِدَ يَحْيَى .
أَوْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ عَلَيْهِ مَسْحَةُ
جَمَالٍ ، كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ جَمِيلٌ ، أَوْ يَمْسَحُ الزَّمَنَ فَيَبْرَأُ
أَوْ يَمْسَحُ الطَّائِرَ فَيَحْيَا ، أَوْ يَمْسَحُ الْأَرْضَ بِالْمَشْيِ ؛
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : بَلَغَنِي أَنَّ
عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ انْتَهَى إلَى قَرْيَةٍ قَدْ خَرِبَتْ حُصُونُهَا ،
وَعَفَتْ آثَارُهَا ، وَتَشَعَّثَ شَجَرُهَا ، فَنَادَى : يَا خَرِبُ ، أَيْنَ
أَهْلُك ؟ فَنُودِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : بَادُوا
وَالْتَقَمَتْهُمْ الْأَرْضُ ، وَعَادَتْ أَعْمَالُهُمْ قَلَائِدَ فِي رِقَابِهِمْ
إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَجْدٌ .
قَالَ الرَّاوِي : يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّهُ كَانَ
يَمْسَحُ الْأَرْضَ .
وَقِيلَ إنَّهُ مُعَرَّبٌ مِنْ مَشِيحٍ كَتَعْرِيبِ
مُوسَى عَنْ مُوشَى ، وَهُوَ بِتَخْفِيفِ الشِّينِ وَكَسْرِهَا ، وَكَذَلِكَ
الدَّجَّالُ ، وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ جَهَلَةُ يَتَوَسَّمُونَ بِالْعِلْمِ ،
فَجَعَلُوا الدَّجَّالَ مُشَدَّدَ السِّينِ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ ،
وَكِلَاهُمَا فِي الِاسْمِ سَوَاءٌ ، إنَّ الْأُوَلَ قَالُوا هُوَ الْمَسِيحُ
الَّذِي هُوَ مَسِيحُ الْهُدَى الصَّالِحُ السَّلِيمُ ، وَالْآخَرُ الْمَسِيحُ
الْكَذَّابُ الْأَعْوَرُ الدَّجَّالُ الْكَافِرُ ، فَاعْلَمُوهُ تَرْشُدُوا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِيهِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأُولَى : أَنَّهَا نَفْخَةٌ نَفَخَهَا
جِبْرِيلُ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا ، وَسُمِّيَتْ النَّفْخَةُ رُوحًا لِأَنَّهَا
تَكُونُ عَنْ الرِّيحِ .
الثَّانِي : أَنَّ الرُّوحَ الْحَيَاةُ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمُقْسِطِ وَالْمُشْكَلَيْنِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَى رُوحٍ رَحْمَةٌ .
الرَّابِعُ :
أَنَّ الرُّوحَ صُورَةٌ ؛ لِمَا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ
أَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ ذُرِّيَّتَهُ ، وَصَوَّرَهُمْ ، ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ ، أَلَسْت بِرَبِّكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى .
ثُمَّ أَنْشَأَهُمْ كَرَّةً أَطْوَارًا ، أَوْ جَعَلَ
لَهُمْ الدُّنْيَا قَرَارًا ؛ فَعِيسَى مِنْ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ أَدْخَلَهُ فِي
مَرْيَمَ .
وَاخْتَارَ هَذَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ .
وَقِيلَ فِي الْخَامِسِ : رُوحُ صُورَةٍ صَوَّرَهَا
اللَّهُ تَعَالَى ابْتِدَاءً وَجَّهَهَا فِي مَرْيَمَ .
وَقِيلَ فِي السَّادِسِ : سِرُّ رُوحٍ مِنْهُ يَعْنِي
جِبْرِيلَ ، وَهُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَلْقَاهَا إلَيْهِ رُوحٌ مِنْهُ أَيْ
إلْقَاءٌ الْكَلِمَةِ كَانَ مِنْ اللَّهِ ثُمَّ مِنْ جِبْرِيلَ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ كُلُّهَا
مُحْتَمَلَةٌ غَيْرُ بَعِيدَةٍ مِنْ الصَّوَابِ .
قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ : وَبَعْضُهَا
أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمُشْكَلَيْنِ ، لَكِنْ
يَتَعَلَّقُ بِهَا الْآنَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَسْأَلَةٌ ؛ وَهِيَ : .
إذَا قَالَ لِزَوْجِهِ : رُوحُك طَالِقٌ ؛ فَاخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ
.
وَكَذَا لَوْ قَالَ لَهَا : حَيَاتُك طَالِقٌ ، فِيهَا
قَوْلَانِ .
وَكَذَلِكَ مِثْلُهُ كَلَامُك طَالِقٌ .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ كَاخْتِلَافِنَا ،
وَاسْتَمَرَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَلْزَمُهُ فِي شَيْءٍ
مِنْ ذَلِكَ ؛ فَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا : كَلَامُك طَالِقٌ ؛ فَلَا إشْكَالَ
فِيهِ .
فَإِنَّ الْكَلَامَ حَرَامٌ سَمَاعُهُ ، فَهُوَ مِنْ
مُحَلِّلَاتِ النِّكَاحِ فَيَلْحَقُهُ الطَّلَاقُ .
وَأَمَّا الرُّوحُ وَالْحَيَاةُ فَلَيْسَ لِلنِّكَاحِ
فِيهِمَا مُتَعَلَّقٌ ، فَوَجْهُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِتَعْلِيقِهِ عَلَيْهِمَا
خَفِيٌّ ، وَهُوَ أَنَّ بَدَنَهَا الَّذِي فِيهِ الْمَتَاعُ لَا قِوَامَ لَهُ
إلَّا بِالرُّوحِ وَالْحَيَاةِ
.
وَهُوَ بَاطِنٌ فِيهَا ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا :
بَاطِنُك طَالِقٌ ، فَيُسْرِي الطَّلَاقُ إلَى ظَاهِرِهَا فَإِنَّهُ إذَا
تَعَلَّقَ الطَّلَاقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا سَرَى إلَى الْبَاقِي .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَسْرِي ، وَهِيَ
مَسْأَلَةُ خِلَافٍ كَبِيرَةٌ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي قَوْلِهِ : يَدُك
طَالِقٌ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ
مِنْهَا شَيْئًا وَحَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقِفَ حَيْثُ
قَالَ ، وَلَا يَتَعَدَّى ، أَوْ يَسْرِي كَمَا قُلْنَا أَوْ يَلْغُو .
وَمُحَالٌ أَنْ يَلْغُوَ لِأَنَّهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ
أَضَافَهُ إلَى مَحَلٍّ بِحُكْمٍ صَحِيحٍ جَائِزٍ فَنَفَذَ كَمَا لَوْ قَالَ :
وَأُمُّك طَالِقٌ أَوْ ظَهْرُك ، وَمُحَالٌ أَنْ يَقِفَ حَيْثُ قَالَ ؛ لِأَنَّهُ
يُؤَدِّي إلَى تَحْرِيمِ بَعْضِهَا وَتَحْلِيلِ بَعْضِهَا .
وَذَلِكَ مُحَالٌ شَرْعًا ، وَهَذَا بَالِغٌ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى :
{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا
الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
} .
هَذَا رَدٌّ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ :
إنَّ عِيسَى وَلَدُ اللَّهِ ، وَرَدٌّ عَلَى مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ
، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَهُمْ : إنَّ
مَنْ نَسَبْتُمُوهُ إلَى وِلَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، مِنْ آدَمِيٍّ وَمَلِكٍ ، لَيْسَ
بِمُمْتَنِعٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَهُ وَلَدًا ؟
وَلَوْ كَانَ اجْتِمَاعُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْوِلَادَةِ جَائِزًا مَا كَانَ
لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا
إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } .
فَإِنْ قِيلَ : مَا مَعْنَى { يَسْتَنْكِفَ } فِي اللُّغَةِ ؟
قُلْنَا : هُوَ يَسْتَفْعِلُ ، مِنْ نَكَفْت كَذَا إذَا نَحَّيْته ، وَهُوَ
مَشْهُورُ الْمَعْنَى .
التَّقْدِيرُ لَنْ يَتَنَحَّى مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا
يَبْعُدُ عَنْهُ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْهُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالسِّتُّونَ قَوْله تَعَالَى :
{ يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ
لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إنْ لَمْ
يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا
تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاَللَّهُ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي وَقْتِ
نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ قَالَ : آخِرُ
سُورَةٍ نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةَ ، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الْكَلَالَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
رُوِيَ عَنْ { جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : مَرِضْت وَعِنْدِي تِسْعُ
أَخَوَاتٍ لِي ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَنَضَحَ فِي وَجْهِي مِنْ الْمَاءِ ، فَأَفَقْت فَقُلْت : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ أَلَا أُوصِي لِأَخَوَاتِي بِالثُّلُثَيْنِ ؟ قَالَ : أَحْسِنْ .
قُلْت
: بِالشَّطْرِ ؟ قَالَ : أَحْسِنْ ثُمَّ خَرَجَ
وَتَرَكَنِي ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا أَرَاك مَيِّتًا مِنْ وَجَعِك هَذَا ،
فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الَّذِي لِأَخَوَاتِك فَجَعَلَ لَهُنَّ الثُّلُثَيْنِ } .
وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ : نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
: { يَسْتَفْتُونَك قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } خَرَّجَهُ
النَّسَائِيّ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ قَتَادَةُ :
وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ : أَلَا إنَّ الْآيَةَ الَّتِي نَزَلَتْ
فِي أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ مِنْ شَأْنِ الْفَرَائِضِ نَزَلَتْ فِي الْوَلَدِ
وَالْوَالِدِ ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي
الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنْ الْأُمِّ ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ
بِهَا سُورَةَ النِّسَاءِ فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ
، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا سُورَةَ الْأَنْفَالِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ
سُبْحَانَهُ فِي ذَوِي الْأَرْحَامِ ، وَمَا جَرَّتْ
الرَّحِمُ مِنْ الْعَصَبَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : {
نَزَلَتْ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ ،
وَإِلَى جَنْبِهِ حُذَيْفَةُ ، فَبَلَّغَهَا حُذَيْفَةُ وَبَلَّغَهَا عُمَرُ ،
وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَهُ ، فَلَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ سَأَلَ حُذَيْفَةَ
عَنْهَا ، وَرَجَا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ تَفْسِيرُهَا ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ
: وَاَللَّهِ إنَّك لَعَاجِزٌ }
.
هَكَذَا قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي رِوَايَتِهِ .
وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِيهَا : وَاَللَّهِ
إنَّك لَأَحْمَقُ إنْ ظَنَنْت أَنَّ إمَارَتَك تَحْمِلُنِي عَلَى أَنْ أُحَدِّثَك
بِمَا لَمْ أُحَدِّثْك يَوْمئِذٍ
.
فَقَالَ عُمَرُ : لَمْ أُرِدْ هَذَا رَحِمَك اللَّهُ ،
وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُك عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ :
اللَّهُمَّ مَنْ كُنْت بَيَّنْتهَا لَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تَتَبَيَّنْ لِي .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ { عُمَرَ نَازَعَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فَضَرَبَ فِي صَدْرِهِ ، وَقَالَ :
يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَإِنْ
أَعِشْ فَسَأَقْضِي فِيهَا بِقَضَاءٍ يَعْلَمُهُ مَنْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَمَنْ
لَا يَقْرَأُهُ ، وَهُوَ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
مَعْنَى الْآيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ ذَكَرٌ وَلَا أُنْثَى
فَكَانَ مَوْرُوثًا كَلَالَةً ، فَلِأُخْتِهِ النِّصْفُ فَرِيضَةً مُسَمَّاةً .
فَأَمَّا إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أُنْثَى فَهِيَ
مَعَ الْأُنْثَى عَصَبَةٌ يَصِيرُ لَهَا مَا كَانَ يَصِيرُ لِلْعَصَبَةِ لَوْ لَمْ
يَكُنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَحْدُودٍ بِحَدٍّ ، وَلَمْ يَقُلْ اللَّهُ : إنْ كَانَ لَهُ
وَلَدٌ فَلَا شَيْءَ لِأُخْتِهِ مَعَهُ ؛ فَيَكُونُ لِمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَجْهٌ ؛ إذْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ الْمَيِّتَ إذَا
تَرَكَ بِنْتًا فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا أَخٌ ذَكَرٌ
، وَإِنَّمَا بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَقَّهَا إذَا وَرِثَتْ الْمَيِّتَ
كَلَالَةً ، وَتَرَكَ بَيَانُ مَا لَهَا مِنْ حَقٍّ إذَا لَمْ يُورَثْ كَلَالَةً ؛
فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيِ رَبِّهِ
، فَجَعَلَهَا عَصَبَةً مَعَ إنَاثِ وَلَدِ الْمَيِّتِ ، وَذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ
وِرَاثَتَهَا فِي الْمَيِّتِ إذَا كَانَ مَوْرُوثًا عَنْ كَلَالَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } : مَعْنَاهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَضِلُّوا ،
وَفِيهِ اخْتِلَافٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ
فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ
ضَلَالٍ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا ؟ وَلَمْ يَعْلَمْهَا عُمَرُ وَلَا اتَّفَقَ فِيهَا
الصَّحَابَةُ وَمَا زَالَ الْخِلَافُ إلَى الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ .
قُلْنَا : لَيْسَ هَذَا ضَلَالًا ، وَهَذَا هُوَ
الْبَيَانُ الْمَوْعُودُ بِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَجْعَلْ طُرُقَ
الْأَحْكَامِ نَصًّا يُدْرِكُهُ الْجَفْلَيْ ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مَظْنُونًا
يَخْتَصُّ بِهِ الْعُلَمَاءُ لِيَرْفَعَ اللَّهُ تَعَالَى الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَاَلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ، وَيَتَصَرَّفُ
الْمُجْتَهِدُونَ فِي مَسَالِكِ النَّظَرِ ، فَيَدْرِك بَعْضُهُمْ الصَّوَابَ
فَيُؤْجَرُ عَشَرَةَ أُجُورٍ ، وَيُقَصِّرُ آخَرُ فَيُدْرِكُ أَجْرًا وَاحِدًا ،
وَتَنْفُذُ الْأَحْكَامُ الدُّنْيَاوِيَّةُ عَلَى مَا أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
، وَهَذَا بَيِّنٌ لِلْعُلَمَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِيهَا أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ
آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ
مَا يُرِيدُ } .
فِيهَا عِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : قَالَ عَلْقَمَةُ : إذَا سَمِعْت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا } فَهِيَ مَدَنِيَّةٌ ، وَإِذَا سَمِعْت : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ }
فَهِيَ مَكِّيَّةٌ ؛ وَهَذَا رُبَّمَا خَرَجَ عَلَى الْأَكْثَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَبُو سَلَمَةَ ، { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ الْحُدَيْبِيَةِ
قَالَ لِعَلِيٍّ : يَا عَلِيُّ ، أَشَعَرْت أَنَّهُ نَزَلَتْ عَلَيَّ سُورَةُ
الْمَائِدَةِ ، وَهِيَ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ } .
قَالَ الْإِمَامُ الْقَاضِي : هَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ ،
لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ اعْتِقَادُهُ ، أَمَّا أَنَّا نَقُولُ : سُورَةُ
الْمَائِدَةِ نِعْمَتْ الْفَائِدَةُ فَلَا نُؤْثِرُهُ عَنْ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّهُ
كَلَامٌ حَسَنٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ :
فِي الْمَائِدَةِ ثَمَانِي عَشَرَةَ فَرِيضَةً .
وَقَالَ غَيْرُهُ : فِيهَا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا } فِي سِتَّةَ عَشَرَ مَوْضِعًا ؛ فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي مَيْسَرَةَ :
إنَّ فِيهَا ثَمَانِي عَشْرَةَ فَرِيضَةً فَرُبَّمَا كَانَ أَلْفُ فَرِيضَةٍ ،
وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا نَحْنُ فِي هَذَا الْمُخْتَصَرِ لِلْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : شَاهَدْت الْمَائِدَةَ
بِطُورِ زَيْتَا مِرَارًا ، وَأَكَلْت عَلَيْهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ، وَذَكَرْت
اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِيهَا سِرًّا وَجِهَارًا ، وَكَانَ ارْتِفَاعُهَا أَسْفَلَ
مِنْ الْقَامَةِ بِنَحْوِ الشِّبْرِ ، وَكَانَ لَهَا دَرَجَتَانِ قَلْبِيًّا
وَجَوْفِيًّا ، وَكَانَتْ صَخْرَةً صَلْدَاءَ لَا تُؤَثِّرُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ ،
فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ : مُسِخَتْ صَخْرَةً إذْ مُسِخَ أَرْبَابُهَا
قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ
صَخْرَةٌ قُطِعَتْ مِنْ الْأَرْضِ مَحَلًّا لِلْمَائِدَةِ
النَّازِلَةِ مِنْ السَّمَاءِ ، وَكُلُّ مَا حَوْلَهَا
حِجَارَةٌ مِثْلُهَا ، وَكَانَ مَا حَوْلَهَا مَحْفُوفًا بِقُصُورٍ ، وَقَدْ
نُحِتَ فِي ذَلِكَ الْحَجَرِ الصَّلْدِ بُيُوتٌ ، أَبْوَابُهَا مِنْهَا ،
وَمَجَالِسُهَا مِنْهَا مَقْطُوعَةٌ فِيهَا ، وَحَنَايَاهَا فِي جَوَانِبِهَا ،
وَبُيُوتُ خِدْمَتِهَا قَدْ صُوِّرَتْ مِنْ الْحَجَرِ ، كَمَا تُصَوَّرُ مِنْ
الطِّينِ وَالْخَشَبِ ، فَإِذَا دَخَلْت فِي قَصْرٍ مِنْ قُصُورِهَا وَرَدَدْت
الْبَابَ وَجَعَلْت مِنْ وَرَائِهِ صَخْرَةً كَثُمْنِ دِرْهَمٍ لَمْ يَفْتَحْهُ
أَهْلُ الْأَرْضِ لِلُصُوقِهِ بِالْأَرْضِ ؛ فَإِذَا هَبَّتْ الرِّيحُ وَحَثَتْ
تَحْتَهُ التُّرَابَ لَمْ يُفْتَحْ إلَّا بَعْدَ صَبِّ الْمَاءِ تَحْتَهُ
وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ ، حَتَّى يَسِيلَ بِالتُّرَابِ وَيَنْفَرِجَ مُنْعَرَجُ
الْبَابِ ، وَقَدْ مَاتَ بِهَا قَوْمٌ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَقَدْ كُنْت أَخْلُو
فِيهَا كَثِيرًا لِلدَّرْسِ ، وَلَكِنِّي كُنْت فِي كُلِّ حِينٍ أَكْنُسُ حَوْلَ
الْبَابِ مَخَافَةً مِمَّا جَرَى لِغَيْرِي فِيهَا ، وَقَدْ شَرَحْت أَمْرَهَا فِي
كِتَابِ " تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ " بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
أَوْفُوا } يُقَالُ : وَفَى وَأَوْفَى
.
قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ : وَاللُّغَتَانِ فِي
الْقُرْآنِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ } .
وَقَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ : أَمَّا ابْنُ طَوْقٍ فَقَدْ
أَوْفَى بِذِمَّتِهِ كَمَا وَفَى بِقِلَاصِ النَّجْمِ حَادِيهَا فَجَمَعَ بَيْنَ
اللُّغَتَيْنِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي
وَفَّى } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ مَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الْعُقُودُ : وَاحِدُهَا
عَقْدٌ ، وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ : الْعُقُودُ :
الْعُهُودُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
.
الثَّانِي : حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالضَّحَّاكِ ،
وَمُجَاهِدٍ ، وَالثَّوْرِيِّ .
الثَّالِثُ : الَّذِي عَقَدَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
وَعَقَدْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
الرَّابِعُ :
عَقْدُ النِّكَاحِ وَالشَّرِكَةِ وَالْيَمِينِ
وَالْعَهْدِ وَالْحِلْفِ ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْبَيْعَ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ .
الْخَامِسُ : الْفَرَائِضُ ؛ قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ،
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْوَفَاءِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ .
قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الطَّبَرِيُّ صَحِيحٌ ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَنْقِيحٍ وَهِيَ
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : [
فِي تَنْقِيحِ قَوْلِ الطَّبَرِيِّ ] : قَالَ : وَذَلِكَ
أَنَّ أَصْلَ عَهْدٍ فِي اللُّغَةِ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ ، وَأَصْلَ الْعَقْدِ
الرَّبْطُ وَالْوَثِيقَةُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى
آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : "
الدِّينَارُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنَهُمَا ،
هَذَا عَهْدُ نَبِيِّنَا إلَيْنَا وَعَهْدُنَا إلَيْكُمْ " .
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : عَهِدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا
أَيْ : عَرَفْنَاهُ ، وَعَقَدْنَا أَمْرَ كَذَا وَكَذَا أَيْ : رَبَطْنَاهُ
بِالْقَوْلِ ، كَرَبْطِ الْحَبْلِ بِالْحَبْلِ ؛ قَالَ الشَّاعِرُ : قَوْمٌ إذَا
عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمْ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
وَعَهْدُ اللَّهِ إلَى الْخَلْقِ إعْلَامُهُ بِمَا أَلْزَمَهُمْ وَتَعَاهَدَ
الْقَوْمُ : أَيْ أَعْلَنَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ بِمَا الْتَزَمَهُ لَهُ
وَارْتَبَطَ مَعَهُ إلَيْهِ وَأَعْلَمَهُ بِهِ ؛ فَبِهَذَا دَخَلَ أَحَدُ
اللَّفْظَيْنِ فِي الْآخَرِ ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا عَلِمْت أَنَّ الَّذِي
قَرْطَسَ عَلَى الصَّوَابِ هُوَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ ؛ فَكُلُّ عَهْدٍ
لِلَّهِ سُبْحَانَهُ أَعْلَمَنَا بِهِ ابْتِدَاءً ، وَالْتَزَمْنَاهُ نَحْنُ
لَهُ ، وَتَعَاقَدْنَا فِيهِ بَيْنَنَا ، فَالْوَفَاءُ
بِهِ لَازِمٌ بِعُمُومِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُطْلَقِ الْوَارِدِ مِنْهُ
سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا فِي الْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِهِ .
وَأَمَّا مَنْ خَصَّ حِلْفَ الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا
قُوَّةَ لَهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُ إذَا لَزِمَ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَهُوَ
مِنْ عَقْدِ الْجَاهِلِيَّةِ ؛ فَالْوَفَاءُ بِعَقْدِ الْإِسْلَامِ أَوْلَى ،
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ : يَعْنِي مِنْ النَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنُّصْرَةِ ، وَسَقَطَ
الْمِيرَاثُ خَاصَّةً بِآيَةِ الْفَرَائِضِ وَآيَةِ الْأَنْفَالِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } ] .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَقْدُ الْبَيْعِ وَمَا ذُكِرَ
مَعَهُ ، فَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ وَأَسْقَطَ غَيْرَهَا
وَعُقُودَ اللَّهِ وَالنُّذُورَ ؛ وَهَذَا تَقْصِيرٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْكِسَائِيّ : الْفَرَائِضُ ، فَهُوَ أَخُو قَوْلِ
الزَّجَّاجِ ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ أَوْعَبُ ؛ إذْ دَخَلَ فِيهِ
الْفَرْضُ الْمُبْتَدَأُ وَالْفَرْضُ الْمُلْتَزَمُ وَالنَّدْبُ ، وَلَمْ
يَتَضَمَّنْ قَوْلُ الْكِسَائِيّ ذَلِكَ كُلَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا
فَرَبْطُ الْعَقْدِ تَارَةً يَكُونُ مَعَ اللَّهِ ، وَتَارَةً يَكُونُ مَعَ الْآدَمِيِّ
، وَتَارَةً يَكُونُ بِالْقَوْلِ ، وَتَارَةً بِالْفِعْلِ ؛ فَمَنْ قَالَ : "
لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ " فَقَدْ عَقَدَهُ بِقَوْلِهِ مَعَ رَبِّهِ ؛
وَمَنْ قَامَ إلَى الصَّلَاةِ فَنَوَى وَكَبَّرَ فَقَدْ عَقَدَهَا لِرَبِّهِ
بِالْفِعْلِ ، فَيَلْزَمُ الْأَوَّلَ ابْتِدَاءُ الصَّوْمِ ، وَيَلْزَمُ هَذَا
تَمَامُ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ عَقَدَهَا مَعَ
رَبِّهِ ، وَالْتَزَمَ .
وَالْعَقْدُ بِالْفِعْلِ أَقْوَى مِنْهُ بِالْقَوْلِ .
وَكَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ : { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ
يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا
} .
كَذَلِكَ قَالَ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ } .
وَمَا قَالَ الْقَائِلُ : عَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ أَوْ
صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ إلَّا لِيَفْعَلَ ، فَإِذَا فَعَلَ كَانَ أَقْوَى مِنْ
الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ عَقْدٌ وَهَذَا نَقْدٌ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَى الشَّافِعِيِّ تَمْهِيدًا
بَلِيغًا ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدِ
الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ كَانُوا يَقُولُونَ : هَدْمِي هَدْمُك ، وَدَمِي دَمُك ،
وَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَى النُّصْرَةِ فِي الْبَاطِلِ .
قُلْنَا : كَذَبْتُمْ ؛ إنَّمَا كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ
عَلَى مَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَ حَقًّا ، وَفِيمَا كَانُوا يَعْتَقِدُونَهُ
حَقًّا مَا هُوَ حَقٌّ كَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ ، وَحَمْلِ الْكَلِّ ، وَقِرَى
الضَّيْفِ ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ .
وَفِيهِ أَيْضًا بَاطِلٌ ؛ فَرَفَعَ الْإِسْلَامُ مِنْ
ذَلِكَ الْبَاطِلَ بِالْبَيَانِ ، وَأَوْثَقَ عُرَى الْجَائِزِ ، وَالْحَقِّ
مِنْهُ بِالْأَمْرِ بِالْوَفَاءِ بِإِتْيَانِهِمْ نَصِيبَهُمْ فِيهِ ، كَمَا
تَقَدَّمَ مِنْ النَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَالنُّصْرَةِ ، وَهَذَا كَمَا قَالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } .
مَعْنَاهُ إنَّمَا تَظْهَرُ حَقِيقَةُ إيمَانِهِمْ
عِنْدَ
الْوَفَاءِ بِشُرُوطِهِمْ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَحَقُّ
الشُّرُوطِ أَنْ يُوفَى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ } .
ثُمَّ قَالَ : { مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ
شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ مِائَةَ شَرْطٍ } .
فَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ
بِهِ مَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى ، أَيْ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى ،
كَذَلِكَ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِعَقْدٍ إلَّا أَنْ يُعْقَدَ عَلَى مَا فِي
كِتَابِ اللَّهِ .
وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلْتَزِمُوا الْوَفَاءَ
بِعُهُودِهِمْ وَشُرُوطِهِمْ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ
اللَّهِ ، فَيَسْقُطَ .
وَلَا يَمْنَعُ هَذَا التَّعَلُّقَ بِعُمُومِ
الْقَوْلَيْنِ ؛ وَلِذَلِكَ حَثَّ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ ، فَقَالَ : {
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
وَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ الشَّرِّ ، فَقَالَ : { لَا
ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } .
فَهَذَا حَثٌّ عَلَى فِعْلِ كُلِّ خَيْرٍ وَاجْتِنَابِ
كُلِّ شَرٍّ .
فَأَمَّا اجْتِنَابُ الشَّرِّ فَجَمِيعُهُ وَاجِبٌ .
وَأَمَّا فِعْلُ الْخَيْرِ فَيَنْقَسِمُ إلَى مَا يَجِبُ
وَإِلَى مَا لَا يَجِبُ ؛ وَكَذَلِكَ الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ ، وَلَكِنَّ
الْأَصْلَ فِيهَا الْوُجُوبُ ، إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى نَدْبِهِ ؛
وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ : لَمَّا كَانَتْ الْعُقُودُ الْبَاطِلَةُ
وَالشُّرُوطُ الْبَاطِلَةُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَالْجَائِزُ مِنْهَا مَحْصُورٌ
فَصَارَ مَجْهُولًا فَلَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ
وَلَا بِالشُّرُوطِ لِأَجْلِ ذَلِكَ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
التَّاسِعَةُ : قُلْنَا : وَمَا لَا يَجُوزُ [ كَيْفَ ] يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ أَمْرِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ مُجْمَلًا .
وَاَللَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَلَا
بِالْبَاطِلِ : لَقَدْ ضَلَّتْ إمَامَتُك وَخَابَتْ أَمَانَتُك ، وَعَلَى
هَذَا لَا دَلِيلَ فِي الشَّرْعِ لِأَمْرٍ يُفْعَلُ ؛ فَإِنَّ مِنْهُ كُلِّهِ مَا
لَا يَجُوزُ ، وَمِنْهُ مَا يَجُوزُ ، فَيُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ أَدِلَّةِ
الشَّرْعِ وَأَوَامِرِهِ .
وَاَلَّذِينَ قَالُوا بِالْوَقْفِ لَمْ يَرْتَكِبُوا
هَذَا الْخَطَرَ ، وَلَا سَلَكُوا هَذَا الْوَعْرَ ، فَدَعْ هَذَا ، وَعَدِّ
الْقَوْلَ إلَى الْعِلْمِ إنْ كُنْت مِنْ أَهْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَحْمُولُ قَوْلِهِ { أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ } عَلَى الْمُقَيَّدِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قُلْنَا
: فَقَدْ أَبْطَلْنَا مَا يُثْبِتُ مَحْمُولَ قَوْلِهِ : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
} عَلَى كُلِّ عَقْدٍ مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ .
وَمَاذَا تُرِيدُ بِقَوْلِك مُقَيَّدًا ؟ تُرِيدُ
قُيِّدَ بِالْجَوَازِ أَمْ قُيِّدَ بِقُرْبَةٍ ، أَوْ قُيِّدَ بِشَرْطٍ ؟ فَإِنْ
أَرَدْت بِهِ قُيِّدَ بِشَرْطٍ لَزِمَك فِيهِ مَا لَزِمَك فِي الْمُطْلَقِ مِنْ
أَنَّ الشَّرْطَ مِنْهُ مَا لَا يَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ لَك ، وَإِنْ قُلْت :
مُقَيَّدٌ بِقُرْبَةٍ ، فَيَبْطُلُ بِالْمُعَامَلَاتِ ، وَإِنْ قُلْت : مُقَيَّدٌ
بِالدَّلِيلِ ، فَالدَّلِيلُ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَقَدْ قَالَ : {
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا عَقْدُ الْيَمِينِ لَا يَجِبُ
الْوَفَاءُ بِهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قُلْنَا : لَا يَجِبُ
الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْيَمِينِ ، وَكَيْفَ
لَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ وَهُوَ عَقْدٌ أُكِّدَ بِاسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ ؟
حَاشَا لِلَّهِ أَنْ نَقُولَ هَذَا ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ رَحْمَةً
وَرُخْصَةً فِي إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ بَدَلًا مِنْ الْبِرِّ ، وَخَلَفًا مِنْ
الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ الَّذِي فَوَّتَهُ الْحِنْثُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
وَسَتَرَاهُ فِي آيَةِ الْكَفَّارَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : إذَا
نَذَرَ قُرْبَةً لَا يَدْفَعُ بِهَا بَلِيَّةً وَلَا يَسْتَنْجِحُ بِهَا طَلَبَةٌ
فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهَا .
قُلْنَا :
مَنْ قَالَ بِهَذَا فَقَدْ خَفِيَتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ
الشَّرْعِ ؛ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ : { أَوْفِ
بِنَذْرِك } .
وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ
وَمَاذَا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَوْ مَاذَا
يَقْدَحُ فِي الْأَدِلَّةِ مِنْ رَأْيِ الشَّافِعِيِّ
وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ
.
وَأَمَّا نَذْرُ الْمُبَاحِ فَلَمْ يَلْزَمْ بِإِجْمَاعِ
الْأُمَّةِ وَنَصِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ
، وَهِيَ شَيْءٌ جَهِلْته يَا هَذَا الْعَالِمُ ، فَادْرُجْ عَنْ هَذِهِ
الْأَغْرَاضِ ، فَلَيْسَ بِوَكْرٍ إلَّا لِمَنْ أَمَّنَتْهُ مَعْرِفَةُ أَحَادِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمَكْرِ ، وَلَمْ
يَتَكَلَّمْ بِرَأْيِهِ وَحْدَهُ ، وَلَا أُعْجِبَ بِطُرُقٍ مِنْ النَّظَرِ
حَصَّلَهَا ، وَلَمْ يَتَمَرَّسْ فِيهَا بِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا
بِسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَافْهَمْ هَذَا ،
وَاَللَّهُ يُوَفِّقُكُمْ وَإِيَّانَا بِتَوْفِيقِهِ لِتَوْفِيَةِ عُهُودِ
الشَّرِيعَةِ حَقَّهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ } اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إنَّهُ كُلُّ الْأَنْعَامِ ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ ،
وَالرَّبِيعُ ، وَالضَّحَّاكُ .
الثَّانِي : إنَّهُ الْإِبِلُ ، وَالْبَقَرُ ،
وَالْغَنَمُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : إنَّهُ الظِّبَاءُ ، وَالْبَقَرُ ،
وَالْحُمُرُ الْوَحْشِيَّانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فِي الْمُخْتَارِ
: أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ النَّعَمَ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ ،
فَقَدْ عَلِمْت صِحَّةَ ذَلِكَ دَلِيلًا ، وَهُوَ أَنَّ النَّعَمَ عِنْدَ بَعْضِ
أَهْلِ اللُّغَةِ اسْمٌ خَاصٌّ لِلْإِبِلِ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ ؛ قَالَهُ ابْنُ
دُرَيْدٍ وَغَيْرُهُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ
فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ
تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } ، وَقَالَ تَعَالَى :
{ وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } .
وَقَالَ : { وَمِنْ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ
الْبَقَرِ اثْنَيْنِ } .
فَهَذَا مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ : وَمِنْ الْأَنْعَامِ
حَمُولَةً وَفَرْشًا ، أَيْ خَلَقَ جَنَّاتٍ وَخَلَقَ مِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً
وَفَرْشًا يَعْنِي كِبَارًا وَصِغَارًا ، ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ : {
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } إلَى قَوْلِهِ : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ وَصَّاكُمْ
اللَّهُ بِهَذَا } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ
الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ
وَمِنْ أَصْوَافِهَا } وَهِيَ الْغَنَمُ { وَأَوْبَارِهَا } وَهِيَ الْإِبِلُ { وَأَشْعَارِهَا }
وَهِيَ الْمِعْزَى ، { أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ } .
فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ تُنْبِئُ عَنْ تَضَمُّنِ
اسْمِ النَّعَمِ لِهَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ : الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ ؛ لِتَأْنِيسِ ذَلِكَ كُلِّهِ ،
فَأَمَّا الْوَحْشِيَّةُ فَلَمْ أَعْلَمْهُ إلَى الْآنَ
إلَّا اتِّبَاعًا لِأَهْلِ اللُّغَةِ
.
أَمَّا أَنَّهُ قَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ
قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يَقْتَضِي
دُخُولَ الْبَقَرِ وَالْحُمُرِ وَالظِّبَاءِ تَحْتَ قَوْلِهِ : بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ ؛ فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ
الْأَنْعَامِ إنْسِيُّهَا وَوَحْشِيُّهَا غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ أَيْ مَا لَمْ تَكُونُوا مُحْرِمِينَ .
فَإِنْ كَانَ هَذَا مُتَعَلِّقًا فَقَدْ قَالَ : {
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
فَجَعَلَ الصَّيْدَ وَالنَّعَمَ صِنْفَيْنِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُدْخِلَ
الظِّبَاءَ وَالْبَقَرَ وَالْحُمُرَ الْوَحْشِيَّةَ فِيهِ لِيَعُمَّ ذَلِكَ
كُلَّهُ فِي الْإِحْلَالِ مَاذَا يَصْنَعُ بِصِنْفِ الصَّيْدِ الطَّائِرِ كُلِّهِ
؟ فَالدَّلِيلُ الَّذِي أَحَلَّهُ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُحِلُّ
الظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ
.
وَقَدْ يَنْتَهِي الْعِيُّ بِبَعْضِهِمْ إلَى أَنْ
يَقُولَ : إنَّ الْأَنْعَامَ هِيَ الْإِبِلُ لِنِعْمَةِ أَخْفَافِهَا فِي
الْوَطْءِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْحَافِرُ وَلَا الظِّلْفُ لِجَسَاوَتِهِ
وَتَحَدُّدِهِ .
وَيُقَالُ لَهُ : إنَّ الْأَنْعَامَ إنَّمَا سُمِّيَتْ
بِهِ لِمَا يُتَنَعَّمُ بِهِ مِنْ لُحُومِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا
وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إلَى حِينٍ .
وَبِهَذِهِ الْآيَةِ كَانَ يَدْخُلُ صِنْفُ الْوَحْشِيِّ
فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ أَشْعَارٍ مِنْ جِهَةِ أَنْ يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِ
حِسًّا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ مِنْهَا عُرْفًا .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّ اللَّفْظَ يُحْمَلُ عَلَى
الْحَقِيقَةِ الْأَصْلِيَّةِ ، فَيَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظُ فِي النَّحْلِ
وَيَتَنَاوَلُهَا اللَّفْظُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْأَلْفَاظَ تُحْمَلُ عَلَى
الْأَحْوَالِ الْمُعْتَادَةِ الْعُرْفِيَّةِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا ؛ إذْ لَا
يُعْتَادُ ذَلِكَ
مِنْ أَوْبَارِهَا .
وَهَا هُنَا انْتَهَى تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي هَذَا
الْمُخْتَصَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } : قَالُوا : مِنْ قَوْله تَعَالَى : {
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَقِيلَ مِنْ قَوْلِهِ : { غَيْرَ مُحِلِّي
الصَّيْدِ } وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِهِ فِي كُلِّ مُحَرَّمٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { إلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ } .
وَاَلَّذِي يُتْلَى هُوَ الْقُرْآنُ ، لَيْسَ السُّنَّةَ .
قُلْنَا :
كُلُّ كِتَابٍ يُتْلَى ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَا
كُنْت تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ } وَكُلُّ سُنَّةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا :
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ : { لَأَقْضِيَنَّ
بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ ، أَمَّا غَنَمُك وَجَارِيَتُك فَرَدٌّ عَلَيْك ،
وَعَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } .
وَلَيْسَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ ، وَلَكِنَّهُ فِي
كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي أَوْحَاهُ إلَى رَسُولِهِ عِلْمًا مِنْ كِتَابِهِ
الْمَحْفُوظِ عِنْدَهُ .
وَالدَّلِيلُ الثَّانِي : فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ ؛ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَات ،
وَالْمُتَنَمِّصَاتِ ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ ، وَالْمُغَيِّرَاتِ
لِخَلْقِ اللَّهِ } .
فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ
لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ : إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك لَعَنْت
كَيْتَ وَكَيْتَ .
فَقَالَ :
وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ أَلَيْسَ هُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ؟
فَقَالَتْ : لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا
تَقُولُ .
فَقَالَ : لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ .
أَوَمَا قَرَأْتِ : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } ؟ قَالَتْ : بَلَى .
قَالَ : فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ .
قَالَتْ : فَإِنِّي أَرَى أَهْلَك يَفْعَلُونَهُ .
قَالَ : فَاذْهَبِي فَانْظُرِي ، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ
فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئًا .
فَقَالَ : لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعْتهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : يُحْتَمَلُ
قَوْلُهُ : إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ الْآنَ ، أَوْ إلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فِيمَا بَعْدُ مِنْ مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ
عَنْ وَقْتٍ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إلَى تَعْجِيلِ الْحَاجَةِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ
أُصُولِيَّةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَحْصُولِ " ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لَنَا شَيْئًا وَحَرَّمَ عَلَيْنَا شَيْئًا
اسْتِثْنَاءً مِنْهُ .
فَأَمَّا الَّذِي أَبَاحَ لَنَا فَسَمَّاهُ [
وَبَيَّنَهُ ] .
وَأَمَّا الَّذِي اسْتَثْنَاهُ فَوَعَدَ بِذِكْرِهِ فِي
حِينِ الْإِبَاحَةِ ، ثُمَّ بَيَّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي
أَوْقَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ عَلَى اخْتِلَافِ التَّأْوِيلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ ،
وَكُلُّ ذَلِكَ تَأْخِيرٌ لِلْبَيَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ
} فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَعْنَاهُ
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ .
الثَّانِي : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ
الْوَحْشِيَّةِ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ .
الثَّالِثُ :
أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا
يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ لَا
يَحِلُّ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي تَنْقِيحِهَا .
أَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ مَعْنَاهُ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ
غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ
وَالْأَخْفَشُ ، وَقَالَا : فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي
نِظَامِ الْكَلَامِ وَإِعْرَابِهِ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ
الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَإِنَّهُ حَالٌ ؛ فَيَكُونُ
تَقْدِيرُ الْآيَةِ : " أَوْفُوا بِالْعُقُودِ لَا مُحِلِّينَ لِلصَّيْدِ فِي
إحْرَامِكُمْ " .
وَنَكْثُ الْعَهْدِ وَنَقْضُ الْعَقْدِ مُحَرَّمٌ ،
وَالْأَمْرُ بِالْوَفَاءِ مُسْتَمِرٌّ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي كُلِّ حَالٍ .
وَلَوْ اخْتَصَّ الْوَفَاءَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ
لَكَانَ مَا عَدَاهَا بِخِلَافٍ عَلَى رَأْيِ الْقَائِلِينَ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ .
وَذَلِكَ بَاطِلٌ أَوْ يَكُونُ مَسْكُوتًا عَنْهُ .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْأَقَلَّ مِنْ أَحْوَالِ الْوَفَاءِ
وَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَهَذَا تَهْجِينٌ لِلْكَلَامِ
وَتَحْقِيرٌ لِلْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أُحِلَّتْ لَكُمْ الْوَحْشِيَّةُ
، فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِيهِ تَخْصِيصَ بَعْضِ
الْمُحَلَّلَاتِ ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لِلْعُمُومِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ لَا سِيَّمَا
عُمُومٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَمْلٌ لِلَفْظِ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ عَلَى الْوَحْشِيَّةِ دُونَ الْإِنْسِيَّةِ ، وَذَلِكَ تَفْسِيرٌ
لِلَّفْظِ بِالْمَعْنَى التَّابِعِ لِمَعَانِيهِ الْمُخْتَلَفِ مِنْهَا فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مَعْنَاهُ أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا مَا
كَانَ مِنْهَا وَحْشِيًّا فَإِنَّهُ صَيْدٌ ، وَلَا
يَحِلُّ لَكُمْ الصَّيْدُ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ .
وَهَذَا أَشْبَهُهَا مَعْنًى ، إلَّا أَنَّ نِظَامَ
تَقْدِيرِهِ لَيْسَ بِجَارٍ عَلَى قَوَانِينِ الْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ أَضْمَرَ
فِيهِ مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ [
تَقْدِيرُهُ ] : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ ، غَيْرَ مُحِلِّينَ صَيْدَهَا وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، فَيَصِحُّ
الْمَعْنَى ، وَيَقِلُّ فُضُولُ الْكَلَامِ ، وَيَجْرِي عَلَى قَانُونِ النَّحْوِ .
وَفِيهَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ ؛ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : [ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ ، تَثْنِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي
الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ ] : وَهِيَ تَثْنِيَةُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْجُمْلَةِ
الْوَاحِدَةِ وَهِيَ تَرِدُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَتَكَرَّرَ ،
وَيَكُونَ الثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا آلَ لُوطٍ إنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إلَّا امْرَأَتَهُ } .
الثَّانِي :
أَنْ يَكُونَ جَمِيعًا مِنْ الْأَوَّلِ ، كَقَوْلِهِ
هَاهُنَا : إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ إلَّا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ مُحْرِمُونَ
، فَقَوْلُهُ : { إلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } اسْتِثْنَاءٌ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأَظْهَرْهُمَا ، وَقَوْلُهُ : إلَّا
الصَّيْدَ اسْتِثْنَاءٌ آخَرُ أَيْضًا مَعَهُ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ مُلْجِئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ "
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : فِي تَمْثِيلٍ لِهَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ
حَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَذَلِكَ مَا رُوِيَ {
أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ الْحَارِثَ بْنَ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيَّ قَالَ : كُنَّا
مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ
وَهُمْ مُحْرِمُونَ وَأَنَا حِلٌّ عَلَى فَرَسٍ لِي ، فَكُنْت أَرْقَى عَلَى
الْجِبَالِ ، فَبَيْنَمَا أَنَا كَذَلِكَ إذْ رَأَيْت النَّاسَ مُشْرِفِينَ
لِشَيْءٍ ، فَذَهَبْت لِأَنْظُرَ ، فَإِذَا هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ ، فَقُلْت
لَهُمْ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : لَا نَدْرِي .
فَقُلْت : هُوَ حِمَارٌ وَحْشِيٌّ .
قَالُوا : هُوَ مَا رَأَيْت .
وَكُنْت نَسِيت سَوْطِي .
فَقُلْت لَهُمْ : نَاوِلُونِي سَوْطِي .
فَقَالُوا :
لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ ، فَنَزَلْت وَأَخَذْته ثُمَّ
صِرْت فِي أَثَرِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ إلَّا ذَاكَ حَتَّى عَقَرْته ؛ فَأَتَيْت
إلَيْهِمْ فَقُلْت : قُومُوا فَاحْتَمِلُوا .
فَقَالُوا : لَا نَمَسُّهُ ، فَحَمَلْته حَتَّى
جِئْتُهُمْ بِهِ ، فَأَبَى بَعْضُهُمْ ، وَأَكَلَ بَعْضُهُمْ .
قُلْت : أَنَا أَسْتَوْقِفُ لَكُمْ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكْته ، فَحَدَّثْته الْحَدِيثَ ،
فَقَالَ لِي : أَبَقِيَ مَعَكُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ؟ قُلْت
: نَعَمْ .
قَالَ : فَكُلُوا فَهُوَ طُعْمَةٌ أَطْعَمَكُمُوهَا
اللَّهُ } .
فَأُحِلَّ لَهُمْ الْحُمُرُ مُطْلَقًا إلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْهِمْ ، إلَّا مَا صَادُوهُ وَهُمْ مُحْرِمُونَ مِنْهَا ؛ وَمَا صَادَهُ
غَيْرُهُمْ فَهُوَ حَلَالٌ لَهُمْ ، فَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ مِنْهُ مَا
وَقَعَ إلَيْهِمْ بِصَيْدِهِمْ ، إلَى تَفْصِيلٍ يَأْتِي بَيَانُهُ إذَا صِيدَ
لَهُمْ ، فَإِنْ حُرِّمَ فَإِنَّمَا هُوَ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرَ هَذِهِ الْآيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : مَضَى فِي
سَرْدِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَنَّ مِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ قَالَ فِي جَنِينِ
النَّاقَةِ أَوْ الشَّاةِ أَوْ الْبَقَرَةِ أَوْ نَحْوِهَا : إنَّهَا مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
الْمُحَلَّلَةِ .
وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّهُ حَلَالٌ بِكُلِّ حَالٍ ؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ حَرَامٌ بِكُلِّ حَالٍ ، إلَّا أَنْ
يُذَكَّى ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
.
الثَّالِثُ :
الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَقَلَّ وَنَبَتَ
شَعْرُهُ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِضْعَةً كَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ ؛ قَالَ مَالِكٌ .
وَتَعَلَّقَ بَعْضُهُمْ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ : {
ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ
} .
وَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ الْأَكْثَرِ ، وَصَحَّحَهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ وَاخْتَلَفُوا فِي ذِكْرِ " ذَكَاةِ " الثَّانِيَةِ ،
هَلْ هِيَ بِرَفْعِ التَّاءِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَلَا يَفْتَقِرُ
الْجَنِينُ إلَى ذَكَاةٍ ، أَوْ هُوَ بِنَصْبِ التَّاءِ فَيَكُونُ الْأَوَّلُ
غَيْرَ الثَّانِي ، وَيَفْتَقِرُ إلَى الذَّكَاةِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ ،
وَبَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
" أَنَّ الْمُعَوَّلَ فِيهِ عَلَى اعْتِبَارِ
الْجَنِينِ بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا ، أَمْ يُعْتَبَرُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ
، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ " الْحَقَّ فِيهَا ، وَأَنَّهُ
فِي مَذْهَبِنَا بِاعْتِبَارِ ذَكَاةِ الْمُسْتَقْبَلِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَسَنُشِيرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ
بَعْدَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ
الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى { شَعَائِرَ
} : وَزْنُهَا فَعَائِلُ ، وَاحِدَتُهَا شَعِيرَةٌ ؛ فِيهَا قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْهَدْيُ
.
الثَّانِي : أَنَّهُ كُلُّ مُتَعَبَّدٍ ؛ مِنْهَا
الْحَرَامُ فِي قَوْلِ السُّدِّيِّ ، وَمِنْهَا اجْتِنَابُ سَخَطِ اللَّهِ فِي
قَوْلِ عَطَاءٍ .
وَمِنْهَا مَنَاسِكُ الْحَجِّ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَمُجَاهِدٍ .
وَقَالَ عُلَمَاءُ النَّحْوِيِّينَ : هُوَ مِنْ أَشْعَرَ
: أَيْ : أَعْلَمَ ؛ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ ؛ فَإِنَّ فَعِيلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ
بِأَنْ يَكُونَ مِنْ فَعَلَ لَا مِنْ أَفْعَلَ ، وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْرِ
فِعْلِهِ كَمَصْدَرِ جَرَى عَلَى غَيْرِ فِعْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ الْأَقْوَالِ هُوَ الثَّانِي ،
وَأَفْسَدُهَا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْهَدْيُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَ فَلَا
مَعْنَى لِإِبْهَامِهِ وَالتَّصْرِيحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
الشَّهْرَ الْحَرَامَ } : قَدْ بَيَّنَّا فِي كُلِّ مُصَنَّفٍ أَنَّ الْأَلِفَ
وَاللَّامَ تَأْتِي لِلْعَهْدِ وَتَأْتِي لِلْجِنْسِ ؛ فَهَذِهِ لَامُ الْجِنْسِ ،
وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ يَأْتِي بَيَانُهَا مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ "
بَرَاءَةٌ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
الْهَدْيَ } وَهِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ يُهْدَى إلَى اللَّهِ فِي بَيْتِهِ ،
وَالْأَصْلُ فِيهِ عُمُومُهُ فِي كُلِّ مُهْدًى ، كَانَ حَيَوَانًا أَوْ جَمَادًا .
وَحَقِيقَةُ الْهَدْيِ كُلُّ مُعْطًى لَمْ يُذْكَرْ
مَعَهُ عِوَضٌ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَنْ رَاحَ فِي
السَّاعَةِ الْأُولَى إلَى الْجُمُعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً ، وَمَنْ
رَاحَ فِي السَّاعَةِ السَّادِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً } ، وَفِي بَعْضِ
الْأَلْفَاظِ : { فَكَأَنَّمَا أَهْدَى بَدَنَةً ، وَكَأَنَّمَا أَهْدَى
بَيْضَةً } وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ : ثَوْبِي هَدْيٌ
أَنَّهُ يَبْعَثُ بِثَمَنِهِ إلَى مَكَّةَ فِي اخْتِلَافٍ يَأْتِي بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَأَمَّا الْقَلَائِدُ
فَهِيَ كُلُّ مَا عُلِّقَ عَلَى أَسْنِمَةِ الْهَدَايَا عَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهَا
لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ، مِنْ نَعْلٍ أَوْ غَيْرِهِ ، وَهِيَ سُنَّةٌ
إبْرَاهِيمِيَّةٌ بَقِيَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَقَرَّهَا الْإِسْلَامُ فِي
الْحَجِّ .
وَأَنْكَرَهَا أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ
الْحَرَامَ } يَعْنِي قَاصِدِينَ لَهُ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : أَمَمْت كَذَا ، أَيْ
قَصَدْته ، وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَصَدَهُ بِاسْمِ الْعِبَادَةِ ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا ، كَالْكَافِرِ ، وَهَذَا قَدْ نُسِخَ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ
، وَهُوَ تَخْصِيصٌ غَيْرُ نَسْخٍ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي
، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ قَدْ بَقِيَتْ الْحُرْمَةُ
لِلْمُؤْمِنِينَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } : وَكَانَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ الصَّيْدَ فِي حَالِ
الْإِحْرَامِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } ثُمَّ
أَبَاحَهُ بَعْدَ الْإِحْلَالِ ، وَهُوَ زِيَادَةُ بَيَانٍ ؛ لِأَنَّ رَبْطَهُ
التَّحْرِيمَ بِالْإِحْرَامِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا زَالَ الْإِحْرَامُ زَالَ
التَّحْرِيمُ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى التَّحْرِيمُ لِعِلَّةٍ أُخْرَى
غَيْرِ الْإِحْرَامِ ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَدَمَ الْعِلَّةِ بِمَا
صَرَّحَ بِهِ مِنْ الْإِبَاحَةِ ؛ فَكَانَ نَصًّا فِي مَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ ،
وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ اتِّفَاقًا ، وَقَدْ تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ
حَمْلَهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَقْدِيمِ الْحَظْرِ عَلَيْهِ
، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي " أُصُولِ الْفِقْهِ " .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ }
عَلَى الْعُدْوَانِ عَلَى آخَرِينَ ، نَزَلَتْ هَذِهِ
الْكَلِمَةُ فِي { الْحَكَمِ رَجُلٍ مِنْ رَبِيعَةَ ، قَدِمَ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : بِمَ تَأْمُرُنَا ؟ فَسَمِعَ
مِنْهُ .
وَقَالَ : أَرْجِعُ إلَى قَوْمِي فَأُخْبِرُهُمْ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَقَدْ جَاءَ بِوَجْهِ كَافِرٍ وَرَجَعَ بِقَفَا غَادِرٍ .
وَرَجَعَ فَأَغَارَ عَلَى سَرْحٍ مِنْ سُرُوحِ
الْمَدِينَةِ ، فَانْطَلَقَ بِهِ ، وَقَدِمَ بِتِجَارَةٍ أَيَّامَ الْحَجِّ
يُرِيدُ مَكَّةَ ، فَأَرَادَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ } أَيْ
لَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ بِقَطْعِ سُبُلِ الْحَجِّ
، وَكُونُوا مِمَّنْ يُعِينُ فِي التَّقْوَى ، لَا فِي التَّعَدِّي ، وَهَذَا مِنْ
مَعْنَى الْآيَةِ مَنْسُوخٌ ، وَظَاهِرُ عُمُومِهَا بَاقٍ فِي كُلِّ حَالٍ ،
وَمَعَ كُلِّ أَحَدٍ ، فَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَحْمِلَهُ بُغْضُ آخَرَ
عَلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ ظَالِمًا ، فَالْعِقَابُ مَعْلُومٌ عَلَى
قَدْرِ الظُّلْمِ ، وَلَا سَبِيلَ إلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ إنْ ظَلَمَ
غَيْرَهُ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى } .
وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ
عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ
اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ
وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ
وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْت
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيت لَكُمْ الْإِسْلَامَ
دِينًا فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا إحْدَى وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ
} فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ
بِهِ } فَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ " وَهُوَ قَوْلُهُ : {
الْمُنْخَنِقَةُ } : فَهِيَ الَّتِي تُخْنَقُ بِحَبْلٍ بِقَصْدٍ أَوْ بِغَيْرِ
قَصْدٍ ، أَوْ بِغَيْرِ حَبْلٍ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمَوْقُوذَةُ : الَّتِي
تُقْتَلُ ضَرْبًا بِالْخَشَبِ أَوْ بِالْحَجَرِ ، وَمِنْهُ الْمَقْتُولَةُ
بِقَوْسِ الْبُنْدُقِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْمُتَرَدِّيَةُ : وَهِيَ
السَّاقِطَةُ مِنْ جَبَلٍ أَوْ بِئْرٍ
.
وَأَمَّا الْمُتَنَدِّيَةُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : [ الْمُتَنَدِّيَةُ ] : فَيُقَالُ : نَدَّتْ الدَّابَّةُ إذَا
انْفَلَتَتْ مِنْ وَثَاقٍ فَنَدَّتْ فَخَرَجَ وَرَاءَهَا فَرُمِيَتْ بِرُمْحٍ أَوْ
سَيْفٍ فَمَاتَتْ ، فَهَلْ يَكُونُ رَمْيُهَا ذَكَاةً أَمْ لَا ؟ فَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ يَكُونُ ذَلِكَ
ذَكَاةً فِيهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَبِيبٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يُذَكَّى بِهِ ، وَهُوَ
اخْتِيَارُ مَالِكٍ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ { رَافِعِ
بْنِ خَدِيجٍ قَالَ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، وَأَصَابَ النَّاسَ جُوعٌ ، فَأَصَبْنَا إبِلًا وَغَنَمًا ،
فَنَدَّ مِنْهَا بَعِيرٌ فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، فَأَهْوَى
إلَيْهِ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَحَبَسَهُ اللَّهُ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ لِهَذِهِ الْإِبِلِ أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ ،
فَمَا نَدَّ عَلَيْكُمْ فَاصْنَعُوا بِهِ هَكَذَا } .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : إنَّ تَسْلِيطَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ ذَكَاةٌ لَهُ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ : إنَّمَا هُوَ تَسْلِيطٌ عَلَى
حَبْسِهِ لَا عَلَى ذَكَاتِهِ فَإِنَّهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ فِي غَالِبِ
الْأَحْوَالِ ، فَلَا يُرَاعَى النَّادِرُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي
الصَّيْدِ حَسْبَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَقَدْ رَوَى { أَبُو الْعَشْرَاءِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قُلْت : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَمَا تَكُونُ الذَّكَاةُ إلَّا فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ ؟
قَالَ : لَوْ طَعَنْت فَخِذَهَا لَأَجْزَأَ عَنْك } .
قَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ : هَذَا فِي الضَّرُورَةِ ،
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَعْجَبَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ ، وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي
دَاوُد ، وَأَشَارَ عَلَى مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْحُفَّاظِ أَنْ يَكْتُبَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ النَّطِيحَةُ : وَهِيَ
الشَّاةُ تَنْطَحُهَا الْأُخْرَى بِقُرُونِهَا .
وَقَرَأَ أَبُو مَيْسَرَةَ : الْمَنْطُوحَةُ ، وَهِيَ
فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا
أَكَلَ السَّبُعُ } وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أَكَلَ السَّبُعُ شَاةً
أَكَلُوا بَقِيَّتَهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
مَا ذَكَّيْتُمْ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ
مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ غَيْرُ عَائِدٍ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ ،
وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ ، يَجْعَلُونَ إلَّا بِمَعْنَى لَكِنْ ،
مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا
خَطَأً } .
مَعْنَاهُ : لَكِنْ إنْ قَتَلَهُ خَطَأً ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ كَلَامُنَا عَلَيْهِ ، وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِأَبِي خِرَاشٍ
الْهُذَلِيِّ : أَمْسَى سَقَامٌ خَلَاءً لَا أَنِيسَ بِهِ إلَّا السِّبَاعُ
وَمَرُّ الرِّيحِ بِالْغُرَفِ أَرَادَ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهِ السِّبَاعُ ، أَوْ
لَكِنْ بِهِ السِّبَاعُ .
وَسَقَامٌ : وَادٍ لِهُذَيْلٍ .
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا
أَنِيسٌ إلَّا الْيَعَافِيرُ وَإِلَّا الْعِيسُ وَقَالَ النَّابِغَةُ : وَقَفْت
بِهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إلَّا الْأَوَارِيَ لَأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ
بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ وَمِنْ أَبْدَعُهُ قَوْلُ جَرِيرٍ : مِنْ الْبِيضِ
لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا وَلَمْ تَطَأْ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا ذَيْلَ بُرْدٍ
مُرَحَّلِ كَأَنَّهُ قَالَ : لَمْ تَطَأْ عَلَى الْأَرْضِ إلَّا أَنْ تَطَأَ
ذَيْلَ بُرْدٍ مُرَحَّلٍ .
أَخْبَرَنَا بِذَلِكَ كُلِّهِ أَبُو الْحَسَنِ الطُّيُورِيُّ
عَنْ الْبَرْمَكِيِّ ، وَالْقَزْوِينِيِّ عَنْ أَبِي عُمَرَ بْنِ حَيْوَةَ عَنْ
أَبِي عُمَرَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ ، وَمِنْ أَصْلِهِ نَقَلْته .
الثَّانِي :
أَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ ، وَهُوَ ظَاهِرُ
الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى مَا بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : {
وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } مِنْ الْمُنْخَنِقَةُ إلَى مَا أَكَلَهُ
السَّبْعُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَرْجِعُ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى
التَّحْرِيمِ لَا إلَى الْمُحَرَّمِ ، وَيَبْقَى عَلَى ظَاهِرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ :
وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ : إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ لَا يُنْكَرُ فِي
اللُّغَةِ وَلَا [ فِي الشَّرِيعَةِ ] فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ
حَسْبَمَا
أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، كَمَا أَنَّهُ
لَا يَخْفَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَّصِلَ هُوَ أَصْلُ اللُّغَةِ ،
وَجُمْهُورُ الْكَلَامِ ، وَلَا يُرْجَعُ إلَى الْمُنْقَطِعِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ
الْمُتَّصِلُ .
وَتَعَذُّرُ الْمُتَّصِلِ يَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ : إمَّا
عَقْلِيًّا وَإِمَّا شَرْعِيًّا ؛ فَتَعَذُّرُ الِاتِّصَالِ الْعَقْلِيِّ هُوَ مَا
قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ قَبْلَ هَذَا فِي الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا التَّعَذُّرُ الشَّرْعِيُّ فَكَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إيمَانُهَا إلَّا قَوْمَ
يُونُسَ } .
فَإِنَّ قَوْلَهُ : { إلَّا قَوْمَ يُونُسَ } لَيْسَ
رَفْعًا لِمُتَقَدِّمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى لَكِنْ .
وَقَوْلَهُ : { طَه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْك الْقُرْآنَ
لِتَشْقَى إلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } .
وَقَوْلَهُ : { إنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ
} { إلَّا مَنْ ظَلَمَ } .
عُدْنَا إلَى قَوْلِهِ : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } ،
قُلْنَا : فَأَمَّا الَّذِي يُمْنَعُ أَنْ يَعُودَ إلَى مَا يُمْكِنُ إعَادَتُهُ
إلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { الْمُنْخَنِقَةُ } إلَى آخِرِهَا ،
كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : "
إذَا أَدْرَكْت ذَكَاةَ الْمَوْقُوذَةِ وَهِيَ تُحَرِّكُ يَدًا أَوْ رِجْلًا
فَكُلْهَا " ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ؛ وَهُوَ
خَالٍ عَنْ مَانِعٍ شَرْعِيٍّ يَرُدُّهُ ؛ بَلْ قَدْ أَحَلَّهُ الشَّرْعُ ؛ فَقَدْ
ثَبَتَ { أَنَّ جَارِيَةً لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ كَانَتْ تَرْعَى غَنَمًا
بِالْجَبَلِ الَّذِي بِالسُّوقِ ، وَهُوَ سَلْعٌ ، فَأُصِيبَتْ مِنْهَا شَاةٌ
فَكَسَرَتْ حَجَرًا فَذَبَحَتْهَا ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ بِأَكْلِهَا } .
وَرَوَى النَّسَائِيّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ : {
أَنَّ ذِئْبًا نَيَّبَ شَاةً فَذَبَحُوهَا بِمَرْوَةِ ، فَرَخَّصَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَكْلِهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ
فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ؛ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إلَّا مَا كَانَ
بِذَكَاةٍ صَحِيحَةٍ .
وَاَلَّذِي فِي الْمُوَطَّأِ عَنْهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ
ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا يَجْرِي وَهِيَ تَطْرِفُ فَلْيَأْكُلْهَا ، وَهَذَا هُوَ
الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي كَتَبَهُ بِيَدِهِ ، وَقَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ
مِنْ كُلِّ بَلَدٍ عُمْرَهُ ، فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الرِّوَايَاتِ الْغَابِرَةِ ،
لَا سِيَّمَا وَالذَّكَاةُ عِبَادَةٌ كَلَّفَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ
لِلْحِكْمَةِ الَّتِي [ يَأْتِي ] بَيَانُهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذَا هُوَ أَحَدُ مُتَعَلِّقَاتِ الذَّكَاةِ ، وَهُوَ
الْقَوْلُ فِي الذَّكَاةِ ، وَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ :
الْمُذَكِّي ، وَالْمُذَكَّى ، وَالْآلَةِ ، وَالتَّذْكِيَةِ نَفْسِهَا .
فَأَمَّا الْمُذَكَّى فَيَتَعَلَّقُ الْقَوْلُ فِيهِ
بِأَنْوَاعِ الْمُحَلَّلَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
وَأَمَّا الْمُذَكِّي : وَهُوَ الذَّابِحُ فَبَيَانُهُ
فِيهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا التَّذْكِيَةُ نَفْسُهَا وَالْآلَةُ فَهَذَا
مَوْضِعُ ذَلِكَ : الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي التَّذْكِيَةِ :
وَهِيَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمَامِ ، وَمِنْهُ ذُكَاءُ السِّنِّ ،
وَيُقَالُ : ذَكَّيْتُ النَّارُ إذَا أَتْمَمْتُ اشْتِعَالَهَا ، فَقَالَ
بَعْضُهُمْ : لَا بُدَّ أَنْ تَبْقَى فِي الْمُذَكَّاةِ بَقِيَّةٌ تَشْخَبُ
مَعَهَا الْأَوْدَاجُ وَيَضْطَرِبُ اضْطِرَابَ الْمَذْبُوحِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ
الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ الشَّاةَ أَدْرَكَهَا الْمَوْتُ ،
وَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ شَخْبِ أَوْدَاجِهَا ، وَإِنَّمَا أَصَابَ الْغَرَضَ
مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ : إذَا ذَبَحَهَا وَنَفَسُهَا تَجْرِي وَهِيَ تَضْطَرِبُ
إشَارَةً إلَى أَنَّهَا وُجِدَ فِيهَا قَتْلٌ صَارَ بِاسْمِ اللَّهِ الْمَذْكُورِ
عَلَيْهَا ذَكَاةٌ ، أَيْ تَمَامٌ يُحِلُّهَا وَتَطْهِيرٌ لَهَا ، كَمَا جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ فِي الْأَرْضِ النَّجِسَةِ : { ذَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا } .
وَهِيَ فِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ إنْهَارِ الدَّمِ ،
وَفَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي الْمَذْبُوحِ ، وَالنَّحْرِ فِي الْمَنْحُورِ ،
وَالْعَقْرِ فِي غَيْرِ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ ؛ مَقْرُونًا
ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْقَصْدِ إلَيْهِ
.
وَذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ كَمَا يَأْتِي
بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنَّا
لَاقُو الْعَدُوِّ غَدًا ، وَلَيْسَ مَعَنَا مُدًى ، أَفَنَذْبَحُ بِالْقَصَبِ ؟
فَقَالَ : مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوهُ ،
لَيْسَ السِّنَّ
وَالظُّفُرَ
.
وَسَأُخْبِرُكُمْ : أَمَّا السِّنُّ فَعَظْمٌ ، وَأَمَّا
الظُّفُرُ فَمُدَى الْحَبَشَةِ
} .
وَرَوَى النَّسَائِيّ ، وَأَبُو دَاوُد ، عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ
لَهُ : أَرَأَيْت إنْ أَصَابَ أَحَدُنَا صَيْدًا وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ ،
أَنَذْبَحُ بِالْمَرْوَةِ وَشِقَّةِ الْعَصَا ؟ قَالَ : انْهَرْ الدَّمَ بِمَا
شِئْت ، وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ جَارِيَةِ كَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا ذُبِحَتْ بِمَرْوَةَ ،
وَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ ذِكْرُ الذَّكَاةِ بِغَيْرِ إنْهَارِ الدَّمِ ، فَأَمَّا فَرْيُ
الْأَوْدَاجِ وَقَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ فَلَمْ يَصِحَّ فِيهِ شَيْءٌ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ : لَا تَصِحُّ الذَّكَاةُ
إلَّا بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصِحُّ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ
وَالْمَرِيءِ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْوَدَجَيْنِ بِتَفْصِيلٍ قَدْ ذَكَرْنَاهُ
فِي الْمَسَائِلِ .
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِحَدِيثِ رَافِعِ بْنِ
خَدِيجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { افْرِ
الْوَدَجَيْنِ وَاذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ
} .
وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ لَا لَنَا وَلَا لَهُمْ ؛ وَإِنَّمَا
الْمُعَوَّلُ عَلَى الْمَعْنَى ؛ فَالشَّافِعِيُّ اعْتَبَرَ قَطْعَ مَجْرَى
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الَّذِي لَا يَكُونُ مَعَهُ حَيَاةٌ ، وَهُوَ الْغَرَضُ
مِنْ الْمَوْتِ .
وَعُلَمَاؤُنَا اعْتَبَرُوا الْمَوْتَ عَلَى وَجْهٍ
يَطِيبُ مَعَهُ اللَّحْمُ ، وَيَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَلَالُ وَهُوَ اللَّحْمُ ،
مِنْ الْحَرَامِ ، وَهُوَ الدَّمُ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي
حَنِيفَةَ .
وَعَلَيْهِ يَدُلُّ صَحِيحُ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ } .
وَهَذَا بَيِّنٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَا تَصِحُّ
الذَّكَاةُ إلَّا بِنِيَّةٍ : وَلِذَلِكَ قُلْنَا : لَا تَصِحُّ مِنْ الْمَجْنُونِ وَمَنْ
لَا يَعْقِلُ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهَا مِنْ الْمَجُوسِيِّ ؛ وَهَذَا
يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ ، وَلَوْ لَمْ يُعْتَبَرْ الْقَصْدُ لَمْ
يُبَالَ مِمَّنْ وَقَعَتْ ، وَسَنُكْمِلُ الْقَوْلَ فِيهِ فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : وَلَوْ ذَبَحَهَا
مِنْ الْقَفَا ، ثُمَّ اسْتَوْفَى الْقَطْعَ ، وَأَنْهَرَ الدَّمَ ، وَقَطَعَ
الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ ، لَمْ تُؤْكَلْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ نُحَقِّقُهُ لَكُمْ ؛
وَهُوَ أَنَّ الذَّكَاةَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِهَا إنْهَارَ الدَّمِ ،
وَلَكِنْ فِيهَا ضَرْبٌ مِنْ التَّعَبُّدِ وَالتَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ
سُبْحَانَهُ ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تَتَقَرَّبُ بِذَلِكَ
لِأَصْنَامِهَا وَأَنْصَابِهَا ، وَتُهِلُّ لِغَيْرِ اللَّهِ فِيهَا ،
وَتَجْعَلُهَا قُرْبَتَهَا وَعِبَادَتَهَا ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِرَدِّهَا
إلَيْهِ وَالتَّعَبُّدِ بِهَا لَهُ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لَهَا
نِيَّةٌ وَمَحَلٌّ مَخْصُوصٌ .
وَقَدْ ذَبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَلْقِ ، وَنَحَرَ فِي اللَّبَّةِ ؛ وَقَالَ : { إنَّمَا
الذَّكَاةُ فِي الْحَلْقِ وَاللَّبَّةِ } ، فَبَيَّنَ مَحَلَّهَا ، وَقَالَ
مُبَيِّنًا لِفَائِدَتِهَا : { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ
عَلَيْهِ ، فَكُلْ } .
فَإِذَا أُهْمِلَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَقَعْ بِنِيَّةٍ
وَلَا شَرْطٍ وَلَا صِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ زَالَ مِنْهَا حَظُّ التَّعَبُّدِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي الْآلَةِ :
وَقَدْ بَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ : { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ } .
وَتَجْوِيزُهُ الذَّبْحُ بِالْقَصَبِ ، وَالْحَجَرِ إذَا
وُجِدَ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْحِدَةِ يَقْطَعُ وَيُرِيحُ الذَّبِيحَةَ ، وَلَا
يَكُونُ مِعْرَاضًا يَخْنُقُ وَلَا يَقْطَعُ ، أَوْ يَجْرَحُ وَلَا يَفْصِلُ ؛
فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يُؤْكَلْ
.
وَأَمَّا السِّنُّ وَالظُّفُرُ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يَجُوزُ بِالْعَظْمِ ؛ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ .
وَالثَّانِي : لَا يَجُوزُ بِالْعَظْمِ وَالسِّنِّ ؛
قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
الثَّالِثُ :
إنْ كَانَا مُرَكَّبَيْنِ لَمْ يُذْبَحْ بِهِمَا ،
وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلًا ذُبِحَ بِهِمَا ؛ قَالَهُ ابْنُ
حَبِيبٍ [ وَأَبُو حَنِيفَةَ ] .
فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَأَخَذَ بِمُطْلَقِ النَّهْيِ ،
وَجَعَلَهُ عَامًّا فِي حَالِ الِانْفِصَالِ وَالِاتِّصَالِ ، وَأَمَّا ابْنُ
حَبِيبٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَأَخَذَا بِالْمَعْنَى ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا كَانَا
مُتَّصِلَيْنِ كَانَ الذَّبْحُ بِهِمَا خَنْقًا ، وَأَمَّا إذَا كَانَا
مُنْفَصِلَيْنِ كَانَا بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ وَالْقَصَبِ ، وَهَذَا أَشْبَهُ
بِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ ، كَمَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَوْلَى بِمَذْهَبِ
الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ عِنْدَنَا عِبَادَةٌ ، فَكَانَتْ بِاتِّبَاعِ
النَّصِّ فِي الْآلَةِ أَوْلَى ، وَعِنْدَهُ أَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى ،
فَكَانَ بِإِنْهَارِ الدَّمِ بِكُلِّ شَيْءٍ أَوْلَى ، وَلَكِنْ مَعْنَى ذَلِكَ
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَصَّ عَلَى السِّنِّ
وَالظُّفُرِ وَقَفَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَهُ وَقْفَةَ قَاطِعٍ لِلنَّظَرِ حِينَ
قَطَعَ الشَّرْعُ بِهِ عَنْهُ .
وَرَأَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ السِّنِّ
وَالظُّفُرِ ، إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ أَنَّ مَنْ كَانَ يَفْعَلُهُ لَمْ يُبَالِ
أَنْ تُخْلَطَ الذَّكَاةُ بِالْخَنْقِ ، فَإِذَا كَانَتْ عَلَى يَدَيْ مَنْ
يَفْصِلُهُمَا جَازَ ذَلِكَ إذَا انْفَصَلَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : أَطْلَقَ
عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْمَرِيضَةِ أَنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُ تَذْكِيَتِهَا وَلَوْ
أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ إذَا كَانَتْ فِيهَا بَقِيَّةُ حَيَاةٍ .
وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ بَقِيَّةِ حَيَاةٍ
مِنْ مَرَضٍ أَوْ بَقِيَّةِ حَيَاةٍ مِنْ سَبْعٍ لَوْ اتَّسَقَ النَّظَرُ
وَسَلِمَتْ عَنْ الشَّبَهِ الْفِكَرُ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْمَسَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُمْ :
إنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إلَى التَّحْرِيمِ لَا إلَى الْمُحَرَّمِ ، وَهُوَ
كَلَامُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مَا التَّحْرِيمُ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّحْرِيمَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ
اللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ شَرَحْنَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْأَحْكَامَ
لَيْسَتْ بِصِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ ، وَإِنَّمَا هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَيْسَ فِي الْقَوْلِ اسْتِثْنَاءٌ ، إنَّمَا
الِاسْتِثْنَاءُ فِي الْمَقُولِ [ فِيهِ ] وَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ } مَعْنَاهُ : تَطْلُبُوا مَا قُسِمَ لَكُمْ ،
وَجَعْلُهُ مِنْ حُظُوظِكُمْ وَآمَالِكُمْ وَمَنَافِعِكُمْ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ
فِسْقٌ مِمَّنْ فَعَلَهُ فَإِنَّهُ تَعَرُّضٌ لِعِلْمِ الْغَيْبِ ، وَلَا يَجُوزُ
لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْغَيْبِ وَلَا يَطْلُبُهُ ؛
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ رَفَعَهُ بَعْدَ نَبِيِّهِ إلَّا فِي الرُّؤْيَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَجُوزُ طَلَبُ ذَلِكَ فِي
الْمُصْحَفِ .
قُلْنَا :
لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْمُصْحَفُ
لِيُعْلَمَ بِهِ الْغَيْبُ ؛ إنَّمَا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ ، وَرُسِمَتْ كَلِمَاتُهُ
لِيُمْنَعَ عَنْ الْغَيْبِ ؛ فَلَا تَشْتَغِلُوا بِهِ ، وَلَا يَتَعَرَّضْ
أَحَدُكُمْ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : فَإِنْ قِيلَ : فَالْفَأْلُ
وَالزَّجْرُ كَيْفَ حَالُهُمَا عِنْدَك ؟ قُلْنَا : أَمَّا الْفَأْلُ
فَمُسْتَحْسَنٌ بِاتِّفَاقٍ .
وَأَمَّا الزَّجْرُ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ ؛ وَالْفَرْقُ
بَيْنَهُمَا أَنَّ الْفَأْلَ فِيمَا يَحْسُنُ ، وَالزَّجْرُ فِيمَا يُكْرَهُ .
وَإِنَّمَا نَهَى الشَّارِعُ عَنْ الزَّجْرِ لِئَلَّا
تَمْرَضَ بِهِ النَّفْسُ وَيَدْخُلَ عَلَى الْقَلْبِ مِنْهُ الْهَمُّ ، وَإِلَّا
فَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ [ فِي الشَّرْعِ ] عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ حَيْثُ
وَرَدَ ذِكْرُهُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : الْأَزْلَامِ .
كَانَتْ قِدَاحًا لِقَوْمٍ وَحِجَارَةً لِآخَرِينَ ،
وَقَرَاطِيسَ لِأُنَاسٍ ، يَكُونُ أَحَدُهَا غُفْلًا ، وَفِي الثَّانِي "
افْعَلْ " أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ ، وَفِي الثَّالِثِ " لَا تَفْعَلْ
" أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ ، ثُمَّ يَخْلِطُهَا فِي جَعْبَةٍ أَوْ تَحْتَهُ
ثُمَّ يُخْرِجُهَا مَخْلُوطَةً مَجْهُولَةً ، فَإِنْ خَرَجَ الْغُفْلُ أَعَادَ
الضَّرْبَ حَتَّى يَخْرُجَ لَهُ " افْعَلْ " أَوْ " لَا تَفْعَلْ
" وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ أَصْنَامِهِمْ ؛ فَيَمْتَثِلُونَ مَا يَخْرُجُ لَهُمْ
، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ ذَلِكَ هِدَايَةٌ مِنْ الصَّنَمِ لِمَطْلَبِهِمْ .
وَكَذَا رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ
مَالِكٍ كَمَا سَرَدْنَاهُ لَكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَمَنْ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك
مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } .
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى :
{ الطَّيِّبَاتُ } رَوَى أَبُو رَافِعٍ قَالَ : { جَاءَ
جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُ
عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ ، وَقَالَ : قَدْ أَذِنَّا لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ :
أَجَلْ ، وَلَكِنَّا لَا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ
، قَالَ أَبُو رَافِعٍ : فَأَمَرَ أَنْ نَقْتُلَ الْكِلَابَ بِالْمَدِينَةِ ،
فَقَتَلْت حَتَّى انْتَهَيْت إلَى امْرَأَةٍ عِنْدَهَا كَلْبٌ يَنْبَحُ عَلَيْهَا
، فَتَرَكْته وَجِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَخْبَرْته ، فَأَمَرَنِي فَرَجَعْت إلَى الْكَلْبِ فَقَتَلْته ، فَجَاءُوا
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ
الَّتِي أَمَرْت بِقَتْلِهَا ، فَسَكَتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : {
الطَّيِّبَاتُ } وَهِيَ ضِدُّ الْخَبِيثَاتِ ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَالطَّيِّبُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: مَا يُلَائِمُ النَّفْسَ وَيُلِذُّهَا .
وَالثَّانِي : مَا أَحَلَّ اللَّهُ .
وَالْخَبِيثُ : ضِدُّهُ ، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي
سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } قِيلَ : مَعْنَاهُ الْكَوَاسِبُ ، يُقَالُ : جَرَحَ إذَا
كَسَبَ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ }
فَكُلُّ كَاسِبٍ جَارِحٌ إذَا كَسَبَ كَيْفَمَا كَانَ ، وَمِمَّنْ كَانَ ، إلَّا
أَنَّ هَاهُنَا نُكْتَةً ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { أُحِلَّ
لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ } .
فَنَحْنُ فَرِيقٌ وَالطَّيِّبَاتُ فَرِيقٌ ، وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ فَرِيقٌ غَيْرُ الِاثْنَيْنِ ، وَذَلِكَ مِنْ
الْبَهَائِمِ الَّتِي يَعْلَمُهَا بَنُو آدَمَ ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ
مَعْلُومَةً وَهِيَ الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ ؛ فَأَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى لَهُمْ فِي أَكْلِ مَا صِيدَ بِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَمَا
يُبَيِّنُ ذَلِكَ تَحْقِيقًا ؟ قُلْنَا : يُبَيِّنُهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ ؛ أَمَّا ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فَقَوْلُهُ : { مُكَلِّبِينَ } ، كَلَّبَ الرَّجُلُ وَأَكْلَبَ إذَا اقْتَنَى
كَلْبًا .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ لِجَمِيعِ
الْأَئِمَّةِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ
اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ
كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ } .
وَالضَّارِي : هُوَ الَّذِي ضَرَّى الصَّيْدَ فِي
اللُّغَةِ .
وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ :
{ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي أُرْسِلُ الْكِلَابَ الْمُعَلَّمَةَ
فَيُمْسِكْنَ عَلَيَّ ، وَأَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى .
فَقَالَ : إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ
وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك ؛ فَإِنَّ ذَكَاتَهُ
أَخْذُهُ وَإِنْ قَتَلَ ، مَا لَمْ يُشْرِكْهُ كَلْبٌ آخَرُ .
قَالَ : وَإِنْ أَدْرَكْته حَيًّا فَاذْبَحْهُ ، وَإِنْ
وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا غَيْرَهُ وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ مِنْهُ ؛
فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ } .
وَعِنْدَ جَمِيعِهِمْ : { فَإِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ
فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ
أَنَّهُ قَالَ : { وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ؟ قَالَ :
وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ } .
وَرَوَى جَمِيعُهُمْ عَنْهُ نَحْوَ الْأَوَّلِ عَنْ
عَدِيٍّ .
وَفِيهِ : { فَإِنْ صِدْت بِكَلْبٍ غَيْرِ مُعَلَّمٍ
فَأَدْرَكْت ذَكَاتَهُ فَكُلْ }
.
فَقَدْ فَسَّرَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ التَّكْلِيبَ
وَالتَّعْلِيمَ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ : {
إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مِمَّا
أَمْسَكَ عَلَيْك } .
وَالْمُعَلَّمُ : هُوَ الَّذِي إذَا أَشْلَيْتَهُ
انْشَلَى ، وَإِذَا زَجَرْته انْزَجَرَ ، فَهَذَا رُكْنُ التَّعْلِيمِ ، وَقَدْ
حَقَّقْنَاهُ فِي الْمَسَائِلِ
.
فَلَوْ اسْتَرْسَلَ عَلَى الصَّيْدِ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ
أَغْرَاهُ صَاحِبُهُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : يُؤْكَلُ بِهِ ؛
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا يُؤْكَلُ ؛ وَالصَّحِيحُ جَوَازُ
أَكْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَثَّرَ فِيهِ الِانْشِلَاءُ وَانْزَجَرَ عِنْدَ
الِانْزِجَارِ ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ ضَعِيفٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : النِّيَّةُ شَرْطٌ فِي
الصَّيْدِ : لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَرْسَلْت
كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
فَاعْتَبَرَ الِاسْتِرْسَالَ مِنْهُ وَالذِّكْرَ ؛ وَلِذَلِكَ
قُلْنَا : إنَّهُ إذَا اسْتَرْسَلَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَغْرَاهُ فَغَرِيَ فِي
سَيْرِهِ : إنَّهَا نِيَّةٌ أَثَّرَتْ فِي الْكَلْبِ ، فَإِنَّهُ عَادَ إلَى
رَأْيِ صَاحِبِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ خَرَجَ لِنَفْسِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إنْ أَكَلَ الْكَلْبَ :
فَفِيهَا رِوَايَتَانِ : أَحَدَاهُمَا : أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مِثْلُهُ ،
وَالثَّانِي : يُؤْكَلُ .
وَالرِّوَايَتَانِ مَبْنِيَّتَانِ عَلَى حَدِيثَيْ
عَدِيٍّ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ .
وَحَدِيثُ عَدِيٍّ أَصَحُّ ، وَهُوَ الَّذِي يَعْضُدُهُ
ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ } .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ ؛ مِنْهَا أَنَّ
قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ
يُحْمَلُ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِيهِ : { فَإِنِّي أَخَافُ
أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ
} .
فَجَعَلَهُ خَوْفًا ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِلُّ
بِالتَّحْرِيمِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : الْأَصْلُ فِي الْحَيَوَانِ التَّحْرِيمُ
، لَا يَحِلُّ إلَّا بِالذَّكَاةِ وَالصَّيْدُ ، وَهُوَ مَشْكُوكٌ فِيهِ "
فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ التَّحْرِيمِ
.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ الْقَوْلَ الثَّانِيَ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَمَا جَازَ الْبِدَارُ إلَى هَجْمِ
الصَّيْدِ مِنْ فَمِ الْكَلْبِ ، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى
نَفْسِهِ لِيَأْكُلَ ، فَيَجِبُ إذًا التَّوَقُّفُ حَتَّى نَعْلَمَ حَالَ فِعْلِ
الْكَلْبِ بِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَقُولُ بِهِ أَحَدٌ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْكَلْبَ قَدْ يَأْكُلُ لِفَرْطِ
جُوعٍ أَوْ نِسْيَانٍ ، وَقَدْ يَذْهَلُ الْعَالِمُ النِّحْرِيرُ عَنْ
الْمَسْأَلَةِ ، فَكَيْفَ بِالْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ أَنْ تَسْتَقْصِيَ
عَلَيْهَا هَذَا الِاسْتِقْصَاءَ وَقَدْ أَخَذْنَا أَطْرَافَ الْكَلَامِ فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } : عَامٌّ فِي الْكَلْبِ الْأَسْوَدِ
وَالْأَبْيَضِ .
وَقَالَ مَنْ لَا يَعْرِفُ : إنَّ صَيْدَ الْكَلْبِ
الْأَسْوَدِ لَا يُؤْكَلُ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { فَإِنَّ الْكَلْبَ الْأَسْوَدَ شَيْطَانٌ } .
وَهَذَا إنَّمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَطْعِ الصَّلَاةِ ، فَلَوْ كَانَ الصَّيْدُ مِثْلَهُ
لَقَالَهُ ، وَنَحْنُ عَلَى الْعُمُومِ حَتَّى يَأْتِيَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظٌ يَقْتَضِي صَرْفَنَا عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إنْ أَدْرَكْت ذَكَاةَ
الصَّيْدِ فَذَكِّهِ دُونَ تَفْرِيطٍ ، فَإِنْ فَرَّطْت لَمْ يُؤْكَلْ : لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْك ، وَفِي
قَوْلِهِ : { إنْ وَجَدْت مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْهُ ، فَإِنَّك لَا
تَدْرِي مَنْ قَتَلَهُ } ، نَصٌّ عَلَى اعْتِبَارِ النِّيَّةِ فِي الذَّكَاةِ
إلَّا أَنْ يَظْهَرَ صَاحِبُهُ إلَيْك وَتَجْتَمِعَا فَيَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْكُمَا : قَدْ سَمَّيْت ؛ فَيَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فَإِنْ أَرْسَلْت كَلْبًا غَيْرَ مُعَلَّمٍ فَأَدْرَكْت
ذَكَاتَهُ فَكُلْ } ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ
الْحَدِيثَ بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَبْحِ
الْحَيَوَانِ لِغَيْرِ مَأْكَلَةٍ ، إنَّمَا هُوَ عَلَى مَعْنَى الْعَبَثِ لَا
عَلَى مَعْنَى طَلَبِ الْأَكْلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا نَدْرِي أَنَّا إذَا أَرْسَلْنَا
غَيْرَ الْمُعَلَّمِ هَلْ يُدْرِكُ ذَكَاتَهُ أَمْ يَعْقِرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : أَمَّا الْفَهْدُ
وَنَحْوُهُ إذَا عُلِّمَ فَيَجُوزُ الِاصْطِيَادُ بِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَوْ صَادَ عَلَيَّ ابْنُ عُرْسٍ
لَأَكَلْته ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَلْبٌ [ كُلُّهُ ] فِي مُطْلَقِ اللُّغَةِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " .
فَأَمَّا جَوَارِحُ الطَّيْرِ ، وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : جَوَارِحُ
الطَّيْرِ : فَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ ، وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكٍ : " أَنَّ
الْبَازِيَ وَالصَّقْرَ وَالْعُقَابَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الطَّيْرِ إذَا
كَانَ مُعَلَّمًا يَفْقَهُ مَا يَفْقَهُ الْكَلْبُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ صَيْدُهُ ،
وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ
.
وَفِيهِ خِلَافٌ عَنْ عَلِيٍّ لَا نُبَالِي بِهِ " .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا ؛ هَلْ يُؤْخَذُ صَيْدُهَا
مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ أَوْ مِنْ الْحَدِيثِ ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : يُؤْخَذُ
مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلِهِ : { مُكَلِّبِينَ } .
وَالتَّكْلِيبُ هُوَ التَّضْرِيَةُ بِالشَّيْءِ وَالتَّسْلِيطُ
عَلَيْهِ لُغَةً ، وَهَذَا يَعُمُّ كُلَّ مُعَلَّمٍ مُكَلَّبٍ ضَارٍ .
وَقَالَ :
أُخِذَ مِنْ الْحَدِيثِ ، وَرَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سَأَلَ عَنْ صَيْدِ
الْبَازِي ، فَقَالَ : مَا أَمْسَكَ عَلَيْك فَكُلْ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَعَلَّقَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَكْلَ فِي صَيْدِ الْبَازِي
عَلَى مَا عَلَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَكْلَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ ، وَهُوَ
الْأَكْلُ مِمَّا أَمْسَكَ عَلَيْك حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } اتَّفَقَتْ الْأُمَّةُ
عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَأْتِ لِبَيَانِ التَّحْلِيلِ فِي الْمُعَلَّمِ مِنْ
الْجَوَارِحِ الْأَكْلَ ، وَإِنَّمَا مَسَاقُهَا تَحْلِيلُ صَيْدِهِ ، وَقَالُوا
فِي تَأْوِيلِهِ : أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا عَلَّمْتُمْ مِنْ
الْجَوَارِحِ .
فَحَذَفَ " صَيْدَ " وَهُوَ الْمُضَافُ ،
وَأَقَامَ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَقَامَهُ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أُحِلَّ لَكُمْ
الطَّيِّبَاتُ ، وَاَلَّذِي عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُبْتَدَأٌ ،
وَالْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } .
وَقَدْ تَدْخُلُ الْفَاءُ فِي خَبَرِ الْمُبْتَدَأِ
كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَقَائِلَةٍ خَوْلَانَ فَانْكِحْ فَتَاتَهُمْ
وَأُكْرُومَةُ الْحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي
رِسَالَةِ مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } عَامٌّ بِمُطْلَقِهِ فِي كُلِّ مَا
أَمْسَكَ الْكَلْبُ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ خَاصٌّ بِالدَّلِيلِ فِي كُلِّ مَا
أَحَلَّهُ اللَّهُ مِنْ جِنْسٍ كَالظِّبَاءِ وَالْبَقَرِ وَالْحُمُرِ ، أَوْ مِنْ
جُزْءٍ كَاللَّحْمِ وَالْجِلْدِ دُونَ الدَّمِ .
وَهَذَا عُمُومٌ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ بِدَلِيلٍ
سَابِقٍ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } هَلْ يَتَضَمَّنُ مَا إذَا غَابَ
عَنْك الصَّيْدُ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ مَالِكٌ : " إذَا غَابَ عَنْك فَلَيْسَ
بِمُمْسِكٍ عَلَيْك " وَإِذَا بَاتَ فَلَا تَأْكُلْهُ فِي أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُؤْكَلُ وَتَعَلَّقَ
عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلْ مَا
أَصْمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت
} .
فَالْإِصْمَاءُ فِي اللُّغَةِ : الْإِسْرَاعُ ، أَيْ
كُلْ مَا قَتَلَ مُسْرِعًا ، وَأَنْتَ تَرَاهُ ، وَدَعْ مَا أَنْمَيْت : أَيْ مَا
مَضَى مِنْ الصَّيْدِ وَسَهْمُك فِيهِ ؛ قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : فَهُوَ لَا
تَنْمِي رَمِيَّتُهُ مَا لَهُ لَا عُدَّ مِنْ نَفَرِهِ وَالصَّحِيحُ أَكْلُهُ
وَإِنْ غَابَ مَا لَا تَجِدُهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ أَوْ عَلَيْهِ أَثَرٌ غَيْرُ
أَثَرِ سَهْمِك .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لَهُ : كُلْهُ
مَا لَمْ تَجِدْهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَسَهْمُك
قَتَلَهُ أَمْ لَا } ، كَمَا أَخْرَجَهُ
مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ : { إذَا
رَمَيْت بِسَهْمِك فَغَابَ عَنْك فَأَدْرَكْته فَكُلْهُ بَعْدَ ثَلَاثٍ مَا لَمْ
يُنْتِنْ } .
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا : زَادَ
النَّسَائِيّ { وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ سَبْعٌ فَكُلْهُ } .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { الْيَوْمَ
أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ
لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إذَا
آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي
أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي
الْآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ
} .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمْ
} قَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ،
وَفِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَوْمُ
الِاثْنَيْنِ بِالْمَدِينَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ بِمَعْنَى الْآنَ ؛ لِأَنَّ
الْعَرَبَ تَقُولُ الْيَوْمَ كَذَا بِمَعْنَى الْآنَ ، كَأَنَّهُ وَقْتُ
الزَّمَانِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَنْخِيلِ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ : وَبَيَانُهُ أَنَّ كَوْنَهُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ضَعِيفٌ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ بِمَعْنَى الزَّمَانِ فَصَحِيحٌ
مُحْتَمَلٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاقِضُ غَيْرَهُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ قَوْلَهُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْت
لَكُمْ دِينَكُمْ } هُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ
يَهُودِيًّا قَالَ لِعُمَرَ : لَوْ نَزَلَتْ عَلَيْنَا هَذِهِ الْآيَةُ لَاِتَّخَذْنَا
ذَلِكَ عِيدًا .
فَقَالَ عُمَرُ : " قَدْ عَلِمْت فِي أَيِّ يَوْمٍ
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، نَزَلَتْ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ " .
وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ يَهُودِيًّا
قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ذَلِكَ ، فَرَاجَعَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بِمِثْلِ مَا
رَاجَعَهُ عُمَرُ .
فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَوْمَانِ قَبْلَهُ
وَبَعْدَهُ رَاجِعَةً إلَيْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيَّامًا سِوَاهَا ؛
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا هِيَ بِعَيْنِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مَعْنَى كَمَالِ
الدِّينِ وَتَمَامِ النِّعْمَةِ فِيهِ : وَفِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لُبَابُهُ
فِي سَبْعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ ، أَرَادَ :
" الْيَوْمَ عَرَّفْتُكُمْ بِنَفْسِي
بِأَسْمَائِي وَصِفَاتِي وَأَفْعَالِي فَاعْرِفُونِي " .
الثَّانِي :
الْيَوْمَ قَبِلْتُكُمْ وَكَتَبْت رِضَائِي عَنْكُمْ
لِرِضَائِي لِدِينِكُمْ ؛ فَإِنَّ تَمَامَ الدِّينِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَبُولِ .
الثَّالِثُ : الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ ؛
أَيْ اسْتَجَبْت لَكُمْ دُعَاءَكُمْ ، وَدُعَاءَ نَبِيِّكُمْ لَكُمْ .
ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ } .
الرَّابِعُ : الْيَوْمَ أَظْهَرْتُكُمْ عَلَى الْعَدُوِّ
بِجَمْعِ الْحَرَمَيْنِ لَهُ أَوْ بِتَعْرِيفِ ذَلِكَ فِيهِ .
الْخَامِسُ :
الْيَوْمَ طَهَّرْت لَكُمْ الْحَرَمَ عَنْ دُخُولِ
الْمُشْرِكِينَ فِيهِ مَعَكُمْ ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ
، وَلَا طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ ، وَلَا كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ فِي
مَوْقِفِهِمْ ؛ بَلْ وَقَفُوا كُلُّهُمْ فِي مَوْقِفٍ وَاحِدٍ .
السَّادِسُ : الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ الْفَرَائِضَ
وَانْقَطَعَ النَّسْخُ .
السَّابِعُ :
أَنَّهُ بِكَمَالِ الدِّينِ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ
الْآيَةِ شَيْءٌ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَزَلْ يُصَرِّفُ
نَبِيَّهُ وَأَصْحَابَهُ فِي دَرَجَاتِ الْإِسْلَامِ وَمَرَاتِبِهِ دَرَجَةً
دَرَجَةً حَتَّى أَكْمَلَ شَرَائِعَهُ وَمَعَالِمَهُ وَبَلَغَ أَقْصَى دَرَجَاتِهِ
، فَلَمَّا أَكْمَلَهُ تَمَّتْ بِهِ النِّعْمَةُ وَرَضِيَهُ دِينًا ، كَمَا هُوَ
عَلَيْهِ الْآنَ ؛ يُرِيدُ : فَالْزَمُوهُ وَلَا تُفَارِقُوهُ وَلَا تُغَيِّرُوهُ
، كَمَا فَعَلَ سِوَاكُمْ بِدِينِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ مِنْ
هَذِهِ الْأَقْوَالِ : كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ، وَقَدْ فَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ
فَلَا يُخْتَصُّ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ ؛ بَلْ يُقَالُ إنَّ جَمِيعَهَا مُرَادُ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَا تَعَلَّقَ بِهَا مِمَّا كَانَ فِي مَعْنَاهَا ، إلَّا أَنَّ
قَوْلَهُ : إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهُ آيَةٌ وَلَا ذُكِرَ بَعْدَهُ حُكْمٌ لَا
يَصِحُّ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْبَرَاءَ قَالَ :
" آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ { يَسْتَفْتُونَك } وَآخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ " .
وَفِي الصَّحِيحِ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : "
آخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا " .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ قَبْلَ مَوْتِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَسِيرٍ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي تَارِيخِهِ حَدِيثُ عُمَرَ
وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ
: { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ } أَنَّهُ
يَوْمُ عَرَفَةَ ، فَهَذَا تَارِيخٌ صَحِيحٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ، وَيَأْتِي
تَمَامُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فِي ذِكْرِ الطَّعَامِ
قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ كُلَّ مَطْعُومٍ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مُطْلَقُ
اللَّفْظِ وَظَاهِرُ الِاشْتِقَاقِ
.
وَكَانَ حَالُهُمْ يَقْتَضِي أَلَّا يُؤْكَلَ
طَعَامُهُمْ لِقِلَّةِ احْتِرَاسِهِمْ عَنْ النَّجَاسَاتِ ، لَكِنَّ الشَّرْعَ
سَمَحَ فِي ذَلِكَ ؟ لِأَنَّهُمْ أَيْضًا يَتَوَقَّوْنَ الْقَاذُورَاتِ ، وَلَهُمْ
فِي دِينِهِمْ مُرُوءَةٌ يُوصِلُونَهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجُوسَ الَّذِينَ
لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ لَا يُؤْكَلُ طَعَامُهُمْ وَيُسْتَقْذَرُونَ
وَيُسْتَنْجَسُونَ فِي أَوَانِيهِمْ ، رُوِيَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ
أَنَّهُ قَالَ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
قُدُورِ الْمَجُوسِ .
فَقَالَ : أَنْقُوهَا غَسْلًا وَاطْبُخُوا فِيهَا } .
وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ ، وَذَكَرَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ وَصَحَّحَهُ أَنَّهُ قَالَ { : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ إنَّا بِأَرْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَنَطْبُخُ فِي قُدُورِهِمْ
وَنَشْرَبُ فِي آنِيَتِهِمْ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنْ لَمْ تَجِدُوا غَيْرَهَا فَارْحَضُوهَا بِالْمَاءِ } .
قَالَ : وَهُوَ صَحِيحٌ ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ .
وَغَسْلُ آنِيَةِ الْمَجُوسِ فَرْضٌ ، وَغَسْلُ آنِيَةِ
أَهْلِ الْكِتَابِ فَضْلٌ وَنَدْبٌ ؛ فَإِنَّ أَكْلَ مَا فِي آنِيَتِهِمْ يُبِيحُ
الْأَكْلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا
.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ
" أَنَّ عُمَرَ تَوَضَّأَ مِنْ جَرَّةِ نَصْرَانِيَّةٍ " ، وَصَحَّحَهُ وَأَدْخَلَهُ الْبُخَارِيُّ فِي التَّرَاجِمِ .
وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَكْلَ طَعَامِهِمْ
رُخْصَةٌ ، فَإِذَا احْتَجْت إلَى آنِيَتِهِمْ فَغَسْلُهَا عَزِيمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِلرُّخْصَةِ
.
قُلْنَا : رُخْصَةُ أَكْلِ طَعَامِهِمْ حِلٌّ تَأَصَّلَ
فِي الشَّرِيعَةِ وَاسْتَقَرَّ ، فَلَا يَقِفُ عَلَى مَوْضِعِهِ ؛ بَلْ يَسْتَرْسِلُ
عَلَى مَحَالِّهِ كُلِّهَا ، كَسَائِرِ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ذَبَائِحُهُمْ ،
وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي طَعَامِهِمْ : قَالَ لِي شَيْخُنَا
الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو الْفَتْحِ نَصْرُ بْنُ إبْرَاهِيمَ النَّابُلُسِيُّ
فِي ذَلِكَ كَلَامًا كَثِيرًا ، لُبَابُهُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ
أَذِنَ فِي طَعَامِهِمْ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ غَيْرَهُ عَلَى
ذَبَائِحِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا تَمَسَّكُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَعَلَقُوا بِذَيْلِ
نَبِيٍّ جُعِلَتْ لَهُمْ حُرْمَةً عَلَى أَهْلِ الْأَنْصَابِ .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : " تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ
الْمُطْلَقَةُ إلَّا مَا ذَبَحُوا يَوْمَ عِيدِهِمْ أَوْ لِأَنْصَابِهِمْ " .
وَقَالَ جَمَاعَةُ الْعُلَمَاءِ : تُؤْكَلُ
ذَبَائِحُهُمْ وَإِنْ ذَكَرُوا عَلَيْهَا اسْمَ غَيْرِ الْمَسِيحِ ، وَهِيَ
مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ نَذْكُرُ لَكُمْ مِنْهَا قَوْلًا بَدِيعًا : وَذَلِكَ أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ حَرَّمَ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الذَّبَائِحِ
، وَأَذِنَ فِي طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمْ يَقُولُونَ : [ إنَّ ] اللَّهَ
هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ، وَإِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ .
تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
أُكِلَ طَعَامُهُمْ ، وَإِنْ ذَكَرُوا فَقَدْ عَلِمَ رَبُّك مَا ذَكَرُوا ،
وَأَنَّهُ غَيْرُ الْإِلَهِ ، وَقَدْ سَمَحَ فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَالَفَ
أَمْرُ اللَّهِ ، وَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ ، وَلَا تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ لَهُ .
وَقَدْ قُلْت لِشَيْخِنَا أَبِي الْفَتْحِ
الْمَقْدِسِيِّ : إنَّهُمْ يَذْكُرُونَ غَيْرَ اللَّهِ .
فَقَالَ لِي : هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ ، وَقَدْ جَعَلَهُمْ
اللَّهُ تَبَعًا لِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِمْ .
وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى
أَنَّ التَّسْمِيَةَ عَلَى الذَّبِيحَةِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ؛ قَالَ : لَوْ سَمَّى
النَّصْرَانِيُّ الْإِلَهَ حَقِيقَةً لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى شَرْطِ
الْعِبَادَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْمَعْبُودَ ، فَلَيْسَتْ
تَسْمِيَتُهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ ، وَاشْتِرَاطُهُمْ التَّسْمِيَةَ
عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعِبَادَةِ لَا يُعْقَلُ .
قُلْنَا
:
تُعْقَلُ صُورَةُ التَّسْمِيَةِ ، وَلَهَا حُرْمَةٌ ،
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُسَمِّي مَنْ يُسَمِّي .
وَلَوْ شَرَطْنَا الْعِلْمَ بِحَقِيقَةِ الْإِيمَانِ مَا
جَازَ أَكْلُ كَثِيرٍ مِنْ ذَبْحِ مَنْ يُسَمِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا
حَرَّمَ الشَّرْعُ ذَبْحًا يُذْكَرُ عَلَيْهِ غَيْرُ اللَّهِ تَصْرِيحًا .
فَأَمَّا مَنْ يَقْصِدُ اللَّهَ فَيُصِيبُ قَصْدَهُ
فَهُوَ الَّذِي لَا كَلَامَ فِيهِ
.
وَأَمَّا الَّذِي يُسَمِّيهِ فَيُخْطِئُ قَصْدَهُ
فَذَلِكَ الَّذِي رُخِّصَ فِيهِ ؛ فَإِذَا قَالَ " اللَّهُ " وَهُوَ
يَقْصِدُ الْمَسِيحَ ، أَوْ الْمَسِيحُ وَهُوَ يَقْصِدُ اللَّهَ فَيَرْجِعُ
أَمْرُهُ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَكِنَّهُ ضَلَّ عَنْ الطَّرِيقِ وَسَمَحَ
لَك فِيهِ الْإِلَهُ الَّذِي ضَلَّ أَهْلُ الْكِتَابِ عَنْهُ ، وَخَفَفَ حَالُهُمْ
بِهَذِهِ الشُّعْبَةِ الْخَفِيَّةِ مِنْ الْقَصْدِ إلَيْهِ ، فَلَا يُعْتَرَضُ
عَلَيْهِ .
[ فَإِنْ قِيلَ : فَمَا أَكَلُوهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ
الذَّكَاةِ كَالْخَنْقِ وَحَطْمِ الرَّأْسِ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذِهِ
مَيْتَةٌ ، وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ ، وَإِنْ أَكَلُوهَا فَلَا نَأْكُلُهَا
نَحْنُ كَالْخِنْزِيرِ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَهُمْ ، وَمِنْ طَعَامِهِمْ ، وَهُوَ
حَرَامٌ عَلَيْنَا ، فَهَذِهِ أَمْثِلَةٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ] .
وَأَمَّا ذَبَائِحُ الْكِتَابِيِّينَ فَقَدْ سُئِلَ
أَبُو الدَّرْدَاءِ عَمَّا يُذْبَحُ لِكَنِيسَةٍ اسْمُهَا سَرْجِسُ ، فَأَمَرَ
بِأَكْلِهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ
وَعَطَاءٌ : تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَإِنْ ذُكِرَ غَيْرُ اللَّهِ عَلَيْهَا ،
وَهَذَا نَاسِخٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ
اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسَمِ الثَّانِي أَنَّهُ
لَيْسَ بِنَسْخٍ ، وَسَنُشِيرُ إلَيْهِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } تَضَمَّنَ
أَهْلَ الْكِتَابِ وَهُمْ بَنُو إسْرَائِيلَ ، فَهَلْ يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مَنْ
دَانَ بِدِينِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ؟ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ وَهُوَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَدْعُهُ النَّبِيُّ فَاتَّبَعَهُ ،
هَلْ يَكُونُ لَهُ حُكْمٌ مِنْ دُعَائِهِ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي
مَوْضِعِهِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى شَرْعٍ دَخَلَ فِي حُكْمِهِمْ ، أَوْ
كَانَ عَلَى شَرْعٍ دُرِسَ عَنْهُ
.
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ مِنْ
الْعَرَبِ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ ؛ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّهُ تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَأَلْحَقَهُمْ بِالْكِتَابِيِّينَ ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، وَبِهِ قَالَ
الشَّعْبِيُّ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ : { وَمَا كَانَ رَبُّك نَسِيًّا } .
وَقَالَهُ ابْنُ شِهَابٍ ، وَقَالَ : لِأَنَّهُمْ
يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إشَارَةً إلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ
تَعَلُّقِهِمْ بِاللَّفْظِ ؛ وَبِهَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ .
وَعَنْ عُلَمَائِنَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا مَا
تَقَدَّمَ .
وَالثَّانِيَةُ : لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ .
وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ وَعَلِيٌّ .
وَقَالَ : لِأَنَّهُمْ لَا يُحَلِّلُونَ مَا تُحَلِّلُ
النَّصَارَى وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا يُحَرِّمُونَ .
وَهَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ لَمْ يُلْحِقْهُمْ بِهِمْ ؛
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَتَوَلَّوْهُمْ ، وَلَا دَانُوا بِدِينِهِمْ ، وَلَوْ
تَعَلَّقُوا بِهِ لَوَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَالِهِمْ وَحُكْمِهِمْ لِمَا
قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَدِلَّةِ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أُحِلَّ
لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ } ، إلَى قَوْلِهِ : { أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ
وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ
الصَّيْدَ وَطَعَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَبَاحَهَا
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهُوَ الْحَلَالُ الْمُطْلَقُ ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيَرْفَعَ الشُّكُوكَ وَيُزِيلَ الِاعْتِرَاضَاتِ [
وَلَكِنَّ الْخَوَاطِرَ الْفَاسِدَةَ هِيَ الَّتِي تُوجِبُ الِاعْتِرَاضَاتِ ] ، وَيَخْرُجَ إلَى تَطْوِيلِ الْقَوْلِ .
وَلَقَدْ سُئِلْت عَنْ النَّصْرَانِيِّ يَفْتِلُ عُنُقَ
الدَّجَاجَةِ ثُمَّ يَطْبُخُهَا : هَلْ يُؤْكَلُ مَعَهُ أَوْ تُؤْخَذُ طَعَامًا
مِنْهُ ؟ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَقُلْت : تُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّهَا
طَعَامُهُ وَطَعَامُ أَحْبَارِهِ وَرُهْبَانِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ
ذَكَاةً عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ طَعَامَهُمْ مُطْلَقًا ،
وَكُلُّ مَا يَرَوْنَ فِي دِينِهِمْ فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَنَا فِي دِينِنَا ، إلَّا
مَا كَذَّبَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ .
وَلَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّهُمْ يُعْطُونَنَا أَوْلَادَهُمْ
وَنِسَاءَهُمْ مِلْكًا فِي الصُّلْحِ فَيَحِلُّ لَنَا وَطْؤُهُنَّ ، فَكَيْفَ لَا
تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ وَالْأَكْلُ دُونَ الْوَطْءِ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ }
قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ،
وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ وَاحْتِمَالَ اللَّفْظِ لَأَنْ يَكُونَ
الْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ الْحَرَائِرِ وَالْعَفَائِفِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ
كَثِيرَةٌ فِي قَصَصٍ مُخْتَلِفَةٍ ؛ مِنْهَا أَنَّ امْرَأَةً مِنْ هَمْدَانَ
يُقَالُ لَهَا نُبَيْشَةُ بَغَتْ ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَذْبَحَ نَفْسَهَا
فَأَدْرَكُوهَا فَقَدُّوهَا ، فَذَكَرُوهُ أَيْضًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
فَقَالَ : " انْكِحُوهَا نِكَاحَ الْحُرَّةِ الْعَفِيفَةِ الْمُسْلِمَةِ " .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : " إحْصَانُهَا أَنْ
تَغْتَسِلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتُحْصِنَ فَرْجَهَا مِنْ الزِّنَا " .
وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ فَقَالَ
: مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَحِلُّ لَنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا
يَحِلُّ لَنَا ، ثُمَّ تَلَا : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ
وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ
يَدٍ } .
قَالَ : فَمَنْ أَعْطَى الْجِزْيَةَ حَلَّ لَنَا
نِسَاؤُهُمْ ، وَمَنْ لَمْ يُعْطِ لَمْ يَحِلَّ لَنَا نِسَاؤُهُ .
وَمِنْ هَاهُنَا يَخْرُجُ أَنَّ نِكَاحَ إمَاءِ أَهْلِ
الْكِتَابِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُنَّ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِنَّ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَذَلِكَ الْحَرَائِرُ .
قُلْنَا : حَلُّوا بِدَلِيلٍ آخَرَ .
وَقِيلَ : عَنَى بِذَلِكَ نِسَاءَ بَنْيِ إسْرَائِيلَ
دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ الَّذِينَ دَانُوا بِدِينِ بَنِي إسْرَائِيلَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ مَعَهُمْ فِي
ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحِهِمْ لِقَوْلِهِ : فَإِنَّهُ مِنْهُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
{ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } هَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نَفْسُ
الْإِعْطَاءِ وَالِالْتِزَامِ ، أَوْ يَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ
الْجِزْيَةُ ؟ قُلْنَا : أَمَّا مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَلَقَدْ تَلَوْته
عَلَيْكُمْ .
وَأَمَّا سَائِرُ الْعُلَمَاءِ فَيَقُولُونَ : إنَّمَا
الْمُرَادُ مَنْ تُقْبَلُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } .
وَذِكْرُ الْجِزْيَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْقِتَالِ لَا
فِي النِّكَاحِ ، إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ كَرِهُوا نِكَاحَ الْحَرْبِيَّةِ
لِئَلَّا يُولَدَ لَهُ فِيهِمْ فَيَتَنَصَّرُوا وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ
أَحْكَامُهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مُحْصِنِينَ
غَيْرَ مُسَافِحِينَ } قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَأَرَادَ بِهِ فِي
قَوْلِ عُلَمَائِنَا غَيْرَ مُتَعَالِنِينَ بِالزِّنَا كَالْبَغَايَا ، وَلَا
مِمَّنْ يَتَّخِذُ أَخْدَانًا ، مَعْنَاهُ يَخْتَصُّ بِزَانٍ مَعْلُومٍ
وَبِزَانِيَةٍ مَعْلُومَةٍ .
وَفِي هَذَا تَخْصِيصُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِي لَا
يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } الْآيَةَ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى
الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى
أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمْ
النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا
بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ
مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } فِيهَا اثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ
أَعْظَمِ آيَاتِ الْقُرْآنِ مَسَائِلَ وَأَكْثَرِهَا أَحْكَامًا فِي الْعِبَادَاتِ
، وَبِحَقِّ ذَلِكَ ، فَإِنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ } ، فِي
صَحِيحِ الْخَبَرِ عَنْهُ .
وَلَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ فِيهَا
أَلْفَ مَسْأَلَةٍ ، وَاجْتَمَعَ أَصْحَابُنَا بِمَدِينَةِ السَّلَامِ
فَتَتَبَّعُوهَا فَبَلَّغُوهَا ثَمَانَمِائَةِ مَسْأَلَةٍ ، وَلَمْ يَقْدِرُوا
أَنْ يُبَلِّغُوهَا الْأَلْفَ ، وَهَذَا التَّتَبُّعُ إنَّمَا يَلِيقُ بِمَنْ
يُرِيدُ تَعْرِيفَ طُرُقِ اسْتِخْرَاجِ الْعُلُومِ مِنْ خَبَايَا الزَّوَايَا ،
وَاَلَّذِي يَلِيقُ الْآنَ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ
الِانْتِدَابُ إلَى انْتِزَاعِ الْجَلِيِّ وَأَنْ نَتَعَرَّضَ لِمَا يَسْنَحُ
خَاصَّةً مِنْ ظَاهِرِ مَسَائِلِهَا
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَأَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ عَائِشَةَ ،
كَمَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْوُضُوءَ كَانَ مَفْعُولًا قَبْلَ نُزُولِهَا
غَيْرُ مَتْلُوٍّ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْوُضُوءَ كَانَ
بِمَكَّةَ سُنَّةً ، مَعْنَاهُ كَانَ مَفْعُولًا بِالسُّنَّةِ ، فَأَمَّا حُكْمُهُ
فَلَمْ يَكُنْ قَطُّ إلَّا فَرْضًا
.
وَقَدْ
رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَضَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ ظُهْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ
لِيُصَلِّيَ بِهِ فَغَمَزَ الْأَرْضَ بِعَقِبِهِ ، فَأَنْبَعَتْ مَاءً ،
وَتَوَضَّأَ مُعَلِّمًا لَهُ ، وَتَوَضَّأَ هُوَ مَعَهُ ، وَصَلَّى ، فَصَلَّى
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَرْوِهِ أَهْلُ
الصَّحِيحِ ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَيْهِ ،
وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ السَّيِّدُ وَالْعُلَمَاءُ يَتَغَافَلُونَ عَنْ
الْحَدِيثِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ، وَإِنْ ذَهَبَ .
وَيَكْرَهُونَ أَنْ يَبْتَدِئُوا بِذِكْرِهِ حَتَّى
يُحْتَاجَ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا }
: هَذَا الْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ مُصَرِّحًا
بِالْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْكَافِرِينَ دَاخِلُونَ فِيهِ ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ
أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ فِي فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِالْأَدِلَّةِ الْقَاطِعَةِ ،
وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا خَصَّ الْخِطَابَ الْمُلْزِمَ
لِلْإِيمَانِ ؛ لِأَنَّ النَّازِلَةَ عَرَضَتْ لَهُ ، وَالْقِصَّةَ دَارَتْ
عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ لَنَا شَيْخُنَا
فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } : مَعْنَاهُ : إذَا أَرَدْتُمْ
الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ حَالَةَ الْقِيَامِ إلَى
الصَّلَاةِ لَا يُمْكِنُ ، وَالْإِرَادَةُ هِيَ النِّيَّةُ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
النِّيَّةَ فِي الطَّهَارَةِ وَاجِبَةٌ فِيهِ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ .
وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا
غَيْرُ وَاجِبَةٍ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ ،
وَهِيَ مِنْ طُيُولِيَّاتِ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِيهِ .
وَالْأَصْلُ الْمُحَقَّقُ أَنَّهَا عِبَادَةٌ
مَقْصُودَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا شَطْرُ الْإِيمَانِ ، وَالْعِبَادَاتُ لَا
يُتَعَبَّدُ بِهَا إلَّا مَعَ النِّيَّةِ ، وَيُخَالِفُ الشَّعْبِيُّ إلَّا
الْجُمُعَةَ .
فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ
: مَعْنَاهُ إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ النَّوْمِ ، وَفِي ذَلِكَ
نَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَبَيَّنَ هَذَا أَنَّ النَّوْمَ حَدَثٌ ، وَبِهِ قَالَ
جُمْلَةُ الْأُمَّةِ ، سَمِعْت عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ يَرَاهُ حَدَثًا ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدِي عَنْهُ .
وَرُوِيَ لِي عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ أَنَّهُ لَمْ
يَرَهُ حَدَثًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِهِ أَنَّ هَذِهِ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَهُمْ ؛
لِأَنَّ الْآيَةَ وَالْخَبَرَ إذَا كَانَ الَّذِي أَثَارَهُمَا سَبَبًا فَلَا
بُدَّ مِنْ دُخُولِ السَّبَبِ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الْخِلَافُ وَرَاءَ ذَلِكَ
هَلْ يَقْتَصِرُ عَلَيْهَا الْحُكْمُ بِهِمَا أَمْ يَكُونَانِ عَلَى عُمُومِهِمَا
؟ وَثَبَتَ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ قَالَ : { أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَلَّا نَنْزِعَ
خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهِنَّ إلَّا مِنْ جَنَابَةٍ ، وَلَكِنْ
مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ وَنَوْمٍ
} .
وَالْأَمْرُ أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ أَرَدْنَا
أَنْ نُعَرِّفَكُمْ وُجُودَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ ، وَفِي صَحِيحِ حَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثُ صَفْوَانَ حَدِيثٌ
صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّ
النَّوْمَ حَدَثٌ فَهُوَ حَدَثٌ لِمَا يَصْحَبُهُ غَالِبًا مِنْ خُرُوجِ الْخَارِج .
وَقَالَ الْمُزَنِيّ : هُوَ حَدَثٌ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا
بَاطِلٌ فَإِنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَنَامُونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ .
وَمِنْهُ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَّرَ صَلَاةَ الْعِشَاءِ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى رَقَدَ
النَّاسُ وَاسْتَيْقَظُوا .
وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ : أُقِيمَتْ صَلَاةُ الْعِشَاءِ .
فَقَامَ رَجُلٌ يُنَاجِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ ثُمَّ صَلَّوْا } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَإِذَا ثَبَتَ الْفَرْقُ
بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ فَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا تَفْصِيلَهُ فِي النَّوَازِلِ
الْفِقْهِيَّةِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ اسْتَثْقَلَ نَوْمًا عَلَى أَيِّ حَالٍ
كَانَ مِنْ الْأَحْوَالِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الْوُضُوءَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ نَامَ عَلَى هَيْئَةٍ مِنْ
هَيْئَاتِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ وُضُوءُهُ ، وَوَافَقَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي
الرُّكُوعِ ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ : { نَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ سَاجِدٌ
حَتَّى نَفَخَ ، ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى ؛ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّك
قَدْ نِمْت .
فَقَالَ : إنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَامَ
مُضْطَجِعًا ، فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ } .
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد أَنْكَرَهُ ،
فَقَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْفُوظًا ،
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ : { تَنَامُ عَيْنَايَ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي } .
وَالْحَدِيثُ الثَّانِي قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ قَائِمًا أَوْ
رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا ؛ إنَّمَا الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ نَامَ مُضْطَجِعًا ،
فَإِنَّهُ إذَا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ } .
وَهُوَ بَاطِلٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ وَأَوْضَحْنَا خَلَلَهُ
.
وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فِي الرُّكُوعِ فَإِنَّمَا بَنَى
عَلَى أَنَّ الرَّاكِعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَسْتَثْقِلَ نَوْمًا وَيَثْبُتَ
رَاكِعًا ، فَدَلَّ أَنَّ نَوْمَهُ ثَبَاتٌ وَخُلَسٌ لَا شَيْءَ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا ثَبَتَ الْوُضُوءُ
فِي النَّوْمِ فَالْإِغْمَاءُ فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : ظَاهِرُ الْآيَةِ
يَقْتَضِي الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ
نَزَلَتْ فِي النَّائِمِينَ ، وَإِيَّاهُمْ صَادَفَ الْخِطَابُ ، وَلَكِنَّا
مِمَّنْ يَأْخُذُ بِمُطْلَقِ الْخِطَابِ وَلَا يَرْبِطُ الْحُكْمَ بِالْأَسْبَابِ
، وَكَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ : إنَّ الْوُضُوءَ يَلْزَمُ لِكُلِّ قَائِمٍ إلَى
الصَّلَاةِ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْدِثٍ ، إلَّا أَنَّ أَنَسَ بْنَ
مَالِكٍ رَوَى : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ
.
قُلْت : كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ ؟ قَالَ :
كَانَ يَجْزِي أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ } .
خَرَّجَهُ جَمِيعُ الْأَئِمَّةِ .
وَرَوَى ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ
، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ صَلَّى الصَّلَوَاتِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : فَعَلْت شَيْئًا لَمْ تَكُنْ
تَفْعَلُهُ .
فَقَالَ : عَمْدًا فَعَلْته } .
أَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيُّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَتَكَرَّرُ الْحُكْمُ
بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِتَكَرُّرِهِ أَحَلْتُمْ ،
وَإِنْ قُلْتُمْ لَا يَتَكَرَّرُ فَمَا وَجْهُهُ ؟ قُلْنَا : مِنْ
الْمُتَعَجْرِفِينَ مَنْ تَكَلَّفَ فَقَالَ : إنَّمَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ
الْعِلَّةِ ، وَهُوَ الْحَدَثُ
.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْحَدَثَ لَا يُوجِبُ
الطَّهَارَةَ لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا وُجُوبُ الصَّلَاةِ يُوجِبُ الطَّهَارَةَ
بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ مُحْدِثًا ، فَالْحَدَثُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ
الطَّهَارَةِ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ لَا عِلَّتِهِ .
وَالْحُكْمُ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ شَرْعًا ، وَقَدْ
مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ .
وَقَدْ أَحْدَثَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ فِي
الْإِسْلَامِ بِدْعَةً شَنْعَاءَ ، فَقَالَ : إنَّ الْمُحْدِثَ لَا يُؤْمَرُ
بِالصَّلَاةِ ، إنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْوُضُوءِ ، وَعَلَيْهِ يُثَابُ ، وَعَلَيْهِ
يُعَاقَبُ ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ حَتَّى
يَتَوَضَّأَ .
وَهَذَا خَرْقٌ لِإِجْمَاعِ
الْأُمَّةِ وَهَتْكٌ لِحِجَابِ الشَّرِيعَةِ .
وَهَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا رَدٌّ عَلَيْهِ إنْ
أَقَرَّ بِثُبُوتِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ فَإِنَّ مَنْ يُنْكِرُ التَّوْحِيدَ
مُخَاطَبٌ بِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ
تَوْحِيدِ الرَّبِّ ، وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاغْسِلُوا } : الْفَاءُ حَرْفٌ يَقْتَضِي الرَّبْطَ وَالسَّبَبَ وَهُوَ
بِمَعْنَى التَّعْقِيبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ ،
وَهِيَ هَاهُنَا جَوَابٌ لِلشَّرْطِ رَبَطَتْ الْمَشْرُوطَ بِهِ وَجَعَلَتْهُ
جَوَابَهُ أَوْ جَزَاءَهُ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ بَيْدَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ
وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي
الْوُضُوءِ قَالَ : إنَّ فِي هَذَا دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْبُدَاءَةِ
بِالْوَجْهِ ؛ إذْ هُوَ جَزَاءُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ .
وَقَالَ الْآخَرُونَ الَّذِينَ لَا يَرَوْنَ تَرْتِيبَ
الْوُضُوءِ : إنَّ هَذَا الْقَوْلَ صَحِيحٌ فِيمَا إذَا كَانَ جَوَابُ الشَّرْطِ
مَعْنًى وَاحِدًا ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ جُمَلٌ كُلُّهَا جَوَابًا وَجَزَاءً
لَمْ نُبَالِ بِأَيِّهِمَا بَدَأَتْ ؛ إذْ الْمَطْلُوبُ تَحْصِيلُهَا .
وَهَذَا قَوْلٌ لَهُ رَوْنَقٌ وَلَيْسَ بِمُحَقَّقٍ قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } ؛ فَبَدَأَ
بِالْوَجْهِ وَعَطَفَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ ، فَالنَّظَرُ الصَّحِيحُ فِي ذَلِكَ أَنْ
يُقَالَ : تَجِبُ الْبُدَاءَةُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ ، كَمَا { قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَجَّ وَجَاءَ إلَى الصَّفَا
: نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ } ، وَكَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِالصَّفَا
وَاجِبَةً .
وَيَعْضُدُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ عُمْرَهُ كُلَّهُ مُرَتِّبًا تَرْتِيبَ الْقُرْآنِ ،
وَفِعْلُهُ هَذَا بَيَانُ مُجْمَلِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبَيَانُ
الْمُجْمَلِ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ خِلَافٍ عُظْمَى قَدْ
بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُخْتَارُ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ : { فَاغْسِلُوا } : وَظَنَّ الشَّافِعِيُّ وَهُوَ عِنْدَ أَصْحَابِهِ مَعْدِ بْنِ
عَدْنَانَ فِي الْفَصَاحَةِ بَلْهُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسِوَاهُ أَنَّ الْغَسْلَ
صَبُّ الْمَاءِ عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ غَيْرِ عَرْكٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ
ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ
الْغَسْلَ مَرُّ الْيَدِ مَعَ إمْرَارِ الْمَاءِ أَوْ مَا فِي مَعْنَى الْيَدِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : الْغَسْلُ
يَقْتَضِي مَغْسُولًا مُطْلَقًا وَمَغْسُولًا بِهِ : وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِيمَا
بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وُجُوهَكُمْ } : وَالْوَجْهُ فِي اللُّغَةِ : مَا بَرَزَ مِنْ بَدَنِهِ
وَوَاجَهَ غَيْرَهُ بِهِ ، وَهُوَ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يُبَيَّنَ ، وَأَوْجَهُ مِنْ
أَنْ يُوَجَّهَ ، وَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ عُضْوٌ يَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ
أَعْضَاءٍ ، وَمَحَلٌّ مِنْ الْجَسَدِ فِيهِ أَرْبَعُ طُرُقٍ لِلْعُلُومِ ، وَلَهُ
طُولٌ وَعَرْضٌ ، وَهُوَ أَيْضًا بَيِّنٌ إلَّا أَنَّهُ أَشْكَلَ عَلَى
الْفُقَهَاءِ مِنْهُ سِتَّةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : إذَا اكْتَسَى الذَّقَنُ
بِالشَّعْرِ ، فَإِنَّهُ قَدْ انْتَقَلَ الْفَرْضُ فِيمَا يُقَابِلُهُ إلَى
الشَّعْرِ قَطْعًا وَنَفْيِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ
اللِّحْيَةِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اتَّصَلَ
بِالْوَجْهِ وَوَاجَهَ كَمَا يُوَاجَهُ ، فَيَكُونُ فَرْضًا غَسْلُهُ مِثْلُ
الْوَجْهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نَدْبًا ، وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ ؛ لِمَا
ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِلُ
لِحْيَتَهُ } .
أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ ، فَعُيِّنَ
الْمُحْتَمَلُ بِالْفِعْلِ .
الثَّانِي :
إذَا دَارَ الْعِذَارُ عَلَى الْخَدِّ ، هَلْ يَلْزَمُ
غَسْلُ مَا وَرَاءَهُ إلَى الْأُذُنِ أَمْ لَا ؟ وَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَنَا فِي
أَنْفُسِنَا وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَيْضًا غَيْرِنَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ لَا
لِلْأَمْرَدِ وَلَا لِلْمُعْذِرِ
.
الثَّالِثُ :
الْفَمُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَجَمَاعَةٌ :
إنَّ غَسْلَهُ فِي الْوُضُوءِ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ ؛ وَقَدْ
وَاظَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ : { إذَا تَمَضْمَضَ خَرَجَتْ الْخَطَايَا مِنْ
فِيهِ } .
الرَّابِعُ :
الْأَنْفُ ، وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ فِي
الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، فَقَالَ : { إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي
أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ } .
وَقَالَ أَيْضًا : { فَإِذَا اسْتَنْثَرَ خَرَجَتْ
الْخَطَايَا مِنْ أَنْفِهِ } .
الْخَامِسُ : الْعَيْنُ ، وَالْحُكْمُ فِيهَا وَاحِدٌ
أَثَرًا وَنَظَرًا وَلُغَةً ، وَلَكِنْ سَقَطَ غَسْلُهَا
لِلتَّأَذِّي بِذَلِكَ وَالْحَرَجِ بِهِ ، وَلِذَلِكَ
كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَمَّا عَمِيَ يَغْسِلُ عَيْنَيْهِ إذْ كَانَ
لَا يَتَأَذَّى بِذَلِكَ .
السَّادِسُ :
لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ جُزْءٍ مِنْ
الرَّأْسِ مَعَ الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ فِيهِ ، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ
عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ عُمُومِ مَسْحِ الرَّأْسِ مِنْ مَسْحِ جُزْءٍ مَعَهُ
مِنْ الْوَجْهِ لَا يَتَقَدَّرُ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ مَنْ أُصُولِ
الْفِقْهِ ؛ وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ
مِثْلُهُ ؛ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ فَهَذِهِ تَتِمَّةُ تِسْعَ
عَشْرَةَ مَسْأَلَةً .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَالَ لَنَا
فَخْرُ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي الدَّرْسِ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } كَانَ مَعْنَاهُ ضَرُورَةَ اللُّغَةِ : فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ؛ وَذَكَرَ أَمْثِلَةً بَيَّنَّاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ ؛ فَاقْتَضَى الْأَمْرُ بِظَاهِرِهِ غَسْلَ الْوَجْهِ
لِلصَّلَاةِ ، فَمَنْ غَسَلَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُمْتَثِلًا
لِلْأَمْرِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ ، هَاهُنَا كَلَامًا مُخْتَلًّا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَنَصُّهُ : " ظَنَّ ظَانُّونَ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ الَّذِينَ يُوجِبُونَ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ لَمَّا
أَوْجَبَ الْوُضُوءَ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ
أَوْجَبَهُ لِأَجْلِهِ ، وَأَنَّهُ أَوْجَبَ بِهِ النِّيَّةَ ؛ وَهَذَا لَا
يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ الْوُضُوءَ لِأَجْلِ الْحَدَثِ لَا
يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ
يَجِبَ لِأَجْلِهِ وَيَحْصُلَ دُونَ قَصْدِ تَعْلِيقِ الطَّهَارَةِ بِالصَّلَاةِ
وَبِنِيَّتِهَا لِأَجْلِهِ " إلَى تَخْلِيطٍ زِيدَ عَلَيْهِ لَا أَرْضَى
ذِكْرَهُ .
قُلْنَا : قَوْلُهُ : " ظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ
الْوُضُوءَ لَمَّا وُجِدَ عِنْدَ الْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَنَّهُ وَجَبَ لِأَجْلِهِ " .
لَمْ يَظُنَّ أَحَدٌ ذَلِكَ ، إنَّمَا قُطِعَ
الِاعْتِقَادُ بِهِ ، لِقِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ .
وَقَوْلُهُ : " إنَّهُ أَوْجَبَ لَهُ النِّيَّةَ " .
قُلْنَا لَهُ : هَذَا تَلْبِيسٌ ، وُجُوبُهُ لِأَجْلِهِ
هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي النِّيَّةَ ضَرُورَةً فِيهِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِمَا أُمِرَ لِمَأْمُورٍ بِهِ لَهُ .
وَقَوْلُهُ : " هَذَا لَا يَصِحُّ " .
قُلْنَا : لَا يَصِحُّ إلَّا هُوَ .
قَوْلُهُ : " فَإِنَّ إيجَابَ اللَّهِ الْوُضُوءَ
لِأَجْلِ الْحَدَثِ " .
قُلْنَا : هَذَا هَوَسٌ ، لَمْ يَجِبْ الْوُضُوءُ
لِأَجْلِ الْحَدَثِ .
وَقَوْلُهُ : " إنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ
يَنْوِيَ ذَلِكَ " .
قُلْنَا : لَا يَجِبُ
عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ مَاذَا ؟ إنْ أَرَدْت الْحَدَثَ
، فَمَنْ ذَا الَّذِي يَقُولُ بِهِ ؟ وَإِنْ أَرَدْت الصَّلَاةَ فَلَا يُعْطِي اللَّفْظَ
وَالْمَعْنَى إلَّا وُجُوبَ النِّيَّةِ لَهَا .
وَقَوْلُهُ : " يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لِأَجْلِهِ
وَيَحْصُلَ دُونَ قَصْدٍ "
.
قُلْنَا :
هَذَا لَا نُسَلِّمُهُ مُطْلَقًا إنْ أَرَدْت فِي
الْعِبَادَاتِ فَلَا ، وَإِنْ أَرَدْت فِي غَيْرِهَا فَلَا نُبَالِي بِهِ .
وَقَوْلُهُ : " دُونَ قَصْدٍ " .
إلَى هُنَا انْتَهَى كَلَامُهُ الْمَعْقُولُ لَفْظًا
الْمُخْتَلُّ مَعْنًى .
وَأَمَّا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَعْلِيقُ الطَّهَارَةِ
بِالصَّلَاةِ فَكَلَامٌ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ لَفْظًا ، فَكَيْفَ مَعْنًى ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَذَا الَّذِي زَمْزَمَ بِهِ أَنَا
أَعْرِفُهُ .
قَوْلُهُ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } لَا يَخْلُو
مِنْ سِتَّةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَا يَرْبِطُ غَسْلَ الْوَجْهِ
وَمَا بَعْدَهُ بِشَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ يَرْبِطُهُ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ أَوْ
الْحَدَثِ وَبِالصَّلَاةِ ، وَهُوَ : الثَّالِثُ ، أَوْ بِالصَّلَاةِ وَهُوَ : الرَّابِعِ ،
أَوْ بِالْكُلِّ وَهُوَ : الْخَامِسِ ، أَوْ بِبَعْضِهِ وَهُوَ : السَّادِسِ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ نَرْبِطُهُ بِشَيْءٍ كَانَ مُحَالًا
لُغَةً كَمَا تَقَدَّمَ ، مُحَالًا بِالْإِجْمَاعِ ، فَإِنَّهُ قَدْ رُبِطَ بِمَا
رُبِطَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِيهِ ، وَإِنْ رَبَطَهُ بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ
فَمُحَالٌ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَمُحَالٌ
مَعْنًى ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْقِيَامِ لَا يُقْصَدُ بِذَلِكَ مِنْ الْوُضُوءِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ إذَا أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ ، وَنَفْسُ
الْإِرَادَةِ هِيَ النِّيَّةُ .
وَأَمَّا إنْ أَرَدْت رَبْطَهُ بِالْحَدِيثِ
فَبِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الْوُضُوءَ يَجِبُ بِهِ ، لَا مِنْ أَجْلِهِ .
وَإِنْ قُلْتُمْ بِالصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ هُوَ .
وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ
طُهُورٍ } .
وَإِذَا أَمَرَ بِغَسْلِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَكُنْ
كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَثِلْ مَا أُمِرَ بِهِ ،
وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ وَجَبَ لِأَجْلِ الْكُلِّ فَقَدْ
تَبَيَّنَ فَسَادُهُ ؛ وَهَذَا تَحْقِيقٌ مِنْ كَلَامِهِ فِي غَرَضِهِ بِعَيْنِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا
وَجَبَتْ النِّيَّةُ لِلْوُضُوءِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ ، أَيْ لِأَيِّ
عِبَادَةٍ وَجَبَتْ ، فَمَحَلُّهَا أَنْ تَكُونَ مُقْتَرِنَةً مَعَ أَوَّلِهَا لَا
تَجُوزُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِالْفِعْلِ حَقِيقَتُهُ
أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا لَهُ ، فَنِيَّةُ الْوُضُوءِ
مَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ ، وَكَذَلِكَ الصِّيَامُ ،
وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُقَلَاءِ ، بَيْدَ أَنَّ
الْعُلَمَاءَ قَالُوا : إنَّ مَنْ خَرَجَ إلَى النَّهْرِ مِنْ مَنْزِلِهِ
بِنِيَّةِ الْغُسْلِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ فِي أَثْنَاءِ
الطَّرِيقِ .
وَإِنْ خَرَجَ إلَى الْحَمَّامِ فَعَزَبَتْ فِي
أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ بَطَلَتْ النِّيَّةُ .
فَرَكَّبَ عَلَى هَذَا سَفَاسِفَةُ الْمُفْتِينَ أَنَّ نِيَّةَ
الصَّلَاةِ تَتَخَرَّجُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَأَوْرَدُوا فِيهَا نَصًّا عَمَّنْ
لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الظَّنِّ وَالْيَقِينِ [ بِأَنَّهُ قَالَ : ] يَجُوزُ أَنْ
يُقَدِّمَ النِّيَّةَ فِيهَا عَلَى التَّكْبِيرِ .
وَيَا لِلَّهِ وَيَا لِلْعَالَمِينَ مِنْ أُمَّةٍ
أَرَادَتْ أَنْ تَكُونَ مُفْتِيَةً مُجْتَهِدَةً فَمَا وَفَّقَهَا اللَّهُ وَلَا
سَدَّدَهَا ، اعْلَمُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الْوُضُوءِ
مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ
عَنْ مَرْتَبَةِ الِاتِّفَاقِ سُومِحَ فِي تَقْدِيمِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ؛
لِأَنَّ أَصْلَهَا قَدْ لَا يَجِبُ .
فَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ
الْأَئِمَّةِ فِيهَا وَهِيَ أَصْلٌ مَقْصُودٌ ، فَكَيْفَ يُحْمَلُ الْأَصْلُ
الْمَقْصُودُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ عَلَى الْفَرْعِ التَّابِعِ الْمُخْتَلَفِ
فِيهِ ؟ هَلْ هَذَا إلَّا غَايَةَ الْغَبَاوَةِ ؟ فَلَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ عِنْدَ
أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ حَتَّى تَكُونَ النِّيَّةُ فِيهَا مُقَارِنَةً
لِلتَّكْبِيرِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّ الشَّرْعَ رَفَعَ الْحَرَجَ
فِيهِ ، لَمَّا كَانَ ابْتِدَاؤُهُ فِي وَقْتِ الْغَفْلَةِ بِتَقْدِيمِ النِّيَّةِ
عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { وَأَيْدِيَكُمْ }
: الْيَدُ : عِبَارَةٌ عَمَّا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالظُّفْرِ
، وَهِيَ ذَاتُ أَجْزَاءٍ وَأَسْمَاءٍ ؛ مِنْهَا الْمَنْكِبُ ، وَمِنْهَا الْكَفُّ
، وَالْأَصَابِعُ ، وَهُوَ مَحَلُّ الْبَطْشِ وَالتَّصَرُّفِ الْعَامِّ فِي
الْمَنَافِعِ ، وَهُوَ مَعْنَى الْيَدِ ، وَغَسْلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ
مَرَّتَيْنِ : إحْدَاهُمَا عِنْدَ أَوَّلِ مُحَاوَلَةِ الْوُضُوءِ وَهُوَ سُنَّةٌ
، وَالثَّانِيَةُ فِي أَثْنَاءِ الْوُضُوءِ ، وَهُوَ فَرْضٌ .
وَمَعْنَى غَسْلِهِمَا عِنْدَ الْوُضُوءِ تَنْظِيفُ
الْيَدَيْنِ لِإِدْخَالِهَا [ فِي ] الْإِنَاءِ وَمُحَاوَلَةُ نَقْلِ الْمَاءِ بِهِمَا ،
وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ النَّوْمِ ، فَقَدْ رَوَى جَمِيعُ
الْأَئِمَّةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ
يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا
يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ
} .
وَرَوَى عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ صِفَةَ وُضُوءِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُلُّهُمْ ذَكَرُوا { أَنَّهُ غَسَلَ
يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ } ، حَتَّى بَلَغَ
مَكَانَهُمَا مِنْ عُلَمَائِنَا أَنْ جَعَلُوهُمَا مِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ .
فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا غَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ
تَمَضْمَضَ ثُمَّ تَمَادَى فِي الْوُضُوءِ ثُمَّ أَحْدَثَ فِي أَثْنَائِهِ
فَإِنَّهُ يُعِيدُ غَسْلَ يَدَيْهِ كَمَا يُعِيدُ مَا سَبَقَ مِنْ الْوُضُوءِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { إلَى الْمَرَافِقِ } : فَذَكَرَهَا .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ إدْخَالِهِمَا فِي
الْغَسْلِ .
وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ ، وَذَكَرَ أَهْلُ
التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَقَاوِيلَ : الْأَوَّلُ : أَنَّ { إلَى }
بِمَعْنَى مَعَ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } مَعْنَاهُ مَعَ أَمْوَالِكُمْ .
الثَّانِي : أَنَّ { إلَى } حَدٌّ ، وَالْحَدُّ إذَا
كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِيهِ ، تَقُولُ : بِعْتُك
هَذَا الْفَدَّانَ مِنْ هَاهُنَا إلَى هَاهُنَا ،
فَيَدْخُلُ الْحَدُّ فِيهِ .
وَلَوْ قُلْت : مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلَى هَذِهِ
الشَّجَرَةِ مَا دَخَلَ الْحَدُّ فِي الْفَدَّانِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمَرَافِقَ حَدُّ السَّاقِطِ لَا
حَدُّ الْمَفْرُوضِ ؛ قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ .
وَمَا رَأَيْته لِغَيْرِهِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : { وَأَيْدِيَكُمْ }
يَقْتَضِي بِمُطْلَقِهِ مِنْ الظُّفْرِ إلَى الْمَنْكِبِ ، فَلَمَّا قَالَ : {
إلَى الْمَرَافِقِ } أَسْقَطَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبِ وَالْمِرْفَقِ ، وَبَقِيَتْ
الْمَرَافِقُ مَغْسُولَةً إلَى الظُّفْرِ ؛ وَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ يَجْرِي عَلَى
الْأُصُولِ لُغَةً وَمَعْنًى .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ { إلَى } بِمَعْنَى مَعَ فَلَا سَبِيلَ إلَى
وَضْعِ حَرْفٍ مَوْضِعَ حَرْفٍ ، إنَّمَا يَكُونُ كُلُّ حَرْفٍ بِمَعْنَاهُ ،
وَتَتَصَرَّفُ مَعَانِي الْأَفْعَالِ ، وَيَكُونُ مَعْنَى التَّأْوِيلِ فِيهَا لَا
فِي الْحُرُوفِ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { إلَى الْمَرَافِقِ } عَلَى
التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ : فَاغْسِلُوا أَيْدِيَكُمْ مُضَافَةً إلَى الْمَرَافِقِ ،
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلَى أَمْوَالِكُمْ } مَعْنَاهُ
مُضَافَةً إلَى أَمْوَالِكُمْ .
وَقَدْ رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا تَوَضَّأَ أَدَارَ الْمَاءَ عَلَى مِرْفَقَيْهِ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { وَامْسَحُوا } : الْمَسْحُ : عِبَارَةٌ عَنْ إمْرَارِ الْيَدِ
عَلَى الْمَمْسُوحِ خَاصَّةً ، وَهُوَ فِي الْوُضُوءِ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ
الْمَاءِ إلَى الْآلَةِ الْمَمْسُوحِ بِهَا ، وَالْغَسْلُ عِبَارَةٌ عَنْ إيصَالِ
الْمَاءِ إلَى الْمَغْسُولِ ؛ وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ ضَرُورَةِ اللُّغَةِ ،
وَبَيَانُهُ يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { بِرُءُوسِكُمْ } : وَالرَّأْسُ عِبَارَةٌ عَنْ الْجُمْلَةِ الَّتِي
يَعْلَمُهَا النَّاسُ ضَرُورَةً ، وَمِنْهَا الْوَجْهُ ، فَلَمَّا ذَكَرَهُ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْوُضُوءِ وَعَيَّنَ الْوَجْهَ لِلْغَسْلِ بَقِيَ
بَاقِيهِ لِلْمَسْحِ .
وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْغَسْلَ أَوَّلًا فِيهِ لَلَزِمَ
مَسْحُ جَمِيعِهِ : مَا عَلَيْهِ شَعْرٌ مِنْ الرَّأْسِ ، وَمَا فِيهِ
الْعَيْنَانِ وَالْأَنْفُ وَالْفَمُ ؛ وَهَذَا انْتِزَاعٌ بَدِيعٌ مِنْ الْآيَةِ .
وَقَدْ أَشَارَ مَالِكٌ إلَى نَحْوِهِ ، فَإِنَّهُ
سُئِلَ عَنْ الَّذِي يَتْرُكُ بَعْضَ رَأْسِهِ فِي الْوُضُوءِ ؟ فَقَالَ :
أَرَأَيْت لَوْ تَرَكَ بَعْضَ وَجْهِهِ أَكَانَ يُجْزِئُهُ ؟ وَمَسْأَلَةُ مَسْحِ
الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ مُعْضِلَةٌ ، وَيَا طَالَمَا تَتَبَّعْتهَا لِأُحِيطَ
بِهَا حَتَّى عَلَّمَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِفَضْلِهِ إيَّاهَا ؛ فَخُذُوهَا
مُجْمَلَةً فِي عِلْمِهَا ، مُسَجَّلَةً بِالصَّوَابِ فِي حُكْمِهَا ؛
وَاسْتِيفَاؤُهَا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَسْحِ
الرَّأْسِ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ إنْ مَسَحَ مِنْهُ
شَعْرَةً وَاحِدَةً أَجْزَأَهُ
.
الثَّانِي : ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ .
الثَّالِثُ : مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ .
ذَكَرَ لَنَا هَذِهِ الْأَقْوَالَ الثَّلَاثَةَ فَخْرُ
الْإِسْلَامِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ فِي الدَّرْسِ عَنْ الشَّافِعِيِّ .
الرَّابِعُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَمْسَحُ
النَّاصِيَةَ .
الْخَامِسُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْفَرْضَ
أَنْ يَمْسَحَ الرُّبْعَ .
السَّادِسُ :
قَالَ أَيْضًا فِي رِوَايَتِهِ الثَّالِثَةِ : لَا
يُجْزِيهِ إلَّا أَنْ يَمْسَحَ النَّاصِيَةَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ أَرْبَعٍ .
السَّابِعُ
:
يَمْسَحُ الْجَمِيعَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ .
الثَّامِنُ : إنْ تَرَكَ الْيَسِيرَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ
أَجْزَأَهُ ؛ أَمْلَاهُ عَلَيَّ الْفِهْرِيُّ .
التَّاسِعُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ : إنْ
تَرَكَ الثُّلُثَ أَجْزَأَهُ .
الْعَاشِرُ : قَالَ أَبُو الْفَرَجِ : إنْ مَسَحَ
ثُلُثَهُ أَجْزَأَهُ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : قَالَ أَشْهَبُ : إنْ مَسَحَ
مُقَدِّمَةً أَجْزَأَهُ .
فَهَذِهِ أَحَدَ عَشَرَ قَوْلًا ، وَمَنْزِلَةُ
الرَّأْسِ فِي الْأَحْكَامِ مَنْزِلَتُهُ فِي الْأَبْدَانِ ، وَهُوَ عَظِيمُ
الْخَطَرِ فِيهِمَا جَمِيعًا ؛ وَلِكُلِّ قَوْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ
مَطْلَعٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ : فَمَطْلَعُ الْأَوَّلِ : أَنَّ الرَّأْسَ
وَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَنْ الْعُضْوِ فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى الشَّعْرِ
بِلَفْظِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ }
.
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ احْلِقْ رَأْسَك } ، وَالْحَلْقُ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّعْرِ ، إذَا ثَبَتَ
هَذَا تَرَكَّبَ عَلَيْهِ : الْمَطْلَعُ الثَّانِي : وَهُوَ أَنَّ إضَافَةَ
الْفِعْلِ إلَى الرَّأْسِ يَنْقَسِمُ فِي الْعُرْفِ وَالْإِطْلَاقِ إلَى
قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَقْتَضِي اسْتِيفَاءَ الِاسْمِ .
وَالثَّانِي : يَقْتَضِي بَعْضَهُ ؛ فَإِذَا قُلْت :
" حَلَقْت رَأْسِي " اقْتَضَى فِي الْإِطْلَاقِ الْعُرْفِيِّ الْجَمِيعَ .
وَإِذَا قُلْت : مَسَحْت الْجِدَارَ أَوْ رَأْسَ
الْيَتِيمِ أَوْ رَأْسِي اقْتَضَى الْبَعْضَ ، فَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ :
الْمَطْلَعُ : الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنَّ الْبَعْضَ لَا حَدَّ لَهُ مُجْزِئٌ
مِنْهُ مَا كَانَ قَالَ لَنَا الشَّاشِيُّ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ } وَكَانَ مَعْنَاهُ شَعْرَ رُءُوسِكُمْ ، وَكَانَ
أَقَلُّ الْجَمْعِ ثَلَاثًا .
قُلْنَا : إنْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَجْزَأَهُ ،
وَإِنْ مَسَحَهَا أَجْزَأَهُ ، وَالْمَسْحُ أَظْهَرُ ، وَمَا يَقَعُ عَلَيْهِ
الِاسْمُ أَقَلُّهُ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ
.
الْمَطْلَعُ الرَّابِعُ : نَظَرَ أَبُو حَنِيفَةَ إلَى
أَنَّ الْوُضُوءَ إنَّمَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَا يَبْدُو مِنْ
الْأَعْضَاءِ فِي الْغَالِبِ ، وَاَلَّذِي
يَبْدُو مِنْ الرَّأْسِ تَحْتَ الْعِمَامَةِ
النَّاصِيَةُ ، وَلَا سِيَّمَا وَهَذَا يُعْتَضَدُ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ
نَاصِيَتَهُ وَعِمَامَتَهُ } .
الْمَطْلَعُ الْخَامِسُ : أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ مَسْحُ
النَّاصِيَةِ فَلَا يُتَيَقَّنُ مَوْضِعُهَا ؛ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَعَلُّقُ
الْعِبَادَةِ بِالرَّأْسِ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ مَسْحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاصِيَةَ ، وَهِيَ نَحْوُ الرُّبْعِ فَيَتَقَدَّرُ
الرُّبْعُ مِنْهُ أَيْنَ كَانَ ، وَمَطْلَعُ الرُّبْعِ بِتَقْدِيرِ الْأَصَابِعِ
يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَمَطْلَعُ الْجَمِيعِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَلَّقَ عِبَادَةَ الْمَسْحِ بِالرَّأْسِ ، كَمَا عَلَّقَ عِبَادَةَ
الْغَسْلِ بِالْوَجْهِ ؛ فَوَجَبَ الْإِيعَابُ فِيهِمَا بِمُطْلَقِ اللَّفْظِ .
وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ : إنَّ مُطْلَقَ الْقَوْلِ فِي
الْمَسْحِ لَا يَقْتَضِي الْإِيعَابَ عُرْفًا ، فَمَا عُلِّقَ بِهِ لَيْسَ
بِصَحِيحٍ ؛ إنَّمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَغْرَاضِ وَبِحَسَبِ الْأَحْوَالِ ،
تَقُولُ : مَسَحْت الْجِدَارَ ، فَيَقْتَضِي بَعْضَهُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ
الْجِدَارَ لَا يُمْكِنُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَسْحِ حِسًّا ، وَلَا غَرَضَ فِي
اسْتِيعَابِهِ قَصْدًا ، وَتَقُولُ : مَسَحْت رَأْسَ الْيَتِيمِ لِأَجْلِ
الرَّأْفَةِ ، فَيُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلُّهُ بِحُصُولِ الْغَرَضِ بِهِ .
وَتَقُولُ : مَسَحْت الدَّابَّةَ فَلَا يُجْزِئُ إلَّا
جَمِيعُهَا ؛ لِأَجْلِ مَقْصَدِ النَّظَافَةِ فِيهَا ، فَتَعَلُّقُ الْوَظِيفَةِ
بِالرَّأْسِ يَقْتَضِي عُمُومَهُ بِقَصْدِ التَّطْهِيرِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ
مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ : مَسَحْت رَأْسِي
كُلَّهُ فَتُؤَكِّدُهُ ، وَلَوْ كَانَ يَقْتَضِي الْبَعْضَ لَمَا تَأَكَّدَ
بِالْكُلِّ ؛ فَإِنَّ التَّأْكِيدَ لِرَفْعِ الِاحْتِمَالِ الْمُتَطَرِّقِ إلَى
الظَّاهِرِ فِي إطْلَاقِ اللَّفْظِ
.
وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ إنَّ تَرْكَ الْيَسِيرِ مِنْ
غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ : أَنَّ تَحَقُّقَ عُمُومِ الْوَجْهِ بِالْغَسْلِ
مُمْكِنٌ بِالْحِسِّ ، وَتَحَقُّقَ عُمُومِ الْمَسْحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ فَسُومِحَ
بِتَرْكِ الْيَسِيرِ مِنْهُ دَفْعًا
لِلْحَرَجِ
.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ مُرُورَ الْيَدِ عَلَى
الْجَمِيعِ مُمْكِنٌ تَحْصِيلُهُ حِسًّا وَعَادَةً .
وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ : إنَّ تَرْكَ الثُّلُثِ مِنْ
غَيْرِ قَصْدٍ أَجْزَأَهُ : قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ ، إلَّا أَنَّهُ رَأَى الثُّلُثَ
يَسِيرًا ، فَجَعَلَهُ فِي حَدِّ الْمَتْرُوكِ لَمَّا رَأَى الشَّرِيعَةَ
سَامَحَتْ بِهِ فِي الثُّلُثِ وَغَيْرِهِ .
وَمَطْلَعُ مَنْ قَالَ : إنْ مَسَحَ ثُلُثَهُ أَجْزَأَهُ
إلَى أَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الْكَثِيرِ عَلَى الثُّلُثِ فِي
قَوْلِهِ مِنْ حَدِيثِ سَعْدٍ : " الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ " .
وَلُحِظَ مَطْلَعُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النَّاصِيَةِ
حَسْبَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، وَدَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي
تَعَلُّقِ الْعِبَادَاتِ بِالظَّاهِرِ
.
وَمَطْلَعُ قَوْلِ أَشْهَبَ فِي أَنَّ مَنْ مَسَحَ
مُقَدِّمَةً أَجْزَأَهُ إلَى نَحْوٍ مِنْ ذَلِكَ تَنَاصُفٌ لَيْسَ يَخْفَى عَلَى
اللَّبِيبِ عِنْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ وَالْأَنْحَاءِ
الْمُطَلَّعَاتِ أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَخْرُجْ اجْتِهَادُهُمْ عَنْ سَبِيلِ
الدَّلَالَاتِ فِي مَقْصُودِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَا جَاوَزُوا طَرَفَيْهَا إلَى
الْإِفْرَاطِ ؛ فَإِنَّ لِلشَّرِيعَةِ طَرَفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : طَرَفُ
التَّخْفِيفِ فِي التَّكْلِيفِ
.
وَالْآخَرُ : طَرَفُ الِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَاتِ .
فَمَنْ احْتَاطَ اسْتَوْفَى الْكُلَّ ، وَمَنْ خَفَّفَ
أَخَذَ بِالْبَعْضِ .
قُلْنَا : فِي إيجَابِ الْكُلِّ تَرْجِيحٌ مِنْ
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : الِاحْتِيَاطُ .
الثَّانِي :
التَّنْظِيرُ بِالْوَجْهِ ، لَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ
؛ بَلْ مِنْ مُطْلَقِ اللَّفْظِ فِي ذِكْرِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْغَسْلُ أَوْ
الْمَسْحُ ، وَذِكْرِ الْمَحَلِّ ؛ وَهُوَ الْوَجْهُ أَوْ الرَّأْسُ .
الثَّالِثُ
: أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ .
فَإِنْ قِيلَ
: فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ مَسَحَ نَاصِيَتَهُ
وَعِمَامَتَهُ ، وَهَذَا نَصٌّ عَلَى الْبَعْضِ ؟ قُلْنَا : بَلْ هُوَ نَصٌّ عَلَى
الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَلْزَمْ الْجَمِيعُ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ
الْعِمَامَةِ وَالرَّأْسِ .
فَلَمَّا مَسَحَ
بِيَدِهِ عَلَى مَا أَدْرَكَ مِنْ رَأْسِهِ وَأَمَرَّ
يَدَهُ عَلَى الْحَائِلِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَاقِيهِ أَجْرَاهُ مَجْرَى الْحَائِلِ
مِنْ جَبِيرَةٍ أَوْ خُفٍّ ، وَنَقَلَ الْفَرْضَ إلَيْهِ كَمَا نَقَلَهُ فِي
هَذَيْنِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ
حِكَايَةُ حَالٍ وَقَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ ؛ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَزْكُومًا فَلَمْ يُمْكِنْهُ كَشْفُ رَأْسِهِ
؛ فَمَسَحَ الْبَعْضَ وَمَرَّ بِيَدِهِ عَلَى جَمِيعِ الْبَعْضِ ، فَانْتَهَى
آخِرُ الْكَفِّ إلَى آخِرِ النَّاصِيَةِ ، فَأَمَرَّ الْيَدَ عَلَى الْعِمَامَةِ ،
فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّهُ قَصَدَ مَسْحَ الْعِمَامَةِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مَسْحَ
النَّاصِيَةِ بِإِمْرَارِ الْيَدِ ؛ وَهَذَا مِمَّا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً ،
وَلِهَذَا لَمْ يُرْوَ عَنْهُ قَطُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي أَطْوَارِهِ
بِأَسْفَارِهِ عَلَى كَثْرَتِهَا
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : ظَنَّ
بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ وَحَشْوِيَّةُ النَّحْوِيَّةِ أَنَّ الْبَاءَ
لِلتَّبْعِيضِ ، وَلَمْ يَبْقَ ذُو لِسَانٍ رَطْبٍ إلَّا وَقَدْ أَفَاضَ فِي
ذَلِكَ حَتَّى صَارَ الْكَلَامُ فِيهَا إجْلَالًا بِالْمُتَكَلِّمِ ، وَلَا
يَجُوزُ لِمَنْ شَدَا طَرَفًا مِنْ الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِي الْبَاءِ
ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ تَرِدُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِيهِ
لِرَبْطِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِمَعْنًى ؛ تَقُولُ :
مَرَرْت بِزَيْدٍ ، فَهَذَا لِإِلْصَاقِ الْفِعْلِ بِالِاسْمِ ، ثُمَّ تَقُولُ : مَرَرْت زَيْدًا
فَيَبْقَى الْمَعْنَى .
وَفِي ذَلِكَ خِلَافٌ بَيَانُهُ فِي مُلْجِئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " .
وَقَدْ طَالَ الْقَوْلُ فِي هَذَا الْبَابِ ،
وَتَرَامَتْ فِيهِ الْخَوَاطِرُ فِي الْمُخْتَصَرِ حَتَّى أَفَادَنِي فِيهِ بَعْضُ
أَشْيَاخِي فِي الْمُذَاكَرَةِ وَالْمُطَالَعَةِ فَائِدَةً بَدِيعَةً : وَذَلِكَ
أَنَّ قَوْلَهُ : { فَامْسَحُوا } يَقْتَضِي مَمْسُوحًا ، وَمَمْسُوحًا بِهِ .
وَالْمَمْسُوحُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا كَانَ .
وَالْمَمْسُوحُ الثَّانِي هُوَ الْآلَةُ الَّتِي بَيْنَ
الْمَاسِحِ وَالْمَمْسُوحِ ، كَالْيَدِ وَالْمُحَصِّلِ لِلْمَقْصُودِ مِنْ
الْمَسْحِ ، وَهُوَ الْمِنْدِيلُ ؛ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا
خَفَاءَ بِهِ ؛ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَوْ قَالَ : امْسَحُوا رُءُوسَكُمْ
لَأَجْزَأَ الْمَسْحُ بِالْيَدِ إمْرَارًا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ عَلَى الرَّأْسِ لَا
مَاءَ وَلَا سِوَاهُ ، فَجَاءَ بِالْبَاءِ لِتُفِيدَ مَمْسُوحًا بِهِ ، وَهُوَ
الْمَاءُ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ الْمَاءَ ، مِنْ بَابِ
الْمَقْلُوبِ ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُهُ ، وَقَدْ أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : كَنُوَاحِ رِيشِ
حَمَامَةٍ نَجْدِيَّةٍ وَمَسَحْت بِاللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الْإِثْمِدِ مِثْلُهُ :
" مِثْلُ الْقَنَافِذِ
" .
وَمِثْلُهُ : { مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا } .
وَاللِّثَةُ : هِيَ الْمَمْسُوحَةُ بِعَصْفِ الْإِثْمِدِ
، فَقَلْبٌ .
وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بَيِّنٌ وَالْفَصَاحَةَ قَائِمَةٌ ،
وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي شَرْطِهِ الرَّابِعِ
بِالثَّلَاثَةِ الْأَصَابِعِ أَوْ الْأَرْبَعِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا بُدَّ أَنْ
يَكُونَ هُنَالِكَ مَمْسُوحٌ بِهِ لِأَجْلِ الْبَاءِ ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ
: فَامْسَحُوا
بِأَكُفِّكُمْ رُءُوسَكُمْ .
وَالْكَفُّ خَمْسُ أَصَابِعَ وَمُعْظَمُهَا ثَلَاثٌ
وَأَرْبَعٌ ، وَالْمُعْظَمُ قَائِمٌ مَقَامَ الْكُلِّ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي
أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَفَطِنَ أَنَّ إدْخَالَ الْبَاءِ لِمَعْنًى ، وَغَفَلَ
عَنْ أَنَّ لَفْظَ الْمَسْحِ يَقْتَضِي الْيَدَ لُغَةً وَحَقِيقَةً ؛ فَجَعَلَ
فَائِدَةَ الْبَاءِ التَّعَلُّقَ بِالْيَدِ .
وَهَذِهِ عَثْرَةٌ لِفَهْمِهِ لَا يُقَالُهَا ،
وَوَفَّقَ اللَّهُ هَذَا الْإِمَامَ الَّذِي أَفَادَنِي هَذِهِ الْفَائِدَةَ
فِيهَا ، إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنِي وَإِيَّاكُمْ بِرَحْمَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : مِنْ
أَغْرَبِ شَيْءٍ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَأَى مَسْحَ شَعْرِ الْقَفَا ؛ وَلَيْسَ
مِنْ الرَّأْسِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدْرٍ ؛ فَإِنَّ الرَّأْسَ جُزْءٌ مِنْ
الْإِنْسَانِ ، وَالْيَدَ جُزْءٌ ، وَالْبَدَنَ جُزْءٌ ، وَالْعَيْنَ جُزْءٌ ،
وَالْعُنُقَ جُزْءٌ ، وَمُقَدَّمَ الرَّقَبَةِ الْعُنُقُ ، وَمُؤَخَّرَهَا
الْقَفَا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ حَتَّى بَلَغَ قَفَاهُ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ
يَكْرِبَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ
حَتَّى بَلَغَ إلَى قَفَاهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ
وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } ثُمَّ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ ، فَنَقَلَ أَصْحَابُهُ مَا
شَاهَدُوا مِنْ صِفَةِ وُضُوئِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا لِكَيْفِيَّةِ الْمَغْسُولِ
صِفَةً ، وَنَقَلُوا كَيْفِيَّةَ مَسْحِ رَأْسِهِ بِاهْتِبَالٍ كَثِيرٍ ،
وَتَحْصِيلٍ عَظِيمٍ ، وَاخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَاتِ مُتَفَاوِتٍ ، نَشَأَتْ
مِنْهُ مَسَائِلُ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى مُعْظَمِهَا ؛
لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِمَا أُطْلِقَ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مُبْهَمًا .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } :
وَقَالَ الرَّاوِي : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ
رَأْسَهُ ، فَلَوْ غَسَلَهُ الْمُتَوَضِّئُ بَدَلَ الْمَسْحِ فَلَا نَعْلَمُ
خِلَافًا أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ ، إلَّا مَا أَخْبَرَنَا فَخْرُ الْإِسْلَامِ
فِي الدَّرْسِ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ الْقَاصِّ مِنْ أَصْحَابِهِمْ قَالَ :
لَا يُجْزِئُهُ .
وَهَذَا تَوَلُّجٌ فِي مَذْهَبِ الدَّاوُدِيَّةِ
الْفَاسِدِ مِنْ اتِّبَاعِ الظَّاهِرِ الْمُبْطِلِ لِلشَّرِيعَةِ الَّذِي ذَمَّهُ
اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ
: { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } .
وَكَمَا قَالَ : { أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ } ؛
وَإِلَّا فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْغَاسِلُ لِرَأْسِهِ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَزِيَادَةٍ
عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ زِيَادَةٌ خَرَجَتْ عَنْ
اللَّفْظِ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ
.
قُلْنَا : وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَعْنَاهُ فِي إيصَالِ
الْفِعْلِ إلَى الْمَحَلِّ وَتَحْقِيقِ التَّكْلِيفِ فِي التَّطْهِيرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : فِي
تَجْدِيدِ الْمَاءِ لِكُلِّ عُضْوٍ
: وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أَنَّهُ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ
، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ يَدَهُ ، ثُمَّ أَدْخَلَ
يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ } .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ " رَأَى { النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ رَأْسَهُ بِمَاءٍ غَيْرِ
مَاءِ فَضْلِ يَدَيْهِ } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : وَهُوَ صَحِيحٌ ، وَصَحَّ أَيْضًا
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ
بِرَأْسِهِ مُطْلَقًا } .
وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ الْأَخْبَارُ كُلُّهَا فِي
أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ ، وَرَدَتْ مُقَيَّدَةً ، وَالْمُقَيَّدُ أَوْلَى مِنْ
الْمُطْلَقِ ؛ لِاحْتِمَالِ الْمُطْلَقِ وَتَنْصِيصِ الْمُقَيَّدِ .
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ أَصْحَابِنَا :
يَمْسَحُ رَأْسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : جَوَازُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ .
وَالثَّانِي : وُجُوبُ نَقْلِ الْمَاءِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : نَشَأَ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَرَى نَفْسَهُ
مِنْ أَهْلِ الِاسْتِنْبَاطِ ، وَلَيْسَ مِنْهُ ، مِنْ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ
أَنَّهُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ مِنْ بَلَلِ لِحْيَتِهِ نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ
، وَلَيْسَ فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى
التَّخْفِيفِ ؛ فَيَكْفِي مِنْهُ مَا يَظْهَرُ عَلَى الْيَدِ وَعَلَى الْعُضْوِ
الْمَمْسُوحِ ؛ فَأَمَّا نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ
بَيْنَ الْأَئِمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : تَكْرَارُ
مَسْحِ الرَّأْسِ : وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَوَضَّأَ كَمَا وَصَفَ أَصْحَابُهُ ، فَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ كُلُّهَا
حَيْثُمَا وَرَدَتْ فَاخْتَلَفَتْ صِفَاتُ وُضُوئِهِ فِيهَا وَكَثْرَةُ
الْأَعْدَادِ فِي الْأَعْضَاءِ وَقِلَّتُهَا حَاشَا الرَّأْسِ ، وَجَاءَ فِي
بَعْضِهَا عَنْ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ : { تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا } .
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَأَحَادِيثُ عُثْمَانَ الصِّحَاحُ
عَلَى أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ مَسْحَةً وَاحِدَةً .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : ثَبَتَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ مَسْحِ الرَّأْسِ :
{ أَنَّهُ أَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ، ثُمَّ
ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ
مِنْهُ } .
وَفِي الْبُخَارِيِّ : { فَأَدْبَرَ بِهِمَا وَأَقْبَلَ
} ؛ وَهُمَا صَحِيحَانِ مُتَوَافِقَانِ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ ؛ وَهِيَ
مَسْأَلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي تَسْمِيَةِ الْفِعْلِ بِابْتِدَائِهِ
وَبِغَايَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : ثَبَتَ
عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْحُ لِرَأْسِهِ
بِيَدَيْهِ ، فَلَوْ مَسَحَ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ قَالَ ابْنُ سُفْيَانَ :
حَتَّى لَوْ مَسَحَ رَأْسَهُ بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ لَأَجْزَأَهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ
الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ
.
وَذَلِكَ لِأَنَّ هَيْئَةَ الْأَفْعَالِ فِي
الْعِبَادَاتِ هَلْ هِيَ رُكْنٌ فِيهَا أَمْ لَا ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي
كِتَابِنَا أَنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَا يَتَعَيَّنُ فِي
الْعِبَادَةِ كَأَصْلِهَا .
وَالثَّانِي : كَوَضْعِ الْإِنَاءِ بَيْنَ يَدَيْ
الْمُتَوَضِّئِ .
وَالثَّالِثُ : كَاغْتِرَافِ الْمَاءِ بِالْيَدِ
وَغَسْلِ الْأَعْضَاءِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْهَيْئَةِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْحِ تَفْسِيرُ الْأَمْرِ
، وَهُوَ أَوْلَى فِي التَّعْمِيمِ ، وَأَقْرَبُ إلَى التَّحْصِيلِ ؛ لِأَنَّ مَا
فَاتَهُ فِي الْإِقْبَالِ أَدْرَكَهُ فِي الْإِدْبَارِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : لَمَّا
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ جَمِيعَ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي إيجَابِ عُمُومِهِ ،
وَكَانَتْ الْجَبْهَةُ خَارِجَةً عَنْهُ بِالسُّنَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْهُ
بِالْحَقِيقَةِ وَالْخِلْقَةِ ، نَشَأَتْ عَلَيْهِ مَسْأَلَةٌ ، وَهِيَ مَنْزِلَةُ
الْأَصْلَعِ وَالْأَنْزَعِ مِنْ الْأَغَمِّ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسَائِلِ ؛ وَحُكْمُهُ
الْأَظْهَرُ أَنْ يَمْسَحَ مِنْ الرَّأْسِ مِقْدَارَ الْعَادَةِ عَلَى الْقَوْلِ
بِالتَّعْمِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ :
الْخِطَابُ لِلْمَرْأَةِ بِالْعِبَادَةِ ، كَمَا هُوَ لِلرَّجُلِ فِي الْوُضُوءِ ،
حَتَّى فِي مَسْحِ الرَّأْسِ ؛ لَكِنَّ الْمَرْأَةَ تَمَيَّزَتْ عَنْ الرَّجُلِ
بِاسْتِرْسَالِ الدَّلَّالَيْنِ ، فَاخْتَلَفَ آرَاءُ مُتَأَخِّرِي عُلَمَائِنَا ؛
فَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ
الْفَرْضَ انْتَقَلَ مِنْ الْجِلْدَةِ ، وَبِهِ تَعَلُّقٌ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : تَمْسَحُ مِنْهُ مَا يُوَازِي
الْفَرْضَ مِنْ مِقْدَارِ الرَّأْسِ كَمَا قُلْنَاهُ فِي اللِّحْيَةِ آنِفًا ،
وَكَمَا يَلْزَمُ فِي الْخُفَّيْنِ مَسْحُ مَا يُقَابِلُ مَحَلَّ الْفَرْضِ مِنْ
غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : الْقَوْلُ فِي
الْأُذُنَيْنِ : وَهُمَا إنْ كَانَتَا مِنْ الرَّأْسِ فَإِنَّهُمَا فِي
الْإِشْكَالِ رَأْسٌ ، وَقَدْ تَفَاقَمَ الْخَطْبُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِيهِمَا ،
وَقَدْ بَسَطْنَا الْقَوْلَ فِيهِمَا فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ فِي التَّفْرِيعِ ،
وَفِي كُتُبِ الْحَدِيثِ فِي الْآثَارِ
.
وَاَلَّذِي يُهَوِّنُ عَلَيْك الْخَطْبَ أَنَّ
الْبَارِيَ تَعَالَى قَالَ : { بِرُءُوسِكُمْ } وَلَمْ يَذْكُرْ الْأُذُنَيْنِ ، وَلَوْلَا
أَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي حُكْمِ الرَّأْسِ مَا أَهْمَلَهُمَا ، وَمَا كَانَ
رَبُّك نَسِيًّا .
وَقَدْ رَوَى صِفَةَ وُضُوءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ لَمْ أَجِدْ ذِكْرَ الْأُذُنَيْنِ فِيهَا إلَّا
الْيَسِيرَ مِنْ الصَّحَابَةِ ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ ؛ قَالَ :
رَأَيْت { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَأَخَذَ
مَاءً لِأُذُنَيْهِ خِلَافَ الْمَاءِ الَّذِي أَخَذَ لِرَأْسِهِ } .
وَمِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، رَوَى : { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ وَأُذُنَيْهِ بَاطِنَهُمَا
بِالسِّبَابَتَيْنِ وَظَاهِرَهُمَا بِإِبْهَامَيْهِ } ؛ وَصَحَّحَهُ
التِّرْمِذِيُّ .
وَمِنْهُمْ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ ؛ قَالَتْ :
رَأَيْت { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ ،
وَمَسَحَ رَأْسَهُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُ وَمَا أَدْبَرَ ، وَمَسَحَ صُدْغَيْهِ
وَأُذُنَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً
} .
صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ .
وَمِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ
جَدِّهِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ
الْوُضُوءَ لِمَنْ سَأَلَهُ بِأَنْ تَوَضَّأَ لَهُ ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ ،
وَأَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنَيْهِ ، وَمَسَحَ
بِإِبْهَامَيْهِ ظَاهِرَهُمَا }
.
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حُكْمِ الْأُذُنَيْنِ
عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ حُكْمًا ؛
قَالَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
الثَّانِي : أَنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ قَالَهُ
الزُّهْرِيُّ .
الثَّالِثُ : قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ
: يَغْسِلُ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مَعَ الْوَجْهِ ،
وَيَمْسَحُ مَا أَدْبَرَ مِنْهُمَا مَعَ الرَّأْسِ ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ .
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مِنْ الرَّأْسِ فَلِأَنَّ
الصَّحَابَةَ لَمْ تَذْكُرْهُمَا فِي الْوُضُوءِ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ قَدْ بَيَّنَّا
أَنَّهَا ذَكَرَتْهُمَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهُمَا مِنْ الْوَجْهِ فَنَزَعَ
بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سُجُودِهِ : { سَجَدَ
وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ } وَإِنَّمَا أَرَادَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَجْهِهِ جُمْلَتَهُ ،
وَالسَّمْعُ وَإِنْ كَانَ فِي الرَّأْسِ ، وَالْبَصَرُ وَإِنْ كَانَ فِي الْوَجْهِ
فَالْكُلُّ مُضَافٌ إلَى الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ وَلِلْقَصْدِ
، فَأَضَافَهُ إلَى الِاسْمِ الْعَامِّ لِلْمَعْنَيَيْنِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْفَرْقِ فَلَا مَعْنَى لَهُ
فَإِنَّهُ تَحَكُّمٌ لَا تَعْضُدُهُ لُغَةٌ ، وَلَا تَشْهَدُ لَهُ شَرِيعَةٌ .
وَالصَّحِيحُ أَلَّا يَشْتَغِلَ بِهِمَا ، هَلْ هُمَا
مِنْ الرَّأْسِ أَوْ مِنْ الْوَجْهِ ؟ وَأَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَحَهُمَا ، فَبَيَّنَ مَسْحَ الرَّأْسِ ،
وَأَنَّهُمَا يُمْسَحَانِ كَمَا يُمْسَحُ الرَّأْسُ ، وَهُمَا مُضَافَانِ إلَيْهِ
شَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِذَا مَسَحَ
رَأْسَهُ خَرَجَتْ خَطَايَا رَأْسِهِ ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ أُذُنَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : الْبَيَاضُ
الَّذِي بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَالرَّأْسِ الْخَالِي مِنْ الشَّعْرِ : اخْتَلَفَ
فِيهِ عُلَمَاؤُنَا ؛ هَلْ يُمْسَحُ أَمْ لَا ؟ وَلَيْسَ عِنْدِي بِمَقْصُودٍ ،
لَا فِي الرَّأْسِ ، وَلَا فِي الْأُذُنَيْنِ ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يَتْرُكَهُ مَنْ يَسْتَوْثِقُ فِي مَسْحِ رَأْسِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ
يَقْصِدَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدِي مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَأَرْجُلَكُمْ } : ثَبَتَتْ الْقِرَاءَةُ فِيهَا بِثَلَاثِ رِوَايَاتٍ :
الرَّفْعُ ، قَرَأَ بِهِ نَافِعٌ ، رَوَاهُ عَنْهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ،
وَهِيَ قِرَاءَةُ الْأَعْمَشِ وَالْحَسَنِ .
وَالنَّصْبُ ، رَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ
السُّلَمِيُّ قَالَ : قَرَأَ عَلَيَّ الْحَسَنُ أَوْ الْحُسَيْنُ فَقَرَأَ
قَوْلَهُ : { وَأَرْجُلَكُمْ } فَسَمِعَ عَلِيٌّ ذَلِكَ ، وَكَانَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ ،
فَقَالَ : وَأَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ ، هَذَا مِنْ مُقَدَّمِ الْكَلَامِ وَمُؤَخَّرِهِ .
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ .
وَقَرَأَ أَنَسٌ وَعَلْقَمَةُ وَأَبُو جَعْفَرٍ
بِالْخَفْضِ .
وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ لِأَنَسٍ : يَا أَبَا
حَمْزَةَ ، إنَّ الْحَجَّاجَ خَطَبَنَا بِالْأَهْوَازِ وَنَحْنُ مَعَهُ ، فَذَكَرَ
الطَّهُورَ ، فَقَالَ : اغْسِلُوا حَتَّى ذَكَرَ الرِّجْلَيْنِ وَغَسَلَهُمَا وَغَسَلَ
الْعَرَاقِيبَ وَالْعَرَاقِبَ ، فَقَالَ أَنَسٌ : صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ
الْحُجَّاجُ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ }
قَالَ : فَكَانَ أَنَسٌ إذَا مَسَحَ قَدَمَيْهِ بَلَّهُمَا وَقَالَ : نَزَلَ
الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ ، وَجَاءَتْ السُّنَّةُ بِالْغَسْلِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ افْتَرَضَ اللَّهُ
مَسْحَيْنِ وَغَسْلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ .
وَقَالَ : مَا كَانَ عَلَيْهِ الْغَسْلُ جُعِلَ عَلَيْهِ
التَّيَمُّمُ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمَسْحُ أُسْقِطَ .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ التَّخْيِيرَ بَيْنَ الْغَسْلِ
وَالْمَسْحِ ، وَجَعَلَ الْقِرَاءَتَيْنِ كَالرِّوَايَتَيْنِ فِي الْخَبَرِ يُعْمَلُ
بِهِمَا إذَا لَمْ يَتَنَاقَضَا
.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ عَطَفَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّأْسِ ، فَقَدْ يُنْصَبُ عَلَى
خِلَافِ إعْرَابِ الرَّأْسِ أَوْ يُخْفَضُ مِثْلُهُ ؛ وَالْقُرْآنُ نَزَلَ
بِلُغَةِ الْعَرَبِ ، وَأَصْحَابِهِ رُءُوسُهُمْ وَعُلَمَاؤُهُمْ لُغَةً وَشَرْعًا .
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
الْمَسْأَلَةَ مُحْتَمَلَةٌ لُغَةً مُحْتَمَلَةٌ شَرْعًا ، لَكِنْ
تُعَضَّدُ حَالَةُ النَّصْبِ عَلَى حَالَةِ الْخَفْضِ
بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَسَلَ وَمَا مَسَحَ قَطُّ
، وَبِأَنَّهُ رَأَى قَوْمًا تَلُوحُ أَعْقَابُهُمْ ، فَقَالَ { : وَيْلٌ
لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ } ، { وَ وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ } .
فَتَوَعَّدَ بِالنَّارِ عَلَى تَرْكِ إيعَابِ غَسْلِ
الرِّجْلَيْنِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بِلَا خِلَافٍ ، وَتَبَيَّنَ
أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ الرِّجْلَيْنِ مَمْسُوحَتَانِ لَمْ يَعْلَمْ بِوَعِيدِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تَرْكِ إيعَابِهِمَا .
وَطَرِيقُ النَّظَرِ الْبَدِيعِ أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ
مُحْتَمَلَتَانِ ، وَأَنَّ اللُّغَةَ تَقْضِي بِأَنَّهُمَا جَائِزَتَانِ ،
فَرَدَّهُمَا الصَّحَابَةُ إلَى الرَّأْسِ مَسْحًا ، فَلَمَّا قَطَعَ بِنَا
حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَقَفَ فِي وُجُوهِنَا
وَعِيدُهُ ، قُلْنَا : جَاءَتْ السُّنَّةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ النَّصْبَ يُوجِبُ
الْعَطْفَ عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ ، وَدَخَلَ بَيْنَهُمَا مَسْحُ الرَّأْسِ
، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ وَظِيفَتُهُ كَوَظِيفَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ مَفْعُولٌ قَبْلَ
الرِّجْلَيْنِ لَا بَعْدَهُمَا ، فَذُكِرَ لِبَيَانِ التَّرْتِيبِ لَا
لِيَشْتَرِكَا فِي صِفَةِ التَّطْهِيرِ ، وَجَاءَ الْخَفْضُ لِيُبَيِّنَّ أَنَّ
الرِّجْلَيْنِ يُمْسَحَانِ حَالَ الِاخْتِيَارِ عَلَى حَائِلٍ ، وَهُمَا
الْخُفَّانِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، فَعَطَفَ بِالنَّصْبِ مَغْسُولًا عَلَى
مَغْسُولٍ ، وَعَطَفَ بِالْخَفْضِ مَمْسُوحًا عَلَى مَمْسُوحٍ ، وَصَحَّ
الْمَعْنَى فِيهِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَنْتُمْ وَإِنْ قَرَأْتُمُوهَا
بِالنَّصْبِ فَهِيَ عَطْفٌ عَلَى الرُّءُوسِ مَوْضِعًا ، فَإِنَّ الرُّءُوسَ
وَإِنْ كَانَتْ مَجْرُورَةً لَفْظًا فَهِيَ مَنْصُوبَةٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّهَا
مَفْعُولَةٌ ، فَكَيْفَ قَرَأْتهَا خَفْضًا أَوْ نَصْبًا فَوَظِيفَتُهَا الْمَسْحُ
مِثْلُ الَّذِي عُطِفَ عَلَيْهِ
.
قُلْنَا : يُعَارِضُهُ أَنَّا وَإِنْ قَرَأْنَاهَا
خَفْضًا ، وَظَهَرَ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ فَقَدْ يُعْطَفُ
الشَّيْءُ عَلَى الشَّيْءِ بِفِعْلٍ يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا ، كَقَوْلِهِ :
عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا
وَرَأَيْت زَوْجَك فِي الْوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا
وَرُمْحًا فِعْلًا فَرُوعَ الْأَيْهَقَانِ وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا
وَنِعَامُهَا وَكَقَوْلِهِ : شَرَّابُ أَلْبَانٍ وَتَمْرٍ وَأَقِطٍ تَقْدِيرُهُ : عَلَفْتهَا
تِبْنًا وَسَقَيْتهَا مَاءً .
وَمُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَحَامِلًا رُمْحًا ،
وَأَطْفَلَتْ بِالْجَلْهَتَيْنِ ظِبَاؤُهَا وَفَرَّخَتْ نِعَامُهَا .
وَشَرَّابُ أَلْبَانٍ وَآكِلُ تَمْرٍ وَأَقِطٍ .
فَإِنْ قِيلَ : هَاهُنَا عَطَفَ وَشَرَكَ فِي الْفِعْلِ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَفْعُولًا اتِّكَالًا عَلَى فَهْمِ السَّامِعِ
لِلْحَقِيقَةِ .
قُلْنَا :
وَهَا هُنَا عَطَفَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرُّءُوسِ
وَشَرَكَهُمَا فِي فِعْلِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَفْعُولُهُ ،
تَعْوِيلًا عَلَى بَيَانِ الْمَبْلَغِ ، فَقَدْ بَلَغَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَيْضًا
أَنَّهَا تَكُونُ مَمْسُوحَةً تَحْتَ الْخُفَّيْنِ ؛ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي
الْبَيَانِ ؛ وَقَدْ أَفْرَدْنَاهَا مُسْتَقِلَّةً فِي جُزْءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : إذَا
ثَبَتَ وَجْهُ التَّأْوِيلِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّهَا أَصْلٌ
فِي الشَّرِيعَةِ وَعَلَامَةٌ مُفَرِّقَةٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْبِدْعَةِ
، وَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ .
فَإِنْ قِيلَ : هِيَ أَخْبَارُ آحَادٍ ، وَخَبَرُ
الْوَاحِدِ عِنْدَ الْمُبْتَدِعَةِ بَاطِلٌ .
قُلْنَا :
خَبَرُ الْوَاحِدِ أَصْلٌ عَظِيمٌ لَا يُنْكِرُهُ إلَّا
زَائِغٌ ، وَقَدْ أَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى الرُّجُوعِ إلَيْهِ ، وَقَدْ
جَمَعْنَاهُ فِي جُزْءٍ .
الْجَوَابُ الثَّانِي : إنَّهَا مَرْوِيَّةٌ تَوَاتُرًا
؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ اتَّفَقَتْ عَلَى نَقْلِهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ ، وَإِنْ
أُضِيفَتْ إلَى آحَادٍ ، كَمَا أُضِيفَ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَاتِ إلَى الْقُرَّاءِ
فِي نَقْلِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ مُتَوَاتِرٌ .
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فِيهَا فِي شَرْحِ
الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { إلَى الْكَعْبَيْنِ
} : اُخْتُلِفَ فِيهِمَا ؛ فَقَالَ مَالِكٌ
وَالشَّافِعِيُّ وَالْجَمَاعَةُ
: إنَّهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ فِي الْمِفْصَلِ
بَيْنَ السَّاقِ وَالرِّجْلِ .
وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ : إنَّهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ فِي وَجْهِ الْقَدَمِ ؛ وَبِهِ
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ
.
وَقَالَ الْخَلِيلُ : الْكَعْبُ هُوَ الَّذِي بَيْنَ السَّاقِ
وَالْقَدَمِ .
وَالْعَقِبُ هُوَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ ، وَتَقْتَضِي
لُغَةُ الْعَرَبِ أَنَّ كُلَّ نَاتِئٍ كَعْبٌ ، يُقَالُ : كَعْبُ ثَدْيِ
الْمَرْأَةِ إذَا بَرَزَ عَنْ صَدْرِهَا .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الَّذِي يُعْقَدُ فِيهِ
الشِّرَاكُ ، لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَيْسَ مَشْهُورًا فِي
اللُّغَةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَا يَتَحَصَّلُ بِهِ غَسْلُ
الرِّجْلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَايَةٍ لَهُمَا وَلَا بِبَعْضِ مَعْلُومٍ
مِنْهُمَا ، وَالْإِحَالَةُ عَلَى الْمَجْهُولِ فِي التَّكْلِيفِ لَا تَجُوزُ
إلَّا بِالْبَيَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا ، وَلَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ ؛ فَبَطَلَ ؛ بَلْ جَاءَتْ السُّنَّةُ
بِضِدِّهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَيْلٌ
لِلْعَرَاقِيبِ مِنْ النَّارِ }
.
وَهَذَا يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْقِدُ الشِّرَاكِ
حِذَاءَهُ لَا فَوْقَهُ ، يَعْضُدُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : {
وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } وَلَوْ قَالَ : أَرَادَ مَعْقِدَ الشِّرَاكِ
لَقَالَ إلَى الْكِعَابِ ، كَمَا قَالَ : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ
صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ قَلْبٌ وَاحِدٌ ، فَدَلَّ
عَلَى أَنَّ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَيْنِ اثْنَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ :
الْقَوْلُ فِي دُخُولِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْكَعْبَيْنِ كَالْقَوْلِ فِي دُخُولِ
الْمَرَافِقِ فِي الْوُضُوءِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْكَعْبَ فِي السَّاقِ ، كَمَا
أَنَّ الْمِرْفَقَ فِي الْعَضُدِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُوَ فِي غَيْرِ
الْمَذْكُورِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّك إذَا غَسَلْت السَّاعِدَ إلَى
الْمِرْفَقِ فَالْمِرْفَقُ آخِرُ الْعَضُدِ ، وَإِذَا
غَسَلْت الْقَدَمَ إلَى الْكَعْبَيْنِ فَالْكَعْبَانِ آخِرَ السَّاقَيْنِ ،
فَرَكِّبْهُ عَلَيْهِ وَافْهَمْهُ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : فِي تَخْلِيلِ
الْأَصَابِعِ فِي الْوُضُوءِ : وَذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ؛ قَالَ
ابْنُ وَهْبٍ : وَهُوَ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ مُسْتَحَبٌّ فِي الرِّجْلَيْنِ ،
وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ
.
وَقِيلَ :
إنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الْجَمِيعِ ، لِمَا رَوَى
حُذَيْفَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
خَلِّلُوا بَيْنَ الْأَصَابِعِ لَا تَتَخَلَّلُهَا النَّارُ } .
وَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ بْنُ شَدَّادٍ : { رَأَيْت
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَلِّكُ بِخِنْصَرِهِ مَا
بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ }
.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ وَاجِبٌ فِي الْيَدَيْنِ عَلَى
الْقَوْلِ بِالدَّلْكِ ، غَيْرُ وَاجِبٍ فِي الرِّجْلَيْنِ ، لِأَنَّ تَخْلِيلَهَا
بِالْمَاءِ يُقَرِّحُ بَاطِنَهَا ، وَقَدْ شَاهَدْنَا ذَلِكَ ، وَمَا عَلَيْنَا
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ فِي تَخْلِيلٍ
تَتَقَرَّحُ بِهِ الْأَقْدَامُ ،
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : نَزَعَ
عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ إلَى أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ غَيْرُ
وَاجِبَةٍ ، لِأَنَّهُ قَالَ : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } ؛ تَقْدِيرُهُ
كَمَا سَبَقَ : وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
، فَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِنْجَاءَ ، وَذَكَرَ الْوُضُوءَ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا
لَكَانَ أَوَّلَ مَبْدُوءٍ بِهِ ، وَهِيَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ بِهَا
لَا ذَاكِرًا وَلَا نَاسِيًا ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : تَجِبُ مَعَ
الذِّكْرِ وَتَسْقُطُ مَعَ النِّسْيَانِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ
إذَا زَادَتْ عَلَى قَدْرِ الدِّرْهَمِ الْبَغْلِيِّ يُرِيدُ الْكَبِيرَ الَّذِي
هُوَ عَلَى هَيْئَةِ الْمِثْقَالِ قِيَاسًا عَلَى فَمِ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ
الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ ، وَتَوْجِيهُ ذَلِكَ وَتَفْرِيعُهُ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْفُرُوعِ
.
وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ .
وَلَا حُجَّةَ فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إنَّمَا بَيَّنَ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ صِفَةَ الْوُضُوءِ
خَاصَّةً ، وَلِلصَّلَاةِ شُرُوطٌ : مِنْ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ ، وَسَتْرِ
الْعَوْرَةِ ، وَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ ، وَبَيَانُ كُلِّ شَرْطٍ مِنْهَا فِي
مَوْضِعِهِ وَسَنَتَكَلَّمُ عَلَى ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : ذَكَرَ اللَّهُ
تَعَالَى أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ وَتَرْتِيبَهَا وَأَمَرَ بِغَسْلِهَا مُعَقَّبَةً ،
فَهَلْ يَلْزَمُ كُلَّ مُكَلَّفٍ أَنْ تَكُونَ مَفْعُولَةً مَجْمُوعَةً فِي
الْفِعْلِ كَجَمْعِهَا فِي الذِّكْرِ ، أَوْ يُجْزِئُ التَّفْرِيقُ فِيهَا ؟
فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكِتَابِ مُحَمَّدٍ : إنَّ التَّوَالِيَ سَاقِطٌ ؛
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ : إنْ فَرَّقَهُ
مُتَعَمِّدًا لَمْ يُجْزِهِ ، وَيُجْزِيهِ نَاسِيًا .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا يُجْزِيهِ نَاسِيًا وَلَا
مُتَعَمِّدًا .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ حَبِيبٍ :
يُجْزِيهِ فِي الْمَغْسُولِ وَلَا يُجْزِيهِ فِي الْمَمْسُوحِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : يُجْزِيهِ نَاسِيًا
وَمُتَعَمِّدًا .
فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ الْأَصْلُ فِيهَا : أَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ أَمْرًا مُطْلَقًا فَوَالِ أَوْ فَرِّقْ ،
وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفَوْرِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ
بِالْفَوْرِ الْأَمْرُ بِأَصْلِ الْوُضُوءِ خَاصَّةً .
وَالْأَصْلُ الثَّانِي : أَنَّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ
أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَوَجَبَ فِيهَا التَّوَالِي كَالصَّلَاةِ ، وَبِهَذَا
نَقُولُ : إنَّهُ يَلْزَمُ الْمُوَالَاةُ مَعَ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ
كَالصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا ، فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْفَرْقِ بَيْنَ الذِّكْرِ
وَالنِّسْيَانِ فَإِنَّ التَّوَالِيَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الطَّهَارَةِ ،
فَافْتَرَقَ فِيهَا الذِّكْرُ وَالنِّسْيَانُ ، كَالتَّرْتِيبِ .
وَاعْتِبَارُ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الْعِبَادَةِ بِصِفَةٍ
أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ عِبَادَةٍ بِعِبَادَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : فِي
تَحْقِيقِ مَعْنًى لَمْ يَتَفَطَّنْ لَهُ أَحَدٌ حَاشَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ،
لِعَظِيمِ إمَامَتِهِ ، وَسَعَةِ دِرَايَتِهِ ، وَثَاقِبِ فِطْنَتِهِ ؛ وَذَلِكَ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى
الْمَرَافِقِ } الْآيَةَ .
{ وَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَمَرَّتَيْنِ
فِي بَعْضِ أَعْضَائِهِ وَثَلَاثًا فِي بَعْضِهَا فِي وُضُوءٍ وَاحِدٍ } ، فَظَنَّ
بَعْضُ النَّاسِ بَلْ كُلُّهُمْ أَنَّ الْوَاحِدَةَ فَرْضٌ ، وَالثَّانِيَةَ
فَضْلٌ ، وَالثَّالِثَةَ مِثْلُهَا ، وَالرَّابِعَةَ تَعَدٍّ ، وَأَعْلَنُوا
بِذَلِكَ فِي الْمَجَالِسِ ، وَدَوَّنُوهُ فِي الْقَرَاطِيسِ ؛ وَلَيْسَ كَمَا
زَعَمُوا وَإِنْ كَثُرُوا ، فَالْحَقُّ لَا يُكَالُ بِالْقُفْزَانِ ، وَلَيْسَ
سَوَاءً فِي دَرْكِهِ الرِّجَالُ وَالْوِلْدَانِ .
اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَ الرَّاوِي :
إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ
وَثَلَاثًا أَنَّهُ أَوْعَبَ بِوَاحِدَةٍ ، وَجَاءَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةُ
زَائِدَةً فَإِنَّ هَذَا غَيْبٌ لَا يُدْرِكُهُ بَشَرٌ ؛ وَإِنَّمَا رَأَى
الرَّاوِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غَرَفَ
لِكُلِّ عُضْوٍ مَرَّةً ، فَقَالَ
: تَوَضَّأَ مَرَّةً ، وَهَذَا صَحِيحٌ صُورَةً
وَمَعْنًى ؛ ضَرُورَةً أَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوعِبْ الْعُضْوَ
بِمَرَّةٍ لَأَعَادَ ؛ وَأَمَّا إذَا زَادَ عَلَى غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي
الْعُضْوِ أَوْ غَرْفَتَيْنِ فَإِنَّنَا لَا نَتَحَقَّقُ أَنَّهُ أَوْعَبَ
الْفَرْضَ فِي الْغَرْفَةِ الْوَاحِدَةِ وَجَاءَ مَا بَعْدَهَا فَضْلًا ، أَوْ
لَمْ يُوعِبْ فِي الْوَاحِدَةِ وَلَا فِي الِاثْنَتَيْنِ حَتَّى زَادَ عَلَيْهَا
بِحَسَبِ الْمَاءِ وَحَالِ الْأَعْضَاءِ فِي النَّظَافَةِ وَتَأْتِي حُصُولُ
التَّلَطُّفِ فِي إدَارَةِ الْمَاءِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عَلَيْهَا ،
فَيُشْبِهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِهِ بِأَنْ يُكَرِّرَ لَهُمْ
الْفِعْلَ ، فَإِنَّ
أَكْثَرَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُوعِبَ بِغَرْفَةٍ
وَاحِدَةٍ ، فَجَرَى مَعَ اللُّطْفِ بِهِمْ وَالْأَخْذِ لَهُمْ بِأَدْنَى
أَحْوَالِهِمْ إلَى التَّخَلُّصِ ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُوَقِّتْ مَالِكٌ فِي
الْوُضُوءِ مَرَّةً وَلَا مَرَّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثًا إلَّا مَا أَسْبَغَ .
قَالَ : وَقَدْ اخْتَلَفَتْ الْآثَارُ فِي التَّوْقِيتِ
، يُرِيدُ اخْتِلَافًا يُبَيِّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَعْنَى الْإِسْبَاغِ لَا
صُورَةُ الْأَعْدَادِ ، وَقَدْ تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ بِثَلَاثِ غَرَفَاتٍ ، وَيَدَهُ
بِغَرْفَتَيْنِ ، لِأَنَّ الْوَجْهَ ذُو غُضُونٍ وَدَحْرَجَةٍ وَاحْدِيدَابٍ ،
فَلَا يَسْتَرْسِلُ الْمَاءُ عَلَيْهِ فِي الْأَغْلَبِ مِنْ مَرَّةٍ بِخِلَافِ
الذِّرَاعِ فَإِنَّهُ مُسَطَّحٌ فَيَسْهُلُ تَعْمِيمُهُ بِالْمَاءِ وَإِسَالَتُهُ
عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ { تَوَضَّأَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً مَرَّةً ، وَقَالَ : هَذَا وُضُوءٌ لَا
يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ } .
{ وَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ، وَقَالَ : مَنْ
تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ } .
{ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ، وَقَالَ : هَذَا
وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي ، وَوُضُوءُ أَبِي إبْرَاهِيمَ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَعْدَادٌ مُتَفَاوِتَةٌ
زَائِدَةٌ عَلَى الْإِسْبَاغِ ، يَتَعَلَّقُ الْأَجْرُ بِهَا مُضَاعَفًا عَلَى
حَسَبِ مَرَاتِبِهَا .
قُلْنَا : هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ تَصِحَّ ، وَقَدْ
أَلْقَيْت إلَيْكُمْ وَصِيَّتِي فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَجْلِسٍ أَلَّا تَشْتَغِلُوا
مِنْ الْأَحَادِيثِ بِمَا لَا يَصِحُّ سَنَدُهُ ، فَكَيْفَ يَنْبَنِي مِثْلُ هَذَا
الْأَصْلِ عَلَى أَخْبَارٍ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ ؛ عَلَى أَنَّ لَهُ تَأْوِيلًا
صَحِيحًا ، وَهُوَ أَنَّهُ { تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ : هَذَا وُضُوءٌ
لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ } فَإِنَّهُ أَقَلُّ مَا يَلْزَمُ ،
وَهُوَ الْإِيعَابُ عَلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِحَالِهَا .
ثُمَّ تَوَضَّأَ بِغَرْفَتَيْنِ وَقَالَ : لَهُ أَجْرُهُ
مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ تَكَلُّفِ غَرْفَةٍ ثَوَابٌ .
وَتَوَضَّأَ ثَلَاثًا وَقَالَ : هَذَا وُضُوئِي ؛
مَعْنَاهُ الَّذِي فَعَلْته رِفْقًا بِأُمَّتِي وَسُنَّةً لَهُمْ ؛ وَلِذَلِكَ
يُكْرَهُ أَنْ يُزَادَ عَلَى ثَلَاثٍ ؛ لِأَنَّ الْغَرْفَةَ الْأُولَى تَسُنُّ
الْعُضْوَ لِلْمَاءِ وَتُذْهِبُ عَنْهُ شُعْثَ التَّصَرُّفِ .
وَالثَّانِيَةُ تَرْحَضُ وَضَرَ الْعُضْوِ ، وَتُدْحِضُ
وَهَجَهُ .
وَالثَّالِثَةُ تُنَظِّفُهُ ، فَإِنْ قَصَّرْت دُرْبَةُ
أَحَدٍ عَنْ هَذَا كَانَ بَدَوِيًّا جَافِيًا فَيُعَلَّمُ الرِّفْقَ حَتَّى
يَتَعَلَّمَ ، وَيُشْرَعُ لَهُ سَبِيلُ الطَّهَارَةِ حَتَّى يَنْهَضَ إلَيْهَا ،
وَيَتَقَدَّمَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَنْ قَالَ : " فَمَنْ زَادَ عَلَى
الثَّلَاثِ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ
" .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : لَمَّا
ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ غَسْلَ الْوَجْهِ مُطْلَقًا ، وَتَمَضْمَضَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيَّنَ وَجْهَ النَّظَافَةِ فَتَعَيَّنَ فِي
ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ ، ثُمَّ لَازَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّوَاكَ فِعْلًا ، وَنَدَبَ إلَيْهِ أَمْرًا ، حَتَّى قَالَ
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي
لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ وُضُوءٍ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنَّهُ
إذَا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ } ، وَمَا غَفَلَ عَنْهُ
قَطُّ ؛ بَلْ كَانَ يَتَعَاهَدُهُ لَيْلًا وَنَهَارًا ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
، وَمِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ ، لَا مِنْ فَضَائِلِهِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي
شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } : فِي التَّيَمُّمِ ، فَأَدْخَلَ
الْبَاءَ فِيهِ ، كَمَا أَدْخَلَهَا فِي قَوْله تَعَالَى : { بِرُءُوسِكُمْ } ؛
وَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، لِيُبَيِّنَ وُجُوبَ الْمَمْسُوحِ بِهِ ؛ وَأَكَّدَهُ
بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { مِنْهُ } وَقَدْ كَانَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ،
وَلَكِنَّهُ تَأْكِيدٌ لِلْبَيَانِ
.
وَزَعَمَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّ قَوْلَهُ { مِنْهُ }
إنَّمَا جَاءَ لِيُبَيِّنَ وُجُوبَ نَقْلِ التُّرَابِ إلَى الْوَجْهِ
وَالْيَدَيْنِ فِي التَّيَمُّمِ ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ التَّيَمُّمُ
عَلَى التُّرَابِ لَا عَلَى الْحِجَارَةِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا أَفَادَتْ { مِنْهُ }
وُجُوبَ ضَرْبِ الْأَرْضِ بِالْيَدَيْنِ ، فَلَوْلَا ذَلِكَ وَتَرَكْنَا ظَاهِرَ
الْقُرْآنِ لَجَازَتْ الْإِشَارَةُ إلَى الصَّعِيدِ وَضَرْبِ الْوَجْهِ
وَالْيَدَيْنِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ بِالْيَدَيْنِ إلَى الْأَرْضِ ، وَلَكِنَّهُ
أَكَّدَ بِقَوْلِهِ { مِنْهُ } لِيَكُونَ الِابْتِدَاءُ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ
عَلَى الْأَرْضِ تَعَبُّدًا ، ثُمَّ ضَرَبَ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ
بِهِمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَقَرَّرْنَا أَنَّ
الصَّعِيدَ وَجْهُ الْأَرْضِ كَيْفَمَا كَانَ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : فَإِنْ
قِيلَ : فَبَيِّنُوا لَنَا بَقِيَّةَ الْآيَةِ .
قُلْنَا :
أَمَّا قَوْلُهُ : { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا } وَحُكْمُ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وَالْمَجِيءِ مِنْ الْغَائِطِ
وَلَمْسِ النِّسَاءِ وَعَدَمِ الْمَاءِ وَالتَّيَمُّمِ بِالصَّعِيدِ الطَّيِّبِ ،
فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ ،
وَالْقَوْلُ فِيهَا وَاحِدٌ ، وَإِنْ كَانَتْ اثْنَتَيْنِ فَلْيَنْظُرْ فِيهِمَا
فَيَنْتَظِمُ الْمَعْنَى بِهِمَا
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْخَمْسُونَ : فِي
تَقْدِيرِ الْآيَةِ وَنِظَامِهَا
: [ التَّقْدِيرُ الْأَوَّلُ ] : رُوِيَ عَنْ زَيْدِ
بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ : فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، تَقْدِيرُهُ
إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ ، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ
الْغَائِطِ ، أَوْ لَامَسْتُمْ النِّسَاءَ ، فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ ، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ
إلَى الْكَعْبَيْنِ ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ، وَإِنْ كُنْتُمْ
مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا .
الثَّانِي :
تَقْدِيرُهَا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ
مُحْدِثُونَ ، وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهَا تِلَاوَةً وَتَقْدِيرًا إلَى آخِرِهَا .
الثَّالِثُ :
تَقْدِيرُهَا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ وَأَنْتُمْ
مُحْدِثُونَ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ، وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ،
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ
الْغَائِطِ .
وَتَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
تَقَدَّمَ أَكْثَرُ مَعْنَاهَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ
عِنْدَ ذِكْرِنَا لِنَظِيرَتِهَا ، وَنَحْنُ نُعِيدُ ذِكْرَ مَا تَجَدَّدَ
هَاهُنَا مِنْهَا ، وَنُعِيدُ مَا تَحْسُنُ إعَادَتُهُ فِيهَا فِي ثَلَاثِ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : نَزَلَتْ فِي
الْيَهُودِ ، ذَهَبَ إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيَّيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا
عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ فَوَعَدُوهُ ثُمَّ هَمُّوا بِغَدْرِهِ ، فَأَعْلَمَهُ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ ، وَأَمَرَهُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَلَّا يُحَمِّلَهُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْحَالَةِ
الْمُبْغِضَةِ لَهُمْ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْحَقِّ فِيهَا قَضَاءً أَوْ
شَهَادَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } : أَوْ " قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ " سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قِيَامُهُ
لِلَّهِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ يَكُونُ بِالْعَدْلِ ، وَمَنْ كَانَ قِيَامُهُ
بِالْعَدْلِ فَشَهَادَتُهُ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ؛ لِارْتِبَاطِ
أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ارْتِبَاطَ الْأَصْلِ بِالْفَرْعِ ، وَالْأَصْلُ هُوَ
الْقِيَامُ لِلَّهِ وَالْعَدْلُ مُرْتَبِطٌ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ
شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا } : يُرِيدُ لَا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُ
قَوْمٍ عَلَى الْعُدُولِ عَنْ الْحَقِّ ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى نُفُوذِ
حُكْمِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ فِي اللَّهِ تَعَالَى ، وَ [ نُفُوذُ ] شَهَادَتِهِ
عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ ، وَإِنْ أَبْغَضَهُ ، وَلَوْ كَانَ
حُكْمُهُ عَلَيْهِ وَشَهَادَتُهُ لَا تَجُوزُ فِيهِ مَعَ الْبُغْضِ لَهُ لَمَا
كَانَ لِأَمْرِهِ بِالْعَدْلِ فِيهِ وَجْهٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْبُغْضُ وَرَدَ مُطْلَقًا فَلِمَ
خَصَّصْتُمُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي اللَّهِ تَعَالَى ؟ قُلْنَا : لِأَنَّ الْبُغْضَ
فِي غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ابْتِدَاءً ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ أَحَدًا بِقَوْلِ الْحَقِّ
عَلَى عَدُوِّهِ مَعَ عَدَاوَةٍ لَا تَحِلُّ ، فَيَكُونُ تَقْرِيرًا لِلْوَصْفِ ،
وَفِيهِ أَمْرٌ بِالْمَعْصِيَةِ ؛ وَذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَقَدْ
أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمْ الصَّلَاةَ
وَآتَيْتُمْ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمْ
اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
وَلِأُدَخِّلَنكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ
بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
هَذَا خِطَابٌ أَخْبَرَ بِهِ عَنْ فِعْلِ مُوسَى مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ ،
وَبَعْثِهِ النُّقَبَاءَ مِنْهُمْ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ ، لِيَخْتَبِرُوا
حَالَ مَنْ بِهَا ، وَيُعْلِمُوهُ بِمَا أَطْلَعُوهُ عَلَيْهِ فِيهَا حَتَّى
يَنْظُرُوا فِي الْغَزْوِ إلَيْهَا ؛ وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا عَلَى
مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِي كِتَابِنَا هَذَا عِنْدَمَا عَرَضَ
مِنْهَا مَا يَكُونُ مِثْلَهَا ، وَلَمَّا كَانَ أَصْلُ مَالِكٍ ذَلِكَ ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ ، رَكَّبْنَا عَلَيْهِ الْمَسَائِلَ لِكَوْنِهِ مِنْ وَاضِحَاتِ
الدَّلَائِلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ يُقْبَلُ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِيمَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الْمَرْءُ
وَيَحْتَاجُ إلَى اطِّلَاعِهِ مِنْ حَاجَاتِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ،
فَيُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ ، وَيَرْبِطُ بِهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ .
وَقَدْ جَاءَ أَيْضًا مِثْلُهُ فِي الْإِسْلَامِ ،
فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ وَفْدَ هَوَازِنَ لَمَّا جَاءُوا تَائِبِينَ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ ، وَسَأَلَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا نَصِيبَهُمْ
لَهُمْ مِنْ السَّبْيِ فَقَالُوا قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ
قَالَ : ارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا } { عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ } ،
وَاحِدُهَا عَرِيفٌ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَهُوَ فَعِيلٌ
بِمَعْنَى فَاعِلٌ ، أَيْ يَعْرِفُ بِمَا عِنْدَ مَنْ كُلِّفَ أَنْ يَعْرِفَ مَا
عِنْدَهُ .
وَمِنْ حَدِيثِ { وَفْدِ هَوَازِنَ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ
إخْوَانَكُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ جَاءُوا تَائِبِينَ ، وَإِنِّي رَأَيْت أَنْ أَرُدَّ
عَلَيْهِمْ سَبْيَهُمْ ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَطِيبَ بِذَلِكَ
فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى
نُعْطِيَهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يَفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ .
فَقَالَ النَّاسُ : قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَهُمْ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
إنَّا لَا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ .
فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ
أَمْرَكُمْ .
فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ ، ثُمَّ
رَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ
أَنَّهُمْ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا
} .
لَفْظُ الْبُخَارِيِّ : وَهُوَ النَّقِيبُ أَوْ مَا
فَوْقَهُ ، وَيَنْطَلِقُ بِالْمَعْنَيَيْنِ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقِيبَ الْأَنْصَارِ .
وَيَنْطَلِقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْأَمِينِ
وَالْكَفِيلِ .
وَاشْتِقَاقُهُ ؛ يُقَالُ : نَقَبَ
الرَّجُلُ عَلَى الْقَوْمِ يَنْقُبُ إذَا صَارَ نَقِيبًا
، وَمَا كَانَ الرَّجُلُ نَقِيبًا ، وَلَقَدْ نَقَبَ ، وَكَذَلِكَ عَرَفَ
عَلَيْهِمْ إذَا صَارَ عَرِيفًا ، وَلَقَدْ عَرَفَ ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُ
نَقِيبٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ دَخِيلَةَ أَمْرِ الْقَوْمِ وَمَنَاقِبَهُمْ ،
وَالْمَنَاقِبُ تُطْلَقُ عَلَى الْخِلْقَةِ الْجَمِيلَةِ وَعَلَى الْأَخْلَاقِ
الْحَسَنَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَعَلَى هَذَا انْبَنَى
قَبُولُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا فِي الَّذِي يُبَلِّغُهُ إيَّاهَا مِنْ مَسَائِلِ
الشَّرِيعَةِ وَأَحْكَامِ الدِّينِ وَدُخُولِ الدَّارِ بِإِذْنِ الْآذِنِ ،
وَأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ لَا نُطَوِّلُ بِهَا ؛ فَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَيْهَا
وَعَلَى أَنْوَاعِهَا " ، فَأَلْحِقْ كُلَّ شَيْءٍ بِجِنْسِهِ مِنْهَا ،
وَمِنْ هَاهُنَا اتَّخَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
النُّقَبَاءَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ
.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : كَانَتْ
الْأَنْصَارُ سَبْعِينَ رَجُلًا يَعْنِي مَالِكٌ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، وَكَانَ
مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَ نَقِيبًا ، فَكَانَ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ أَحَدَ
النُّقَبَاءِ نَقِيبًا .
قَالَ مَالِكٌ : النُّقَبَاءُ تِسْعَةٌ مِنْ الْخَزْرَجِ
، وَثَلَاثَةٌ مِنْ الْأَوْسِ ، مِنْهُمْ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ وَعَمْرُو
بْنُ الْجَمُوحِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : كَانَ أَسْعَدُ بْنُ
زُرَارَةَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ
.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : عَمْرُو بْنُ
الْجَمُوحِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنُ حَرَامٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ
ثُمَّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ النُّقَبَاءِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : التِّسْعَةُ مِنْ الْخَزْرَجِ هُمْ
: أَبُو
أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرٍو ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ ، وَالْبَرَاءُ بْنُ
مَعْرُورِ بْنِ صَخْرٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ ،
وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ
عَمْرٍو ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ
.
وَمِنْ الْأَوْسِ أُسَيْدَ بْنُ الْحُضَيْرِ ، وَسَعْدُ
بْنُ خَيْثَمَةَ ، وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ
يَعُدُّ فِيهِمْ أَبَا
الْهَيْثَمِ بْنَ التَّيْهَانِ ؛ فَجَعَلَهُمْ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقَبَاءَ عَلَى مَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَعَلَى
مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ
مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَعَلَ
فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا
مِنْ الْعَالَمِينَ } .
قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : هُوَ أَنْ يَكُونَ
لِلرَّجُلِ مَسْكَنٌ يَأْوِي إلَيْهِ وَامْرَأَةٌ يَتَزَوَّجُهَا وَخَادِمٌ
يَخْدُمُهُ .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْحَكَمِ ، وَقَتَادَةَ ، زَادَ قَتَادَةُ
: كَانَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ الْخَدَمَةَ ؛ وَفَائِدَةُ
ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَمَلَكَ دَارًا وَخَادِمًا
بَاعَهُمَا فِي الْكَفَّارَةِ وَلَمْ يُجْزِهِ الصِّيَامُ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ
عَلَى الرَّقَبَةِ بِبَيْعِ خَادِمِهِ أَوْ دَارِهِ ، وَهُوَ مَلِكٌ ،
وَالْمُلُوكُ لَا يُكَفِّرُونَ بِالصِّيَامِ وَلَا يُوصَفُونَ بِالْعَجْزِ عَنْ
الْإِعْتَاقِ .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ
أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ
فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ
رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا } : اُخْتُلِفَ فِي الْمَجْنِيِّ
عَلَيْهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ وَلَدُ آدَمَ لِصُلْبِهِ ، وَهُمَا
قَابِيلُ وَهَابِيلُ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَالْأَكْثَرُ مِنْ النَّاسِ ، جَرَى مِنْ أَمْرِهِمَا مَا قَصَّ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي
الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ قَتِيلٍ يُقْتَلُ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى
ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ
الْقَتْلَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { فَبَعَثَ
اللَّهُ غُرَابًا } : فِيهِ قَوْلَانِ
: أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَابِيلَ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ
يَفْعَلُ بِهَابِيلَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ الْغُرَابَيْنِ ، فَتَنَازَعَا
فَاقْتَتَلَا ، فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْغُرَابَ إنَّمَا بُعِثَ لِيُرِيَ
ابْنَ آدَمَ كَيْفِيَّةَ الْمُوَارَاةِ لِهَابِيلَ خَاصَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
سَوْأَةَ أَخِيهِ } : قِيلَ : هِيَ الْعَوْرَةُ .
وَقِيلَ :
لَمَّا أَنْتَنَ صَارَ كُلُّهُ عَوْرَةً ، وَإِنَّمَا
سُمِّيَتْ سَوْأَةً لِأَنَّهَا تَسُوءُ النَّاظِرَ إلَيْهَا عَادَةً .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : دَفْنُ الْمَيِّتِ
لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لِسَتْرِهِ .
الثَّانِي : لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْأَحْيَاءَ بِجِيفَتِهِ .
وَقِيلَ : إنَّهُمَا كَانَا مَلَكَيْنِ فِي صُورَةِ
الْغُرَابَيْنِ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : كَانَا غُرَابَيْنِ
أَخَوَيْنِ ، فَبَحَثَ الْأَرْضَ عَلَى سَوْأَةِ أَخِيهِ حَتَّى عَرَفَ كَيْفَ
يَدْفِنُهُ .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ ابْنَ
آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ حَمَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ سَنَةً يَدُورُ بِهِ ،
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ، وَدَفَنَ فَتَعَلَّمَ ،
وَعَمِلَ مِثْلَ مَا رَأَى ، وَقَالَ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْهُ ،
وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَبَرِهِ ، أَلَا تَرَى
إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ
كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا
} .
وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ فَصَارَ
ذَلِكَ سُنَّةً بَاقِيَةً فِي الْخَلْقِ ، وَفَرْضًا عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ عَلَى
الْكِفَايَةِ ، مَنْ فَعَلَهُ مِنْهُمْ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فَرْضُهُ ؛
وَأَخَصُّ الْخَلْقِ بِهِ الْأَقْرَبُونَ ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ مِنْ
الْجِيرَةِ ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَهُوَ حَقٌّ فِي
الْكَافِرِ أَيْضًا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رَوَى نَاجِيَةُ بْنُ
كَعْبٍ عَنْ { عَلِيٍّ قَالَ : قُلْت لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّ عَمَّك الشَّيْخَ الضَّالَّ مَاتَ ، فَمَنْ يُوَارِيهِ ؟ قَالَ :
اذْهَبْ فَوَارِ أَبَاك ، وَلَا تُحْدِثَنَّ حَدَثًا حَتَّى تَأْتِيَنِي .
فَوَارَيْته ، ثُمَّ جِئْت ، فَأَمَرَنِي أَنْ
أَغْتَسِلَ وَدَعَا لِي } .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ } : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى قِيَاسِ
الشَّبَهِ ؛ وَقَدْ حَقَقْنَاهُ فِي الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : {
فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ } : وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْأَحْكَامِ هَاهُنَا
لِأَنَّهَا مِنْ الْأُصُولِ ؛ لَكِنَّا نُشِيرُ إلَيْهَا لِتَعَلُّقِ الْقُلُوبِ
بِهَا ، فَنَقُولُ : مِنْ الْغَرِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَخْبَرَ
عَنْهُ أَنَّهُ نَدِمَ وَهُوَ فِي النَّارِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { النَّدَمُ تَوْبَةٌ
} .
قُلْنَا : عَنْ هَذِهِ ثَلَاثَةَ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
الْحَدِيثُ لَيْسَ يَصِحُّ ، لَكِنَّ الْمَعْنَى صَحِيحٌ ، وَكُلُّ مَنْ نَدِمَ
فَقَدْ سَلِمَ ، لَكِنَّ النَّدَمَ لَهُ شُرُوطٌ ، فَكُلُّ مَنْ جَاءَ بِشُرُوطِهِ
قُبِلَ مِنْهُ ، وَمَنْ أَخَلَّ بِهَا أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يُقْبَلْ .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَاهُ نَدِمَ وَلَمْ يَسْتَمِرَّ
نَدَمُهُ ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ النَّدَمُ إذَا اسْتَمَرَّ .
الثَّالِثُ : أَنَّ النَّدَمَ عَلَى الْمَاضِي إنَّمَا
يَنْفَعُ بِشَرْطِ الْعَزْمِ عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ } : تَعَلَّقَ بِهَذَا مَنْ
قَالَ : إنَّ ابْنَيْ آدَمَ كَانَا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَلَمْ يَكُنْ
قَبْلَهُمْ .
وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْقَتْلَ قَدْ جَرَى
قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَخْلُ زَمَانُ آدَمَ وَلَا زَمَنُ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ
شَرْعٍ .
وَأَهَمُّ قَوَاعِدِ الشَّرَائِعِ حِمَايَةُ الدِّمَاءِ
عَنْ الِاعْتِدَاءِ وَحِيَاطَتُهُ بِالْقِصَاصِ كَفًّا وَرَدْعًا لِلظَّالِمِينَ
وَالْجَائِرِينَ وَهَذَا مِنْ الْقَوَاعِدِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْهَا
الشَّرَائِعُ وَالْأُصُولُ الَّتِي لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الْمِلَلُ ؛ وَإِنَّمَا
خَصَّ اللَّهُ بَنِي إسْرَائِيلَ بِالذِّكْرِ لِلْكِتَابِ فِيهِ عَلَيْهِمْ ؛
لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَنْزِلُ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ الْمِلَلِ وَالشَّرَائِعِ كَانَ
قَوْلًا مُطْلَقًا غَيْرَ مَكْتُوبٍ ، بَعَثَ اللَّهُ إبْرَاهِيمَ فَكَتَبَ لَهُ
الصُّحُفَ ، وَشَرَعَ لَهُ دِينَ الْإِسْلَامِ ، وَقَسَّمَ وَلَدَيْهِ بَيْنَ
الْحِجَازِ وَالشَّامِ ، فَوَضَعَ اللَّهُ إسْمَاعِيلَ بِالْحِجَازِ مُقَدِّمَةً
لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْلَاهَا عَنْ الْجَبَابِرَةِ
تَمْهِيدًا لَهُ ، وَأَقَرَّ إِسْحَاقَ بِالشَّامِ ، وَجَاءَ مِنْهُ يَعْقُوبُ
وَكَثُرَتْ الْإِسْرَائِيلِيَّة ، فَامْتَلَأَتْ الْأَرْضُ بِالْبَاطِلِ فِي كُلِّ
فَجٍّ ، وَبَغَوْا ؛ فَبَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُوسَى وَكَلَّمَهُ وَأَيَّدَهُ
بِالْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ ، وَخَطَّ لَهُ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ ، وَأَمَرَهُ
بِالْقِتَالِ ، وَوَعَدَهُ النَّصْرَ ، وَوَفَّى لَهُ بِمَا وَعَدَهُ ،
وَتَفَرَّقَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ بِعَقَائِدِهَا ، وَكَتَبَ اللَّهُ جَلَّ
جَلَالُهُ فِي التَّوْرَاةِ الْقِصَاصَ مُحَدَّدًا مُؤَكَّدًا مَشْرُوعًا فِي
سَائِرِ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ ، إلَى سَائِرِ الشَّرَائِعِ مِنْ الْعِبَادَاتِ
وَأَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِنَا بِكَثِيرٍ
مِنْ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَنْ
قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } :
هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا وَاحِدَةً لَيْسَ
كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا سَبِيلُ هَذَا الْكَلَامِ
الْمَجَازُ ، وَلَهُ وَجْهٌ وَفَائِدَةٌ ؛ فَأَمَّا وَجْهُ التَّشْبِيهِ فَقَدْ
قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ مَعْنَاهُ
قَتَلَ نَبِيًّا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ مِنْ الْخَلْقِ يُعَادِلُ الْخَلْقَ ،
وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ بَعْدَهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي
النَّبِيِّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعًا عِنْدَ الْمَقْتُولِ ، إمَّا لِأَنَّهُ فَقَدَ نَفْسَهُ ، فَلَا
يَعْنِيهِ بَقَاءُ الْخَلْقِ بَعْدَهُ ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ مَأْثُومٌ وَمُخَلَّدٌ
كَمَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَاخْتَارَهُ
مُجَاهِدٌ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الطَّبَرِيُّ فِي الْجُمْلَةِ ، وَعَكْسُهُ فِي
الْإِحْيَاءِ مِثْلُهُ .
الثَّالِثُ : قَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ :
إنَّ مَعْنَاهُ يُقْتَلُ بِمَنْ قُتِلَ ، كَمَا لَوْ قَتَلَ الْخَلْقَ أَجْمَعِينَ
، وَمَنْ أَحْيَاهَا بِالْعَفْوِ فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ أَجْمَعِينَ .
الرَّابِعُ : أَنَّ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ذَمَّ
الْقَاتِلِ ، كَمَا عَلَيْهِمْ إذَا عَفَا مَدْحُهُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مَجَازٌ .
وَبَعْضُهَا أَقْرَبُ مِنْ بَعْضٍ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا
قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ
جَمِيعًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلُ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا
شَرْعٌ لَنَا ، أَعْلَمَنَا اللَّهُ بِهِ وَأَمَرَنَا بِاتِّبَاعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ
فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ } اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَقِيلَ : هُوَ الْكُفْرُ .
وَقِيلَ : هُوَ إخَافَةُ السَّبِيلِ .
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَصْلُ "
فَسَدَ " فِي لِسَان الْعَرَبِ تَعَذُّرُ
الْمَقْصُودِ وَزَوَالُ الْمَنْفَعَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ كَانَ أَبْلَغَ
، وَالْمَعْنَى ثَابِتٌ بِدُونِهِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا } أَيْ لَعَدِمَتَا ، وَذَهَبَ
الْمَقْصُودُ .
وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ
الْفَسَادَ } وَهُوَ الشِّرْكُ أَوْ الْإِذَايَةُ لِلْخَلْقِ ، وَالْإِذَايَةُ
أَعْظَمُ مِنْ سَدِّ السَّبِيلِ ، وَمَنْعِ الطَّرِيقِ .
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْفَسَادُ الْمُطْلَقُ مَا
يُزَيِّفُ مَقْصُودَ الْمُفْسِدِ ، أَوْ يَضُرُّهُ ، أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ
بِغَيْرِهِ .
وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ هُوَ الْإِذَايَةُ
لِلْغَيْرِ .
وَالْإِذَايَةُ لِلْغَيْرِ عَلَى قِسْمَيْنِ : خَاصٌّ ،
وَعَامٌ ؛ وَلِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا جَزَاؤُهُ الْوَاقِعُ وَحْدَهُ الرَّادِعُ ،
حَسْبَمَا عَيَّنَهُ الشَّرْعُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْعُمُومِ فَجَزَاؤُهُ مَا
فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذِهِ مِنْ الْقَتْلِ وَالصَّلْبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعًا } ظَاهِرُهُ خِلَافُ مُشَاهَدَتِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ
إلَّا وَاحِدًا ، وَلَكِنَّهُ تَحَمَّلَ أَوْجُهًا مِنْ الْمَجَازِ .
مِنْهَا : أَنَّ عَلَيْهِ إثْمَ مَنْ قَتَلَ جَمِيعَ
النَّاسِ ، وَلَهُ أَجْرُ مَنْ أَحْيَا جَمِيعَ النَّاسِ إذَا أَصَرُّوا عَلَى
الْهَلَكَةِ .
وَمِنْهَا
: أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا فَهُوَ مُتَعَرِّضٌ لَأَنْ
يَقْتُلَ جَمِيعَ النَّاسِ ، وَمَنْ أَنْقَذَ وَاحِدًا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ
أَوْ عَدُوٍّ فَهُوَ مُعَرَّضٌ لَأَنْ يَفْعَلَ مَعَ جَمِيعِ النَّاسِ ذَلِكَ ؛
فَالْخَيْرُ عَادَةٌ وَالشَّرُّ لَجَاجَةٌ .
وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ تِسْعَةً
وَتِسْعِينَ ، ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ : هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟
فَقَالَ لَهُ : لَا ، فَكَمَّلَ الْمِائَةَ بِهِ ، ثُمَّ جَاءَ غَيْرَهُ ،
فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : لَك تَوْبَةٌ } الْحَدِيثَ { إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ عَلَى التَّوْبَةِ وَالرَّحْمَةِ } .
وَمِنْهَا : أَنَّ مَنْ قَتَلَ وَاحِدًا فَقَدْ سَنَّ
لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ ، فَكُلُّ مَنْ يَقْتُلُ يَأْخُذُ بِحَظِّهِ مِنْ
إثْمٍ ، وَكَذَلِكَ مَنْ أَحْيَا مِثْلُهُ فِي الْأَجْرِ ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ
إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا } ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ
مَنْ سَنّ الْقَتْلَ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
ظَاهِرُهَا مُحَالٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحَارَبُ وَلَا يُغَالَبُ
وَلَا يُشَاقُّ وَلَا يُحَادُّ ؛ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا هُوَ عَلَيْهِ
مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ ، وَعُمُومِ الْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ عَلَى الْكَمَالِ
، وَمَا وَجَبَ لَهُ مِنْ التَّنَزُّهِ عَنْ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَحَارِبِينَ فِي جِهَةٍ وَفَرِيقٍ عَنْ الْآخَرِ .
وَالْجِهَةُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مُحَالٌ ، وَقَدْ
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ لِمَا وَجَبَ مِنْ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى
الْمَجَازِ : مَعْنَاهُ يُحَارِبُونَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ ؛ وَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ
الْعَزِيزَةِ سُبْحَانَهُ عَنْ أَوْلِيَائِهِ إكْبَارًا لِإِذَايَتِهِمْ ، كَمَا
عَبَّرَ بِنَفْسِهِ عَنْ الْفُقَرَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى : { مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } لُطْفًا بِهِمْ وَرَحْمَةً لَهُمْ ، وَكَشْفًا
لِلْغِطَاءِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { عَبْدِي مَرِضْت
فَلَمْ تَعُدْنِي ، وَجُعْت فَلَمْ تُطْعِمْنِي ، وَعَطِشْت فَلَمْ تَسْقِنِي ،
فَيَقُولُ : وَكَيْفَ ذَلِكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ؟ فَيَقُولُ : مَرِضَ
عَبْدِي فُلَانٌ ، وَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ } .
وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ مُحَالٌ ،
وَلَكِنَّهُ كَنَّى بِذَلِكَ عَنْهُ تَشْرِيفًا لَهُ ، كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا
مِثْلُهُ .
وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : إنَّ الْحِرَابَةَ هِيَ
الْكُفْرُ ، وَهِيَ مَعْنًى صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ
الْكُفْرَ يَبْعَثُ عَلَى الْحَرْبِ ؛ وَهَذَا مُبَيَّنٌ
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا :
وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ ؛
نَقَضُوا الْعَهْدَ ، وَأَخَافُوا السَّبِيلَ ، وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ ،
فَخَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ فِيهِمْ
.
الثَّانِي : نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ ؛ قَالَهُ
الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ :
{ نَزَلَتْ فِي عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ ، قَدِمَ
مِنْهُمْ نَفَرٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ
وَتَكَلَّمُوا بِالْإِسْلَامِ ، فَقَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ إنَّا كُنَّا
أَهْلَ ضَرْعٍ ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ ، وَاسْتَوْخَمُوا الْمَدِينَةَ ،
فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَوْدٍ وَرَاعٍ
، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهِ ، فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا
وَأَبْوَالِهَا ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إذَا كَانُوا بِنَاحِيَةِ الْحَرَّةِ
كَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ ، وَقَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ ؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ ، فَأَمَرَ بِهِمْ
فَسَمَلُوا أَعْيُنَهُمْ ، وَقَطَعُوا أَيْدِيَهُمْ ، وَتُرِكُوا فِي نَاحِيَةِ
الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا عَلَى حَالَتِهِمْ .
} وَقَالَ قَتَادَةُ : فَبَلَغَنَا { أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ يَحُثُّ عَلَى الصَّدَقَةِ
وَيَنْهَى عَنْ الْمُثْلَةِ } .
هَذَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قِصَّتِهِمْ ، وَتَمَامُهَا
عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي صَرِيحِ الصَّحِيحِ ، زَادَ الطَّبَرِيُّ : وَفِي ذَلِكَ
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، وَرَوَاهُ جَمَاعَةٌ .
الرَّابِعُ : أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ
مُعَاتَبَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ
الْعُرَنِيِّينَ ؛ قَالَهُ اللَّيْثُ
.
الْخَامِسُ : قَالَ قَتَادَةُ : هِيَ نَاسِخَةٌ لِمَا
فَعَلَ فِي الْعُرَنِيِّينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ :
لَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ
لَكَانَ غَرَضًا ثَابِتًا ، وَنَصَّا صَرِيحًا .
وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَهُودَ
، وَدَخَلَ تَحْتَهَا كُلُّ ذِمِّيٍّ وَمَلِّيٍّ .
وَهَذَا مَا لَمْ يَصِحَّ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا
أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْيَهُودِ حَارَبَ ، وَلَا أَنَّهُ جُوزِيَ بِهَذَا
الْجَزَاءِ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ
أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّ عُكْلًا وَعُرَيْنَةَ ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا
وَأَفْسَدُوا ، وَلَكِنْ يَبْعُدُ ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَخْتَلِفُ
حُكْمُهُمْ فِي زَوَالِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الْقُدْرَةِ ،
كَمَا يَسْقُطُ قَبْلَهَا ، وَقَدْ قِيلَ لِلْكُفَّارِ : { قُلْ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ : { إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ يُقْتَلُ بِالرِّدَّةِ دُونَ
الْمُحَارَبَةِ ، وَفِي الْآيَةِ النَّفْيُ لِمَنْ لَمْ يَتُبْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ
، وَالْمُرْتَدُّ لَا يُنْفَى ، وَفِيهَا قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ،
وَالْمُرْتَدُّ لَا تُقْطَعُ لَهُ يَدٌ وَلَا رِجْلٌ ؛ فَثَبَتَ أَنَّهَا لَا
يُرَادُ بِهَا الْمُشْرِكُونَ وَلَا الْمُرْتَدُّونَ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ :
إنَّهَا فِي شَأْنِ الْعُرَنِيِّينَ أَقْوَى ؛ وَلَا يُمْكِن أَنْ يُحْكَمُ
فِيهِمْ بِحُكْمِ الْعُرَنِيِّينَ مِنْ سَمْلِ الْأَعْيُنِ ، وَقَطْعِ الْأَيْدِي .
قُلْنَا : ذَلِكَ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا
قَطَعَ الْأَيْدِيَ وَسَمَلَ الْأَعْيُنَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ إذَا
تَعَيَّنَ فَاعِلُ ذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَكُنْ هَؤُلَاءِ حَرْبِيِّينَ ،
وَإِنَّمَا كَانُوا مُرْتَدِّينَ ؛ وَالْمُرْتَدُّ يَلْزَمُ اسْتِتَابَتُهُ ،
وَعِنْدَ إصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ يُقْتَلُ .
قُلْنَا : فِيهِ رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّهُ
يُسْتَتَابُ ، وَالْأُخْرَى : لَا يُسْتَتَابُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ،
فَقِيلَ : لَا يُسْتَتَابُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ هَؤُلَاءِ وَلَمْ
يَسْتَتِبْهُمْ .
وَقِيلَ :
يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ، وَهُوَ مَشْهُورُ
الْمَذْهَبِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اسْتِتَابَةَ هَؤُلَاءِ لِمَا أَحْدَثُوا مِنْ الْقَتْلِ وَالْمُثْلَةِ
وَالْحَرْبِ ؛ وَإِنَّمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ الَّذِي يَرْتَابُ
فَيَسْتَرِيبُ بِهِ وَيُرْشَدُ ، وَيُبَيَّنُ لَهُ الْمُشْكِلُ ، وَتُجْلَى لَهُ
الشُّبْهَةُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ
تَنَاوَلَتْ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ قَالَ : { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ؛ وَتِلْكَ صِفَةُ الْكُفَّارِ ؟ قُلْنَا : الْحِرَابَةُ
تَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ الْفَاسِدِ ، وَقَدْ تَكُونُ بِالْمَعْصِيَةِ ،
فَيُجَازَى بِمِثْلِهَا ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا
بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
} .
فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الرِّبَا
قُلْنَا : نَعَمْ ، وَفِيمَنْ فَعَلَهُ ، فَقَدْ اتَّفَقَتْ الْأَمَةُ عَلَى أَنْ
مَنْ يَفْعَلُ الْمَعْصِيَةَ يُحَارَبُ ، كَمَا لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى
الْعَمَلِ بِالرِّبَا ، وَعَلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي تَحْقِيقِ
الْمُحَارَبَةِ : وَهِيَ إشْهَارُ السِّلَاحِ قَصْدَ السَّلْبِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ
الْحَرْبِ ؛ وَهُوَ اسْتِلَابُ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ بِإِظْهَارِ السِّلَاحِ
عَلَيْهِ ، وَالْمُسْلِمُونَ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَا
إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ
آمَنُوا } .
وَقَدْ شَرَحَ ذَلِكَ مَالِكٌ شَرْحًا بَالِغًا فِيمَا رَوَاهُ
ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : الْمُحَارِبُ الَّذِي يَقْطَعُ
السَّبِيلَ وَيَنْفِرُ بِالنَّاسِ فِي كُلِّ مَكَان ، وَيُظْهِرُ الْفَسَادَ فِي
الْأَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا ، إذَا ظَهَرَ عَلَيْهِ يُقْتَلُ ؛ وَإِنْ
لَمْ يَقْتُلْ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَرَى فِيهِ رَأْيَهُ بِالْقَتْلِ ، أَوْ
الصَّلْبِ ، أَوْ الْقَطْعِ ، أَوْ النَّفْيِ ؛ قَالَ مَالِكٌ : وَالْمُسْتَتِرُ
فِي ذَلِكَ وَالْمُعْلِنُ بِحِرَابَتِهِ [ سَوَاءٌ ] .
وَإِنْ اسْتَخْفَى بِذَلِكَ ، وَظَهْرَ فِي النَّاسِ إذَا
أَرَادَ الْأَمْوَالَ وَأَخَافَ فَقَطَعَ السَّبِيلَ أَوْ قَتَلَ ، فَذَلِكَ إلَى
الْإِمَامِ ؛ يَجْتَهِدُ أَيَّ هَذِهِ الْخِصَالِ شَاءَ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّ ذَلِكَ إنْ
كَانَ قَرِيبًا وَأَخَذَ بِحِدْثَانِهِ فَلْيَأْخُذْ الْإِمَامُ فِيهِ بِأَشَدِّ
الْعُقُوبَةِ ، وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا تَقَدَّمَ
ذِكْرُهُ لِمَالِكٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ
وَالْقَتْلُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ
.
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ الْمُجَاهِرُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ
وَالْمُكَابِرُ بِاللُّصُوصِيَّةِ فِي الْمِصْرِ وَغَيْرِهِ ؛ قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةٍ وَالْأَوْزَاعِيُّ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمُجَاهِرُ فِي الطَّرِيقِ لَا
فِي الْمِصْرِ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَعَطَاءٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : أَمَّا
قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَسَاقِطٌ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ أَنْ يَفْعَلهُ مُجَاهَرَةً
مُغَالَبَةً ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَفْحَشُ فِي الْحِرَابَةِ .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَقَدْ كُنْت
أَيَّامَ تَوْلِيَةِ الْقَضَاءِ قَدْ رُفِعَ إلَيَّ قَوْمٌ خَرَجُوا مُحَارِبِينَ
إلَى رُفْقَةٍ
، فَأَخَذُوا
مِنْهُمْ امْرَأَةً مُغَالَبَةً عَلَى نَفْسِهَا مِنْ زَوْجِهَا وَمِنْ جُمْلَةِ
الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ فِيهَا فَاحْتَمَلُوهَا ، ثُمَّ جَدَّ فِيهِمْ الطَّلَبُ
فَأُخِذُوا وَجِيءَ بِهِمْ ، فَسَأَلْتُ مَنْ كَانَ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِهِ مِنْ
الْمُفْتِينَ ، فَقَالُوا : لَيْسُوا مُحَارِبِينَ ؛ لِأَنَّ الْحِرَابَةَ إنَّمَا
تَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ لَا فِي الْفُرُوجِ .
فَقُلْت لَهُمْ : إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ ، أَلَم تَعْلَمُوا أَنَّ الْحِرَابَةَ فِي الْفُرُوجِ أَفْحَشُ
مِنْهَا فِي الْأَمْوَالِ ، وَأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ لَيَرْضَوْنَ أَنْ
تَذْهَبَ أَمْوَالُهُمْ وَتُحْرَبَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهمْ وَلَا يُحْرَبُ
الْمَرْءُ مِنْ زَوْجَتِهِ وَبِنْتِهِ ، وَلَوْ كَانَ فَوْقَ مَا قَالَ اللَّهُ
عُقُوبَةٌ لَكَانَتْ لِمَنْ يَسْلُبُ الْفُرُوجَ ، وَحَسْبُكُمْ مِنْ بَلَاءٍ
صُحْبَةُ الْجُهَّالِ ، وَخُصُوصًا فِي الْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ سَوَاءٌ فِي
الْمِصْرِ وَالْبَيْدَاءِ فَإِنَّهُ أَخَذَ بِمُطْلَقِ الْقُرْآنِ .
وَأَمَّا مَنْ فَرَّقَ فَإِنَّهُ رَأَى أَنَّ
الْحِرَابَةَ فِي الْبَيْدَاءِ أَفْحَشُ مِنْهَا فِي الْمِصْرِ لِعَدِمِ الْغَوْثِ
فِي الْبَيْدَاءِ وَإِمْكَانِهِ فِي الْمِصْرِ .
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ أَنَّ الْحِرَابَةَ عَامَّةٌ فِي
الْمِصْرِ وَالْقَفْرِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْحَشَ مِنْ بَعْضٍ ، وَلَكِنَّ
اسْمَ الْحِرَابَةِ يَتَنَاوَلُهَا ، وَمَعْنَى الْحِرَابَةِ مَوْجُودٌ فِيهَا ،
وَلَوْ أَخْرَجَ بَعْضًا مَنْ فِي الْمِصْرِ لَقُتِلَ بِالسَّيْفِ وَيُؤْخَذُ
فِيهِ بِأَشَدِّ ذَلِكَ لَا بِأَيْسَرِهِ فَإِنَّهُ سَلَبَ غِيلَةً ، وَفِعْلُ
الْغِيلَةِ أَقْبَحُ مِنْ فِعْلِ الظَّاهِرَةِ ، وَلِذَلِكَ دَخَلَ الْعَفْوُ فِي
قَتْلِ الْمُجَاهَرَةِ ، فَكَانَ قِصَاصًا ، وَلَمْ يَدْخُلْ فِي قَتْلِ
الْغِيلَةِ ، وَكَانَ حَدًّا ؛ فَتَحَرَّرَ أَنَّ قَطْعَ السَّبِيلِ مُوجِبٌ
لِلْقَتْلِ فِي أَصَحِّ أَقْوَالِنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا لَا يُوجِبُ إجْرَاءَ الْبَاغِي
بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً مَجْرَى الَّذِي يَضُمُّ إلَيْهِ الْقَتْلَ
وَأَخْذَ الْمَالِ ، لِعَظِيمِ الزِّيَادَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى
الْآخَرِ
.
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ التَّسْوِيَةِ
بَيْنَهُمَا أَنَّ الَّذِي يَضُمُّ إلَى السَّعْيِ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ
الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ يَجِبُ الْقَتْلُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ
إسْقَاطُهُ عَنْهُ ، وَاَلَّذِي يَنْفَرِدُ بِالسَّعْيِ فِي إخَافَةِ السَّبِيلِ
خَاصَّةً يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِهِ ؛ يُؤَكِّدهُ أَنَّ الْمُحَارِبَ إذَا قَتَلَ
قُوبِلَ بِالْقَتْلِ ، وَإِذَا أَخَذَ الْمَالَ قُطِعَتْ يَدُهُ لِأَخْذِهِ
الْمَالَ ، وَرِجْلُهُ لِإِخَافَتِهِ السَّبِيلَ ، وَهَذِهِ عُمْدَةُ
الشَّافِعِيَّةِ عَلَيْنَا ، وَخُصُوصًا أَهْلَ خُرَاسَانَ مِنْهُمْ ، وَهِيَ
بَاطِلَةٌ لَا يَقُولُهَا مُبْتَدِئٌ
.
أَمَّا قَوْلُهُمْ : كَيْف يُسَوَّى بَيْنَ مَنْ أَخَافَ
السَّبِيلَ وَقَتَلَ ، وَبَيْنَ مَنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، وَقَدْ
وُجِدَتْ مِنْهُ الزِّيَادَةُ الْعُظْمَى ، وَهِيَ الْقَتْلُ ؟ قُلْنَا : وَمَا
الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ اسْتِوَاءِ الْجَرِيمَتَيْنِ فِي الْعُقُوبَةِ وَإِنْ
كَانَتْ إحْدَاهُمَا أَفْحَشَ مِنْ الْأُخْرَى ؟ وَلِمَ أَحَلْتُمْ ذَلِكَ ؟
أَعَقْلًا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ أَمْ شَرْعًا ؟ أَمَّا الْعَقْلُ فَلَا مَجَالَ لَهُ
فِي هَذَا ، وَإِنْ عَوَّلْتُمْ عَلَى الشَّرْعِ فَأَيْنَ الشَّرْعُ ؟ بَلْ قَدْ
شَاهَدْنَا ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ عُقُوبَةَ الْقَاتِلِ كَعُقُوبَةِ
الْكَافِرِ ، وَإِحْدَاهُمَا أَفْحَشُ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : لَوْ اسْتَوَى حُكْمُهُمَا لَمْ
يَجُزْ إسْقَاطُ الْقَتْلِ عَمَّنْ أَخَافَ السَّبِيلَ وَلَمْ يَقْتُلْ ، كَمَا
لَمْ يَجُزْ إسْقَاطُهُ عَمَّنْ أَخَافَ وَقَتَلَ .
قُلْنَا : هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْكُمْ ؛ فَإِنَّ الَّذِي
يُخِيفُ وَيَقْتُلُ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَعَيُّنِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ ،
فَلَمْ يَجُزْ مُخَالَفَتُهُ .
أَمَّا إذَا أَخَافَ وَلَمْ يَقْتُلْ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ
مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَمَحَلُّ اجْتِهَادٍ ، فَمِنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى
الْقَتْلِ حَكَمَ بِهِ ، وَمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى إسْقَاطِهِ أَسْقَطَهُ
؛ وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ قَالَ مَالِكٌ : وَلْيَسْتَشِرْ لِيَعْلَمَ الْحَقِيقَةَ
مِنْ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ لِئَلَّا يُقْدِمَ عَلَى
جَهَالَةٍ كَمَا أَقْدَمْتُمْ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ
: إنَّ الْقَتْلَ يُقَابِلُ الْقَتْلَ ، وَقَطْعَ الْيَدِ
يُقَابِلُ السَّرِقَةَ ، وَقَطْعَ الرِّجْلِ يُقَابِلُ الْمَالَ ، فَهُوَ
تَحَكُّمٌ مِنْهُمْ وَمَزْجٌ لِلْقِصَاصِ وَالسَّرِقَةِ بِالْحِرَابَةِ ، وَهُوَ
حُكْمٌ مُنْفَرِدٌ بِنَفْسِهِ خَارِجٌ عَنْ جَمِيعِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ
لِفُحْشِهِ وَقُبْحِ أَمْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَنْ يُقَتَّلُوا
أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ
يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } فِيهَا قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ
؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عَلَى التَّفْصِيلِ .
وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ التَّفْصِيلِ عَلَى
سَبْعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: أَنَّ الْمَعْنَى أَنْ يُقْتَلُوا إنْ قَتَلُوا .
أَوْ يُصْلَبُوا إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ .
أَوْ تَقْطَعَ أَيَدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ
إنْ أَخَذُوا الْمَالَ ، أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ إنْ أَخَافُوا السَّبِيلَ
؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ .
الثَّانِي :
الْمَعْنَى إنْ حَارَبَ فَقَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ
قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَقُتِلَ وَصُلِبَ ، فَإِنْ قَتَلَ
وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قُتِلَ ، وَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قُطِعَتْ
يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ ، وَإِذَا لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا
نُفِيَ ، وَهَذَا يُقَارِبُ الْأَوَّلَ ، إلَّا فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَطْعِ
الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّهُ إنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ وَقَطَعَ
الطَّرِيقَ يُخَيَّرُ فِيهِ الْإِمَامُ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ
خِلَافٍ وَصَلَبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ يَدَهُ وَرِجْلَهُ ،
وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُ وَلَمْ يَقْطَعْ رِجْلَهُ وَيَدَهُ وَلَمْ يَصْلُبْهُ ،
فَإِنْ أَخَذَ بِالْأَوَّلِ فَقَتَلَ قُطِعَ مِنْ خِلَافٍ ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ
بِالْأَوَّلِ غُرِّبَ وَنُفِيَ مِنْ الْأَرْضِ .
الرَّابِعُ : قَالَ الْحَسَنُ مِثْلَهُ ، إلَّا فِي
الْآخَرِ فَإِنَّهُ قَالَ : يُؤَدَّبُ وَيُسْجَنُ حَتَّى يَمُوتَ .
الْخَامِسُ :
قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ : إنْ
اقْتَصَرُوا عَلَى الْقَتْلِ قُتِلُوا ، وَإِنْ اقْتَصَرُوا عَلَى أَخْذِ الْمَالِ
قُطِعُوا مِنْ خِلَافٍ ، وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا فَإِنَّ أَبَا
حَنِيفَةَ قَالَ : يُخَيَّرُ فِيهِمْ بِأَرْبَعِ جِهَاتِ : قَتْلٌ ، صَلْبٌ ،
قَطْعٌ وَقَتْلٌ ، قَطْعٌ وَصَلْبٌ ، وَهَذَا نَحْوَ مَا
تَقَدَّمَ ، وَهَذَا سَادِسٌ .
السَّابِعُ : قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَمَالِكٌ فِي
إحْدَى رِوَايَتَيْهِ بِتَخْيِيرِ الْإِمَامِ بِمُجَرَّدِ الْخُرُوجِ .
أَمَّا مَنْ قَالَ : لِأَنَّ { أَوْ } عَلَى
التَّخْيِيرِ فَهُوَ أَصْلُهَا وَمَوْرِدُهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا لِلتَّفْصِيلِ فَهُوَ
اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ ، وَقَالَ : هَذَا كَمَا لَوْ قَالَ : إنَّ جَزَاءَ
الْمُؤْمِنِينَ إذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ أَنْ تُرْفَعَ مَنَازِلُهُمْ أَوْ
يَكُونُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ فِي مَنَازِلِهِمْ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ حُلُولَ
الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُمْ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ
الطَّبَرِيُّ لَا يَكْفِي إلَّا بِدَلِيلٍ ، وَمِعْوَلُهُمْ قَوْلُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا
بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانٍ ،
أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
} .
فَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ كَيْفَ يُقْتَلُ ؟ قَالُوا
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ إنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فَإِنْ التَّخْيِيرَ يُبْدَأُ
فِيهِ بِالْأَخَفِّ ، ثُمَّ يُنْتَقَلُ فِيهِ إلَى الْأَثْقَلِ ؛ وَهَا هُنَا
بَدَأَ بِالْأَثْقَلِ ، ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الْأَخَفِّ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ
قَرَّرَ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَفْعَالِ ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ
بِالْمَعْنَى ، فَمَنْ قَتَلَ قُتِلَ ، فَإِنْ زَادَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ ؛
فَإِنَّ الْفِعْلَ جَاءَ أَفْحَشَ ؛ فَإِنْ أَخَذَ الْمَالَ وَحْدَهُ قُطِّعَ مِنْ
خِلَافٍ ، وَإِنْ أَخَافَ نُفِيَ
.
الْجَوَابُ
: الْآيَةُ نَصٌّ فِي التَّخْيِيرِ ، وَصَرْفُهَا إلَى
التَّعْقِيبِ وَالتَّفْصِيلِ تَحَكُّمٌ عَلَى الْآيَةِ وَتَخْصِيصٌ لَهَا ، وَمَا
تَعَلَّقُوا مِنْهُ بِالْحَدِيثِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُمْ قَالُوا : يُقْتَلُ
الرِّدْءُ وَلَمْ يُقْتَلْ : وَقَدْ جَاءَ الْقَتْلُ بِأَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ
أَشْيَاءَ ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا فَلَا
تَعَلُّقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ لِأَحَدٍ
.
وَتَحْرِيرُ الْجَوَابِ الْقُطْعُ لِتَشْغِيبِهِمْ أَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ التَّخْيِيرَ عَلَى
الْمُحَارَبَةِ وَالْفَسَادِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
الْفَسَادَ وَحْدَهُ مُوجِبٌ لِلْقَتْلِ وَمَعَ الْمُحَارَبَةِ أَشَدُّ .
=============
ج8.
اتصل
بنا | Other languages | الصفحة الرئيسية
مكتبة
القرآن مكتبة علوم القران مكتبة
الحديث مكتبة العقيدة مكتبة الفقه مكتبة التاريخ مكتبة
الأدب المكتبة العامة
كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ
يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يُسْجَنُ ؛ قَالَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي
غَيْرِ بَلَدِ الْجِنَايَةِ .
الثَّانِي : يُنْفَى إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ ؛ قَالَهُ
أَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَغَيْرُهُمْ .
الثَّالِثُ : يُخْرَجُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ
أَبَدًا ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
الرَّابِعُ :
يُطْلَبُونَ بِالْحُدُودِ أَبَدًا فَيَهْرُبُونَ مِنْهَا
؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُسْجَنَ ، فَيَكُونُ السِّجْنُ لَهُ
نَفْيًا مِنْ الْأَرْضِ ، وَأَمَّا نَفْيُهُ إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ فَعَوْنٌ لَهُ
عَلَى الْفَتْكِ .
وَأَمَّا نَفْيُهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَشُغْلٌ لَا
يُدَانُ بِهِ لِأَحَدٍ ، وَرُبَّمَا فَرَّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ ثَانِيَةً .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُطْلَبُ أَبَدًا وَهُوَ
يَهْرُبُ مِنْ الْحَدِّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَزَاءٍ ،
وَإِنَّمَا هُوَ مُحَاوَلَةُ طَلَبِ الْجَزَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ } قَالَ الشَّافِعِيُّ
: إذَا أُخِذَ فِي الْحِرَابَةِ نَصَّابًا .
قُلْنَا : أَنْصِفْ مِنْ نَفْسِك أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
وَوَفِّ شَيْخَكَ حَقَّهُ لِلَّهِ
.
إنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
فَاقْتَضَى هَذَا قَطْعَهُ فِي حَقِّهِ .
وَقَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ : { إنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَاقْتَضَى بِذَلِكَ تَوْفِيَةَ
الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَقِّهِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّارِقِ أَنَّ قَطْعَهُ فِي نِصَابٍ
وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ ، وَبَقِيَتْ الْمُحَارَبَةُ عَلَى عُمُومِهَا .
فَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَرُدَّ الْمُحَارَبَةَ إلَى
السَّرِقَةِ كُنْتَ مُلْحِقًا الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَخَافِضًا الْأَرْفَعَ
إلَى الْأَسْفَلِ ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ .
وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ وَهُوَ
يَطْلُبُ النَّفْسَ إنْ وَقَى الْمَالَ بِهَا عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ
خَطْفَ الْمَالِ ، فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ ، حَتَّى إنَّ السَّارِقَ إذَا دَخَلَ
بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ
وَحَارَبَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ .
[ قَالَ الْقَاضِي ] : وَكُنْت فِي أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ
النَّاسِ إذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ
يَسْحَبُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ ، وَأَصْحَابُهُ
يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ ؛
فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ ، وَارْتَفِعُوا إلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ
عَنْ حَضِيضِ الْجَاهِلِينَ .
وَالْمُسْكِتُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ
الْحِرْزَ ، فَلَوْ كَانَ الْمُحَارِبُ مُلْحَقًا بِالسَّارِقِ لِمَا كَانَ ذَلِكَ
إلَّا عَلَى حِرْزٍ .
وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ : أَحَدُ شَرْطَيْ
السَّرِقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُحَارِبِ كَالْحِرْزِ وَالتَّعْلِيلِ
النِّصَابُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا صَلَبَ الْإِمَامُ
الْمُحَارِبَ فَإِنَّهُ يَصْلُبُهُ حَيًّا : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصْلُبُهُ
مَيِّتًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يُقَتَّلُوا
أَوْ يُصَلَّبُوا } ، فَبَدَأَ بِالْقَتْلِ .
قُلْنَا : نَعَمْ الْقَتْلُ مَذْكُورٌ أَوَّلًا ،
وَلَكِنْ بَقِيَ أَنَّا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ
هَاهُنَا هُوَ الْخِلَافُ .
وَالصَّلْبُ حَيًّا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَى
وَأَفْضَحُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَعْنَى الرَّدْعِ الْأَصْلَحِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ
الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ
مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : مِنْهُمَا أَنَّهُ
تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ فِي الدِّمَاءِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ
الْمُكَافَأَةُ كَالْقِصَاصِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ
عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ ، مِنْ
التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ ، فَإِنْ انْضَافَتْ إلَيْهِ إرَاقَةُ الدَّمِ
فَحُشَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُرَاعَى مَالُ مُسْلِمٍ مِنْ كَافِرٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا خَرَجَ
الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ
، وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ ، قُتِلَ الْجَمِيعُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقْتَلُ إلَّا مَنْ قَتَلَ .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ
وَتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَيُعَضِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ
شُرَكَاءُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُ جَمِيعُهُمْ .
وَقَدْ اتَّفَقَ مَعَنَا عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ
الطَّالِعُ ، فَالْمُحَارِبُ أَوْلَى
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فِيهِ
خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَقَدْ حَارَبُوا
بِأَرْضِ الشِّرْكِ .
الثَّالِثُ : إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ :
إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ؛ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : وَفِي حُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَالٌ يُعْرَفُ ، أَوْ يَقُومَ
وَلِيٌّ يَطْلُبُ دَمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ وَالْقِصَاصُ مِنْهُ .
الْخَامِسُ : قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : لَا
يُطْلَبُ بِشَيْءٍ لَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَلَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ فِي
الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ إنَّ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا } عَائِدٌ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِمَّنْ هُوَ بِأَرْضِ الشِّرْكِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ طَرِيفٌ ، وَلَهُ
وَجْهٌ طَرِيفٌ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ } يُعْطِي أَنَّهُمْ بِغَيْرِ أَرْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلَكِنْ
كُلُّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَأْخُذُهُ الْأَحْكَامُ وَتَسْتَوْلِي
عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَنْزِيلُهُ ؛
فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ،
فَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ إلَى الْجَبَلِ ، وَتَوَسَّطَ الْبَيْدَاءَ فِي مَنَعَةٍ
فَلَا تَتَّفِقُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِجَرِّ جَيْشٍ وَنَفِيرِ قَوْمٍ ؛
فَلَا يُقَالُ : إنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ ،
فَيَرْجِعُ إلَى الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ .
قُلْنَا : إنَّا نَقُولُ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ فِي
الْحُقُوقِ كُلِّهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي
الْحُقُوقِ كُلِّهَا فَقَدْ عَلِمْنَا
بُطْلَانَ ذَلِكَ بِمَا قَامَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى
أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا يَغْفِرُهَا الْبَارِّي سُبْحَانَهُ إلَّا
بِمَغْفِرَةِ صَاحِبِهَا ، وَلَا يُسْقِطُهَا إلَّا بِإِسْقَاطِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ
حَقٍّ .
قُلْنَا :
هَذِهِ مَغْفِرَةٌ عَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ
لِلْمَصْلَحَةِ فِي التَّحْرِيضِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى الدُّخُولِ فِي
الْإِسْلَامِ ؛ فَأَمَّا مَنْ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُسْقِطُ
عَنْهُ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَابُهَا .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشَّهَادَةِ : إنَّهَا تُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ إلَّا الدَّيْنَ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ حُكْمَهَا أَنَّهَا
تُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : إنَّ
الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّى طَلَبَهَا ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا أَرْبَابُهَا
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِوَكِيلٍ
لِمُعَيِّنِينَ مِنْ النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُعِينَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ
نَائِبُهُمْ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُجْمَلَةِ الْمُبْهَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ
بِمُعَيَّنَةٍ .
وَأَمَّا إنْ عَرَفْنَا بِيَدِهِ مَالًا لِأَحَدٍ
أَخَذَهُ فِي الْحِرَابَةِ فَلَا نُبْقِيه فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ غَصْبٌ ، وَنَحْنُ
نُشَاهِدُهُ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْمُنْكَرِ لَا يَجُوزُ ، فَيَكُونُ بِيَدِ
صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَأْخُذَهُ مَالِكُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ وَأَخِيهِ
الَّذِي يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ
مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرَحَ حَقِيقَةِ السَّرِقَةِ : وَهِيَ
أَخْذُ الْمَالِ عَلَى خُفْيَةٍ مِنْ الْأَعْيُنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي
مَسْأَلَةِ قَطْعِ النَّبَّاشِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيُنْظَرْ
هُنَالِكَ فِي كُتُبِهِ .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ : السَّارِقُ هُوَ
الْمُعْلِنُ وَالْمُخْتَفِي .
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : هُوَ الْمُخْتَفِي ، وَالْمُعْلِنُ
عَادٍ .
وَبِهِ نَقُولُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ
السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ بَيَّنَّا مَعْنَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ .
وَقُلْنَا
: إنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ
وَيَرِدَانِ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَلِلتَّعْيِينِ ، وَكِلَاهُمَا تَعْرِيفٌ
بِمَنْكُورٍ عَلَى مَرَاتِبَ ؛ فَإِنْ دَخَلَتْ لِتَخْصِيصِ الْجِنْسِ فَمِنْ
فَوَائِدِهَا صَلَاحِيَةُ الِاسْمِ لِلِابْتِدَاءِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
و { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَإِنْ دَخَلَتْ لِلتَّعْيِينِ فَفَوَائِدُهُ
مُقَرَّرَةٌ هُنَالِكَ ، وَهِيَ إذَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ الْجِنْسِ أَفَادَتْ
التَّعْمِيمَ فِيهِ بِحُكْمِ حَصْرِهَا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ
عَنْهَا وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا صَالِحًا فِي رَبْطِهِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا ،
وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً .
وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْبَابِ
وَغَيْرِهِ كَمَا أَنْكَرُوا جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْخِيصِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } عَامٌّ فِي كُلِّ
سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَدًّا عَلَى مَنْ
يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ ، وَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ
الْمُجْمَلَ ، وَلَا الْعَامَّ ؛ فَإِنَّ السَّرِقَةَ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً
إذْ لَيْسَتْ لَفْظَةً شَرْعِيَّةً بِاتِّفَاقٍ رُبِطَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ
تَخْصِيصًا ، وَعُلِّقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ بِالْحُكْمِ رَبْطًا ، فَقَدْ
أَفَادَتْ الْمَقْصُودَ ، وَجَرَتْ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالْعُمُومِ ، إلَّا
فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قَرَأَهَا : " وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ " ؛ لِيُبَيِّنَ
إرَادَةَ الْعُمُومِ .
وَاَلَّذِي يَقْطَعُ لَك بِصِحَّةِ إرَادَةِ الْعُمُومِ
أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ
لِحَصْرِ الْجِنْسِ ، وَهُوَ الْعُمُومُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ
: وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ ، وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ
مِثْلُهُ .
قَالَ سِيبَوَيْهِ هِيَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي
الْأَمْرِ وَالنَّهْي فِي هَذَا النَّصْبُ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْكَلَامِ تَقَدُّمَ
الْفِعْلَ ، وَهُوَ فِيهِ أَوْجَبُ ، وَإِنَّمَا قُلْت زَيْدًا ضَرَبَهُ ،
وَاضْرِبْهُ مَشْغُولُهُ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَكُونَانِ إلَّا
بِالْفِعْلِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِضْمَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ .
قَالَ الْقَاضِي : أَصْلُ الْبَابِ قَدْ أَحْكَمْنَاهُ
فِي الْمُلْجِئَةِ ، وَنُخْبِتُهُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ
وَمَفْعُولِ ، فَإِذَا أَخْبَرْت بِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ خَبَرًا غَرِيبًا كَانَ
عَلَى سِتِّ صِيَغٍ : الْأُولَى : ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا .
الثَّانِيَةُ : زَيْدٌ ضَرَبَ عَمْرًا .
الثَّالِثَةُ : عَمْرًا ضَرَبَ زَيْدٌ .
الرَّابِعَةُ : ضَرَبَ عَمْرًا زَيْدٌ .
الْخَامِسَةُ : زَيْدٌ عَمْرًا ضَرَبَ .
السَّادِسَةُ : عَمْرًا زَيْدٌ ضَرَبَ .
فَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ نَظْمٌ مُهْمَلٌ لَا
مَعْنَى لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَجَاءَ مِنْ هَذَا جَوَازُ تَقْدِيمِ
الْمَفْعُولِ ، كَمَا جَازَ تَقَدُّمُ الْفَاعِلِ ، بَيْدَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمْت
الْمَفْعُولَ بَقِيَ بِحَالِهِ إعْرَابًا ، فَإِذَا قَدَّمْت الْفَاعِلَ خَرَجَ
عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ فِي الْإِعْرَابِ ، وَبَقِيَ الْمَعْنَى الْمُخْبَرُ عَنْهُ
، وَحَدَثَ فِي تَرْتِيبِ الْخَبَرِ مَا أَوْجَبَ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ ، وَهُوَ
الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى الِابْتِدَاءُ ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْبَابِ
الْأَدَوَاتُ الَّتِي وُضِعَتْ لِتَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَهِيَ كَثِيرَةٌ أَوْ
الْمَقَاصِدِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي التَّغْيِيرِ ، وَمِنْهَا وَضْعُ الْأَمْرِ
مَوْضِعَ الْخَبَرِ ، تَقُولُ : اضْرِبْ زَيْدًا .
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءَ إيقَاعِ
الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ هُنَالِكَ فَاعِلٌ سَقَطَ فِي
إسْنَادِ الْفِعْلِ ، وَثَبَتَ فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ وَارْتِبَاطِهِ ،
وَتَكُونُ لَهُ صِيغَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : زَيْدًا اضْرِبْ ، كَمَا كَانَ فِي
الْخَبَرِ ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ
صِيغَةٌ ثَالِثَةٌ ، فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ
مَفْعُولًا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهُ أَلَّا يَأْتِيَ إلَّا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ
تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ ، وَلَكِنْ رَفَعُوهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ
عَلَيْهِ بَعْدُ ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ وُقُوعُهُ بِهِ فَيُخْبِرُ عَنْهُ ، ثُمَّ
يَقْتَضِي الْفِعْلَ فِيهِ ، فَإِنْ اقْتَضَى وَلَمْ يُخْبِرْ لَمْ يَكُنْ إلَّا
مَنْصُوبًا ، وَإِنْ أَخْبَرَ وَلَمْ يَقْتَضِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَرْفُوعًا ،
فَهُمَا إعْرَابَانِ لِمَعْنَيَيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ
الْآخَرِ .
تَتْمِيمٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقُلْت : زَيْدٌ
فَاضْرِبْهُ فَإِنْ نَصَبْته فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ ، وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى
تَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدِ الْمُخْبِرِ ، وَيَكُونُ
تَقْدِيرُهُ مَعَ النَّصْبِ اضْرِبْ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ ، فَأَمَّا إذَا طَالَ
الْكَلَامُ فَقُلْت : زَيْدًا فَاقْطَعْ يَدَهُ كَانَ النَّصْبُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ
الْكَلَامَ يَطُولُ فَيَقْبُحُ الْإِضْمَارُ فِيهِ لِطُولِهِ .
وَهَذَا قَالَبُ سِيبَوَيْهِ أَفْرَغْنَا عَلَيْهِ .
وَأَقُولُ :
إنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ ،
أَوْ كَانَتْ الْفَاءُ فِيهِ مُنَزَّلَةً عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِهِ فَإِنَّ
الرَّفْعَ فِيهِ أَعْلَى ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ لَهُ ، فَلَا يَبْقَى
لِتَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ إلَّا وَجْهٌ بَعِيدٌ ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ
عَلَى الِاخْتِصَاصِ .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ ، لَا طَرِيقَ لِلْإِجْمَالِ إلَيْهَا ، فَالسَّرِقَةُ
تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ مَعَانٍ : فِعْلٌ هُوَ سَرِقَةٌ ، وَسَارِقٌ ، وَمَسْرُوقٌ
مُطْلَقٌ ، وَمَسْرُوقٌ مِنْهُ ، وَمَسْرُوقٌ فِيهِ .
فَهَذِهِ خَمْسَةُ مُتَعَلِّقَاتٍ يَتَنَاوَلُ
الْجَمِيعَ عُمُومُهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ .
أَمَّا السَّرِقَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا .
وَأَمَّا السَّارِقُ ، وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : [ السَّارِقُ ] : فَهُوَ
فَاعِلٌ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ
الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ
مَعَانٍ : الْعَقْلُ : لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا .
وَالْبُلُوغُ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا
يَتَوَجَّه إلَيْهِ الْخِطَابُ شَرْعًا
.
وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ : لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَدِيثَ
عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُثَافَنْ حَتَّى يَعْرِفَ الْأَحْكَامَ ، وَادَّعَى
الْجَهْلَ فِيمَا أَتَى مِنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَظَهَرَ صِدْقُهُ لَمْ
تَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ كَالْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ
الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إذَا وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ لَا
حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا ، وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ
بِالشُّبُهَاتِ ، فَهَذَا الْأَبُ وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِصُورَةٍ السَّرِقَةِ فِي
أَخْذِ الْمَالِ خِفْيَةً فَإِنَّ لَهُ فِيهِ سُلْطَانَ الْأُبُوَّةِ وَتَبَسُّطَ
الِاسْتِيلَاءِ ، فَانْتَصَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ
بِالشُّبُهَاتِ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ ، وَهِيَ [
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : [ مُتَعَلِّقُ
الْمَسْرُوقِ ] : فَهُوَ كُلُّ مَالٍ تَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ ، وَيَصْلُحُ
عَادَةً وَشَرْعًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ لَمْ يَنْفَعْ
تَعَلُّقُ الطَّمَاعِيَةِ فِيهِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ مِنْهُ ،
كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَثَلًا
.
وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَطْعَ سَارِقِ
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْنَى
فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ ،
فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ .
وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ كَانَ ذَا شَوَاذٍّ ، وَلَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ ، بَلْ يَقْطَعُ
الْمُنْصِفُ أَنَّ سَرِقَةَ التَّافِهِ لَغْوٌ ، وَسَرِقَةَ الْكَثِيرِ قَدْرًا
أَوْ صِفَةً مَحْسُوبٌ ، وَالْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَى الْفَصْلِ فِيهِ بِحَدٍّ
تَقِفُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ ، فَتَوَلَّى الشَّرْعُ تَحْدِيدَهُ بِرُبْعِ
دِينَارٍ .
وَفِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عَائِشَةَ : " مَا طَالَ
عَلَيَّ وَلَا نَسِيت : الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَرَوَى أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا قَدْ بَيَّنَّا
ضَعْفَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ
الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } قُلْنَا
: هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ ، كَمَا جَاءَ
فِي مَعْرَضِ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ
مَفْحَصِ قَطَاةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
وَقِيلَ :
إنَّ هَذَا مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ؛ وَذَلِكَ
أَنَّهُ إذَا ظَفِرَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ؛
فَبِهَذَا تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ ، وَيَجْتَمِعُ الْمَعْنَى وَالنَّصُّ فِي
نِظَامِ الصَّوَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَمِنْهُ كُلُّ مَالٍ
يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ ؛ لِأَنَّهُ
يُبَاعُ وَيُبْتَاعُ وَتَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ ، وَتُبْذَلُ فِيهِ
نَفَائِسُ الْأَمْوَالِ .
وَشُبْهَةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ
التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِيهِ لَمَا لَزِمَ
الضَّمَانُ لِمُتْلِفِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَمِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ
أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ؛ كَجَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَمَعَادِنِهَا ، وَشِبْهِ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ ،
فَتَنْتَصِبُ إبَاحَةُ أَصْلِهِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ .
قُلْنَا :
لَا تَضُرُّ إبَاحَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ إذَا طَرَأَ
التَّحْرِيمُ ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ قَوْمٍ ، فَإِنَّ وَطْأَهَا
حَرَامٌ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْد خُلُوصِهَا لِأَحَدِهِمْ ، وَلَا تُوجِبُ
الْإِبَاحَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ شُبْهَةً .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرِ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ } .
رَوَاهُ قَلِيلَهْ وَأَبُو دَاوُد .
وَانْفَرَدَ قَلِيلَهْ : { وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ
إلَّا فِيمَا أَوَاهُ الْمَرَاحُ
} .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَمِنْهُ مَا إذَا سَرَقَ
حُرًّا صَغِيرًا .
قَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَقِيلَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ .
قُلْنَا :
هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ ؛ وَلَمْ يُقْطَعُ
السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ
بِهِ ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : مُتَعَلَّقُ
الْمَسْرُوقِ مِنْهُ : وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ مَا كَانَ
مَالُهُ مُحْتَرَمًا بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { فَقَدْ حُرِّمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } ،
إنَّ مَالَ الزَّوْجَيْنِ مُحْتَرَمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ،
وَإِنْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمَا حَلَالًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَعَاقَدَا
بِعَقْدٍ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِ
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَأَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَقْتَضِي الْخِلْطَةَ
وَالتَّبَسُّطَ .
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْكَلَامَ فِيمَا يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ صَاحِبِهِ .
وَالثَّانِي :
أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَالِ زَوْجِهِ تَبَسُّطٌ
لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَتِهَا ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا ، وَهِيَ : [ الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ
السَّارِقِ مِنْ ذِي رَحِمٍ ] : إنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مُحْرِمٍ
لِمِثْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ
ذَاتَ الرَّحِمِ لَوْ وَطِئَهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَكَذَلِكَ إذَا
سَرَقَ مَالَهَا ، وَشُبْهَةُ الْمَحْرَمِيَّةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ .
وَإِنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا سَرَقَ
الْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ ، أَوْ السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ : فَلَا قَطْعَ
بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ لِسَيِّدِهِ ، فَلَمْ يَقْطَعْ أَحَدٌ
بِأَخْذِ مَالِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ أَخْذٌ لِمَالِهِ ، وَإِنَّمَا إذَا سَرَقَ
الْعَبْدُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ : " غُلَامُكُمْ
سَرَقَ مَتَاعَكُمْ " ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْأَبِ فِي الْبَابَيْنِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَهِيَ [
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : [ مُتَعَلَّقُ
الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ] : فَهُوَ الْحِرْزُ الَّذِي نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ
الْأَمْوَالِ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ .
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْحِرْزِ الْأَثَرُ
وَالنَّظَرُ .
أَمَّا الْأَثَرُ : فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ } .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ
مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ بِالْحِكْمَةِ
الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي بَيِّنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكِمَ فِيهَا
بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ شَرْعًا ، وَبَقِيَتْ الْأَطْمَاعُ
مُعَلَّقَةً بِهَا ، وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا ، فَتَكُفُّهَا
الْمُرُوءَةُ وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ
وَالْحِرْزُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ ، فَإِذَا أَحَرَزهَا مَالِكُهَا فَقَدْ اجْتَمَعَ
بِهَا الصَّوْنَانِ ، فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتْ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتْ
الْعُقُوبَةُ ؛ وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ
الضَّمَانُ وَالْأَدَبُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ
الْحِرْزِ فِي الصَّوْنِ شَيْءٌ ، لَمَّا كَانَ غَايَةَ الْإِمْكَانِ رَكَّبَ
عَلَيْهِ الشَّرْعُ غَايَةَ الْعُقُوبَةِ مِنْ عِنْدِهِ رَدْعًا وَصَوْنًا ،
وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ فِي
السَّرِقَةِ ؛ لِاقْتِضَاءِ لَفْظِهَا ، وَلَا تَضْمَنُ حِكْمَتُهَا وُجُوبَهُ ،
وَلَمْ أَعْلَمْ مَنْ تَرَكَ اعْتِبَارَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا تَحَصَّلَ
لِي مَنْ يُهْمِلُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ يُذْكَرُ ،
وَرُبَّمَا نُسِبَ إلَى مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضْت عَنْ
ذِكْرِهِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى
الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ فِيهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَهْتِكْ
حِرْزًا لَمْ يُلْزِمْهُ أَحَدٌ قِطْعًا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ الشَّرِيكِ
] : لَمَّا ثَبَتَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي الْقَطْعِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا
اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى إخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ ؛
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهِ ، أَوْ
يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجَهُ إلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ فَإِنْ كَانَ
مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ
جَمِيعُهُمْ بِاتِّفَاقٍ مِنْ عُلَمَائِنَا .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُخْرِجهُ وَاحِدٌ وَاشْتَرَكُوا
فِي إخْرَاجِهِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
لَا قَطْعَ فِيهِ .
وَالثَّانِي : فِيهِ الْقَطْعُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُقْطَعُ
فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ نِصَابٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النِّصَابِ وَمَحَلِّهِ حِينَ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا مِنْ سَرَقَ
نِصَابًا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا ، فَلَا قَطْعَ
عَلَيْهِمْ .
وَدَلِيلُنَا : الِاشْتِرَاكُ فِي الْجِنَايَةِ لَا
يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ ، وَمَا أَقْرَبَ مَا
بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ ، صِيَانَةً
لِلدِّمَاءِ ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ ، وَكَذَلِكَ
فِي الْأَمْوَالِ مِثْلُهُ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى
أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قُطِعُوا ، وَلَا
فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا اشْتَرَكُوا
فِي السَّرِقَةِ فَإِنْ نَقَبَ وَاحِدٌ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ فَلَا قَطْعَ
عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ
يَسْرِقْ ، وَالْآخَرَ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكِ الْحُرْمَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ شَارَك فِي النَّقْبِ
وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا تَعَاوُنٌ وَاتِّفَاقٌ قُطِعَا ، وَإِنْ نَقَبَ سَارِقٌ وَجَاءَ آخَرُ
لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَدَخَلَ النَّقْبَ وَسَرَقَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ
شَرْطِ الْقَطْعِ وَهُوَ الْحِرْزُ ، وَفَصْلُ التَّعَاوُنِ قَدْ تَقَدَّمَ
وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي النَّبَّاشِ
: قَالَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ : يُقْطَعُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ
لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ ؛ لِأَنَّهُ فِي
مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّرِقَةُ بِحَيْثُ
تُتَّقَى الْأَعْيُنُ ، وَيُتَحَفَّظُ مِنْ النَّاس ، وَعَلَى نَفْي السَّرِقَةِ
عَوَّلَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَقُلْنَا : إنَّهُ سَارِقٌ ؛ لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَاتَّقَى
الْأَعْيُنَ ، وَتَعَمَّدْ وَقْتًا لَا نَاظِرَ فِيهِ وَلَا مَارَّ عَلَيْهِ ؛
فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ تَبَرُّزِ النَّاسِ لِلْعِيدِ
وَخُلُوِّ الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ
فَبَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمَكَّنَةِ فِيهِ
كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًّا ، وَلَا
يُنْفَقُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ دَفْنِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَنَ إلَّا مَعَ
أَصْحَابِهِ ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ ذَلِكَ حِرْزُهُ ،
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ
نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } لَيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا
وَيُدْفَنَ فِيهَا مَيِّتًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ
فَكُلُّ مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ
بِلِبَاسِهِ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنْ الثَّانِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : إذَا سَرَقَ السَّارِقُ وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَيْهِ وَرَدُّ
الْعَيْنِ ؛ فَإِنْ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَطْعِ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ
مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْغُرْمُ ثَابِتٌ فِي
ذِمَّتِهِ فِي الْحَالَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ
مَعَ الْغُرْمِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالًا مِنْ اللَّهِ } وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ
، وَهِيَ نَسْخٌ ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ ،
أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ ، وَأَمَّا بِنَظَرٍ فَلَا يَجُوزُ قُلْنَا : لَا
نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ
فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
} مُطْلَقًا
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْطَى لِذَوِي الْقُرْبَى
إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ ؛ فَزَادَ عَلَى النَّصِّ بِغَيْرِ نَصٍّ مِثْلِهِ
مِنْ قُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ
.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَعَوَّلُوا عَلَى
أَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَلَا
يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ
قَوِيٌّ ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ
عُقُوبَةٌ ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ ، وَعَلَيْهِ
عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ ، وَهُوَ كَلَامٌ مُخْتَلُّ اللَّفْظِ .
وَصَوَابُهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ وَاجِبٌ فِي الْبَدَنِ ، وَالْغُرْمَ عَلَى الْمُوسِرِ
وَاجِبٌ فِي الْمَالِ ، فَصَارَا
حَقَّيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ .
وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقُلْنَا : يَثْبُتُ الْغُرْمُ
عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، كَمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَطْعَ فِي الْبَدَنِ
وَالْغُرْمَ وَهُوَ مَحَلٌّ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَجُزْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةَ فِي مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ ،
وَالْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يَنْقُضُ هَذَا الْأَصْلَ ؛ لِأَنَّهُ
يُجْمَعُ مَعَ الْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ إلَّا أَنْ يَطَّرِدَ
أَصْلُنَا ، فَنَقُولُ : إذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجِبْ
الْمَهْرُ ، وَإِنَّ الْجَزَاءَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُعْسِرٌ ،
سَقَطَتْ الْقِيمَةُ عَنْهُ ، فَحِينَئِذٍ تَطَّرِدُ الْمَسْأَلَةُ وَيَصِحُّ
الْمَذْهَبُ ؛ أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رَوَى النَّسَائِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { لَا يَغْرَمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إذَا أَقَمْتُمْ
عَلَيْهِ الْحَدَّ } .
فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُعْسِرِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : إنْ شَاءَ أَغْرَمَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَإِنْ شَاءَ
قَطَعَهُ وَلَمْ يُغْرِمْهُ ؛ فَجَعَلَ الْخِيَارَ إلَيْهِ ؛ وَالْخِيَارُ إنَّمَا
يَكُونُ لِلْمَرْءِ بَيْنَ حَقَّيْنِ هُمَا لَهُ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَيَّرَ الْعَبْدُ فِيهِ
كَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : إذَا سَرَقَ
الْمَالَ مِنْ الَّذِي سَرَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ ، فَإِنَّ
حُرْمَةَ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ ،
وَيَدَ السَّارِقِ كَلَا يَدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا حِرْزٍ .
قُلْنَا : الْحِرْزُ قَائِمٌ ، وَالْمِلْكُ قَائِمٌ ،
وَلَمْ يَبْطُلْ الْمِلْكُ فِيهِ ، فَيَقُولُوا لَنَا : أَبْطِلُوا الْحِرْزَ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا
تَكَرَّرَتْ السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ قُطِعَ
ثَانِيًا فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ دَلِيلٌ يُحْكَى ، وَلَا سِيَّمَا
وَقَدْ قَالَ مَعَنَا : إذَا تَكَرَّرَ الزِّنَا يُحَدُّ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا
اعْتِرَاضَهُمْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَبْطَلْنَاهُ .
وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ إذَا
مَلَكَ السَّارِقُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ ] : إذَا مَلَكَ السَّارِقُ قَبْلَ
أَنْ يُقْطَعَ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ سَقَطَ الْقَطْعُ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ
يُسْقِطْهُ شَيْءٌ وَلَا تَوْبَةُ السَّارِقِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ التَّوْبَةَ
تُسْقِطُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُدُودَهُ ، وَعَزَوْهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ،
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْوُجُوبِ ، فَوَجَبَ
حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ
.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ
دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ
الْمُحَارِبِ قَالَ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ } .
وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ السَّارِقِ ، وَقَالَ فِيهِ : {
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ }
فَلَوْ كَانَ ظُلْمُهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا ، وَيَا
مَعْشَرَ الشَّافِعِيَّةِ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَيْنَ الدَّقَائِقُ
الْفِقْهِيَّةُ وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا فِي
غَوَامِضِ الْمَسَائِلِ ، أَلَمْ تَرَوْا إلَى الْمُحَارِبِ الْمُسْتَبِدِّ
بِنَفْسِهِ ، الْمُجْتَرِئِ بِسِلَاحِهِ ، الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ
إلَى الْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، كَيْف أَسْقَطَ جَزَاءَهُ
بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ ، كَمَا فُعِلَ بِالْكَافِرِ
فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ .
فَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي ، وَهُمْ فِي قَبْضَةِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَتَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ
مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ ؟ أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْمُحَارِبِ ،
وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا الْحَالَةُ وَالْحِكْمَةُ ؟
هَذَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ ، يَا مَعْشَرَ
الْمُحَقِّقِينَ .
وَأَمَّا مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ ، فَقَدْ {
قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ لَهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ } .
خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ حُكْمُ
سَارِقِ الْمُصْحَفِ ] : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ سَارِقُ
الْمُصْحَفِ ، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَا يَنْفَعُ إلَّا أَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ
وَتَمَلُّكَهُ .
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ : إذَا اشْتَرَى
رَجُلٌ وَرَقًا وَكَتَبَ فِيهِ الْقُرْآنَ لَا يُبْطِلُ مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ
كَلَامِ اللَّهِ مِلْكَهُ ، كَمَا لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ لَوْ كَتَبَ فِيهِ
حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ
الْمِلْكُ تَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَطْعِ .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } اعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ
الْمُتَقَدِّمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ فِي الْقُرْآنِ
لِذِكْرِهَا ، وَلَكِنَّ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ
وَنُظَرَاءَهُ ذَكَرْنَا أُمَّهَاتِ النَّظَائِرِ ، لِئَلَّا يَطُولَ عَلَيْكُمْ
الِاسْتِيفَاءُ ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّخْصِيصِ لِهَذَا الْعُمُومِ ،
لِتَعْلَمُوا كَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ
تَعَالَى ، وَهَكَذَا عَقَدْنَا فِي كُلِّ آيَةٍ وَسَرَدْنَا ، فَافْهَمُوهُ مِنْ
آيَاتِ هَذَا الْكِتَابِ ؛ إذْ لَوْ ذَهَبْنَا إلَى ذِكْرِ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ
بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ لَصَعُبَ الْمَرَامُ .
وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا
وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا } ، فَنَذْكُرُ وَجْهَ إيرَادِهَا لُغَةً ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : ثُمَّ نُفِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَمَامِهَا ،
فَإِنَّهَا عَظِيمَةُ الْإِشْكَالِ لُغَةً لَا فِقْهًا ، فَنَقُولُ : إنْ قِيلَ :
كَيْفَ قَالَ : فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ، وَإِنَّمَا هُمَا يَمِينَانِ " ؟
قُلْت : لَمَّا تَوَجَّهَ هَذَا السُّؤَالُ وَسَمِعَهُ النَّاسُ لَمْ يَحُلْ
أَحَدٌ مِنْهُمْ بِطَائِلٍ مِنْ فَهْمِهِ .
أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَتَقَبَّلُوهُ ، وَتَكَلَّمُوا
عَلَيْهِ ، وَتَابَعَهُمْ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ
مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ لِكَلَامِهِمْ ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَعْضَاءِ
اثْنَانِ ، فَحُمِلَ الْأَقَلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ :
بُطُونُهُمَا وَعُيُونُهُمَا ، وَهُمَا اثْنَانِ ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَبَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ
بَيْنَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا فِيهِ مِنْهُ اثْنَانِ ،
فَجَعَلَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ جَمْعًا إذَا ثُنِّيَ ، وَمَعْنَى
ذَلِكَ أَنَّهُ وَإِنْ جُعِلَ جَمْعًا فَالْإِضَافَةُ تَثْنِيَةٌ ، لَا سِيَّمَا
وَالتَّثْنِيَةُ
جَمْعٌ ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ اثْنَانِ
رَجُلَانِ ، وَلَكِنْ رَجُلَانِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَالتَّثْنِيَةِ جَمِيعًا
، وَذُكِرَ كَذَلِكَ اخْتِصَارًا ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : قُلُوبُهُمَا
فَالتَّثْنِيَةُ فِيهِمَا قَدْ بَيَّنَتْ لَك عَدَدَ قَلْبٍ ، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ
فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ : وَمَهْمَهَيْنِ قَذْفَيْنِ مَرَّتَيْنِ
ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ الثَّالِثُ : قَالَ سِيبَوَيْهِ : إذَا
كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعْ إذَا أَرَدْت بِهِ التَّثْنِيَةَ ، كَقَوْلِ
الْعَرَبِ : وَضَعَا رِحَالَهُمَا ، وَتُرِيدُ رَحْلَيْ رَاحِلَتَيْهِمَا ،
وَإِلَى مَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ الرَّابِعِ ، وَيَشْتَرِكُ
الْفُقَهَاءُ مَعَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ فِي كُلِّ جَسَدٍ يَدَانِ ، فَهِيَ
أَيْدِيهِمَا مَعًا حَقِيقَةٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادَ الْيُمْنَى مِنْ كُلِّ
جَسَدٍ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، جَرَى هَذَا الْجَمْعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ،
وَتُؤَوَّلُ كَذَلِكَ .
الْخَامِسُ :
أَنَّ ذِكْرَ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ عِنْدَ
التَّثْنِيَةِ أَفْصَحُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مَعَ التَّثْنِيَةِ
؛ فَهَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَقْوَالِهِمْ ، وَقَدْ تَتَقَارَبُ
وَتَتَبَاعَدُ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ عَنْهُمْ
فِي الْخَامِسِ ، مِنْ أَنَّهُمْ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ
وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي
وَالْأَرْجُلُ ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ
: أَيْدِيَهُمَا إلَى أَرْبَعَةٍ ، وَهِيَ جَمْعٌ فِي
الْآيَتَيْنِ ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ ؛ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ ،
وَلَوْ قَالَ : فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمْ لَكَانَ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ
السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ لَمْ يُرَدْ بِهِمَا شَخْصَيْنِ خَاصَّةً ، وَإِنَّمَا
هُمَا اسْمًا جِنْسٍ يَعُمَّانِ مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِالْفِعْلِ الْمَنْسُوبِ
إلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ لِحَقِيقَةِ الْجَمْعِ فِيهِ .
وَبَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي
وَالْأَرْجُلِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ كَثِيرًا مَآلُهُ إلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ خَاصَّةً ،
وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَقْطَعُ الْيُسْرَى وَلَا يَعُودُ
عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي رِجْلِ رَجُلٍ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :
تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ
رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ
قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَلَيْسَ عَلَى غَلَطِهِ
غِطَاءٌ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَبْلَهُ قَالُوا خِلَافَهُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا } ، فَجَاءَ بِالْجَمْعِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَقْوَالِ النُّحَاةِ
قُلْنَا : ذَلِكَ يَكُونُ تَأْوِيلًا مَعَ الضَّرُورَةِ إذَا جَاءَ دَلِيلٌ
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ ، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ ، فَبَطَلَ مَا قَالَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ
حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّمَا سَرَقَ .
قَالَ : اقْطَعُوا يَدَهُ .
قَالُوا :
ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى
عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ
يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ
ثَالِثَةً فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ رَابِعَةً فَقَطَعَ رِجْلَهُ } .
أَمَّا النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد فَرَوَيَاهُ عَنْ
الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ .
وَأَمَّا الدَّارَقُطْنِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا ،
وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَوْلًا .
وَقَالَ الْحَارِثُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ
تَمَّمَ قَطْعَهُ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِ فِي
الْخَامِسَةِ ؛ وَهَذَا يُسْقِط قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
فِي قَطْعِ الْيَمِينِ أَنَّهُ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ
أَمَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَا ؛ بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى .
قَالَ لَهُ : دُونَك .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَثْبُتُ رِجَالًا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : إذَا
سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، وَاتْرُكُوا
لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا الطَّعَامَ ، وَيَسْتَنْجِي بِهَا مِنْ الْغَائِطِ ،
وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانَ أَقْطَعَ
الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّمَا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِعَدَمِ الْيُمْنَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : مِنْ
تَوَابِعِهَا أَنَّ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ }
يَقْتَضِي قَطْعَ يَدِ الْآبِقِ
.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ بُسْرِ
بْنِ أَرْطَاةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ
} .
وَرَوَى النَّسَائِيّ : { فِي الْغَزْوِ } .
فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي السَّفَرِ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ
عَلَى الْآبِقِ ، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ ؛ لِأَجْلِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ
الْعَامِّ لَا يُقَالُ فِيهِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّاذُّ النَّادِرُ
الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُعَمِّمُ لَفْظَهُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ،
فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَصَدَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْغَزْوِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَقَالُوا : إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْغَانِمِينَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَظُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يُقْطَعُ وَلَا يُحَدُّ عِنْدَ
بَعْضِ الْعُلَمَاءِ .
وَقِيلَ : يُقْطَعُ وَيُحَدُّ لِعَدَمِ تَعْيِينِ
حَظِّهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ
يُورَثُ عَنْهُ وَتُؤَدَّى مِنْهُ دُيُونُهُ ، فَصَارَ كَالْجَارِيَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا
وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ السَّارِقُ رَجُلًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ الْقَطْعُ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ
لِلْمُسْتَحِقَّيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُوَفَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ كَمَا
قَالَ مَالِكٌ : الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ .
قُلْنَا : إنَّ الَّذِي نَخْتَارُ أَنَّ حَدًّا لَا
يُسْقِطُ حَدًّا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَكَلَّمَ
النَّاسُ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ ، هَلْ هُوَ شَرْعُنَا خَاصَّةً أَمْ شَرْعُ مَنْ
قَبْلَنَا ؟ فَقِيلَ : كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ .
وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ مُوسَى ؛ فَعَلَى
الْأَوَّلِ الْقَطْعُ فِي شَرْعِنَا نَاسِخٌ لِلرِّقِّ .
وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَوْكِيدًا لَهُ ،
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدَّ كَانَ مُطْلَقًا فِي
الْأُمَمِ كُلِّهَا قَبْلَنَا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّتَهُ ، إذْ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا
أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ
أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ،
وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت
يَدَهَا } .
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ
الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ
الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ
أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ
اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوك شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْت
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ
يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا
تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَانَهُ } .
الثَّانِي
: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ
، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا لَهُ : إنَّ النَّضِيرَ يَجْعَلُونَ خَرَاجَنَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ
خَرَاجِهِمْ .
وَيَقْتُلُونَ مِنَّا مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَإِنْ
قَتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنَّا وَدَوْهُ
أَرْبَعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ } .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ : إنَّ رَجُلًا
مِنَّا وَامْرَأَةً زَنَيَا ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟
فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ ، إنَّ
فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ ، فَأَتَوْا بِهَا فَوَضَعَ
أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا
بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَكَ .
فَرَفَعَ يَدَهُ ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ .
فَقَالُوا : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ ، فِيهَا آيَةُ
الرَّجْمِ .
فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا }
.
هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ [ وَالْبُخَارِيُّ ] وَمُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد
.
قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ :
{ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : ائْتُونِي
أَعْلَمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا
اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمَرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ قَالَا : نَجِدُ فِي
التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا
كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا .
قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟
قَالَ : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا ، فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ .
فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالشُّهُودِ ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا
مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ
.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُخْتَارِ مِنْ
ذَلِكَ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ :
إنَّهَا فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ وَمَا قَالَ عَلِيٌّ
عَنْ النَّبِيِّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ
قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، وَمَا شَكَوْهُ مِنْ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ
فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ
أَنَّهُ كَانَ تَحْكِيمًا مِنْهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَا شَكْوًى .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، كِلَاهُمَا فِي وَصْفِ
الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَّمُوهُ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ كَمَا تَقَدَّمَ
أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ الزَّانِيَيْنِ
.
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
مُصَالَحُونَ ، وَعُمْدَةُ الصُّلْحِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ
تَعَرَّضُوا لَنَا وَرَفَعُوا أَمَرَهُمْ إلَيْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا
رَفَعُوهُ ظُلْمًا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَةٍ ، أَوْ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ
الشَّرِيعَةُ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ
كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَشِبْهِهِ لَمْ يُمَكَّنْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِيهِ .
وَإِذَا كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ
وَيَحْكُمُونَنَا فِيهِ وَيَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ فَإِنَّ
الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ ، وَإِنْ شَاءَ
أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ أَعْرَضَ
.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ
يُعْرِضَ عَنْهُمْ .
قُلْت :
وَإِنَّمَا أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ، لِيُحَقِّقَ تَحْرِيفَهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ
وَتَكْذِيبَهُمْ وَكَتْمَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ .
وَمِنْهُ صِفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالرَّجْمُ عَلَى مَنْ زَنَا مِنْهُمْ .
وَعَنْهُ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِقَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }
فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ ، وَحُجَجِهِ الْبَيِّنَةِ ، وَبَرَاهِينِهِ
الْمُثَبِّتَةِ لِلْأُمَّةِ ، الْمُخْزِيَةِ لِلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي التَّحْكِيمِ مِنْ
الْيَهُودِ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ
فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ حَكَمَ أَوْ لَا ؟ لِأَنَّ إنْفَاذَ الْحُكْمِ
حَقُّ الْأَسَاقِفَةِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إذَا حَكَّمَ الزَّانِيَانِ
الْإِمَامَ جَازَ إنْفَاذُهُ الْحُكْمَ ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْأَسَاقِفَةِ ؛
وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا
لَنَفَذَ [ حُكْمُهُ ] وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْحَاكِمِ ؛ فَالْكِتَابِيُّونَ
بِذَلِكَ أَوْلَى ، إذْ الْحُكْمُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْحَاكِمِ عَلَى النَّاسِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ عِيسَى ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : لَمْ
يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ، إنَّمَا كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ
{ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ ، وَكَانُوا
حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُ الْمَرْأَةِ
الزَّانِيَةِ يَسْرَةُ ، وَكَانُوا بَعَثُوا إلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ
لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا ، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ
فَخُذُوهُ مِنْهُ وَاقْبَلُوهُ ، وَإِنْ أَفْتَى بِهِ فَاحْذَرُوهُ ، وَهَذِهِ
فِتْنَةٌ أَرَادَهَا اللَّهُ فِيهِمْ فَنَفَذَتْ ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَنْ أَعْلَمُ يَهُودَ
فِيكُمْ ؟ قَالُوا : ابْنُ صُورِيَّا
.
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فِي فَدَكَ ، فَجَاءَ فَنَشَدَهُ
اللَّهَ ، فَانْتَشَدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِالرَّجْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ
لَهُ : وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ، إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ
، ثُمَّ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ ، فَبَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ .
} وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ
بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ
ذِمَّةٍ وَدَارٍ لَكَانَ لَهُمْ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلُ فِيهِمْ ،
فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا ، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
} .
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك } ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْجَوَاسِيسُ ، وَلَمْ
يَعْرِضْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ
بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَامُ ، وَلَا
تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا حَكَّمُوا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ ،
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ ، وَكُلُّ مَنْ حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّينِ
فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا حَكَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا
فَحُكْمُهُ مَاضٍ ، وَإِنْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يَكُون جَوْرًا
بَيِّنًا .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : يُمْضِيه إنْ رَآهُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا
يُحَكَّمُ فِيهَا إلَّا السُّلْطَانَ
.
وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتَصَّ بِهِ
الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنَفَذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : التَّحْكِيمُ جَائِزٌ ، وَهُوَ
غَيْرُ لَازِمٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ آحَادُ
النَّاسِ الْوُلَاةَ وَالْحُكَّامَ ، وَلَا يَأْخُذُ آحَادُ النَّاسِ الْوِلَايَةَ
مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَسَنَعْقِدُ فِي تَعْلِيمِ التَّحْكِيمِ مَقَالًا يُشْفِي إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إشَارَتُهُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُحَكَّمٍ فَإِنَّهُ هُوَ
مُفَعَّلٌ مِنْ حَكَّمَ ، فَإِذَا قَالَ : حَكَّمْت ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ
لَغْوًا أَوْ مُفِيدًا ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مُفِيدًا ، فَإِذَا أَفَادَ
فَلَا يَخْلُو أَنْ يُفِيدَ التَّكْثِيرَ كَقَوْلِك : كَلَّمْته وَقَلَّلْته ،
أَوْ يَكُونَ بِمَعْنَى جَعَلْت لَهُ ، كَقَوْلِك : رَكَّبْته وَحَسَّنْته ، أَيْ
جَعَلْت لَهُ مَرْكُوبًا وَحُسْنًا ؛ وَهَذَا يُفِيدُ جَعَلْتُهُ حَكَمًا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ إنَّمَا
هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقُّ الْحَاكِمِ ، بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى
التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى تَهَارُجِ النَّاسِ
تَهَارُجَ الْحُمُرِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ فَاصِلٍ ؛ فَأَمَرَ الشَّرْعُ
بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرَجِ ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ
تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ ، لِتَتِمَّ
الْمَصْلَحَتَانِ ، وَتَحْصُلَ الْفَائِدَتَانِ .
وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَلْحَظُونِ
الشَّرِيعَةَ بِعَيْنِ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْمَصَالِحِ
، وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْمَقَاصِدَ ، وَإِنَّمَا يَلْحَظُونَ الظَّوَاهِرَ وَمَا
يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
وَالْقَبَسِ فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .
وَلَمْ أَرْوِ فِي التَّحْكِيمِ حَدِيثًا حَضَرَنِي
ذِكْرُهُ الْآنَ إلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْعِرَاقِيُّ ،
أَخْبَرَنَا الْجَوْنِيُّ ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ ، أَخْبَرَنَا
قَلِيلَهْ ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي
ابْنَ الْمِقْدَامِ بْنَ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ شُرَيْحٍ ، عَنْ أَبِيهِ { هَانِئٍ
قَالَ : لَمَّا وَفَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ وَهُمْ يُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ ، فَدَعَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَكَمُ ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ :
إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ ،
فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ
.
فَقَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَك مِنْ الْوَلَدِ
؟ قَالَ : لِي شُرَيْحٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَمُسْلِمٌ .
قَالَ : فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قَالَ : شُرَيْحٌ .
قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ وَدَعَا لَهُ
وَلِوَلَدِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : كَيْفَ أَنْفَذَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ؟ : اخْتَلَفَ
فِي ذَلِكَ جَوَابُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
مَنْ زَنَى مِنْهُمْ وَقَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ
بِهِ الْإِمَامُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ ؛ قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، إذْ
شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يَقُومَ
الدَّلِيلُ عَلَى تَرْكِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ،
وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ
الْحَقِّ فِي الدَّلِيلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ؛ قَالَهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ .
الثَّالِثُ :
إنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ ، وَلَا يَحْكُمُ
الْحَاكِمُ الْيَوْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : أَمَّا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِمْ ، وَسَأَلُوهُ عَنْ
أَمْرِهِمْ ، فَفِي هَذَا يَكُونُ النَّظَرُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ،
مُخْبِرًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِيهِ :
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ
فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } وَأَخْبَرَ
أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ ، فَقَالَ { فَإِنْ جَاءُوكَ } .
ثُمَّ خَيَّرَهُ فَقَالَ : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
ثُمَّ قَالَ لَهُ : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَالْقِسْطُ هُوَ الْعَدْلُ ، وَذَلِكَ حُكْمُ
الْإِسْلَامِ ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ شُهُودٌ مِنَّا عُدُولٌ ؛ إذْ لَيْسَ فِي
الْكُفَّارِ عَدْلٌ ، كَمَا تَقَدَّمَ
.
وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَفَضِيحَةَ الْيَهُودِ حَسْبَمَا
شَرَحْنَا ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ .
وَلَوْ نَظَرَ إلَى الْحُكْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ
لَمَا أَرْسَلَ إلَى ابْنِ صُورِيَّا ، وَلَكِنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُوهُ فِيهِ مِنْ قَبُولِ التَّحْكِيمِ
وَإِنْفَاذِهِ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، وَهِيَ الْحَقُّ حَتَّى
يُنْسَخَ ، وَبِشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، وَذَلِكَ دِينٌ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ
بِالْعُدُولِ مِنَّا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ : وَمُحَمَّدٌ مِنْهُمْ
؛ يَحْكُمُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَهُوَ
الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمُطْلَقُهُ فِي قَوْلِهِ : {
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ } ، آخِرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ
} اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ
وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كُلُّهُ لِلْيَهُودِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ
لِلْمُشْرِكِينَ ، وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى ،
وَبِهِ أَقُولُ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ
، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ .
قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ
عَنْ الْمِلَّةِ ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ .
وَهَذَا يَخْتَلِفُ إنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَإِنْ
حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى
أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } .
فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : [ فِي سَبَبِ النُّزُولِ ] : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ :
لَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
حَكَمَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ ، قَالُوا : يَا
مُحَمَّد : اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إخْوَاننَا بَنِي النَّضِيرِ ، وَكَانَ
بَيْنَهُمْ دَمٌ ، وَكَانَتْ النَّضِيرُ تَتَعَزَّزُ عَلَى قُرَيْظَةَ فِي
دِمَائِهَا وَدِيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالُوا : لَا نُطِيعُك فِي الرَّجْمِ ، وَلَكِنَّا
نَأْخُذُ بِحُدُودِنَا الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا ، فَنَزَلَتْ : { وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ،
وَنَزَلَتْ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْمَعْنَى : فَمَا بَالُهُمْ
يُخَالِفُونَ فَيَقْتُلُونَ النَّفْسَيْنِ بِالنَّفْسِ وَيَفْقَئُونَ
الْعَيْنَيْنِ بِالْعَيْنِ ؛ وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ الْقِصَاصُ
خَاصَّةً ، فَشَرَّفَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَةَ بِالدِّيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ
بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ
بِنَفْسٍ .
قَالَتْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ : هَذَا خَبَرٌ عَنْ
شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا .
وَقُلْنَا نَحْنُ لَهُ : هَذِهِ الْآيَةُ ، إنَّمَا
جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ
وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ ، وَنَفْسًا بِنَفْسٍ ،
وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ
أَحْوَالِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فَلَيْسَ لَهُ
تَعَرُّضٌ فِي ذَلِكَ ، وَلَا سِيقَتْ الْآيَةُ لَهُ ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ
الْأَلْفَاظُ عَلَى الْمَقَاصِدِ
.
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا عُمُومٌ
يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَبُ مِنْ بَعْضٍ ؛ { عَنْ عَلِيٍّ ، وَقَدْ سُئِلَ : هَلْ
خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ :
لَا ، إلَّا مَا فِي هَذَا ، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ ، وَإِذَا
فِيهِ : الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ
سِوَاهُمْ ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } .
وَقَالَ :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }
فَاقْتَضَى لَفْظُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مُسْلِمٍ
وَكَافِر ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ مَوْجُودٌ بِهِ ، فَلَا
تَسْتَوِي نَفْسٌ مُبِيحُهَا مَعَهَا مَعَ نَفْسٍ قَدْ تَطَهَّرَتْ عَنْ
الْمُبِيحَاتِ ، وَاعْتَصَمَتْ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِصَمِ .
وَقَدْ ذَكَر بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نُكْتَةً حَسَنَةً
، قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي مِلَّتِهِمْ
أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ تَعَادُلُ نَفْسًا ؛
فَإِذَا الْتَزَمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا
عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي
مِلَّتِنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنَّا تُقَابِلُ نَفْسًا ،
فَأَمَّا مُقَابَلَةُ كُلِّ نَفْسٍ مِنَّا بِنَفْسٍ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ
مُقْتَضَى الْآيَةِ ، وَلَا مِنْ مَوَارِدِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَغَيْرُهُ : قَوْله تَعَالَى :
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ } يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ خَاصَّةً .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يُوجِبُ ذَلِكَ أَخْذَ نَفْسِهِ
بِنَفْسِهِ ، وَأَخْذَ أَطْرَافِهِ بِأَطْرَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .
وَنَخُصُّ هَذَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا
شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ السَّلَامَةِ
فِي الْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ ، وَيُقَالُ
لِلْآخَرَيْنِ : إنَّ نَقْصَ الرِّقِّ الْبَاقِيَ فِي الْعَبْدِ مِنْ آثَارِ
الْكُفْرِ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ ؛ فَلَا يَصِحُّ
أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنْ
السِّلَعِ يَصْرِفُهُ الْحُرُّ كَمَا يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } يُوجِبُ قَتْلَ
الرَّجُلِ [ الْحُرِّ ] بِالْمَرْأَةِ [ الْحُرَّةِ ] مُطْلَقًا ؛ وَبِهِ قَالَ
كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاجُعِ ،
فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ خُيِّرَ وَلِيُّهَا ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
دِيَتَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْعَقْلِ .
وَقَتَلَ الرَّجُلَ .
وَعُمُومُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ ، فَإِنْ
أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ } .
وَالْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا
قَتَلَ الْمَرْأَةَ فَقَدْ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ فِي الدَّمِ ، فَلَا يَجِبُ
فِيهِ زِيَادَةٌ كَالرَّجُلَيْنِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ : لَا تُقْتَل الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
} .
قُلْنَا : هَذَا عُمُومٌ تَخُصُّهُ حِكْمَتُهُ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ صِيَانَةً لِلْأَنْفُسِ عَنْ
الْقَتْلِ ، فَلَوْ عَلِمَ الْأَعْدَاءُ أَنَّهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ يَسْقُطُ
الْقِصَاصُ عَنْهُمْ لَقَتَلُوا عَدُوَّهُمْ فِي جَمَاعَتِهِمْ ، فَحَكَمْنَا
بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ رَدْعًا لِلْأَعْدَاءِ ، وَحَسْمًا لِهَذَا
الدَّاءِ ، وَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَى هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ أَوْ
الْأُذُنَ ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ بِهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ } الْآيَةَ ؛ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا
فَعَلَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ قَصْدَ بِذَلِكَ الْمُثْلَةَ
فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ لَمْ
يُمَثَّلْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
التَّشَفِّيَ ، وَإِمَّا إبْطَالَ الْعُضْوِ .
وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَالْقَتْلُ يَأْتِي عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِقِصَاصٍ [ وَلَا انْتِصَافٍ ] ؛
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ تَأَلَّمَ بِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ [ كُلِّهَا ] وَبِالْقَتْلِ
، فَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْقِصَاصِ مِنْ أَنْ يَأْلَمَ كَمَا آلَمَ ، وَبِهِ
أَقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ }
وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَالْأَنْفَ وَالْأُذُنَ وَالسِّنَّ وَتَرَكَ الْيَدَ ،
فَقِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ
الْيَدَ آلَةٌ بِهَا يُفْعَلُ [
كُلُّ ] ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ حَالِ
الْيَدَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ ، فَإِنَّ الْيُسْرَى لَا
تُسَاوِي الْيُمْنَى ؛ فَتَرَكَ الْقَوْلَ فِيهَا لِتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله
تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
} .
ثُمَّ يَقَعُ النَّظَرُ فِيهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ الْيَدَ بِالْيَدِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ؛
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ، وَفِيهِ إشْكَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } قَرَأَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ ، فَالنَّصْبُ إتْبَاعٌ
لِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ وَالرَّفْعُ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ
يَكُونَ عَطْفًا عَلَى حَالِ النَّفْسِ قَبْلَ دُخُولِ أَنْ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ .
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَقَأَهَا ، أَوْ أَذْهَبَ
بَصَرَهَا وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا ، أَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ .
وَقَدْ أَفَادَنَا كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ مِنْهَا عَلِيُّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ بِمِرْآةٍ
فَحُمِّيَتْ ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى قُطْنًا ، ثُمَّ أُخِذَتْ
الْمِرْآةُ بِكَلْبَتَيْنِ فَأُدْنِيَتْ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ إنْسَانُ
عَيْنِهِ .
فَلَوْ أَذْهَبَ رَجُلٌ بَعْضَ بَصَرِهِ فَإِنَّهُ
تُعْصَبُ عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ
وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَصَرُ الْمَضْرُوبِ فَيُعَلَّمَ ، ثُمَّ
تُغَطَّى عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ
وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ ، فَحَيْثُ انْتَهَى الْبَصَرُ عَلَّمَ ، ثُمَّ يُقَاسُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَسَّاحَةِ ، فَكَيْفَ كَانَ الْفَضْلُ نَسَبًا ،
وَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ مَعَ الْأَدَبِ الْوَجِيعِ وَالسِّجْنِ الطَّوِيلِ
؛ إذْ الْقِصَاصُ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَلَا يَزَالُ هَذَا
يُخْتَبَرُ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ لِئَلَّا يَتَدَاهَى الْمَضْرُوبُ
فَيَنْقُصَ مِنْ بَصَرِهِ ، لِيَكْثُرَ حَظُّهُ مِنْ مَالِ الضَّارِبِ ؛ وَلَا
خِلَافَ فِي هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَوْ فَقَأَ أَعْوَرُ
عَيْنَ صَحِيحٍ : قِيلَ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ رُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ
.
وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ شَاءَ فَقَأَ عَيْنَهُ ، وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً
.
وَمُتَعَلَّقُ عُثْمَانَ [ أَنَّهُ ] فِي الْقِصَاصِ
مِنْهُ أَخَذَ جَمِيعَ الْبَصَرِ بِبَعْضِهِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَاوَاةِ .
وَمُتَعَلَّقُ الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى : {
الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا
تَعَارَضَتْ خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ
أَوْلَى فَإِنَّهُ أَسْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا فَقَأَ
صَحِيحٌ عَيْنَ أَعْوَرَ : فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : فِيهِ نِصْفُ
الدِّيَةِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ .
وَلَكِنْ عُلَمَاؤُنَا قَالُوا : إنَّ مَنْفَعَةَ
الْأَعْوَرِ بِبَصَرِهِ كَمَنْفَعَةِ السَّالِمِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ ،
فَوَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ دِيَتِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالُوا : إذَا ضَرَبَ
سِنَّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا دِيَتُهَا كَامِلَةً ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهَا حُكُومَةٌ ، وَهَذَا
عِنْدِي خِلَافٌ يَئُولُ إلَى وِفَاقٍ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ سَوَادُهَا أَذْهَبَ
مَنْفَعَتَهَا ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ صُورَتُهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ
وَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ ، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ .
وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا شَيْءٌ أَوْ جَمِيعُهَا
لَمْ يَجِبْ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ حُكُومَةٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا ضُرِبَ
سِنُّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ
عَنْهُ سَنَدًا وَلَا فِقْهًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ مَالِكٌ :
إذَا أَخَذَ الْكَبِيرُ دِيَةَ ضِرْسِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَتْ .
فَلَا يَرُدُّهَا .
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : يَرُدُّهَا ؛ لِأَنَّ
عِوَضَهَا قَدْ ثَبَتَ ، أَصْلُهُ سِنُّ الصَّغِيرِ ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّ هَذَا
ثَبَاتٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ
كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَلَوْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا
صَاحِبُهَا فَالْتَحَمَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
عَطَاءٌ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ثَانِيَةً ، وَإِنْ رَدَّهَا أَعَادَ كُلَّ
صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ
.
وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَأَلْصَقَهَا
بِحَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَزَقَتْ مِثْلُهُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يَجْبُرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى
قَلْعِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ أَلْصَقَهَا ؛ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ ، وَقَدْ
جَهِلَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ رَدَّهَا وَعَوْدَهَا لِصُورَتِهَا مُوجِبٌ
عَوْدَهَا لِحُكْمِهَا ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ فِيهَا لِلِانْفِصَالِ ،
وَقَدْ عَادَتْ مُتَّصِلَةً ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ
لِلْأَعْيَانِ ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ تَعُودُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ فِيهَا وَإِخْبَارِهِ عَنْهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَسْقُطُ عَنْ قَالِعِ السِّنِّ
دِيَتُهَا ، وَإِنْ رَجَعَتْ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِقَلْعِهَا ،
وَذَلِكَ لَا يَنْجَبِرُ .
قُلْنَا :
إنَّمَا وَجَبَتْ لِفَقْدِهَا وَذَهَابِ مَنْفَعَتِهَا ؛
فَإِذَا عَادَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ عَيْنَهُ
فَفَقَدَ بَصَرَهُ ، فَلَمَّا قَضَى عَلَيْهِ عَادَ بَصَرُهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ
شَيْءٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ قَلْعِ
السِّنِّ الزَّائِدِ ] : فَلَوْ كَانَتْ لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَقُلِعَتْ فَفِيهَا
حُكُومَةٌ ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ
، وَلَيْسَ فِي التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ ، فَالْحُكُومَةُ أَعْدَلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ قَطْعِ
أُذُنَيْ رَجُلٍ ] : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْطَعُ أُذُنَيْ رَجُلٍ :
عَلَيْهِ حُكُومَةٌ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي السَّمْعِ ،
وَيُقَاسُ كَمَا يُقَاسُ الْبَصَرُ ، فَإِنْ أَجَابَ جَوَابَ مَنْ يَسْمَعُ لَمْ
يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ أُحْلِفَ ، لَقَدْ صُمَّتْ مِنْ ضَرْبِ
هَذَا ، وَأُغْرِمَ دِيَتَهُ ، وَمِثْلُهُ فِي الْيَمِينِ فِي الْبَصَرِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : اللِّسَانُ :
اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْقَوَدِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ ، وَالْعِلَّةُ فِي التَّوَقُّفِ عَنْ الْقَوَدِ فِيهِ عَدَمُ
الْإِحَاطَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ فَالْقَوَدُ هُوَ
الْأَصْلُ ، وَيُخْتَبَرُ بِالْكَلَامِ فَمَا نَقَصَ مِنْ الْحُرُوفِ
فَبِحِسَابِهِ مِنْ الدِّيَةِ تَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ .
فَإِنْ قَلَعَ لِسَانَ أَخْرَسَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ
عَشْرَةَ : [ إذَا قَلَعَ لِسَانُ أَخْرَس ] : فَفِيهِ حُكُومَةٌ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : فِيهِ الدِّيَةُ ، يُقَالُ لَهُ
: إذَا أَسْقَطْت الْقَوَدَ فَلَا يَبْقَى إلَّا الْحُكُومَةُ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ
قَرِينَةُ الْقَوَدِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : [ الْيَمِينُ
بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ بِالْيَسَارِ ] : إذَا قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ أَوْ
يَسَارَهُ لَمْ يُؤْخَذْ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ إلَّا
بِالْيَسَارِ عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : تُؤْخَذُ الْيَمِينُ
بِالْيَسَارِ وَالْيَسَارُ بِالْيَمِينِ نَظَرًا إلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي
الصُّورَةِ وَالِاسْمِ ، وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَهُمَا فِيهَا
مُتَفَاوِتَتَانِ أَشَدَّ تَفَاوُتًا مِمَّا بَيْنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَإِذَا
لَمْ تُؤْخَذْ الْيَدُ بِالرِّجْلِ فَلَا تُؤْخَذُ يُمْنَى بِيُسْرَى .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ : نَصَّ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَعْضَاءِ وَتَرَكَ بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ
عَلَيْهَا ، وَكُلُّ عُضْوٍ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ
الْمَوْتُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ صُورَتُهُ
فَلَا قَوَدَ فِيهِ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَوَدِ فِيهِ ،
وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْأَعْضَاءِ وَالصُّوَرِ بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ حُكْمُ
الْجُرُوحِ ] : لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ
وَخَصَّ مَا خَصَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } فَعَمَّ بِمَا
نَبَّهَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ وَهِيَ
عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَطَلَبَ
الْقَوْمُ الْقِصَاصَ ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ .
فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ : لَا وَاَللَّهِ ، لَا تُكْسَر ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَا أَنَسُ ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ
وَقَبِلُوا الْأَرْشَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
لَأَبَرَّهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : [ فَهُوَ كَفَّارَةُ لَهُ هُوَ ]
الْمَجْرُوحُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْجَارِحُ .
وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ هَلْ هُوَ فِي الضَّمِيرَيْنِ
وَاحِدٌ أَوْ كُلُّ ضَمِيرٍ يَعُودُ إلَى مُضْمَرٍ ثَانٍ ؟ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ
أَنَّهُ يَعُودُ إلَى وَاحِدِ الضَّمِيرَيْنِ جَمِيعًا ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي
أَنَّهُ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فَأَسْقَطَهُ كَفَّرَ مِنْ ذُنُوبِهِ
بِقَدْرِهِ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ
فَيَهَبُهُ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً ، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً } .
وَاَلَّذِي يَقُولُ : إنَّهُ إذَا عَفَا عَنْهُ
الْمَجْرُوحُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، فَلَا مَعْنَى
لَهُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى : {
وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : نَزَلَتْ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَقِيلَ :
{ جَاءَ ابْنُ صُورِيَّا ، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ ،
وَكَعْبُ بْنُ أُسَيْدَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ ، فَقَالُوا لَهُ : نَحْنُ أَحْبَارَ
يَهُودَ ، إنْ آمَنَّا لَك آمَنَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ بِك ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ
قَوْمٍ خُصُومَةٌ فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْك لِتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ ،
وَنُؤْمِنُ بِك وَنُصَدِّقُك ؛ فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : {
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } } بِمَعْنَى وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ قَوْمٌ : هَذَا نَاسِخٌ
لِلتَّخْيِيرِ ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ أَرْبَعَةٌ
مِنْهَا : مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ وَالْمُتَأَخِّرِ .
وَهَذَا مَجْهُولٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ،
فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى ،
وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك } قَالَ
قَوْمٌ : مَعْنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك ، وَالْبَعْضُ
يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكُلِّ قَالَ الشَّاعِرُ : تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا
لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَغْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا وَيُرْوَى : أَوْ
يَرْتَبِطْ .
أَرَادَ كُلَّ النُّفُوسِ ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله
تَعَالَى : { وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ { بَعْضَ } عَلَى حَالِهَا فِي
هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجْمُ أَوْ الْحُكْمُ الَّذِي
كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الْكُلِّ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ ، وَابْنِ أُبَيٍّ ؛ وَذَلِكَ { أَنَّ
عُبَادَةَ تَبَرَّأَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
حِلْفِ قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانَ لَهُ حِلْفُهُمْ مِثْلُ مَا لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُبَيٍّ ، وَتَمَسَّكَ ابْنُ أُبَيٍّ بِهِمْ ، وَقَالَ : إنِّي رَجُلٌ
أَخَافُ الدَّوَائِرَ .
} الثَّانِي
: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَازُونَ يَهُودَ قُرَيْظَةَ
وَنَصَارَى نَجْرَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رِيفٍ ، وَكَانُوا
يَمِيرُونَهُمْ وَيُقْرِضُونَهُمْ ، فَقَالُوا : كَيْفَ نَقْطَعُ مَوَدَّةَ قَوْمٍ
إذَا أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَاحْتَجْنَا إلَيْهِمْ وَسَعَوْا عَلَيْنَا الْمَنَازِلَ
وَعَرَضُوا عَلَيْنَا الثِّمَارَ إلَى أَجَلٍ ، فَنَزَلَتْ ، وَذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ ؛ فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي أَبِي لُبَابَةَ
فَمُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى يَهُودِ [ بَنِي قُرَيْظَةَ ] إلَى حَلْقِهِ
بِأَنَّهُمْ إنْ نَزَلُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هُوَ الذَّبْحُ فَخَانَهُ ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا
إلَى ذَلِكَ فِيهِمَا .
وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ ذَكَرَ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ لَا تَخُصُّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : بَلَغَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اتَّخَذَ بِالْيَمَنِ كَاتِبًا
ذِمِّيًّا ، فَكَتَبَ إلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ ؛
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً
أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ
ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ ، وَلَا يُؤَدُّونَ
الْأَمَانَةَ ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ
ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ ، ، فَقَرَأَ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ بَيَانُ تَمَامِ
الْآيَةِ ، ثُمَّ جَاءَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى عَامَّةً فِي نَفْيِ اتِّخَاذِ
الْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ
} .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَانَ
الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ إلَى
الصَّلَاةِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ وَسَخِرُوا مِنْهُ ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ
الْأَذَانِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، أَمَّا إنَّهُ ذُكِرَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى
الِاخْتِصَاصِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ
النَّصَارَى ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ ، إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ :
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : حُرِقَ الْكَاذِبُ ،
فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَتَعَلَّقَتْ
النَّارُ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ ، وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَهُ ؛
فَكَانَتْ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ
.
وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ .
وَقَدْ كَانُوا يُمْهِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ
ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ ، يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ
وَيَنْظُرَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ ، وَإِلَّا أَغَارَ } ؛ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ
: { كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ
يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ فَيَجْتَمِعُونَ ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ ،
فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : اتَّخِذُوا
نَاقُوسًا مِثْلَ النَّصَارَى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْل قَرْنِ
الْيَهُودِ ؛ فَقَالَ عُمَرُ : أَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بِلَالُ ؛ قُمْ
فَنَادِ بِالصَّلَاةِ } .
وَفِي الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ زَيْدٍ قَالَ : { لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ فَيَجْتَمِعَ النَّاسُ
لِلصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا ، فَقُلْت لَهُ
: يَا عَبْدَ اللَّهِ ، تَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ ؟ فَقَالَ لِي : مَا تَصْنَعُ
بِهِ ؟ فَقُلْت : نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ .
قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ
ذَلِكَ ؟ فَقُلْت : بَلَى .
فَقَالَ : تَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ
أَكْبَرُ فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ .
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت ، فَقَالَ : إنَّهَا لِرُؤْيَا
حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، قُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا
رَأَيْت فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ .
فَفَعَلْت
} .
{ فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ الْأَذَانَ خَرَجَ مُسْرِعًا ،
فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ ، لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الَّذِي رَأَى .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: الْحَمْدُ لِلَّهِ } .
وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَذَانِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ
وَمَسَائِلِهِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ
.
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا
أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ
سَوَاءِ السَّبِيلِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَهَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مِنْ
طَرِيقَيْهِ : فِي التَّوْحِيدِ ، وَفِي الْعَمَلِ ؛ فَغُلُوُّهُمْ فِي
التَّوْحِيدِ نِسْبَتُهُمْ لَهُ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ ، وَغُلُوُّهُمْ فِي
الْعَمَلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ فِي التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ
وَالْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ
.
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَتَرْكَبُنَّ
سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى
لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصِّحَاحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ
امْرَأَةً مِنْ اللَّيْلِ تُصَلِّي ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قِيلَ :
الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ كُلَّهُ .
فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ : إنَّ
اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ } .
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ هَذَا
الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا
قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى }
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا أَخْبَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّا نَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَنَا
فِي سُنَنِهِ ، وَكَانَتْ الْكَفَرَةُ قَدْ شَبَّهَتْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
بِالْخَلْقِ فِي الْوَلَدِ ، وَشَبَّهَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْبَارِيَ تَعَالَى
بِالْخَلْقِ فِي مَصَائِبَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْأُصُولِ لَا تَقْصُرُ فِي
الْبَاطِلِ عَنْ الْوَلَدِ ، وَغَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الْعَمَلِ حَتَّى تَرَهَّبَتْ
وَتَرَكَتْ النِّكَاحَ ، وَوَاظَبَتْ عَلَى الصَّوْمِ ، وَتَرَكَتْ الطَّيِّبَاتِ
، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي
فَلَيْسَ مِنِّي } .
وَسَنَكْشِفُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا
بِالِاخْتِصَارِ ؛ إذْ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِالطُّولِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ،
وَخُصُوصًا فِي قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } .
وَهِيَ
: .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا
تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ
عَلِيٌّ ، وَالْمِقْدَادُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، جَلَسُوا
فِي الْبُيُوتِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِ النَّصَارَى مِنْ
تَحْرِيمِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ ، وَهَمَّ
بَعْضُهُمْ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ
مِمَّنْ حَرَّمَ النِّسَاءَ وَالزِّينَةَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَرَادُوا أَنْ
يَتَرَهَّبُوا ، وَلَا يَأْكُلُوا لَحْمًا وَلَا وَدَكًا ؛ وَقَالُوا : نَقْطَعُ
مَذَاكِيرَنَا ، وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ ، كَمَا فَعَلَ الرُّهْبَانُ .
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَنْكِحُ
النِّسَاءَ ، وَيَأْكُلُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ ، وَيُفْطِرُ
وَيَصُومُ ، وَأَنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي ، وَقَالَ لَهُمْ
: { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ ، فَشَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
.
أُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ ،
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ ،
وَآتُوا الزَّكَاةَ ، وَصُومُوا رَمَضَانَ ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا ،
وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ
} .
وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ ، رُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ
.
الثَّانِي : رُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ ، فَانْقَلَبَ ابْنُ رَوَاحَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ .
فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ : مَا عَشَّيْتِيهِ ؟ فَقَالَتْ :
كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا ، فَانْتَظَرْتُك أَنْ تَأْتِيَ .
قَالَ : حَرَمْت ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي ،
فَطَعَامُك عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته .
فَقَالَتْ هِيَ : وَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ لَمْ
تُذَقْهُ .
وَقَالَ الضَّيْفُ : هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته
إنْ لَمْ تَذُوقُوهُ .
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ رَوَاحَةَ قَالَ : قَرِّبِي
طَعَامَك ، كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ ، وَغَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْسَنْت .
وَنَزَلَتْ الْآيَةُ : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ
اللَّهُ .
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ : { فَقَالُوا :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا ، فَنَزَلَتْ : { لَا
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } } .
الثَّالِثُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
{ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي إذَا أَصَبْت اللَّحْمَ انْتَشَرْت
لِلنِّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ ، فَحَرَّمْت عَلَيَّ اللَّحْمَ ، فَنَزَلَتْ
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ } إلَى { مُؤْمِنِينَ
} } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : صَحِيحَةُ الْإِرْسَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ظَنَّ أَصْحَابُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ
طَرِيقُ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ رَفْضِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ ،
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا } فَكَانَتْ شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ
وَشَرِيعَتُنَا بِالسَّمْحَةِ الْحَنِيفِيَّةِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ
نَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّبَتُّلِ ، وَلَوْ
أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } .
وَاَلَّذِي يُوجِبُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمَ ، وَيَقْطَعُ
الْعُذْرَ ، وَيُوَضِّحُ الْأَمْرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنَبِيِّهِ :
{ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ بِفِعْلِهِ ؛ وَشَرَحَ أَنَّهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ،
وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ ، وَلَيْسَ بِتَرْكِ الْمُبَاحَاتِ ، { وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا وَجَدَهُ ،
وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ تُبْتَاعُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا ، وَيُكْثِرُ مِنْ الْوَطْءِ
، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ذَلِكَ } ، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ لِسُنَّةِ
عِيسَى فَلَيْسَ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
هَذَا إذَا كَانَ الدِّينُ قِوَامًا ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ حَرَامًا ؛ فَأَمَّا
إذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَعَمَّ الْحَرَامُ فَالتَّبَتُّلُ
وَتَرْكُ اللَّذَّاتِ أَوْلَى ، وَإِذَا وُجِدَ الْحَلَالُ فَحَالُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ وَكَانَ داتشمند رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُول : إذْ عَمَّ الْحَرَامُ وَطَبَقَ الْبِلَادَ ، وَلَمْ يُوجَدْ حَلَالٌ اُسْتُؤْنِفَ
الْحُكْمُ ، وَصَارَ الْكُلُّ مَعْفُوًّا عَنْهُ ، وَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ أَحَقَّ
بِمَا فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبَهُ .
وَأَنَا أَقُولُ : إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْقَاسٌ إذَا
انْقَطَعَ الْحَرَامُ ، فَأَمَّا وَالْغَصْبُ مُتَمَادٍ ، وَالْمُعَامَلَاتُ
الْفَاسِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ ، وَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى
حَرَامٍ فَأَشْبَهَ الْمَعَاشُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ قَدِيمُ الْمِيرَاثِ
يَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهُ ، وَمَا رَأَيْت فِي رِحْلَتِي أَحَدًا يَأْكُلُ مَالًا
حَلَالًا مَحْضًا إلَّا سَعِيدًا الْمَغْرِبِيَّ ، كَانَ يَخْرُجُ فِي صَائِفَةِ
الْخِطْمِيِّ ، فَيَجْمَعُ مِنْ زَرِيعَتِهِ قُوَّتَهُ وَيَطْحَنُهَا
وَيَأْكُلُهَا بِزَيْتٍ يَجْلِبُهُ الرُّومُ مِنْ بِلَادِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : هَذَا
عَلَيَّ حَرَامٌ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَلَالِ عَدَا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهُ كِذْبَةٌ
لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِمَّا حَرَّمَهُ .
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ ؛ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ الْمُتَقَدِّمُ .
وَفِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُمْ { أَنَّهُمْ حَلَفُوا
بِاَللَّهِ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْكَفَّارَةِ } ، فَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ
حَرَامٌ فَمَوْضِعُهَا سُورَةُ التَّحْرِيمِ ، وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ فِي
الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِعَوْنِهِ
.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا لَغْوَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ
الْمُنْفَعِلَةُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : حِسِّيٌّ
كَعَقْدِ الْحَبْلِ ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ
بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا
مُنْتَظِمًا ، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ مِنْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : صُورَةُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ
وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى هَذَا وَاحِدَةٌ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا
: قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَلْتَزِمَ بِذَلِكَ الِاحْتِفَاءِ ، وَنَكْشِفَ عَنْهُ
الْخَفَاءَ ، فَنَقُولُ : إنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ مَا قُلْنَاهُ .
وَاللَّغْوَ ضِدُّهُ وَالْيَمِينَ اللَّغْوَ سَبْعُ
مُتَعَلِّقَاتٍ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ : الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ : الْيَمِينُ
مَعَ النِّسْيَانِ ، فَلَا شَكَّ فِي إلْغَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذْ قَصَدَ زَيْدًا
فَتَلَفَّظَ بِعَمْرٍو فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ قَصْدِهِ ،
فَهِيَ لَغْوٌ مَحْضٌ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ
فَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ يُحْكَى
.
وَالْمُتَعَلِّقُ الثَّالِثُ : فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ
عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا ، فَيَنْزِلْ بِهِ كَذَا ، فَهَذَا قَوْلٌ
لَغْوٌ فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ فِي الْعَقْدِ
مَكْرُوهٌ ، وَرُبَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا
يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ ، فَرُبَّمَا
صَادَفَ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ
إيَّاهَا } .
وَالْمُتَعَلِّقُ الرَّابِعُ : فِي يَمِينِ
الْمَعْصِيَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً ، وَالْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ مَعْصِيَةً ، وَيُقَالُ لَهُ : لَا تَفْعَلْ فَكَفَّرَ ،
فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ فَجَرَ فِي إقْدَامِهِ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ
قَصَدَ بِقَلْبِهِ الْفِعْلَ أَوْ الْكَفَّ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَأَتَّى
فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
.
وَهَذَا ظَاهِرٌ .
وَالْمُتَعَلِّقُ الْخَامِسُ : فِي يَمِينِ الْغَضَبِ
مَوْضِعُ فِتْنَةٍ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ : يَمِينُ الْغَضَبِ لَا
يَلْزَمُ ، وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثٍ يُرْوَى : { لَا يَمِينَ فِي
إغْلَاقٍ } ، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ، وَالْإِغْلَاقُ : الْإِكْرَاهُ ؛ لِأَنَّهُ
تُغْلِقُ الْأَبْوَابَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَتَرُدُّهُ إلَى مَقْصِدِهِ ، وَقَدْ { حَلَفَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِلَ
الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنِّي
لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي } .
وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ جِدًّا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ : لَا
وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ
.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
نَزَلَتْ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } فِي
قَوْلِ الرَّجُلِ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ .
قُلْنَا : هَذَا صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَكْثَرَ
الرَّجُلُ فِي يَمِينِهِ مِنْ قَوْلِ
: لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، عَلَى
أَشْيَاءَ يَظُنُّهَا كَمَا قَالَ ، فَتَخْرُجُ بِخِلَافِهِ .
أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ ، فَهِيَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ :
قِسْمًا يُظَنُّ وَقِسْمًا يُعْقَدُ ، فَلَا يُؤَاخَذُ مِنْهَا فِيمَا وَقَعَ
عَلَى ظَنٍّ ، وَيُؤَاخَذُ فِيمَا عَقَّدَ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ
أَحَدٌ أَنَّ قَوْلَهُ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى
وَاَللَّهِ ، فِيمَا يَعْتَقِدُهُ وَيُعَقِّدُهُ أَنَّهُ لَغْوٌ ، وَهُوَ
مَنْهِيٌّ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِيهِ وَالتَّهَافُتِ بِهِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ } فَنُهِيَ عَنْهَا وَلَا يُؤَاخَذُ إذَا فَعَلَهَا .
هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ الْقَوْلُ اللَّغْوُ ،
وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَأَنَّهُ
الْيَمِينُ عَلَى ظَنٍّ يَخْرُجُ بِخِلَافِهِ .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي أَيِّ قِسْمٍ هِيَ ؟ : قُلْنَا هِيَ مَسْأَلَةٌ
عُظْمَى وَدَاهِيَةٌ كُبْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ، وَقَدْ أَفَضْنَا
فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
وَوَجْهُ إشْكَالِهَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لَا
كَفَّارَةَ فِيهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ ، فَلَا تَقَعُ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ
، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ الْمُنْعَقِدَةِ ،
تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ
.
وَحَلُّهُ طَوِيلٌ ؛ اخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ وَرَدَتْ
بِقِسْمَيْنِ : لَغْوٌ ، وَمُنْعَقِدَةٌ خَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي أَيْمَانِ
النَّاسِ ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَلَا يَرْضَى بِهَا ذُو دِينٍ أَوْ
مُرُوءَةٍ ، وَيَحِلُّ الْإِشْكَالُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ
الْكَفَّارَةَ عَلَى قِسْمَيْ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ ، فَدَعْ مَا بَعْدَهَا
يَكُونُ مِائَةَ قِسْمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُنْعَقِدَةٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ
بِالْقَلْبِ ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى .
قُلْنَا : عَقْدُ الْقَلْبِ إنَّمَا يَكُونُ عَقْدًا
إذَا تُصُوِّرَ حِلُّهُ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي صَوَّرَهُ
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَوْجُودٌ فِي يَمِينِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا
كَفَّارَةَ فِيهَا ؛ فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِي
الْكَفَّارَةِ ، هَذَا وَقَدْ فَارَقَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الْحِلَّ .
وَكَيْفَ تَنْعَقِدُ ؟ وَقَدْ مَهَدْنَا الْقَوْلَ
فِيهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي حَقِيقَةِ الْيَمِينِ
: قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ ، وَهِيَ رَبْطُ الْعَقْدِ بِالِامْتِنَاعِ
وَالتَّرْكِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلٍ بِمَعْنَى مُعَظَّمٍ حَقِيقَةً أَوْ
اعْتِقَادًا .
وَالْمُعَظَّمُ حَقِيقَةً ، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا
دَخَلْت الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ
.
وَالْمُعَظَّمُ اعْتِقَادًا ، كَقَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ .
وَالْحُرِّيَّةُ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَهُ ، لِاعْتِقَادِهِ
عَظِيمَ مَا يَخْرُجُ عَنْ يَدِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ .
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } .
فَسَمَّى الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَالِفًا .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ :
إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ،
وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ النَّذْرِ لَا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ .
وَالنَّذْرُ يَمِينٌ حَقِيقَةً ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَفَّارَةُ النَّذْرِ
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : أَقْسَمْت
عَلَيْك ، أَوْ أَقْسَمْت لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا
إذَا قَصَدَ بِاَللَّهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُذْكَرَ
بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ ،
فَلَا يَكُونُ يَمِينًا .
قُلْنَا :
إنْ كَانَ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ فَقَدْ نَوَاهُ ،
وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ
امْرِئٍ مَا نَوَى } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ
تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فَهِيَ يَمِينٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قَالَ : وَعِلْمِ
اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا .
وَظَنَّ قَوْمٌ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَهُ
أَنَّهُ يُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ قَالَ : إذَا حَلَفَ : وَقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتْ يَمِينًا .
وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ ، وَهُوَ الْمُحْدَثُ ، فَلَا
يَكُونُ يَمِينًا ، وَذُهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ أَيْضًا تَنْطَلِقُ عَلَى
الْمَقْدُورِ ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي
الْمَعْلُومِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ
بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ : وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ :
إذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛
لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ ، فَلَزِمَتْهُ
الْكَفَّارَةُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ : { مَنْ كَانَ
حَالِفًا فَلِيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَلِأَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ
بِمَنْ قَالَ : وَآدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ،
وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَقَّدْتُمْ
الْأَيْمَانَ } فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتِ : عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ ،
وَعَقَدْتُمْ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ ، وَعَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ .
فَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ أَضْعَفُهَا رِوَايَةً
وَأَقْوَاهَا مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ فَعَلْتُمْ مِنْ الْعَقْدِ ، وَهُوَ
الْمَطْلُوبُ .
وَإِذَا قُرِئَ عَاقَدْتُمْ فَهُوَ فَاعَلْتُمْ ،
وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مِنْ حَلَفَ
لِأَجْلِهِ فِي كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ ، وَقَدْ يَعُودُ ذَلِكَ إلَى الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رَبَطَ بِهِ الْيَمِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى
فَعَلَ ، كَقَوْلِك : طَارَقَ النَّعْلَ ، وَعَاقَبَ اللِّصَّ ، فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ فِي اللِّصِّ خَاصَّةً
.
وَإِذَا قَرَأَ عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ فَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: قَالَ مُجَاهِدٌ : تَعَمَّدْتُمْ
.
الثَّانِي : قَالَ الْحَسَنُ : مَعْنَاهُ مَا تَعَمَّدْت
بِهِ الْمَأْثَمَ فَعَلَيْك فِيهِ الْكَفَّارَةُ .
الثَّالِثُ :
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا كَرَّرَ
الْيَمِينَ .
الرَّابِعُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : التَّشْدِيدُ
لِلتَّأْكِيدِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ :
مَا تَعَمَّدْتُمْ فَهُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي مَا قَصَدْتُمْ إلَيْهِ احْتِرَازًا
مِنْ اللَّغْوِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ مَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ
الْمَأْثَمَ فَيَعْنِي بِهِ مُخَالَفَةَ الْيَمِينِ ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ
الْكَفَّارَةُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَسَنَانِ يَفْتَقِرَانِ إلَى تَحْقِيقٍ ،
وَهُوَ بَيَانُ وَجْهِ التَّشْدِيدِ ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى
التَّكْرَارِ ، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ لِضَعْفِهِ .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { وَإِنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ
فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت
عَنْ يَمِينِي } .
فَذَكَرَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي
الْيَمِينِ الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ : إنَّ التَّشْدِيدَ فِي
التَّأْكِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى تَكْرَارِ الصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا : "
وَاَللَّهِ " يَقْتَضِي جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ
الْعُلْيَا ، فَإِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ :
وَاَللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ التَّغْلِيظِ
بِالْأَلْفَاظِ ؟ قُلْنَا : لَا تَغْلِيظَ عِنْدَنَا بِالْأَلْفَاظِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَإِنْ غَلَّظْنَا فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا
لَيْسَ بِمُغَلَّظٍ لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْإِرْهَابِ عَلَى
الْحَالِفِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ اللَّهَ تَعَالَى حَدَثَ لَهُ
غَلَبَةُ حَالٍ مِنْ الْخَوْفِ ، وَرُبَّمَا اقْتَضَتْ لَهُ رَعْدَةً ، وَقَدْ
يَرْهَبُ بِهَا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ : { وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } فَأَرْهَبَ عَلَيْهِمْ
بِالتَّوْحِيدِ ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ .
وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّشْدِيدَ
عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْقِدُ عَلَى الْمَعْنَى بِالْقَصْدِ
إلَيْهِ ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ الْحَلِفَ بِقَصْدٍ آخَرَ ، فَهَذَا هُوَ الْعَقْدُ
الثَّانِي الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّكْرَارُ أَوْ التَّأْكِيدُ ، بِخِلَافِ
اللَّغْوِ فَإِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ وَفَاتَهُ التَّأْكِيدُ بِالْقَصْدِ
الصَّحِيحِ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : الْيَمِينُ لَا يَقْتَضِي
تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقْتَضِي تَحْرِيمَ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَلْخِيصِ
الطَّرِيقَتَيْنِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْخُرَاسَانِيَّة عَلَى التَّمَامِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَالَ : حَرَّمْت
عَلَى نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ
؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ .
وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ أَبِي
حَنِيفَةَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ مُرَكَّبَةٌ عَلَى الْيَمِينِ أَنْكَرُوا لَهُ
أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ ، وَكَانَ هَذَا لِأَنَّ النُّظَّارَ تَحْمِلُهُمْ
مُقَارَعَةُ الْخُصُومِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُنَاقَضَاتِ وَتَرْكِ
التَّحْقِيقِ ، وَالنَّظَّارُ الْمُحَقِّقُ يَتَفَقَّدُ الْحَقَائِقَ ، وَلَا
يُبَالِي عَلَى مَنْ دَار النَّظَرُ ، وَلَا مَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبٍ .
وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ
فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ مَنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يُكَفِّرَ ، فَإِنْ
أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا ؛
وَالِامْتِنَاعُ هُوَ التَّحْرِيمُ بِعَيْنِهِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى هُوَ الْمُحَرِّمُ
وَهُوَ الْمُحَلِّلُ ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً كَمُحَرَّمَاتِ
الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ يُعَلِّقُهَا عَلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِ
الْمُكَلَّفِينَ ، كَتَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ ، وَالتَّحْرِيمِ
بِالْيَمِينِ .
وَيَرْفَعُ التَّحْرِيمُ الْكَفَّارَةَ مَفْعُولَةً أَوْ
مَعْزُومًا عَلَيْهَا .
وَيَرْفَعُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ النِّكَاحَ بِحَسَبِ
مَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَبَيَّنَ مِنْ الشُّرُوطِ .
هَذَا لُبَابُهُ ، وَتَمَامُهُ فِي التَّلْخِيصِ ، فَلْيُنْظَرْ
فِيهِ [ بَاقِي قِسْمَيْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ فِيهِ لَغُنْيَةُ الْأَلْبَابِ ] .
وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا
قَدْ اجْتَمَعُوا وَاعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْأَطَايِبِ
مِنْ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ مِنْ الثِّيَابِ وَاللَّذَّةِ مِنْ النِّسَاءِ
حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَلِأَجْلِهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ ؛ وَإِنْ كَانُوا
لَمْ يَحْلِفُوا ، وَلَكِنَّهُمْ اعْتَقَدُوا ، فَقَدْ دَخَلَتْ مَسْأَلَتُهُمْ
فِي قِسْمِ اللَّغْوِ ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُلْحِقَ قَوْلَهُ :
حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ ، بِقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت ،
تَبَيَّنَ لَكُمْ نُقْصَانُ هَذَا الْإِلْحَاقِ وَفَسَادُهُ ؛ لِأَنَّهُ
بِالْيَمِينِ حَرَّمَ وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا
قَالَ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ ، فَتَحْرِيمُهُ وَحْدَهُ دُونَ ذِكْرِ
اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ يَلْحَقُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ اللَّهِ
تَعَالَى بَعْدَ إسْقَاطِهِ هَذَا الْإِلْحَاقَ ؟ لَا يَخْفَى تَهَاتُرُهُ عَلَى
أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ : إذَا لَمْ يُؤَكِّدْ الْيَمِينَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، وَإِذَا
أَكَّدَهَا أَعْتَقَ رَقَبَةً .
قِيلَ لِنَافِعٍ : مَا التَّأْكِيدُ ؟ قَالَ : أَنْ
تَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مِرَارًا ؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يَشْهَدُ لَهُ شَيْءٌ
مِنْ الْأَثَرِ وَلَا مِنْ النَّظَرِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ كَمَا
قَدَّمْنَا حَلَّتْهَا الْكَفَّارَةُ أَوْ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَكِلَاهُمَا
رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
.
فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهُ
يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ نَسْقًا عَلَيْهَا لَا يَكُونُ
مُتَرَاخِيًا عَنْهَا .
الثَّانِي : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : يَكُونُ
مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اعْتِقَادًا أَوْ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْهَا ، فَإِنْ بَدَا
لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُدْرِكُ الْيَمِينَ
الِاسْتِثْنَاءَ [ وَلَوْ ] بَعْدَ سَنَةٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَعَلَّقَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ }
إلَى آخِرِ الْآيَةِ إلَى قَوْلِهِ : { مُهَانًا } فَإِنَّهَا نَزَلَتْ ، فَلَمَّا كَانَ
بَعْدَ عَامٍ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى :
{ إلَّا مَنْ تَابَ } .
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ يَحِلُّ الْيَمِينَ بَعْدَ عَقْدِهَا [ أَوْ
يَمْنَعُهَا مِنْ الِانْعِقَادِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِحِلِّ
الْيَمِينِ ] ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
إنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهَ
} [ فَجَاءَ ] فِيهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ
الْيَمِينِ لَفْظًا فَكَذَلِكَ يَكُونُ عَقْدًا .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخَارِجٌ عَنْ
اللُّغَةِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ تَابَ }
فَإِنَّ الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي
لَوْحِهِ ؛ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهَا لِحِكْمَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى
ذَلِكَ فِيهَا ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ؛ أَمَّا إنَّهُ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا
فَرْعٌ حَسَنٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت
الدَّارَ ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ، وَاسْتَثْنَى فِي
يَمِينِهِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ ، وَاسْتَثْنَى فِي
الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا مَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ
الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ لِمُدَّةٍ وَلِسَبَبٍ أَوْ
لِمَشِيئَةِ أَحَدٍ ، وَلَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ إرْهَابًا
عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ
الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي الطَّلَاق مَا لَمْ تَحْضُرْهُ الْبَيِّنَةُ ،
فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ ، لِئَلَّا يَكُونَ
نَدَمًا .
وَقَدْ تَيَقَّنَّا التَّحْرِيمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ،
فَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاءَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِعًا
لَهُ وَحْدَهِ إذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا .
نُكْتَةٌ : كَانَ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرَاغِيُّ
يَقْرَأُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ، فَكَانَتْ الْكُتُبُ تَأْتِي إلَيْهِ مِنْ
بَلَدِهِ ، فَيَضَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ ، وَلَا يَقْرَأُ مِنْهَا وَاحِدًا
مَخَافَةَ أَنْ يَطَّلِعَ فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجُهُ أَوْ يَقْطَعُ بِهِ عَنْ
طَلَبِهِ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ ، وَقَضَى غَرَضًا مِنْ
الطَّلَبِ ، وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ شَدَّ رَحْلَهُ ، وَأَبْرَزَ كُتُبَهُ ،
وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِلِ وَقَرَأَ مِنْهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدَةً
مِنْهَا قَرَأَهَا فِي وَقْتِ وُصُولِهَا مَا تَمَكَّنَ بَعْدَهَا مِنْ تَحْصِيلِ
حَرْفٍ مِنْ الْعِلْمِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ
قاشه ، وَخَرَجَ إلَى بَابِ الْحَلْبَةِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ ، وَتَقَدَّمَهُ
الْكَرِيُّ بِالدَّابَّةِ ، وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيٍّ يَبْتَاعُ مِنْهُ
سُفْرَتَهُ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ إذْ سَمِعَهُ يَقُولُ
لِفَامِيٍّ آخَرَ : أَيْ فُلَ ، أَمَا سَمِعْت الْعَالِمَ يَقُولُ يَعْنِي
الْوَاعِظَ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ
، لَقَدْ اشْتَغَلَ بَالِي بِذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ سَمِعْته يَقُولُهُ :
وَظَلَلْتُ فِيهِ مُتَفَكِّرًا ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } .
وَمَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ
حِينَئِذٍ : قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ فَلَمَّا سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ قُلْت :
بَلَدٌ يَكُونُ الْفَامِيُّونَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ
الْمَرْتَبَةِ أَخْرُجُ عَنْهُ إلَى الْمَرَاغَةِ ؟ لَا
أَفْعَلُهُ أَبَدًا ؛ وَاقْتَفَى أَثَرَ الْكَرِيِّ ، وَحَلَّلَهُ مِنْ الْكِرَاءِ
، وَصَرَفَ رَحْلَهُ .
وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي الْأَفْضَلِ
: مِنْ اسْتِمْرَارِ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ أَوْ الْحِنْثِ إلَى الْكَفَّارَةِ :
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ
عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ عَنْهَا كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ
عَلَيْهِ } .
وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْتِيَ أَمْرًا لَا يَجُوزُ فَالْبِرُّ وَاجِبٌ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي الصَّحِيحَيْنِ حِينَ { نَبَذَ
خَاتَمَ الذَّهَبِ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَلْبَسُهُ أَبَدًا } .
وَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَكْرُوهٍ فَالْبِرُّ مَكْرُوهٌ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى وَاجِبٍ عَصَى وَالْحِنْثُ وَاجِبٌ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ
إلَيْهِ : فَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ مُضِرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ .
وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ مَنْفَعَةٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ
الْحِنْثُ .
وَفِيهِ جَاءَ قَوْلُهُ : { لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ
فِي أَهْلِهِ بِيَمِينِهِ } إلَى آخِرِهِ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ
عَلَى الْحِنْثِ : لِعُلَمَائِنَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا يَجُوزُ ذَلِكَ
لَهُ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ
.
وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : لَا يَجُوزُ ؛
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
.
وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ قَدْ أَفَضْنَا فِيهَا عِنْدَ
ذِكْرِنَا مَسَائِلَ الْخِلَافِ بِالتَّحْقِيقِ الْكَامِلِ ، وَهَا هُنَا مَا
يَحْتَمِلُ بَعْضَ ذَلِكَ ، فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ
الْقُرْآنِ : قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } ، فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ
الْحَلِفُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَّا وَمِنْهُمْ :
مَعْنَاهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ
لِرَفْعِ الْإِثْمِ ، وَمَا لَمْ يَحْنَثْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَا يُرْفَعُ ،
فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ الْمُسْتَقْبَلَ
، وَإِنَّمَا تَرْفَعُ الْمَاضِيَ مِنْ الْإِثْمِ ، فَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه
ظَاهِرُ قَوْلِنَا : الْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تُقَدَّرُ
الْآيَةُ بِقَوْلِهِ : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
وَحَنِثْتُمْ .
وَتَعَلَّقَ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّقْدِيمَ بِأَنَّ
الْيَمِينَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : {
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } فَأَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى
الْيَمِينِ .
وَالْمَعَانِي تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَأَكَّدُوا
ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّ الْحِنْثَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ،
كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا جَاءَ فُلَانٌ غَدًا مِنْ سَفَرِهِ ، وَلَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ
غَدًا .
الثَّانِي : أَنَّ شُهُودَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ
عَلَى الزَّوْجِ إذَا رَجَعُوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّدَاقُ ، وَلَوْلَا كَوْنُ
الْيَمِينِ سَبَبًا مَا ضَمِنُوا مَا لَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالتَّفْوِيتِ ؛ لِأَنَّ
التَّفْوِيتَ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ
الْحِنْثُ لَا بِالْيَمِينِ .
وَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي حَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنْ النَّظَرِ فِي
الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى ، وَهِيَ الْمَحِلُّ الثَّانِي ، فَوَجَدْنَا
الْآثَارَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ مُخْتَلِفَةً فِي ذَلِكَ : رَوَى أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ، وَسَمُرَةُ بْنُ
جُنْدُبٍ قَالَ أَبُو مُوسَى : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { وَإِنِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى غَيْرَهَا
خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ، وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } .
وَقَدْ رُوِيَ لَنَا { فَلِيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ
وَلْيَفْعَلْ } .
قَالَ عَدِيٌّ : فَلْيُكَفِّرْهَا وَلِيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ ؛ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْحِنْثِ أَوْلَى ؛
لِأَنَّا إذَا رَدَدْنَا حَدِيثَ تَقْدِيمِ الْحِنْثِ إلَى حَدِيثِ تَقْدِيمِ
الْكَفَّارَةِ يُسْقِطُهُ ، وَرَدُّ حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إلَى
تَقْدِيمِ الْحِنْثِ يُثْبِتُهُمَا جَمِيعًا .
وَأَمَّا الْمَعَانِي فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ ، فَمَنْ
أَرَادَ التَّلْخِيصَ مِنْهَا فَلْيَنْظُرْهَا فِي التَّلْخِيصِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : ذَكَرَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ الْخِلَالَ الثَّلَاثَ مُخَيِّرًا فِيهَا ،
وَعَقَّبَ عِنْدَ عَدَمِهَا بِالصِّيَامِ فَالْخُلَّةُ الْأُولَى هِيَ
الْإِطْعَامُ ، وَبَدَأَ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ الْأَفْضَلَ فِي بِلَادِ
الْحِجَازِ لِغَلَبَةِ الْحَاجَةِ فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ ، وَعَدَمِ شِبَعِهِمْ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى
التَّخْيِيرِ ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ خِلَالِهَا .
وَعِنْدِي أَنَّهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ ؛ فَإِنْ
عَلِمْت مُحْتَاجًا فَالْإِطْعَامُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّك إذَا أَعْتَقْت لَمْ
تَرْفَعْ حَاجَتَهُمْ وَزِدْت مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ
الْكِسْوَةُ تَلِيه ، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ [ غَلَبَةَ ] الْحَاجَةِ بَدَأَ
بِالْمُهِمِّ الْمُقَدَّمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَقَوْلُهُ : { تُطْعِمُونَ }
يَحْتَمِلُ طَعَامَهُمْ بَقِيَّةَ عُمْرِهِمْ ، وَيَحْتَمِلُ غَدَاءً وَعَشَاءً ؛
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَكْلَةِ الْيَوْمِ وَسَطًا فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ وَشِبَعًا فِي غَيْرِهَا ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ :
تَتَقَدَّرُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِي الْبُرِّ بِنِصْفِ صَاعٍ ، وَفِي التَّمْرِ
وَالشَّعِيرِ بِصَاعٍ .
وَأَصْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَسَطَ
فِي لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَعْلَى وَالْخِيَارِ ، وَمِنْهُ
قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أَيْ عُدُولًا
خِيَارًا .
وَيَنْطَلِقُ عَلَى مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ ،
وَنِصْفًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ ، وَإِلَيْهِ يُعْزَى الْمِثْلُ الْمَضْرُوبُ :
" خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا
" .
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ
بِمَعْنَى الْخِيَارِ هَاهُنَا مَتْرُوكٌ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ
الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً
عَادَةً ، وَمِنْهُ مَنْ قَدَّرَهَا كَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ
عَلَى ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ صَغِيرٍ قَالَ : { قَامَ
فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَطِيبًا ، فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ
صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ } ،
وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَانُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ صَاعٌ مِنْ الْكُلِّ
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَشْهُورٌ .
وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ
الْوَسَطُ مِنْ الْجِنْسِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَإِنَّمَا يُخْرِجُ الرَّجُلُ مِمَّا يَأْكُلُ .
وَقَدْ زَلَّتْ هَاهُنَا جُمْلَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛
فَقَالُوا : إنَّهُ إذَا كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَأْكُلُ النَّاسُ الْبُرَّ
فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ، وَهَذَا سَهْوٌ بَيِّنٌ ، فَإِنَّ
الْمُكَفِّرَ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إلَّا الشَّعِيرَ لَمْ
يُكَلَّفْ أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ } .
فِي مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ
أَكْثَرَ مِنْ الْبُرِّ ، وَالْبُرُّ أَكْثَرَ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ ،
فَإِنَّمَا فَصَّلَ ذِكْرَهُمَا لِيُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ فَرْضَهُ مِمَّا يَأْكُلُ
مِنْهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ وَالْقَدْرَ
جَمِيعًا ، وَذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ الْعَدْلُ مِنْ الْقَدْرِ
.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ .
وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ مُجْمَلُ قَوْلِهِ : صَدَقَةٌ
، وَلَمْ يُجْمِلْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ،
بَلْ قَالَ { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وَقَدْ كَانَ
عِنْدَهُمْ جِنْسُ مَا يُطْعِمُونَ وَقَدْرُهُ مَعْلُومًا ، وَوَسَطُ الْقَدْرِ
مُدٌّ ، وَأَطْلَقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَالَ : { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ
مِسْكِينًا } .
فَحُمِلَ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَهَذِهِ سَبِيلُ مَهْيَعٌ
، وَلَمْ
يُرَدَّ مُطْلَقُ ذَلِكَ إلَى مُقَيَّدِهِ ، وَلَا عَامُّهُ إلَى خَاصِّهِ ، وَلَا
مُجْمَلُهُ إلَى مُفَسَّرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَا بُدَّ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَسَاكِينِ مَا يَخْرُجُ
لَهُمْ ، وَدَفْعِهِ إلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ
جَازَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ؛ وَهِيَ
طُيُولِيَةٌ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ
: إنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الطَّعَامِ إطْعَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } .
فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَةِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَالَ : إنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ
التَّمْلِيكُ حَقِيقَةً قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ } ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ( أَطْعَمَ
) مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى مَفْعُولَيْنِ ، كَقَوْلِنَا
أَعْطَيْته ، فَيَقُولُ : طَعِمَ زَيْدٌ ، وَأَطْعَمْته أَيْ جَعَلْته يَطْعَمُ ،
وَحَقِيقَتُهُ بِالتَّمْلِيكِ هَذِهِ بِنِيَّةِ النَّظَرِ لِلْفَرِيقَيْنِ .
وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ
لِلْوَجْهَيْنِ ، فَمَنْ يَدَّعِي التَّمْلِيكَ هُوَ الَّذِي يُخَصِّصُ الْعُمُومَ
فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ، وَنَخُصُّهُ نَحْنُ بِالْقِيَاسِ حَمْلًا عَلَى زَكَاةِ
الْفِطْرِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ } .
فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ .
وَهَذَا بَالِغٌ ، وَلَا سِيَّمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ
الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ التَّامُّ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الْمِسْكِينُ
مِنْ الطَّعَامِ تَمَكُّنَ الْمَالِكِ ، كَالْكِسْوَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا
أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَفَّارَةِ الْمَدْفُوعَةِ إلَى الْمِسْكِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ
فِيهَا إلَّا التَّمْلِيكُ ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَفَعَهَا
إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُجْزِيهِ ، وَكَذَلِكَ فِي
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَتَعَلَّقَ بِالْآيَةِ وَهِيَ عَكْسُ الْأُولَى ؛
لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعَهُمْ ، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إلَى تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ
، وَمَعَنَا نَحْنُ ظَاهِرُ الْعَدَدِ وَذِكْرُهُ وَهُمْ يُحَاوِلُونَ إسْقَاطَهُ
بِالْمَعْنَى .
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : {
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
} .
فَذَكَرَ الْإِطْعَامَ وَالْمَطْعُومَ فَتَعَيَّنَا .
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامَ
سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قُلْنَا :
الْإِطْعَامُ مَصْدَرٌ ، وَالْمَصْدَرُ مُقَدَّرٌ مَعَ
الْفِعْلِ ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّحْرِيرِ وَالصِّيَامِ ، وَكَذَلِكَ هُنَا ،
وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ
مِسْكِينًا ، كَلَامُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِاللِّسَانِ ؛ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ
يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ ، وَلَا يَنْتَظِمُ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ
، بِخِلَافِ مَفْعُولَيْ ظَنَنْت ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ فِيهِ
الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَلَا يَجُوزُ فِي مَفْعُولَيْ ظَنَنْت أَنْ
يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَصْلًا ، فَإِنْ صَرَّحَ بِأَحَدِهِمَا وَتَرَكَ
الْآخَرَ فَهُوَ مُضْمَرٌ ؛ فَأَمَّا أَنْ يُقَدِّرَ مَا أَضْمَرَ وَيُسْقِطَ مَا
صَرَّحَ فَكَلَامٌ غَبِيٌّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ
كِسْوَتُهُمْ } قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ مَا يَقَعُ
عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَقَلُّ مَا تُجْزِئُ فِيهِ
الصَّلَاةُ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ ، وَبِهِ
قَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُغِيرَةُ : مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَعَلَّ قَوْلَ الْمُخَالِفِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ
الِاسْمُ يُمَاثِلُ مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ فَإِنَّ مِئْزَرًا وَاحِدًا
تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، وَيَقَعُ بِهِ الِاسْمُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَقَلِّ .
وَمَا كَانَ أَحَرَصَنِي عَلَى أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ
لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا كِسْوَةٌ تَسْتُرُ عَنْ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ،
كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ طَعَامًا يُشْبِعُهُ مِنْ الْجُوعِ فَأَقُولُ بِهِ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِمِئْزَرٍ وَاحِدٍ فَلَا أَدْرِيه ،
وَاَللَّهُ يَفْتَحُ لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ بِمَعُونَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : لَا تُجْزِئُ
الْقِيمَةُ عَنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
تُجْزِئُ ، وَهُوَ يَقُولُ : تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الزَّكَاةِ ، فَكَيْفَ فِي
الْكَفَّارَةِ ؟ وَعُمْدَتُهُ أَنَّ الْغَرَضَ سَدُّ الْخُلَّةِ ، وَرَفْعُ
الْحَاجَةِ ، فَالْقِيمَةُ تُجْزِئُ فِيهِ .
قُلْنَا : إنْ نَظَرْتُمْ إلَى سَدِّ الْخُلَّةِ
فَأَيْنَ الْعِبَادَةُ ؟ وَأَيْنَ نَصُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَعْيَانِ الثَّلَاثَةِ
وَالِانْتِقَالُ بِالْبَيَانِ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ ؛ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ
الْقِيمَةَ لَكَانَ فِي ذِكْرِ نَوْعٍ وَاحِدٍ مَا يُرْشِدُ إلَيْهِ وَيُغْنِي
عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَفَعَ
الْكِسْوَةَ إلَى ذِمِّيٍّ أَوْ الطَّعَامَ لَمْ يُجْزِهِ : وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : يُجْزِئُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسْكَنَةِ ،
وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ ، فَعَلَيْنَا التَّخْصِيصُ ،
فَتَخْصِيصُهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ : هُوَ كَافِرٌ ، فَلَا
يَسْتَحِقُّ فِي الْكَفَّارَةِ حَقًّا كَالْحَرْبِيِّ .
أَوْ نَقُولَ : جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ يَجِبُ إخْرَاجُهُ
لِلْمَسَاكِينِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ ، أَصْلُهُ الزَّكَاةُ .
وَقَدْ اتَّفَقْنَا مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
دَفْعُهَا لِلْمُرْتَدِّ ، فَكُلُّ دَلِيلٍ خَصَّ بِهِ الْمُرْتَدَّ فَهُوَ
دَلِيلُنَا فِي الذِّمِّيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى
{ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } : سَمِعْت ، عَنْ الْبَائِسِ أَنَّهُ قَالَ :
يُجْزِئُ الْمَعِيبُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا
يُفْسِدُ جَارِحَةً ، وَلَا مُعْظَمَ مَنْفَعَتِهَا ، كَثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ
كَفٍّ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ الْعَيْبَ الْمُطْلَقَ فَقَدْ خَسِرَتْ
صَفْقَتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا
مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَأً مُسْلِمًا إلَّا كَانَ فِكَاكُهُ مِنْ
النَّارِ ، كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِعُضْوٍ حَتَّى الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ } ؛
وَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعِيبَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَلَا
تَكُونُ كَافِرَةً ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهَا ؛ لِأَنَّهَا
قُرْبَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحِلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي التَّلْخِيصِ ، وَهِيَ
طُيُولِيَةٌ فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله
تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
} الْمُعْدَمُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ : إمَّا لِمَغِيبِ الْمَالِ عَنْ الْحَالِفِ ،
أَوْ لِعَدَمِ ذَاتِ الْيَدِ ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَغِيبِ الْمَالِ فَحَيْثُ كَانَ
ثَاوِيًا كَانَ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، وَوَجَدَ مِنْ
يُسَلِّفُهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُسَلِّفُهُ
اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ : يَنْتَظِرُ إلَى بَلَدِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ ؛
بَلْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ
إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ ، وَالشَّرْطُ
مِنْ الْعَدَمِ قَدْ تَحَقَّقَ ، فَلَا وَجْهَ لِتَأْخِيرِ الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : فِي
تَحْدِيدِ الْعَدَمِ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ لَمْ يَجِدْ : مَنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ
.
وَقَالَ الْحَسَنُ : دِرْهَمَانِ .
وَقِيلَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ
مَالِهِ الَّذِي يَعِيشُ مِنْهُ مَعَ عِيَالِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ .
وَقِيلَ :
مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قُوتُ يَوْمِهِ
وَلَيْلَتِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ ؛ فَهَذِهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلٌ يَقُومُ عَلَيْهِ ، وَلَا
سِيَّمَا مَنْ قَالَ بِدِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَطْعَمَ
كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ جُمُعَةٍ مِسْكِينًا حَتَّى يُتِمَّ كَفَّارَتَهُ .
وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَلَا يُعْطِيهَا إلَّا مَنْ كَانَ
لَهُ فَوْقَ قُوتِ سَنَةٍ .
وَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَقَدْ تَفَطَّنَ مَالِكٌ
لِلْحَقِّ ، فَقَالَ : إنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَقَبَةً أَوْ دَارًا لَا
فَضْلَ فِيهِمَا ؛ أَوْ عَرَضًا ثَمَنَ رَقَبَةٍ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقُ ،
فَذَكَرَ الدَّارَ وَالْعَرَضَ وَالرَّقَبَةَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ رَمَقًا ، لَكِنْ
لَمْ يَذْكُرْ مَا مَعَهُ غَيْرُهُمَا ، هَلْ يُعْتِقُ الرَّقَبَةَ الَّتِي
كَانَتْ تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا وَكَسْبِهَا أَمْ عِنْدَهُ فَضْلٌ غَيْرُهَا ؟
فَإِنْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ
تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا فَلَا سَبِيلَ إلَى عِتْقِهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ التَّفْصِيلِ ذَلِكَ
عَلَى التَّرَاخِي ، وَلَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ فَلْيَتَرَيَّثْ فِي ذَلِكَ حَتَّى
يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ .
أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ أَوْ يُؤْثِرَ
الْعِتْقَ ، أَوْ الْإِطْعَامَ بِسَبَبٍ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ
مُتَتَابِعَاتٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُجْزِئُ
التَّفْرِيقُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، إذْ التَّتَابُعُ صِفَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا
بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ ، وَقَدْ عُدِمَا فِي مَسْأَلَتِنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : يُعْطَى فِي الْكَفَّارَةِ الْخُبْزُ ، وَالْإِدَامُ زَيْتٌ أَوْ
كِشْكٌ أَوْ كَامِخٌ أَوْ مَا تَيَسَّرَ ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَا أَرَاهَا
عَلَيْهِ وَاجِبَةً .
أَمَّا إنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَعَ
الْخُبْزِ السُّكَّرَ نَعَمْ وَاللَّحْمَ ، وَأَمَّا تَضْمِينُ الْإِدَامِ لِلطَّعَامِ
مَعْنًى يَتَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : بَدَأَ اللَّهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْأَهْوَنِ
؛ لِأَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ ، فَإِذَا شَاءَ انْتَقَلَ إلَى الْأَعْلَى
وَهُوَ الْإِعْتَاقُ ، وَبَدَأَ فِي الظِّهَارِ بِالْأَشَدِّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى
التَّرْتِيبِ ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَنْتَقِلَ لَمْ يَقْدِرْ ، وَهَذَا إنَّمَا
يَصِحُّ لَهُ تَأْوِيلًا بِالْعِرَاقِ حَيْثُ الْبُرُّ ثَلَاثُمِائَةٍ رِطْلٍ
بِدِينَارٍ إذَا طُلِبَ ، فَإِذَا زُهِدَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ .
فَأَمَّا بِالْحِجَازِ حَيْثُ الْبُرُّ فِيهِ إذَا
رَخُصَ أَرْبَعَةُ آصُعٍ وَخَمْسَةُ آصُعٍ بِدِينَارٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِيهِ
أَرْخَصُ ، وَالْحَاجَةَ إلَى الطَّعَامِ أَعْظَمُ ، فَقَدْ يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ
بِدِينَارٍ ، وَلَكِنْ يُخْرِجُهُ مِنْ الرِّقِّ إلَى الْجُوعِ ، وَيَتَفَادَى
مِنْهُ سَيِّدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } { وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ } يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : احْفَظُوهَا ، فَلَا
تَحْلِفُوا فَتَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ .
الثَّانِي : احْفَظُوهَا إذَا حَنِثْتُمْ ؛ فَبَادِرُوا
إلَى مَا لَزِمَكُمْ .
الثَّالِثُ : احْفَظُوهَا فَلَا تَحْنَثُوا ؛ وَهَذَا
إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْبُرُّ أَفْضَلَ أَوْ الْوَاجِبَ .
وَالْكُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ الْحِفْظِ صَحِيحٌ عَلَى
وَجْهِهِ الْمَذْكُورِ وَصِفَتِهِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَيْهِ ، فَلْيُرَكَّبْ عَلَى
ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا
فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْعَقْلَ وَالْمَالَ "
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } .
فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
" اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا "
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
} ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ
لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلَى قَوْلِهِ : { مُنْتَهُونَ
} ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " انْتَهَيْنَا .
انْتَهَيْنَا
" .
وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُلَاحَاةٍ جَرَتْ
بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
وَهُمَا عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا ، وَقَدْ انْتَشَيَا ،
فَتَفَاخَرَتْ الْأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ ، فَأَخَذَ الْأَنْصَارِيُّ لَحْيَيْ
جَمَلٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَفَزَرَهُ ، فَنَزَلَتْ
الْآيَةُ .
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ عِتْبَانُ
بْنُ مَالِكٍ ، رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يَجْرِيَ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنِ عِتْبَانَ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْآيَةِ كَمَا
رَوَى الطَّبَرِيُّ ، فَيُدْعَى عُمَرُ فَتُقْرَأُ عَلَيْهِ ، كَمَا رَوَى
التِّرْمِذِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ اسْمِ
الْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَصَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ .
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ : فَهُوَ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ لَا
سَبِيلَ إلَى عَمَلِهِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ
يَمُوتَ ذِكْرُهُ وَيُمْحَى رَسْمُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : {
رِجْسٌ } : وَهُوَ النَّجَسُ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ
وَرَوْثَةٍ ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : إنَّهَا
رِكْسٌ } أَيْ نَجَسٌ .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا
يُؤْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ
، كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ،
الرِّجْسِ النَّجِسِ ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ } .
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ
تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا
حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ ، فَيَكُفُّ عَنْهَا ، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ
وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاجْتَنِبُوهُ } يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ ، وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً ؛ وَهَذَا أَمْرٌ
بِاجْتِنَابِهَا ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ
الْفَلَاحُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى
رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
} .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَزَلَتْ
فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا ، فَعَبَثَ
بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، فَلَمَّا صَحَوْا ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ
آثَارَ مَا فَعَلُوا ، وَكَانُوا إخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ ،
فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ هَذَا بِي
، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ } الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
} كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ ، وَرُوِيَ : بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي
الصَّلَاةِ حِينَ أَمَّ النَّاسَ ، فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَقَالَ عُمَرُ : انْتَهَيْنَا .
حِينَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، { وَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي
سِكَكِ الْمَدِينَةِ : أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ؛ فَكُسِرَتْ
الدِّنَانُ ، وَأُرِيقَتْ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ ،
وَمَا كَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ إلَّا مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ } ، وَهَذَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا } وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ ،
وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ .
قَالَ : فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ
إلَّا الْبَلَاغُ ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ .
أَمَّا عِقَابُ التَّوْلِيَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى
الْمُرْسِلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا
وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْت سَاقِيَ
الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، فَأَمَرَ
مُنَادِيًا يُنَادِي ؛ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : اُخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا
الصَّوْتُ ؛ قَالَ : فَخَرَجْت ، فَقُلْت : هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي : أَلَا إنَّ
الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ .
فَقَالَ لِي : اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا ، وَكَانَ
الْخَمْرُ مِنْ الْفَضِيخِ .
قَالَ : فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ .
فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي
بُطُونِهِمْ .
قَالَ :
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلَى قَوْلِهِ : { الْمُحْسِنِينَ } .
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ صَحِيحًا عَنْ الْبَرَاءِ
أَيْضًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيمَنْ
شَرِبَ الْخَمْرَ ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ : إذَا مَا طَعِمُوا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ
دَلِيلًا عَلَى تَسْمِيَةِ الشُّرْبِ طَعَامًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا
مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلَى : { الْمُحْسِنِينَ }
اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : اتَّقَوْا فِي
اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ ، وَاتَّقَوْا فِي الثَّبَاتِ عَلَى
ذَلِكَ ، وَاتَّقَوْا فِي لُزُومِ النَّوَافِلِ ؛ وَهُوَ الْإِحْسَانُ إلَى آخِرِ
الْعُمْرِ .
الثَّانِي : اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي
غَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا
، ثُمَّ اتَّقَوْا فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ ، فَاجْتَنَبُوا
الْعَمَلَ الْمُحَرَّمَ .
الثَّالِثُ : اتَّقَوْا الشِّرْكَ ، وَآمَنُوا ، ثُمَّ
اتَّقَوْا الْحَرَامَ ، ثُمَّ اتَّقَوْا تَرْكَ الْإِحْسَانِ ، فَيَعْبُدُونَ
اللَّهَ ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ .
وَقَدْ صُرِفَتْ فِيهَا أَقْوَالٌ عَلَى قَدْرِ
وَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا ، وَأَشْبَهُهَا بِالْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ
الشُّرَّابَ كَانُوا يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَبِالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي
بَكْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ ،
فَكَانَ عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ أُتِيَ
بِرَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شَرِبَ ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ
يُجْلَدَ ، فَقَالَ : أَتَجْلِدُنِي ، بَيْنِي وَبَيْنَك كِتَابُ اللَّهِ " .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ
أَلَّا أَجْلِدَك ؟ " فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ ؛
فَأَنَا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا
وَآمَنُوا ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ، شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأُحُدًا
وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا
يَقُولُ " ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ
عُذْرًا لِمَنْ صَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ }
الْآيَةَ ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ
.
فَقَالَ عُمَرُ : " صَدَقْت ، مَاذَا تَرَوْنَ
" ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : " إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ
هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَعَلَى الْمُفْتَرِي جَلْدُ ثَمَانِينَ " .
[ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ] .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ : اسْتَعْمَلَ عُمَرُ قُدَامَةَ بْنَ
مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَقَدْ كَانَ يَشْهَدُ بَدْرًا ، وَهُوَ خَالُ
ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛
زَادَ الْبَرْقَانِيُّ : فَقَدِمَ الْجَارُودُ مِنْ الْبَحْرَيْنِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا ، وَإِنِّي
إذَا رَأَيْت حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى حُقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ
إلَيْك .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : " مَنْ يَشْهَدُ لِي عَلَى
مَا تَقُولُ ؟ " فَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ .
فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ : "
عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ " ؟ فَقَالَ : " لَمْ أَرَهُ
حِينَ شَرِبَ ، وَقَدْ رَأَيْته سَكْرَانَ يَقِيءُ " .
فَقَالَ عُمَرُ : " لَقَدْ تَنَطَّعْت فِي
الشَّهَادَةِ " .
ثُمَّ كَتَبَ عُمَرَ إلَى قُدَامَةَ وَهُوَ
بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ
كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ ، فَقَالَ لَهُ : أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ
فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ : " أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ " ؟
فَقَالَ الْجَارُودُ : أَنَا شَهِيدٌ
.
قَالَ : " قَدْ كُنْت أَدَّيْت الشَّهَادَةَ " .
فَسَكَتَ الْجَارُودُ ، ثُمَّ قَالَ
: لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي أَنْشُدُك اللَّهَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَمَا وَاَللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ
لِسَانَك أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ
" .
فَقَالَ الْجَارُودُ : أَمَا وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ
بِالْحَقِّ أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّك وَتَسُوءَنِي : فَتَوَعَّدَهُ عُمَرُ .
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ : " يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنْ كُنْت تَشُكُّ فِي شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ
الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ
" .
فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى هِنْدَ يَنْشُدُهَا بِاَللَّهِ ،
فَأَقَامَتْ هِنْدُ عَلَى زَوْجِهَا قُدَامَةَ الشَّهَادَةَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " يَا قُدَامَةُ ؛ إنِّي جَالِدُك " .
فَقَالَ قُدَامَةُ : وَاَللَّهِ لَوْ شَرِبْت كَمَا
تَقُولُونَ مَا كَانَ لَك أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ .
قَالَ :
" لِمَ يَا قُدَامَةُ ؟ " قَالَ : لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ إلَى : { الْمُحْسِنِينَ } .
فَقَالَ عُمَرُ : " إنَّك أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ
يَا قُدَامَةُ ؛ إذَا اتَّقَيْت اللَّهَ اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ " .
ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ : "
مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ " فَقَالَ الْقَوْمُ : لَا نَرَى أَنْ
تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا ، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ أَيَّامًا ، ثُمَّ
أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى جَلْدِهِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : "
مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ " فَقَالُوا : لَا نَرَى أَنْ
تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا .
فَقَالَ عُمَرُ : " إنَّهُ وَاَللَّهِ لَأَنْ
يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ تَحْتَ السَّوْطِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى
اللَّهَ وَهِيَ فِي عُنُقِي ، وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ " .
فَجَاءَ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ ،
فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ : " قَدْ
أَخَذْتُك بِإِقْرَارِ أَهْلِكَ ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا " .
قَالَ :
فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ ، فَأَمَرَ عُمَرُ
بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ ، فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ ، فَحَجَّا
وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ ، حَتَّى قَفَلُوا مِنْ حَجِّهِمْ ، وَنَزَلَ
عُمَرُ
بِالسُّقْيَا وَقَامَ بِهَا ؛ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ
عُمَرُ قَالَ : " عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ ، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي
بِهِ ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ
لِي : سَالِمْ قُدَامَةُ فَإِنَّهُ أَخُوكَ " .
فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ ؛
فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، فَكَانَ أَوَّلَ صُلْحِهِمَا .
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَمَا
ذُكِرَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعُمَرَ فِي
حَدِيثِ الْبَرْقَانِيِّ ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ
وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ لَا يُحَدُّ عَلَى الْخَمْرِ مَا حُدَّ أَحَدٌ ،
فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ ،
وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا عَلَى
شَجْوِهِ إلَّا بَكَيْت عَلَى عُمَرَ
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ
الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ
بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ
، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يُحْرِمْ بَعْضُهُمْ فَكَانَ إذَا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَتْ فِيهِ
أَحْوَالُهُمْ ، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ
وَمَحْظُورَاتِ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ
فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، خَاطَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا كُلَّ مُسْلِمٍ
مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
مَسَائِلِ الْأُصُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَتَهَا ،
وَأَوْضَحْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي كُلِّ آيَةٍ تَجْرِي عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ
الْمُحِلُّونَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ
.
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ، وَتَعَلَّقَ مَنْ عَمَّمَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } مُطْلَقٌ فِي الْجَمِيعِ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ خَصَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَيَبْلُوَنَّكُمْ } يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ، فَإِنَّ تَكْلِيفَ
الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَيَبْلُوَنَّكُمْ } الَّذِي يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُحِلِّ
بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَظِيفَةٍ فِي
كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ
فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : الْأَصْلُ
فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ ، وَالْإِبَاحَةُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ،
وَهَذَا يَنْعَكِسُ فَيُقَالُ : الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ
وَالتَّحْرِيمُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَلَا دَلِيلَ يُرَجَّحُ أَحَدُ
الْقَوْلَيْنِ بِهِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : لَا أَصْلَ فِي شَيْءٍ إلَّا مَا
أَصَّلَهُ الشَّرْعُ بِتِبْيَانِ حُكْمِهِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ
حِلٍّ أَوْ تَحْرِيمٍ ، وَوُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ كَرَاهِيَةٍ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ لِمَا أَكَلَهُ الْكَلْبُ مِنْ
الصَّيْدِ ، حَتَّى قِيلَ الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ .
وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ
مَشْكُوكٌ فِيهِ .
وَقُلْنَا : إنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ
فَلَا يُحَرِّمُهُ أَكْلُ الْكَلْبِ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
ثُمَّ ذَكَرْنَا التَّعَارُضَ فِيهِ وَالِانْفِصَالَ
عَنْهُ ، فَلْيُنْظَرْ فِي مَوْضِعِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ
} بَيَانٌ لِحُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ
مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } فَكُلُّ شَيْءٍ يَنَالُهُ
الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ ، أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ
، فَهُوَ صَيْدٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : [ صَيْدُ الذِّمِّيِّ ] : قَالَ مَالِكٌ
: لَا يَحِلُّ صَيْدُ الذِّمِّيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَلِّينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ
، لِاخْتِصَاصِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ اقْتِصَارَهُ
عَلَيْهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ .
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي
هُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ
الْآخَرَ بِخِلَافِهِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ
مَنْطُوقٌ بِهِ ، مُبَيَّنٌ حُكْمُهُ ، وَالثَّانِي مَسْكُوتٌ عَنْهُ ، وَلَيْسَ
فِي مَعْنَى مَا نُطِقَ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَحَمَلَهُ
عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } .
قُلْنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ
طَعَامِهِمْ .
وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ
ذِكْرِ الطَّعَامِ ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَقِيسُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَوْعُ
ذَكَاةٍ ، فَجَازَ مِنْ الذِّمِّيِّ كَذَبْحِ الْإِنْسِيِّ .
قُلْنَا :
لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِمَّا يُذَكَّى شُرُوطٌ ،
وَلِمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ شُرُوطٌ أُخَرُ ؛ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مَوْضُوعٌ وُضِعَ عَلَيْهِ ، وَمَنْصِبٌ جُعِلَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ
الْإِلْحَاقُ فِيمَا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُ فِي الْأَصْلِ ؛ وَهَذَا فَنٌّ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ أَمَّا صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ
: فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاقِعَ مِنْهُ
دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى
: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ } وَالْمَجُوسِيُّ إنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ
، وَيَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ ، وَيَفْعَلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ إذَا ذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِك الْمُعَلَّمِ فَكُلْ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَالذِّمِّيُّ لَا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ
وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ .
قُلْنَا : لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الذِّمِّيِّ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الِالْتِزَامُ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يُؤْكَلُ فَلِمُطْلَقِ قَوْله
تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } عَلَى أَحَدِ
الْأَدِلَّةِ ، وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي نَأْكُلُهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يُخَاطَبُوا بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ
.
وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ يَكُونُ كَمَتْرُوكِ
التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مُتَرَدِّدٌ عَلَى الْآيَاتِ بِحُكْمِ
التَّعَارُضِ فِيهَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ أَكْلِ صَيْدِهِ ، وَأَنَّ
الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ ؛
وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ حَبِيبٍ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِ : { لَيَبْلُوَنَّكُمْ
} لَيُكَلِّفَنَّكُمْ .
ثُمَّ بَيَّنَ التَّكْلِيفَ بَعْدَهُ فَقَالَ وَهِيَ :
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ
أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ
وَاَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
} .
فِيهَا ثَمَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ : { لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } وَالْقَتْلُ
: كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ :
مِنْهَا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ ، وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ ؛ فَحَرَّمَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا
لِلرُّوحِ ، وَحَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى نَفْسَ الِاصْطِيَادِ ؛ فَقَالَ :
{ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَاقْتَضَى
ذَلِكَ تَحْرِيمَ كُلِّ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّ
التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ
عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ خِطَابِ الشَّارِعِ بِالْأَعْيَانِ ، فَالْمُحْرِمُ هُوَ
الْقَوْلُ فِيهِ : لَا تَقْرَبُوهُ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ : لَا
تَتْرُكُوهُ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا نَهَى اللَّهُ
سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَامًّا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ
لِلصَّيْدِ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ
ذَكَاةٌ ؛ وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَهُوَ
الْمُسْلِمُ ، مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ ، فَأَفَادَ
مَقْصُودَهُ مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ مِنْ أَصْلِهِ ذَبْحِ الْحَلَالِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى دَعْوَى ؛
فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ ؛ إذْ الْأَهْلِيَّةُ لَا
تُسْتَفَادُ عَقْلًا ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي
الذَّبْحِ ؛ أَوْ يَنْفِيهَا الشَّرْعُ أَيْضًا ؛ وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ
الذَّبْحِ .
وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَقَدْ
انْتَفَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ ، فَقَدْ
اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ
أَكْلُهُ ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ ، فَإِذَا كَانَ
الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَا يُفِيدَهُ
لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ ، فَلَا
يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ .
وَإِذَا بَطَلَ مَنْزَعُ الشَّافِعِيِّ وَمَأْخَذُهُ
فَقَدْ اعْتَمَدَ عُلَمَاؤُنَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى أَنَّهُ ذَبْحٌ
مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ ، فَلَا يَجُوزُ
كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ ، وَهَذَا صَحِيحٌ .
فَإِنَّ الَّذِي قَالَ : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } هُوَ الْقَائِلُ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
وَالْأَوَّلُ : نَهْيٌ عَنْ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ ،
فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ
.
وَالثَّانِي : نَهْيٌ عَنْ السَّبَبِ ، فَدَلَّ عَلَى
عَدَمِهِ شَرْعًا ، فَلَا يُفِيدُ مَقْصُودُهُ حُكْمًا ، وَهَذَا مِنْ
نَفِيسِ الْأُصُولِ فَتَأَمَّلُوهُ .
وَقَوْلُ عُلَمَائِنَا : لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ فِيهِ
احْتِرَازٌ مِنْ السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْكَالَّةِ وَمِلْكِ الْغَيْرِ ،
فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ التَّذْكِيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلَكِنَّهُ مَا لَمْ
يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ وَلَا فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُحَرَّمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَجَعَلَ الْقَتْلَ
مُنَافِيًا لِلتَّذْكِيَةِ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الذَّبْحِ لِلْأَكْلِ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ وَلَدِي فَهُوَ عَاصٍ
، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي
فَإِنَّهُ يَفْتَدِيه بِشَاةٍ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَيَانُهُ .
وَالْمِقْدَارُ الْمُتَعَلِّقُ مِنْهُ هَاهُنَا بِهَذَا
الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ بِمُطْلَقِهِ
وَلَا الْخَنْقَ ، وَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ اللَّذَيْنِ
شُرِعَا فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِتَطْيِيبِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } جَرَى عُمُومُهُ عَلَى كُلِّ صَيْدٍ
بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ ، حَتَّى جَاءَ قَوْله تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إبَاحَةً
مُطْلَقَةً ، وَحَرَّمَ صَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِينَ ؛ فَصَارَ هَذَا
التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ دَلِيلًا عَلَى خُرُوجِ صَيْدِ الْبَحْرِ مِنْ
النَّهْيِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي التَّحْرِيمِ بِالزَّمَانِ ، وَفِي التَّحْرِيمِ
بِالْمَكَانِ ، وَفِي التَّحْرِيمِ بِحَالَةِ الْإِحْرَامِ ، إلَّا أَنَّ
تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا ،
وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ كَانَ ،
مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، سَبُعًا أَوْ غَيْرَ سَبُعٍ ، ضَارِيًا أَوْ
غَيْرَ ضَارٍ ، صَائِلًا أَوْ سَاكِنًا ؛ بَيْدَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا
فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ عَنْهُ وَتَخْصِيصِهِ مِنْهَا ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَجُوزُ
لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْمَضَرَّةِ
كَالْأَسَدِ وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَمَا
فِي مَعْنَاهَا ، وَمِنْ الطَّيْرِ كَالْغُرَابِ وَالْحَدَأَةِ ؛ وَلَا جَزَاءَ
عَلَيْهِ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِنَا فِي الْكَلْبِ
الْعَقُورِ وَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ ، وَخَالَفَنَا فِي السَّبُعِ
وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَغَيْرِهَا مِنْ السِّبَاعِ ، فَأَوْجَبَ عَلَى
الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ بِقَتْلِهَا
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ فَلَا جَزَاءَ فِيهِ إلَّا السَّمْعُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ
الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " { خَمْسٌ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ
وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ
الْعَقُورُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْحَيَّةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
} خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ .
وَفِيهِ {
الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ ، وَفِيهِ
: { السَّبُعُ الْعَادِي } خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَهَذَا
تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى الْأَجْنَاسِ .
أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْفِسْقُ بِالْإِذَايَةِ ،
وَأَمَّا الْأَجْنَاسُ فَنَبَّهَ بِكُلِّ مَذْكُورٍ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْجِنْسِ
وَذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ بِعِلَّةِ
الْعَقْرِ الْفَهْدُ وَالسَّبُعُ ، وَلَا سِيَّمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِ مِنْ
طَرِيقِ السِّجْزِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ
.
وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْ يَحْمِلَ
التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ ، وَلَا يَحْمِلَ السِّبَاعَ
الْعَادِيَةَ
عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ
وَالْعَقْرِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ
لَحْمَهَا لَا يُؤْكَلُ فَهِيَ مَعْقُورَةٌ لَا جَزَاءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ كَالْخِنْزِيرِ .
وَأَمَّا إنْ قُلْنَا : إنَّهَا تُؤْكَلُ فَفِيهَا
الْجَزَاءُ لِأَنَّهَا صَيْدٌ مَأْكُولٌ .
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي أَكْلِهَا فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى .
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ صَيْدٌ
تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ ارْتِكَابِ النَّهْيِ ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ أَنَّهُ يُقْصَدُ لِأَجْلِ جِلْدِهِ ،
وَالْجِلْدُ مَقْصُودٌ فِي الْمَالِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ فِي
الْأَكْلِ .
قُلْنَا : لَا تُسَمِّي الْعَرَبُ صَيْدًا إلَّا مَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ كَانَتْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا
عِنْدَ الْعَرَبِ صَيْدًا .
فَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ ،
ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ ، فَغَيَّرَ الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ دُونَ
الْأَسْمَاءِ .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ ، إنَّ الصَّيْدَ لَا
يُعْرَفُ إلَّا فِيمَا يُؤْكَلُ
.
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشَّرْعَ غَيَّرَ الْأَحْكَامَ
دُونَ الْأَسْمَاءِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَابِعَةٌ لِلْأَسْمَاءِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ
لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
.
الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فِيهَا جَزَاءٌ ؛ قَالَ : نَعَمْ ، كَبْشٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ
أَكْلِهَا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ جَزَائِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
} .
وَلِقَوْلِهِ : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وَقَوْلِهِ : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } عَامٌّ فِي النَّوْعَيْنِ .
وَقَوْلِهِ :
{ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، يُقَالُ : رَجُلٌ حَرَامٌ
وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ ، وَجَمْعُ ذَلِكَ حُرُمٌ ، كَقَوْلِنَا : قَذَالٌ وَقُذُلٌ .
وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْأَحْرَارُ
وَالْعَبِيدُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ
الْمَعَانِي فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الْمُتَعَمِّدَ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ خَاصَّةً ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ
أَقْسَامٍ ، مُتَعَمِّدٌ ، وَمُخْطِئٌ ، وَنَاسٍ ؛ فَالْمُتَعَمِّدُ هُوَ
الْقَاصِدُ لِلصَّيْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ
الَّذِي يَقْصِدُ شَيْئًا فَيُصِيبُ صَيْدًا .
وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا
يَذْكُرُ إحْرَامَهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ
وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ .
الثَّانِي : إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ،
نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ
حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِي .
الثَّالِثُ : لَا شَيْءَ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي
، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِعُمُومِ الْكَفَّارَةِ
فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ وَرَدَ
الْقُرْآنُ بِالْعَمْدِ ، وَجَعَلَ الْخَطَأُ تَغْلِيظًا ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { مُتَعَمِّدًا } خَرَجَ
عَلَى الْغَالِبِ ، فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ ، كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : إنَّهُ وَجَبَ
الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ ، وَفِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ
بِالسُّنَّةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ وَجَبَ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَاتِلِ
الْخَطَأِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا كَفَّارَةُ إتْلَافِ نَفْسٍ ؛ فَتَعَلَّقَتْ
بِالْخَطَأِ ، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ ؛ وَتَعَلَّقَ مُجَاهِدٌ بِأَنَّهُ أَرَادَ
مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : {
وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ، وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا
لِإِحْرَامِهِ لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ .
وَتَعَلَّقَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى
رِوَايَتَيْهِ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ
خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ بِالذِّكْرِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِخِلَافِهِ ،
وَزَادَ بِأَنْ قَالَ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، فَمَنْ ادَّعَى شَغْلَهَا
فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ مَنْ قَالَ : وَجَبَ فِي
النِّسْيَانِ تَغْلِيظًا فَدَعْوَى تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ
فَحِكْمَةُ الْآيَةِ وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ مَا قَالُوهُ ، فَأَيْنَ دَلِيلُهُ
؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ وَجَبَ فِي النِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ
كَانَ يُرِيدُ بِهِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
عُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَمَا أَحْسَنُهَا أُسْوَةً ، وَأَمَّا مَنْ تَعَلَّقَ
بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ الَّذِي
يَرَى الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا وَخَطَأً ، فَأَمَّا نَحْنُ
وَقَدْ عَقَدْنَا أَصْلَنَا عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ فِي الْآدَمِيِّ لَا
كَفَّارَةَ فِيهِ ، وَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا الْكَفَّارَةَ فَلَا يَصِحُّ
ذَلِكَ مِنَّا لِوُجُودِ الْمُنَاقَضَةِ مِنَّا بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ عِنْدَنَا .
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا
أَنَّ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا
لِإِحْرَامِهِ ، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ يَكْفِي لِوَصْفِ التَّعَمُّدِ ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ ،
لِاكْتِفَاءِ الْمَعْنَى مَعَهُ
.
وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ
وَالْإِحْرَامِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ ؛ لَكِنْ مِنْ
النَّاسِ مَنْ قَالَ : لَا حَجَّ لَهُ
.
وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يَدُلُّك عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنْ
ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الْمَعْنَى ،
وَسَنَسْتَوْفِي بَقِيَّةَ الْقَوْلِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } الْجَزَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ
: الْمُقَابِلُ لِلشَّيْءِ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ فِي
مُقَابِلِ مَا أَتْلَفَ وَبَدَلٌ مِنْهُ ؛ وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَمْثَالُهُ قَبْلَ هَذَا ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ ؛
لِأَنَّ فِي مُقَابَلَتِهَا ثَوَابًا بِثَوَابٍ وَعِقَابًا بِعِقَابٍ ،
وَدَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ ؛ وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { مِثْلُ }
قُرِئَ بِخَفْضِ مِثْلَ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى { فَجَزَاءٌ } .
وَبِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِهِ صِفَةً لِلْجَزَاءِ ؛
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ رِوَايَةً ، صَوَابٌ مَعْنًى ، فَإِذَا كَانَ عَلَى
الْإِضَافَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ ؛ إذْ
الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا كَانَ الصِّفَةُ بِرَفْعِهِ
وَتَنْوِينِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ
، لِوُجُوبِ كَوْنِ الصِّفَةِ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ ؛ وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيمَا
بَعْدُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { مِنْ النَّعَمِ } قَدْ بَيَّنَّا فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ
" دَرَجَاتِ حَرْفِ مِنْ ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا بَيَانُ الْجِنْسِ ،
كَقَوْلِك : خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ ، وَقَدَّمْنَا قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ
فِي شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الَّذِي أَوْقَفَنَا عَلَيْهِ شَيْخُ السُّنَّةِ
فِي وَقْتِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَضْرَمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهَا لَا
تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ بِحَالٍ ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ
التَّبْعِيضُ فِيهَا بِالْقَرِينَةِ ، فَجَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِقَوْلِهِ : { مِنْ
النَّعَمِ } لِبَيَانِ جِنْسٍ مِثْلِ الْمَقْتُولِ الْمُفْدَى ، وَأَنَّهُ مِنْ
الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ ،
وَمِثْلُ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ شَبَهُهُ فِي الْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ ،
وَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي مَعْنًى ، وَهُوَ مَجَازُهُ ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ الْمِثْلُ
اقْتَضَى بِظَاهِرِهِ حَمْلَهُ عَلَى الشَّبَهِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى ،
لِوُجُوبِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَقِيقَةِ فِي مُطْلَقِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ
الْمَجَازِ حَتَّى يَقْتَضِيَ الدَّلِيلُ مَا يَقْضِي فِيهِ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ
حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ ؛ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ الْخِلْقِيُّ ؛ وَبِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ
بِالْمِثْلِ .
فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ
الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ :
مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَ حَقِيقَةً هُوَ الْمِثْلُ مِنْ طَرِيقِ
الْخِلْقَةِ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ النَّعَمِ } فَبَيَّنَ جِنْسَ
الْمِثْلِ ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِالنَّعَمِ بِحَالٍ .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ قَالَ : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ } وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إلَى مِثْلِ مِنْ النَّعَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ سِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهِ .
وَالْقِيمَةُ الَّتِي يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ
يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهُ قَالَ : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
وَاَلَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ ؛
فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِيمَةُ مِثْلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ
طَرِيقِ الْمَعْنَى فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ ، حَتَّى يُقَالَ الْقِيمَةُ
مِثْلٌ لِلْعَبْدِ ، وَلَا يَجْعَلُ فِي الْإِتْلَافِ مِثْلَهُ عَبْدًا يَغْرَمُ
فِيهِ ، وَأَوْجَبْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُتْلِفَاتِ الْمِثْلَ
خِلْقَةً ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَالطَّعَامِ وَالدُّهْنَ كَالدُّهْنِ ؛ وَلَمْ
يُوجَبْ فِي الْعَبْدِ عَبْدٌ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْخِلْقَةَ لَمْ تَقُمْ
بِالْمِثْلِيَّةِ ، فَكَيْفَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَنَةَ
مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ .
قُلْنَا :
هَذَا مَزْلَقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ قَدَمُ
النَّاظِرِ قَلِيلًا ، وَلَا يَطِيشَ حُلْمُهُ ، فَاسْمَعْ مَا نَقُولُ ، فَلَا
خَفَاءَ بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ،
وَلَيْسَ يُعَارِضُهُ الْآنَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَنَّ النَّعَامَةَ لَا
تُمَاثِلُهَا الْبَدَنَةُ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِهَا فِيهَا ، وَهُمْ
بِكِتَابِ اللَّهِ أَفْهَمُ ، وَبِالْمِثْلِ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ
وَالْمَعْنَى أَعْلَمُ ، فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سِوَاهُ إلَّا وَهَمَ ،
وَلَا يَتَّهِمُهُمْ فِي قُصُورِ النَّظَرِ ، إلَّا مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ .
وَالدَّقِيقَةُ فِيهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ ظَاهِرِ
الْقُرْآنِ مَعَ شَبَهٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ
ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّوَفُّرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ
؛ هَذَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ فِي مَطْرَحِ النَّظَرِ إلَّا نَافِذُ
الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَوَّمُوا
النَّعَامَةَ بِدَرَاهِمَ ، ثُمَّ قَوَّمُوا الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ .
قُلْنَا :
هَذَا جَهْلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
سَرْدَ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ يُبْطِلُ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ .
الثَّانِي : أَنَّ قِيمَةَ النَّعَامَةِ لَمْ تُسَاوِ قَطُّ
قِيمَةَ الْبَدَنَةِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ ، لَا مُتَقَدِّمٍ وَلَا
مُتَأَخِّرٍ ، عُلِمَ ذَلِكَ ضَرُورَةً وَعَادَةً ، فَلَا يَنْطِقُ بِمِثْلِ هَذَا
إلَّا مُتَسَاخِفٌ بِالنَّظَرِ
.
وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمِثْلِيَّةُ فِي الِاعْتِدَاءِ
عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ
الْخِلْقَةِ مُعْتَبَرًا ، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ
، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ ،
وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعُدُولِ وَالْحُكْمِ مَا يُشْكَلُ الْحَالُ فِيهِ
وَيَضْطَرِبُ وَجْهُ النَّظَرِ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ
: أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ فِي
حَالِ الْمَصِيدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ ، وَمَا لَهُ جِنْسٌ مِمَّا لَا جِنْسَ
لَهُ ، وَلْيَعْتَبِرْ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ،
فَيَلْحَقُ بِهِ مَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ نَصٌّ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } ، فَشَرَكَ بَيْنَهُمَا بِ
" أَوْ " فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنْ النَّعَمِ ، أَوْ مِنْ الطَّعَامِ ، أَوْ مِنْ الصِّيَامِ ، وَتَقْدِيرُ الْمِثْلِيَّةِ
فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِالْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ الْأَوَّلِ .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ أَوْ تَجَاهُلٌ ؛ فَإِنَّ قَوْله
تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ظَاهِرٌ كَمَا
قَدَّمْنَا فِي مِثْلِ الْخِلْقَةِ ، وَمَا عَدَاهُ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِثْلِيَّةُ
الْخِلْقَةِ حِسًّا ؛ فَرَجَعَ إلَى مِثْلِيَّةِ الْمَعْنَى حُكْمًا ، وَلَيْسَ
إذَا عُدِمَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ فِي مَوْضِعٍ وَيَرْجِعُ إلَى بَدَلِهِ
يَلْزَمُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَدَلِهِ مَعَ وُجُودِهِ .
تَكْمِلَةٌ : وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ مِنْ قِرَاءَةِ
الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ : فَجَزَاءُ مِثْلِ
بِالْإِضَافَةِ ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي الْغَيْرِيَّةَ بَيْنَ الْمُضَافِ
وَالْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ لِمِثْلِ الْمَقْتُولِ لَا
الْمَقْتُولِ ، وَمِنْ قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ : فَجَزَاءً مِثْلَ عَلَى الْوَصْفِ ،
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ هُوَ الْمِثْلَ .
وَيَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ
الْجَزَاءَ غَيْرُ الْمِثْلِ .
وَيَقُولُ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَكِّيُّونَ
وَالشَّامِيُّونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ
: إنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْمِثْلُ ؛ فَيَبْنِي كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ قِرَاءَةِ قُرَّاءِ
بَلَدِهِ .
وَقَدْ قَالَ لَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ
الْقَرَافِيُّ الزَّاهِدُ : إنَّ ابْنَ مَعْقِلٍ الْكَاتِبَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي
عَلِيٍّ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
جَزَاءُ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ .
وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ
الْمَقْتُولِ .
قَالَ :
وَمَنْ أَضَافَ الْجَزَاءَ إلَى الْمِثْلِ فَإِنَّهُ
يَخْرُجُ عَلَى تَقْدِيرِ إقْحَامِ الْمِثْلِ ؛ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ : أَنَا
أُكْرِمُ مِثْلَك ؛ أَيْ أُكْرِمُك
.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ :
وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ
فِي قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي سَرْدِ
الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْبَابِ : وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ ،
لُبَابُهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ السُّدِّيُّ : " فِي
النَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ بَدَنَةٌ ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ أَوْ الْإِبِلِ
أَوْ الْأَرْوَى بَقَرَةٌ ، وَفِي الْغَزَالِ وَالْأَرْنَبِ شَاةٌ ، وَفِي
الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ سَخْلَةٌ قَدْ أَكَلَتْ الْعُشْبَ ، وَشَرِبَتْ الْمَاءَ
، فَفَرَّقَ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ .
الثَّانِي : قَالَ عَطَاءٌ : " صَغِيرُ الصَّيْدِ
وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ } ، مُطْلَقًا ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُطْلَبُ
صِفَةُ الصَّيْدِ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ
الدَّرَاهِمُ بِالْحِنْطَةِ ، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
الرَّابِعُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُذْبَحُ
عَنْ الظَّبْيِ شَاةٌ ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ .
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ " .
الْخَامِسُ :
قَالَ الضَّحَّاكُ : " الْمِثْلُ مَا كَانَ لَهُ
قَرْنٌ كَوَعْلٍ وَأُيَّلٍ فَدَاهُ بِبَقَرَةٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرْنٌ
كَالنَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ فَفِيهِ بَدَنَةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ ظَبْيٍ فَمِنْ
النَّعَمِ مِثْلُهُ ، وَفِي الْأَرْنَبِ ثَنِيَّةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ يَرْبُوعٍ
فَفِيهِ جَمَلٌ صَغِيرٌ .
فَإِنْ أَصَابَ فَرْخَ صَيْدٍ أَوْ بِيضَهُ تَصَدَّقَ
بِثَمَنِهِ ، أَوْ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
السَّادِسُ :
قَالَ النَّخَعِيُّ : " يُقَوِّمُ الصَّيْدَ
الْمَقْتُولَ بِقِيمَتِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ يَشْتَرِي الْقَاتِلُ
بِقِيمَتِهِ فِدَاءً مِنْ النَّعَمِ ، ثُمَّ يُهْدِيه إلَى الْكَعْبَةِ " .
السَّابِعُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ :
" أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ
فِيهِ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ
مِنْ الطَّعَامِ ؛ فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ
كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا " .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : " إنْ قَوَّمَ
الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ " .
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ
قَالَ عَنْهُ : وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ أَيْ ذَلِكَ فِعْلٌ
أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ .
فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ
وَكَبِيرِهِ وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ] الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : [ الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ ] : فَصَحِيحٌ
، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْخِلْقَةِ ،
وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مُتَفَاوِتَانِ فِيهَا ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ
التَّفَاوُتُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى التَّقْوِيمِ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ
الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ
عُلَمَائِنَا ، وَلِذَلِكَ قَالُوا : لَوْ كَانَ الصَّيْدُ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ
أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَحَقُّقِ الْمِثْلِيَّةِ ،
وَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفَ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : وَأَمَّا تَرْتِيبُ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَاتِ فِي
هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : فَاَلَّذِي
اخْتَارَهُ عُلَمَاؤُنَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ فِيهَا ،
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَقَالُوا : كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ
فِيهِ " أَوْ " فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ .
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ
مَصْرُوفٌ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، فَمَا رَأَيَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ
: فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ،
حَيْثُ قَدَّرَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِسْكِينًا بِيَوْمٍ ، وَلَا يُعْدَلُ
عَنْ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى وَتُقَدَّسُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ
تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَقْوَالُ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ ؛ فَالِاقْتِصَارُ
عَلَى الشَّاهِدِ الْجَلِيِّ أَوْلَى
.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى
: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقِيمُ
الْمُتْلِفُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي
ذَلِكَ ، فَيَنْظُرَانِ فِيمَا أَصَابَ ، وَيَحْكُمَانِ عَلَيْهِ بِمَا رَأَيَاهُ
فِي ذَلِكَ ، فَمَا حَكَمَا عَلَيْهِ لَزِمَهُ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِمَامُ
حَاضِرًا أَوْ نَائِبَهُ أَنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
حَاضِرًا أَقَامَ حِينَئِذٍ الْمُتْلِفُ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّحْكِيمِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ فِيهِ ،
وَلِأَجْلِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
: إنَّهُ يَجُوزُ حُكْمُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ
؛ وَذَلِكَ عِنْدِي صَحِيحٌ ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ أَمْرُهُ .
وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ
قَالَ : أَصَبْت صَيْدًا ، وَأَنَا مُحْرِمٌ ، فَأَتَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
، فَأَخْبَرْته ، فَقَالَ : " ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِك
فَلْيَحْكُمَا عَلَيْك " فَأَتَيْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدًا
، فَحَكَمَا عَلَيَّ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ
.
وَهُوَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَتَوَلَّى فَصْلَ الْقَضَاءِ رَجُلَانِ ، وَقَدْ مَنَعَتْهُ الْجَهَلَةُ ؛
لِأَنَّ اخْتِلَافَ اجْتِهَادِهِمَا يُوجِبُ تَوَقُّفَ الْأَحْكَامِ بَيْنَهُمَا ،
وَقَدْ بَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إلَى
الْيَمَنِ ، كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مِخْلَافٍ ، وَبَعَثَ أُنَيْسًا إلَى الْمَرْأَةِ
الْمَرْجُومَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحُكْمِ إلَّا فِي هَذِهِ
النَّازِلَةِ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا خُصُومَةَ فِيهَا ، فَإِنْ
اتَّفَقَا لَزِمَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرِهِمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : وَلَا يَأْخُذُ
بِأَرْفَعِ قَوْلِهِمَا ؛ يُرِيدُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ ،
وَكَذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ ، إذَا حَكَمَا بِهِ ،
إلَى الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ لَزِمَ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ ؛
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنْ
أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنْ الْمِثْلِ
فَفَعَلَا ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى الطَّعَامِ جَازَ .
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَجَاوُزٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : إنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْمِثْلِ ، وَلَيْسَ
الْأَمْرُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يُحَكِّمُهُمَا .
ثُمَّ يَنْظُرَانِ فِي الْقَضِيَّةِ ، فَمَا أَدَّى
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمَا لَزِمَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ .
وَهُوَ الثَّانِي لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِهِمَا ؛
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِالْتِزَامِهِ لِحُكْمِهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } : الْمَعْنَى إذَا حَكَمَا
بِالْمِثْلِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ بِالْهَدْيِ ، يُقَلِّدُهُ وَيُشْعِرُهُ ،
وَيُرْسِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَيَنْحَرُهُ بِهَا ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِيهَا ؛ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْهَدْيَ لَا بُدَّ لَهُ
مِنْ الْحَرَمِ .
وَاخْتُلِفَ هَلْ يُفْتَقَرُ إلَى حِلٍّ مَعَهُ ؟
فَقَالَ مَالِكٌ : لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ يَبْتَاعُ بِالْحِلِّ ، وَيُقَلِّدُ
وَيُشْعِرُ ، وَيَدْفَعُ إلَى الْحَرَمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِلِّ .
وَحَقِيقَةُ قَوْله تَعَالَى : { بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
يَقْتَضِي أَنْ يَهْدِيَ مِنْ مَكَان يَبْلُغُ مِنْهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَلَمْ
يُرِدْ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا ؛ فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا ، إذْ هِيَ
فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ الصَّغِيرَ
مِنْ الْهَدْيِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرِ مِنْ الصَّيْدِ ، لِأَنَّهُ يَبْتَاعُهُ فِي
الْحَرَمِ وَيُهْدِيه فِيهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَكُونُ الْجَزَاءُ فِي
الصَّغِيرِ إلَّا بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الصَّغِيرَ لَا يُمْكِنُ
حَمْلُهُ إلَى الْحَرَمِ ، وَهَذَا لَا يُغْنِي ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَتْ فِي
الصَّغِيرِ صَغِيرًا ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرًا ، وَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ
إلَى الْحَرَمِ حُمِلَتْ قِيمَتُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ بِالْمَغْرِبِ : بَعِيرِي
هَذَا هَدْيٌ ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْمَلُ ثَمَنُهُ إلَى مَكَّةَ ، وَكَذَلِكَ
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي صَغِيرِ الْهَدْيِ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ صَغِيرَ الْهَدْيِ مِثْلُ
كَبِيرِهِ فِي الْقِيمَةِ ، كَمَا أَنَّ صَغِيرَ الْآدَمِيِّ مِثْلُ كَبِيرِهِ فِي
الدِّيَةِ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ
جَبْرًا ، وَهَذَا مُقَدَّرٌ نَظَرًا ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ،
فَافْتَرَقَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { أَوْ كَفَّارَةٌ }
سَمَّاهُ بِهَا لِيُبَيِّنَّ أَنَّ الطَّعَامَ عَنْ
الصَّيْدِ لَا عَنْ الْهَدْيِ ، وَلِيُلْحِقَهَا بِأَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { طَعَامُ مَسَاكِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا قَتَلَ
الْمُحْرِمُ ظَبْيًا وَنَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ ، فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ
صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَإِنْ قَتَلَ أُيَّلًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ
بَقَرَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا ، فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارًا
فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ ثَلَاثِينَ
مِسْكِينًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَالطَّعَامُ
مُدٌّ مُدٌّ لِشِبَعِهِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا : إنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءً
قَوَّمَ الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً ، ثُمَّ
صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا .
وَقَالَ : إنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ الصَّوْمَ ،
فَإِذَا وَجَدَ طَعَامًا وَجَبَ جَزَاءً .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَمُجَاهِدٍ ،
وَالسُّدِّيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَغَيْرِهِمْ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا
فَإِطْعَامُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ
لَا عَلَى التَّرْتِيبِ بِمَا يَقْتَضِيه حَرْفُ " أَوْ " فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ فِي الظَّبْيِ بِسِتَّةِ
مَسَاكِينَ ، وَفِي الْبَدَنَةِ بِثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ
نَافِذٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَحَكُّمٌ بِاخْتِيَارِ قِيمَةِ الطَّعَامِ
بِالدَّرَاهِمِ أَصْلًا أَوْ بَدَلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ يُعْطَى عَنْ كُلِّ
مُدٍّ يَوْمًا لَا نِصْفَ صَاعٍ
.
وَقَدْ رَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ :
كَانَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَعْرَابِ مُحْرِمِينَ ، فَحَاشَ أَحَدُهُمَا صَيْدًا
فَقَتَلَهُ الْآخَرُ ، فَأَتَيَا عُمَرُ ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا
تَرَى ؟ قَالَ : شَاةٌ .
قَالَ : وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ .
اذْهَبَا فَأَهْدَيَا شَاةً .
فَلَمَّا مَضَيَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا
دَرَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَقُولُ ، حَتَّى سَأَلَ صَاحِبَهُ .
فَسَمِعَهُ عُمَرُ ، فَرَدَّهُمَا ، فَقَالَ : هَلْ
تَقْرَآنِ سُورَةَ الْمَائِدَةِ ؟ فَقَالَا : لَا .
فَقَرَأَ عَلَيْهِمَا : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ هَدْيًا } ثُمَّ قَالَ : اسْتَعَنْت بِصَاحِبِي هَذَا .
وَعَنْ قَبِيصَةَ وَصَاحِبٍ لَهُ أَنَّهُمَا أَصَابَا
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ : إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ
يَدْرِ مَا يَقُولُ .
فَسَمِعَهُمَا عُمَرُ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ ، وَقَالَ :
تَقْتُلُ الصَّيْدَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ، وَتَغْمِصُ الْفُتْيَا ، إنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ
: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَنَا عُمَرُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي قَتْلِ
الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ يُوجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً
لِقَضَاءِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى
رَجُلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ
كَامِلٌ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَهِيَ تَنْبَنِي
عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لُغَوِيٌّ قُرْآنِيٌّ ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ .
أَمَّا اللُّغَوِيُّ الْقُرْآنِيُّ : فَإِنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ
وَالتَّمَامِ ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مُتْلِفٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ وَمُذْهِبٌ رَوْحًا عَلَى التَّمَامِ .
وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ ،
وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ فَثَبَتَ مَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ : فَإِنَّ عِنْدَنَا أَنَّ
الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قِيمَةٌ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا
الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ وَمُقَابِلٌ لِلْجِنَايَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ جَنَى عَلَى
إحْرَامِهِ جِنَايَةً كَامِلَةً ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى قَاتِلًا ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّى
الْجَزَاءَ كَفَّارَةً فِي كِتَابِهِ
.
وَأَمَّا كَمَالُ الْجِنَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
عَلَى الْإِحْرَامِ فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ارْتَكَبَ
مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَسُمِّيَ قَاتِلًا حَقِيقَةً
فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَقُومُ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ ،
وَيَلْحَظُ فِيهِ شِبْهَهُ .
وَلَوْ كَانَ كَفَّارَةً لَاعْتُبِرَ مُطْلَقًا مِنْ
اعْتِبَارِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَلَمَّا كَانَ
كَذَلِكَ صَارَ كَالدِّيَةِ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ بَدَلَ مُتْلَفٍ مَا دَخَلَ الصِّيَامُ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الصِّيَامَ إنَّمَا مَوْضِعُهُ وَمَوْضُوعُهُ
الْكَفَّارَاتُ ، لَا أَبْدَالُ الْمُتْلَفَاتِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا تُقَدَّرُ
بِقَدْرِ الْمَحِلِّ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَهَا ، مَحِلٌّ ، فَيَزِيدُ
بِزِيَادَتِهِ ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْآدَمِيِّ
فَإِنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَقَدَّرُ حَقِيقَةً فَيُقَدَّرُ كَفَّارَةً .
جَوَابٌ ثَالِثُ : وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَا
يَجُوزُ إسْقَاطُهُ ، وَالدِّيَةُ يَجُوزُ إسْقَاطُهَا ، فَدَلَّ عَلَى
اخْتِلَافِهِمَا بِالصِّفَةِ وَالْمَوْضُوعِ .
جَوَابٌ رَابِعُ : وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى يَسْتَوِي فِي الْجَزَاءِ ، وَيَخْتَلِفُ فِي الدِّيَةِ ، وَقِيمَةِ
الْإِتْلَافِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَظَهَرَ
أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : خَالَفَ
أَبُو حَنِيفَةَ مَالِكًا فِي فَرْعٍ ؛ وَهُوَ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي
حَرَمٍ وَهُمْ مُحِلُّونَ فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ
قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً ، فَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي
الْحَرَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ .
وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فَبَنَاهُ فِي
أَسْرَارِ اللَّهِ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : السِّرُّ فِيهِ أَنَّ
الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادِ ، فَقَدْ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ مَحْظُورًا فِي إحْرَامِهِ
.
وَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا
أَتْلَفَ نَفْسًا مُحْتَرَمَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ
دَابَّةً ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ دَابَّةً ، وَيَشْتَرِكُونَ
فِي الْقِيمَةِ ، وَهَذَا مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا ، وَهُوَ عَسِيرُ
الِانْفِصَالِ .
وَقَدْ عَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ
يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ فِي الْحَرَمِ ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا
بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَدْ
أَكْسَبَهُ صِفَةً تَعَلَّقَ بِهَا نَهْيٌ ، فَهُوَ هَاتِكٌ لَهَا فِي
الْحَالَيْنِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا ، عَلَى أَنَّ
عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ
فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا
جَزَاءَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ أَصْلًا
.
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : حُرْمَةُ الْحَرَمِ كَالْإِحْرَامِ ،
وَاللَّفْظُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، يُقَالُ : أَحْرَمَ الرَّجُلُ إذَا تَلَبَّسَ
بِالْإِحْرَامِ ، كَمَا يُقَالُ : أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ مَنْ أَسْقَطَ الْجَزَاءَ
فِيهِ ، وَيُضَعَّفُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لِوُجُوبِ
الْجَزَاءِ وَعُمُومِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ :
وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ أَوْ
دَخَلَ الْحَرَمَ كَكَفَّارَةِ الْحُرِّ سَوَاءٌ ؛ لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي
الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْحَالِ ، كَمَا
سَيَأْتِي فِي آيَةِ الظِّهَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : إذَا قُوِّمَ
الطَّعَامُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْنَ يُقَوَّمُ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ :
يُقَوَّمُ فِي مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ ؛ قَالَهُ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَمَالِكٌ وَسِوَاهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَوَّمُ حَيْثُ يُكَفِّرُ
بِمَكَّةَ .
وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ
الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ قِيمَةُ
الْمُتْلَفِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ :
يَوْمَ الْإِتْلَافِ .
وَقَالَ آخَرُ : يَوْمَ الْقَضَاءِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ أَكْثَرَ
الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الْإِتْلَافِ إلَى يَوْمِ الْحُكْمِ ، وَاخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْإِتْلَافِ
، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ
حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِفُ لَزِمَهُ
إيجَادُهُ بِمِثْلِهِ ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْعَدَمِ ، فَالْقَضَاءُ يُظْهِرُ الْوَاجِبَ
فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ ، وَلَا يَسْتَأْنِفُ الْقَاضِي إيجَابًا لَمْ يَكُنْ ،
وَهَذَا يُعَضِّدُ فِي مَسْأَلَتِنَا الْوُجُوبَ فِي مَوْضِعِ الْإِتْلَافِ ،
فَأَمَّا فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا وَجْهَ لَهُ .
الْمَسْأَلَة الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : فَأَمَّا الْهَدْيُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَّةَ .
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ
؛ هَلْ يَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّهُ
يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ .
وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُكَفِّرُ
بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ
بِمَكَّةَ ، وَيَصُومُ حَيْثُ شَاءَ
.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : يُكَفِّرُ حَيْثُ شَاءَ .
فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُ يُكَفِّرُ
حَيْثُ أَصَابَ ، فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي النَّظَرِ وَلَا أَثَرَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ
فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ ، فَتَكُونُ فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ كَصِيَامِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ
بِمَكَّةَ فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْهَدْيِ أَوْ نَظِيرٌ لَهُ ؛ وَالْهَدْيُ
حَقٌّ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ ؛ فَلِذَلِكَ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَدَلَهُ أَوْ
نَظِيرَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ ،
وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، فَإِنَّهُ اعْتِبَارٌ بِكُلِّ طَعَامٍ وَفِدْيَةٍ ،
فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا : هُوَ
الْمِثْلُ ، وَيُؤْثَرُ عَنْ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ قَالَ : عِدْلُ الشَّيْءِ
بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ
غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَأَرَادَ أَوْ يَصُومُ صَوْمًا مُمَاثِلًا لِلطَّعَامِ ، وَلَا
يَصِحُّ أَنْ يُمَاثِلَ الطَّعَامُ الطَّعَامَ فِي وَجْهٍ أَقْرَبَ مِنْ الْعَدَدِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : يَصُومُ عَلَى عَدَدِ
الْمَسَاكِينِ فِي الطَّعَامِ لَا عَلَى عَدَدِ الْأَمْدَادِ الْأَشْهُرِ ، وَهُوَ
عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَالْكَافَّةِ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِالْأَمْدَادِ ، وَقَدْ
قَالَ الشَّافِعِيُّ : عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي
لِمَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ
يَوْمًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى .
وَاعْتِبَارُ الْكَفَّارَةِ بِالْفِدْيَةِ لَا وَجْهَ
لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُظَرَائِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ
بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛
فِي الْجَزَاءِ مِنْ النَّعَمِ ، وَالْإِطْعَامِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ
يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي الْحَالِ كُلِّهَا ، وَهِيَ تَنْحَصِرُ فِي مَوَاضِعَ سَبْعَةٍ
: الْأَوَّلُ : هَلْ يُحْكَمُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ أَوْ فِي الْعَمْدِ
وَحْدَهُ ؟ الثَّانِي : هَلْ يُحْكَمُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ كَمَا
يَكُونُ فِي الْإِحْرَامِ ؟ الثَّالِثُ : هَلْ يُحْكَمُ بِالْجَزَاءِ حَيَوَانًا
أَوْ قِيمَةً ؟ الرَّابِعُ : إذَا رَأَى الْحَيَوَانَ جَزَاءً عَنْ حَيَوَانٍ .
فِي تَعْيِينِ الْحَيَوَانِ خِلَافٌ كَثِيرٌ لَا بُدَّ
مِنْ تَسْلِيطِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِ
الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؛ هَلْ يَسْتَوِي صَغِيرُهُ وَكَبِيرُهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ
فِي الْكِتَابِ حِينَ جَعَلَهُ كَالدِّيَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُرَاعِي صِفَاتِهِ
أَجْمَعَ حَتَّى الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ ، أَمْ تُرَاعَى
الْأُصُولُ ، أَوْ يُرَاعَى الْعَيْبُ وَالسَّلَامَةُ ،
أَوْ هُمَا وَاحِدٌ ؟ وَهَلْ يَكُونُ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ كَمَا فِي كِتَابِ
مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ ، أَمْ يَكُونُ فِيهَا الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا
تُقَارِبُ خَلْقَ الْبَقَرِ وَلَا تَبْلُغُ خَلْقَ الْإِبِلِ ؟ الْخَامِسُ : هَلْ
الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا تُجْزِئُ أَمْ بَعْضُهَا ؟ السَّادِسُ : هَلْ يَقُومُ
الْمِثْلُ بِالطَّعَامِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ ؟ السَّابِعُ : هَلْ يَكُونُ
التَّقْوِيمُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ أَمْ بِمَوْضِعِ الْكَفَّارَةِ ؟ وَهَكَذَا
إلَى آخِرِ فُصُولِ الِاخْتِلَافِ ، فَيُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْحُكْمَيْنِ
حَتَّى يُخَلِّصَ اجْتِهَادُهُمَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوهِ
الْمُخْتَلِفَةِ ، فَيَلْزَمُهُ مَا قَالَا .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا
قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَجَزَاهُ
.
ثُمَّ قَتَلَهُ ثَانِيَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى
وَالثَّانِيَةِ ، وَمِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَحْبَارٌ مِمَّنْ لَا
يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِمْ إيرَادُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛
فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ ،
فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ [ فَإِنَّ
الطَّلَاقَ ] لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ
عَلَى تَكْرَارِ الْحُكْمِ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ فَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ
الدَّلِيلِ الْقَائِمِ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ الْمُضَافِ إلَيْهِ ؛
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }
فَإِنَّ الْوُضُوءَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْقِيَامِ مَعَ الْحَدَثِ ،
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ
صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ } .
وَهَا هُنَا تَكَرَّرَ الِاسْمُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ ،
بِقَوْلِهِ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَالنَّهْيُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ ،
فَالْجَزَاءُ لِأَجْلِ ذَلِكَ مُتَوَجِّهٌ لَازِمٌ ذِمَّتَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا
سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وَلَمْ يَذْكُرْ جَزَاءً
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قُلْنَا : قَوْلُهُ
سُبْحَانَهُ : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا
الْإِسْلَامِ ، أَوْ عَمَّا قَبْلَ بَيَانِ الْحُكْمِ ؛ فَإِنَّ الْوَاقِعَ
قَبْلَهُ عَفْوٌ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ عَادَ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : يَعْنِي فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ
مِنْهُ ، وَعَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ
مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ ،
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَمَادِي
التَّحْرِيمِ فِي الْإِحْرَامِ وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فِي دِينِ
الْإِسْلَامِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الدَّلِيلِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : {
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } يَعْنِي وَهُوَ مُحْرِمٌ ، { فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
} .
وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَسَنُ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٌ وَشُرَيْحٌ
.
وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ
عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : نَعَمْ نَحْكُمُ عَلَيْهِ أَفَيُخْلَعُ يَعْنِي يُخْرَجُ عَنْ
حُكْمِ الْمُحْرِمِينَ ؛ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : إنَّهُ إذَا قَتَلَهُ
مُتَعَمِّدًا فَقَدْ حَلَّ إحْرَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا [ يُنَافِي ]
عِبَادَةً فِيهَا ، فَأَبْطَلَهَا ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ
أَحْدَثَ فِيهَا .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ
الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَسَادَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ
الْمَسَائِلِ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ
إعَادَتِهِ ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا
مُخْتَلِفَانِ شَرْطًا وَوَصْفًا وَوَضْعًا فِي الْأَصْلِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ
أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ بِحَالٍ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا
تَقَدَّمَ ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْمُعَلَّيْ أَنَّ
رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَتَجُوزُ عَنْهُ ، ثُمَّ عَادَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَارًا مِنْ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ ،
وَهَذِهِ عِبْرَةٌ لِلْأُمَّةِ وَكَفٌّ لِلْمُعْتَدِينَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَا
تَقَدَّمَ فِيهِ لِلصَّحَابَةِ حُكْمٌ مِنْ الْجَزَاءِ فِي صَيْدٍ يَبْتَدِئُ
الْآنَ الْحَكَمَانِ النَّظَرَ فِيهِ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُنْظَرُ فِيمَا نَظَرَتْ
فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ نَفَذَ ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِقَضَايَا
الدِّينِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ أَنْفَذَتْهُ الصَّحَابَةُ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ
فِيهِ ثَانِيًا .
وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا
انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ ، وَهَذَا تَسَامُحٌ مِنْهُ ؛
فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ ، فَحَذْفُ بَعْضِ
الْعَدَدِ إسْقَاطٌ لِلظَّاهِرِ ، وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى لِأَنَّ حُكْمَ
الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى
بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ،
فَزِيَادَةُ ثَانٍ إلَيْهِ غَيْرَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ
بِرَجُلَيْنِ سِوَاهُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْلُهُ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } : عَامٌّ فِي الْمُحِلِّ
وَالْمُحْرِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ التَّقْسِيمِ
وَالتَّنْوِيعِ قَبْلَ هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { الْبَحْرِ } هُوَ كُلُّ
مَاءٍ كَثِيرٍ ، وَأَصْلُهُ الِاجْتِمَاعُ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمَدَائِنُ
بِحَارًا .
وَيُقَالُ لِلْبَلْدَةِ : الْبَحْرَةُ وَالْبُحَيْرَةُ ؛
لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا ؛ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }
: إنَّ الْبَحْرَ الْبِلَادُ ، وَالْبَرَّ الْفَيَافِي
وَالْقِفَارُ .
وَفَائِدَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ بَرًّا
وَبَحْرًا وَهَوَاءً ، وَجَعَلَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ
الثَّلَاثَةِ عِمَارَةً ، فَعِمَارَةُ الْهَوَاءِ الطَّيْرُ ، وَعِمَارَةُ
الْمَاءِ الْحِيتَانُ ، وَعِمَارَةُ الْأَرْضِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ ، وَجَعَلَ
كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْإِنْسَانِ عَلَى شُرُوطٍ وَتَنْوِيعٍ ، هِيَ
مُبَيَّنَةٌ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { صَيْدُ الْبَحْرِ
} : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : مَا صِيدَ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى
تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّانِي : هُوَ حِيتَانُهُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : السَّمَكُ الْجَرِيُّ ؛ قَالَهُ ابْنُ
جُبَيْرٍ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَرْجِعُ إلَى
قَوْلٍ وَاحِدٍ ، وَهِيَ حِيتَانُهُ تَفْسِيرًا ، وَيَرْجِعُ مِنْ طَرِيقِ
الِاشْتِقَاقِ إلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا حُووِلَ أَخْذُهُ بِحِيلَةٍ وَعَمَلٍ ،
وَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ : مَا صِيدَ مِنْهُ ، وَهُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ،
فَكَأَنَّهُ قَالَ : " أُحِلَّ لَكُمْ أَخْذُ مَا فِي الْبَحْرِ مِنْ
الْحِيتَانِ بِالْمُحَاوَلَةِ ، وَأُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ ، وَهُوَ مَا أُخِذَ
بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ " وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي
يُؤْخَذُ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ وَلَا حِيلَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
مَا طَفَا عَلَيْهِ مَيْتًا .
وَالثَّانِي : مَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ ، فَأَخَذَهُ
النَّاسُ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَطَعَامُهُ } : عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا جَزَرَ عَنْهُ .
وَالثَّانِي
: مَا طَفَا عَلَيْهِ ؛ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَقَتَادَةُ ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْنٍ عَنْ سُفْيَانَ ، قَالَ : صَيْدُ الْبَحْرِ
مَا صِيدَ ، وَطَعَامُهُ مَيْتَتُهُ
.
الثَّالِثُ : مَمْلُوحُهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا
أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا
فَلَا تَأْكُلُوهُ } .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ
عَلَى جَابِرٍ .
وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ
مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ }
.
وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ، وَلَا كَلَامَ
بَعْدَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِينَ
قَالُوا : إنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ
========
ج8. كتاب : أحكام القرآن ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ
يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يُسْجَنُ ؛ قَالَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَهُوَ مَشْهُورٌ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي
غَيْرِ بَلَدِ الْجِنَايَةِ .
الثَّانِي : يُنْفَى إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ ؛ قَالَهُ
أَنَسٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَغَيْرُهُمْ .
الثَّالِثُ : يُخْرَجُونَ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى مَدِينَةٍ
أَبَدًا ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .
الرَّابِعُ :
يُطْلَبُونَ بِالْحُدُودِ أَبَدًا فَيَهْرُبُونَ مِنْهَا
؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَمَالِكٌ .
وَالْحَقُّ أَنْ يُسْجَنَ ، فَيَكُونُ السِّجْنُ لَهُ
نَفْيًا مِنْ الْأَرْضِ ، وَأَمَّا نَفْيُهُ إلَى بَلَدِ الشِّرْكِ فَعَوْنٌ لَهُ
عَلَى الْفَتْكِ .
وَأَمَّا نَفْيُهُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَشُغْلٌ لَا
يُدَانُ بِهِ لِأَحَدٍ ، وَرُبَّمَا فَرَّ فَقَطَعَ الطَّرِيقَ ثَانِيَةً .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : يُطْلَبُ أَبَدًا وَهُوَ
يَهْرُبُ مِنْ الْحَدِّ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَزَاءٍ ،
وَإِنَّمَا هُوَ مُحَاوَلَةُ طَلَبِ الْجَزَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ } قَالَ الشَّافِعِيُّ
: إذَا أُخِذَ فِي الْحِرَابَةِ نَصَّابًا .
قُلْنَا : أَنْصِفْ مِنْ نَفْسِك أَبَا عَبْدِ اللَّهِ
وَوَفِّ شَيْخَكَ حَقَّهُ لِلَّهِ
.
إنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
فَاقْتَضَى هَذَا قَطْعَهُ فِي حَقِّهِ .
وَقَالَ فِي الْمُحَارَبَةِ : { إنَّمَا جَزَاءُ
الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَاقْتَضَى بِذَلِكَ تَوْفِيَةَ
الْجَزَاءِ لَهُمْ عَلَى الْمُحَارَبَةِ عَنْ حَقِّهِ ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّارِقِ أَنَّ قَطْعَهُ فِي نِصَابٍ
وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ ، وَبَقِيَتْ الْمُحَارَبَةُ عَلَى عُمُومِهَا .
فَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَرُدَّ الْمُحَارَبَةَ إلَى
السَّرِقَةِ كُنْتَ مُلْحِقًا الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى وَخَافِضًا الْأَرْفَعَ
إلَى الْأَسْفَلِ ، وَذَلِكَ عَكْسُ الْقِيَاسِ .
وَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُقَاسَ الْمُحَارِبُ وَهُوَ
يَطْلُبُ النَّفْسَ إنْ وَقَى الْمَالَ بِهَا عَلَى السَّارِقِ وَهُوَ يَطْلُبُ
خَطْفَ الْمَالِ ، فَإِنْ شَعَرَ بِهِ فَرَّ ، حَتَّى إنَّ السَّارِقَ إذَا دَخَلَ
بِالسِّلَاحِ يَطْلُبُ الْمَالَ ، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهُ أَوْ صِيحَ عَلَيْهِ
وَحَارَبَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُحَارِبٌ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِ .
[ قَالَ الْقَاضِي ] : وَكُنْت فِي أَيَّامِ حُكْمِي بَيْنَ
النَّاسِ إذَا جَاءَنِي أَحَدٌ بِسَارِقٍ وَقَدْ دَخَلَ الدَّارَ بِسِكِّينٍ
يَسْحَبُهُ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِ الدَّارِ وَهُوَ نَائِمٌ ، وَأَصْحَابُهُ
يَأْخُذُونَ مَالَ الرَّجُلِ حَكَمْتُ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمُحَارِبِينَ ؛
فَافْهَمُوا هَذَا مِنْ أَصْلِ الدِّينِ ، وَارْتَفِعُوا إلَى يَفَاعِ الْعِلْمِ
عَنْ حَضِيضِ الْجَاهِلِينَ .
وَالْمُسْكِتُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ
الْحِرْزَ ، فَلَوْ كَانَ الْمُحَارِبُ مُلْحَقًا بِالسَّارِقِ لِمَا كَانَ ذَلِكَ
إلَّا عَلَى حِرْزٍ .
وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يَقُولَ : أَحَدُ شَرْطَيْ
السَّرِقَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي الْمُحَارِبِ كَالْحِرْزِ وَالتَّعْلِيلِ
النِّصَابُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا صَلَبَ الْإِمَامُ
الْمُحَارِبَ فَإِنَّهُ يَصْلُبُهُ حَيًّا : وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَصْلُبُهُ
مَيِّتًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يُقَتَّلُوا
أَوْ يُصَلَّبُوا } ، فَبَدَأَ بِالْقَتْلِ .
قُلْنَا : نَعَمْ الْقَتْلُ مَذْكُورٌ أَوَّلًا ،
وَلَكِنْ بَقِيَ أَنَّا إذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا كَيْفَ يَكُونُ الْحُكْمُ
هَاهُنَا هُوَ الْخِلَافُ .
وَالصَّلْبُ حَيًّا أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَى
وَأَفْضَحُ ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَعْنَى الرَّدْعِ الْأَصْلَحِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَا خِلَافَ فِي أَنَّ
الْحِرَابَةَ يُقْتَلُ فِيهَا مَنْ قَتَلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَقْتُولُ
مُكَافِئًا لِلْقَاتِلِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ : مِنْهُمَا أَنَّهُ
تُعْتَبَرُ الْمُكَافَأَةُ فِي الدِّمَاءِ لِأَنَّهُ قَتْلٌ ، فَاعْتُبِرَتْ فِيهِ
الْمُكَافَأَةُ كَالْقِصَاصِ .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ هَاهُنَا لَيْسَ
عَلَى مُجَرَّدِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَى الْفَسَادِ الْعَامِّ ، مِنْ
التَّخْوِيفِ وَسَلْبِ الْمَالِ ، فَإِنْ انْضَافَتْ إلَيْهِ إرَاقَةُ الدَّمِ
فَحُشَ ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَا يُرَاعَى مَالُ مُسْلِمٍ مِنْ كَافِرٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا خَرَجَ
الْمُحَارِبُونَ فَاقْتَتَلُوا مَعَ الْقَافِلَةِ فَقَتَلَ بَعْضُ الْمُحَارِبِينَ
، وَلَمْ يَقْتُلْ بَعْضٌ ، قُتِلَ الْجَمِيعُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُقْتَلُ إلَّا مَنْ قَتَلَ .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْيِيرِ الْإِمَامِ
وَتَفْصِيلِ الْأَحْكَامِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
وَيُعَضِّدُ هَذَا أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ
شُرَكَاءُ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُ جَمِيعُهُمْ .
وَقَدْ اتَّفَقَ مَعَنَا عَلَى قَتْلِ الرِّدْءِ وَهُوَ
الطَّالِعُ ، فَالْمُحَارِبُ أَوْلَى
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } فِيهِ
خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ ؛
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي : إلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَقَدْ حَارَبُوا
بِأَرْضِ الشِّرْكِ .
الثَّالِثُ : إلَّا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ .
الرَّابِعُ :
إلَّا الَّذِينَ تَابُوا فِي حُقُوقِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ ؛ إلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ : وَفِي حُقُوقِ
الْآدَمِيِّينَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ مَالٌ يُعْرَفُ ، أَوْ يَقُومَ
وَلِيٌّ يَطْلُبُ دَمَهُ فَلَهُ أَخْذُهُ وَالْقِصَاصُ مِنْهُ .
الْخَامِسُ : قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : لَا
يُطْلَبُ بِشَيْءٍ لَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَلَا مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ .
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ الْآيَةَ فِي
الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ الَّذِي يَقُولُ إنَّ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا } عَائِدٌ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ضَعْفَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَرَادَ إلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِمَّنْ هُوَ بِأَرْضِ الشِّرْكِ فَهُوَ تَخْصِيصٌ طَرِيفٌ ، وَلَهُ
وَجْهٌ طَرِيفٌ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ } يُعْطِي أَنَّهُمْ بِغَيْرِ أَرْضِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؛ وَلَكِنْ
كُلُّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَأْخُذُهُ الْأَحْكَامُ وَتَسْتَوْلِي
عَلَيْهِ الْقُدْرَةُ ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنْتَهُ لَمْ يَصِحَّ تَنْزِيلُهُ ؛
فَإِنَّ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ،
فَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ إلَى الْجَبَلِ ، وَتَوَسَّطَ الْبَيْدَاءَ فِي مَنَعَةٍ
فَلَا تَتَّفِقُ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِجَرِّ جَيْشٍ وَنَفِيرِ قَوْمٍ ؛
فَلَا يُقَالُ : إنَّا قَادِرُونَ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : أَرَادَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ ،
فَيَرْجِعُ إلَى الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ .
قُلْنَا : إنَّا نَقُولُ هُوَ عَلَى عُمُومِهِ فِي
الْحُقُوقِ كُلِّهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي
الْحُقُوقِ كُلِّهَا فَقَدْ عَلِمْنَا
بُطْلَانَ ذَلِكَ بِمَا قَامَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى
أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ لَا يَغْفِرُهَا الْبَارِّي سُبْحَانَهُ إلَّا
بِمَغْفِرَةِ صَاحِبِهَا ، وَلَا يُسْقِطُهَا إلَّا بِإِسْقَاطِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
فَكَانَتْ هَذِهِ الْمَغْفِرَةُ عَامَّةً فِي كُلِّ
حَقٍّ .
قُلْنَا :
هَذِهِ مَغْفِرَةٌ عَامَّةٌ بِلَا خِلَافٍ
لِلْمَصْلَحَةِ فِي التَّحْرِيضِ لِأَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى الدُّخُولِ فِي
الْإِسْلَامِ ؛ فَأَمَّا مَنْ الْتَزَمَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فَلَا يُسْقِطُ
عَنْهُ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَابُهَا .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الشَّهَادَةِ : إنَّهَا تُكَفِّرُ كُلَّ خَطِيئَةٍ إلَّا الدَّيْنَ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّ حُكْمَهَا أَنَّهَا
تُكَفِّرُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ صَحِيحٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ : إنَّ
الْإِمَامَ لَا يَتَوَلَّى طَلَبَهَا ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُهَا أَرْبَابُهَا
وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَيْسَ بِوَكِيلٍ
لِمُعَيِّنِينَ مِنْ النَّاسِ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُعِينَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ
نَائِبُهُمْ فِي حُقُوقِهِمْ الْمُجْمَلَةِ الْمُبْهَمَةِ الَّتِي لَيْسَتْ
بِمُعَيَّنَةٍ .
وَأَمَّا إنْ عَرَفْنَا بِيَدِهِ مَالًا لِأَحَدٍ
أَخَذَهُ فِي الْحِرَابَةِ فَلَا نُبْقِيه فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ غَصْبٌ ، وَنَحْنُ
نُشَاهِدُهُ ، وَالْإِقْرَارُ عَلَى الْمُنْكَرِ لَا يَجُوزُ ، فَيَكُونُ بِيَدِ
صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَأْخُذَهُ مَالِكُهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ وَأَخِيهِ
الَّذِي يُوقِفُهُ الْإِمَامُ عِنْدَهُ
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } فِيهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ
مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي شَرَحَ حَقِيقَةِ السَّرِقَةِ : وَهِيَ
أَخْذُ الْمَالِ عَلَى خُفْيَةٍ مِنْ الْأَعْيُنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي
مَسْأَلَةِ قَطْعِ النَّبَّاشِ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، فَلْيُنْظَرْ
هُنَالِكَ فِي كُتُبِهِ .
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ : السَّارِقُ هُوَ
الْمُعْلِنُ وَالْمُخْتَفِي .
وَقَالَ ثَعْلَبٌ : هُوَ الْمُخْتَفِي ، وَالْمُعْلِنُ
عَادٍ .
وَبِهِ نَقُولُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْأَلِفُ وَاللَّامُ مِنْ
السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ بَيَّنَّا مَعْنَاهُمَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ .
وَقُلْنَا
: إنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ يَجْتَمِعَانِ فِي الِاسْمِ
وَيَرِدَانِ عَلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَلِلتَّعْيِينِ ، وَكِلَاهُمَا تَعْرِيفٌ
بِمَنْكُورٍ عَلَى مَرَاتِبَ ؛ فَإِنْ دَخَلَتْ لِتَخْصِيصِ الْجِنْسِ فَمِنْ
فَوَائِدِهَا صَلَاحِيَةُ الِاسْمِ لِلِابْتِدَاءِ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
و { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } .
وَإِنْ دَخَلَتْ لِلتَّعْيِينِ فَفَوَائِدُهُ
مُقَرَّرَةٌ هُنَالِكَ ، وَهِيَ إذَا اقْتَضَتْ تَخْصِيصَ الْجِنْسِ أَفَادَتْ
التَّعْمِيمَ فِيهِ بِحُكْمِ حَصْرِهَا لَهُ عَنْ غَيْرِهِ إذَا كَانَ الْخَبَرُ
عَنْهَا وَالْمُتَعَلِّقُ بِهَا صَالِحًا فِي رَبْطِهِ بِهَا دُونَ مَا سِوَاهَا ،
وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً .
وَقَدْ أَنْكَرَهُ أَهْلُ الْوَقْفِ فِي هَذَا الْبَابِ
وَغَيْرِهِ كَمَا أَنْكَرُوا جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ عَلَيْهِمْ فِي التَّلْخِيصِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } عَامٌّ فِي كُلِّ
سَارِقٍ وَسَارِقَةٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَدًّا عَلَى مَنْ
يَرَى أَنَّهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ ، وَذَلِكَ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ
الْمُجْمَلَ ، وَلَا الْعَامَّ ؛ فَإِنَّ السَّرِقَةَ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً لُغَةً
إذْ لَيْسَتْ لَفْظَةً شَرْعِيَّةً بِاتِّفَاقٍ رُبِطَتْ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ
تَخْصِيصًا ، وَعُلِّقَ عَلَيْهَا الْخَبَرُ بِالْحُكْمِ رَبْطًا ، فَقَدْ
أَفَادَتْ الْمَقْصُودَ ، وَجَرَتْ عَلَى الِاسْتِرْسَالِ وَالْعُمُومِ ، إلَّا
فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ
قَرَأَهَا : " وَالسَّارِقُونَ وَالسَّارِقَاتُ " ؛ لِيُبَيِّنَ
إرَادَةَ الْعُمُومِ .
وَاَلَّذِي يَقْطَعُ لَك بِصِحَّةِ إرَادَةِ الْعُمُومِ
أَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّهُ
لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ
لِحَصْرِ الْجِنْسِ ، وَهُوَ الْعُمُومُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ
: وَالسَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ بِالنَّصْبِ ، وَرُوِيَ عَنْ عِيسَى بْنِ عُمَرَ
مِثْلُهُ .
قَالَ سِيبَوَيْهِ هِيَ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ فِي
الْأَمْرِ وَالنَّهْي فِي هَذَا النَّصْبُ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْكَلَامِ تَقَدُّمَ
الْفِعْلَ ، وَهُوَ فِيهِ أَوْجَبُ ، وَإِنَّمَا قُلْت زَيْدًا ضَرَبَهُ ،
وَاضْرِبْهُ مَشْغُولُهُ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَكُونَانِ إلَّا
بِالْفِعْلِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِضْمَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ .
قَالَ الْقَاضِي : أَصْلُ الْبَابِ قَدْ أَحْكَمْنَاهُ
فِي الْمُلْجِئَةِ ، وَنُخْبِتُهُ أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ فَاعِلٍ
وَمَفْعُولِ ، فَإِذَا أَخْبَرْت بِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ خَبَرًا غَرِيبًا كَانَ
عَلَى سِتِّ صِيَغٍ : الْأُولَى : ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا .
الثَّانِيَةُ : زَيْدٌ ضَرَبَ عَمْرًا .
الثَّالِثَةُ : عَمْرًا ضَرَبَ زَيْدٌ .
الرَّابِعَةُ : ضَرَبَ عَمْرًا زَيْدٌ .
الْخَامِسَةُ : زَيْدٌ عَمْرًا ضَرَبَ .
السَّادِسَةُ : عَمْرًا زَيْدٌ ضَرَبَ .
فَالْخَامِسَةُ وَالسَّادِسَةُ نَظْمٌ مُهْمَلٌ لَا
مَعْنَى لَهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَجَاءَ مِنْ هَذَا جَوَازُ تَقْدِيمِ
الْمَفْعُولِ ، كَمَا جَازَ تَقَدُّمُ الْفَاعِلِ ، بَيْدَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمْت
الْمَفْعُولَ بَقِيَ بِحَالِهِ إعْرَابًا ، فَإِذَا قَدَّمْت الْفَاعِلَ خَرَجَ
عَنْ ذَلِكَ الْحَدِّ فِي الْإِعْرَابِ ، وَبَقِيَ الْمَعْنَى الْمُخْبَرُ عَنْهُ
، وَحَدَثَ فِي تَرْتِيبِ الْخَبَرِ مَا أَوْجَبَ تَغْيِيرَ الْإِعْرَابِ ، وَهُوَ
الْمَعْنَى الَّذِي يُسَمَّى الِابْتِدَاءُ ، ثُمَّ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْبَابِ
الْأَدَوَاتُ الَّتِي وُضِعَتْ لِتَرْتِيبِ الْمَعَانِي وَهِيَ كَثِيرَةٌ أَوْ
الْمَقَاصِدِ وَهِيَ أَصْلٌ فِي التَّغْيِيرِ ، وَمِنْهَا وَضْعُ الْأَمْرِ
مَوْضِعَ الْخَبَرِ ، تَقُولُ : اضْرِبْ زَيْدًا .
وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ اسْتِدْعَاءَ إيقَاعِ
الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ هُنَالِكَ فَاعِلٌ سَقَطَ فِي
إسْنَادِ الْفِعْلِ ، وَثَبَتَ فِي تَعَلُّقِ الْخِطَابِ بِهِ وَارْتِبَاطِهِ ،
وَتَكُونُ لَهُ صِيغَتَانِ : إحْدَاهُمَا هَذِهِ .
وَالثَّانِيَةُ : زَيْدًا اضْرِبْ ، كَمَا كَانَ فِي
الْخَبَرِ ؛ وَلَا يُتَصَوَّرُ
صِيغَةٌ ثَالِثَةٌ ، فَلَمَّا جَازَ تَقْدِيمُهُ
مَفْعُولًا كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهُ أَلَّا يَأْتِيَ إلَّا مَنْصُوبًا عَلَى حُكْمِ
تَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ ، وَلَكِنْ رَفَعُوهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَمْ يَقَعْ
عَلَيْهِ بَعْدُ ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ وُقُوعُهُ بِهِ فَيُخْبِرُ عَنْهُ ، ثُمَّ
يَقْتَضِي الْفِعْلَ فِيهِ ، فَإِنْ اقْتَضَى وَلَمْ يُخْبِرْ لَمْ يَكُنْ إلَّا
مَنْصُوبًا ، وَإِنْ أَخْبَرَ وَلَمْ يَقْتَضِ لَمْ يَكُنْ إلَّا مَرْفُوعًا ،
فَهُمَا إعْرَابَانِ لِمَعْنَيَيْنِ ، فَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَقْوَى مِنْ
الْآخَرِ .
تَتْمِيمٌ : فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقُلْت : زَيْدٌ
فَاضْرِبْهُ فَإِنْ نَصَبْته فَعَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ ، وَإِنْ رَفَعْته فَعَلَى
تَقْدِيرِ الِابْتِدَاءِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدِ الْمُخْبِرِ ، وَيَكُونُ
تَقْدِيرُهُ مَعَ النَّصْبِ اضْرِبْ زَيْدًا فَاضْرِبْهُ ، فَأَمَّا إذَا طَالَ
الْكَلَامُ فَقُلْت : زَيْدًا فَاقْطَعْ يَدَهُ كَانَ النَّصْبُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ
الْكَلَامَ يَطُولُ فَيَقْبُحُ الْإِضْمَارُ فِيهِ لِطُولِهِ .
وَهَذَا قَالَبُ سِيبَوَيْهِ أَفْرَغْنَا عَلَيْهِ .
وَأَقُولُ :
إنَّ الْكَلَامَ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الْجَزَاءِ ،
أَوْ كَانَتْ الْفَاءُ فِيهِ مُنَزَّلَةً عَلَى تَقْدِيرِ جَوَابِهِ فَإِنَّ
الرَّفْعَ فِيهِ أَعْلَى ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ يَكُونُ لَهُ ، فَلَا يَبْقَى
لِتَقْدِيرِ الْمَفْعُولِ إلَّا وَجْهٌ بَعِيدٌ ؛ فَهَذَا مُنْتَهَى الْقَوْلِ
عَلَى الِاخْتِصَاصِ .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
هَذِهِ الْآيَةَ عَامَّةٌ ، لَا طَرِيقَ لِلْإِجْمَالِ إلَيْهَا ، فَالسَّرِقَةُ
تَتَعَلَّقُ بِخَمْسَةِ مَعَانٍ : فِعْلٌ هُوَ سَرِقَةٌ ، وَسَارِقٌ ، وَمَسْرُوقٌ
مُطْلَقٌ ، وَمَسْرُوقٌ مِنْهُ ، وَمَسْرُوقٌ فِيهِ .
فَهَذِهِ خَمْسَةُ مُتَعَلِّقَاتٍ يَتَنَاوَلُ
الْجَمِيعَ عُمُومُهَا إلَّا مَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ .
أَمَّا السَّرِقَةُ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا .
وَأَمَّا السَّارِقُ ، وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : [ السَّارِقُ ] : فَهُوَ
فَاعِلٌ مِنْ السَّرِقَةِ ، وَهُوَ كُلُّ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا عَلَى طَرِيقِ
الِاخْتِفَاءِ عَنْ الْأَعْيُنِ ؛ لَكِنَّ الشَّرِيعَةَ شَرَطَتْ فِيهِ سِتَّةَ
مَعَانٍ : الْعَقْلُ : لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْقِلُ لَا يُخَاطَبُ عَقْلًا .
وَالْبُلُوغُ : لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ لَا
يَتَوَجَّه إلَيْهِ الْخِطَابُ شَرْعًا
.
وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ : لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَدِيثَ
عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ وَلَمْ يُثَافَنْ حَتَّى يَعْرِفَ الْأَحْكَامَ ، وَادَّعَى
الْجَهْلَ فِيمَا أَتَى مِنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَظَهَرَ صِدْقُهُ لَمْ
تَجِبْ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ كَالْأَبِ فِي مَالِ ابْنِهِ ، لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ أَطْيَبِ مَا أَكَلَ
الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إذَا وَطِئَ أَمَةَ ابْنِهِ لَا
حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ الَّتِي لَهُ فِيهَا ، وَالْحُدُودُ تَسْقُطُ
بِالشُّبُهَاتِ ، فَهَذَا الْأَبُ وَإِنْ كَانَ جَاءَ بِصُورَةٍ السَّرِقَةِ فِي
أَخْذِ الْمَالِ خِفْيَةً فَإِنَّ لَهُ فِيهِ سُلْطَانَ الْأُبُوَّةِ وَتَبَسُّطَ
الِاسْتِيلَاءِ ، فَانْتَصَبَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ
بِالشُّبُهَاتِ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ الْمَسْرُوقِ ، وَهِيَ [
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ ] .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : [ مُتَعَلِّقُ
الْمَسْرُوقِ ] : فَهُوَ كُلُّ مَالٍ تَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ ، وَيَصْلُحُ
عَادَةً وَشَرْعًا لِلِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَإِنْ مَنَعَ مِنْهُ الشَّرْعُ لَمْ يَنْفَعْ
تَعَلُّقُ الطَّمَاعِيَةِ فِيهِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الِانْتِفَاعُ مِنْهُ ،
كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ مَثَلًا
.
وَقَدْ كَانَ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي قَطْعَ سَارِقِ
الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ؛ لِإِطْلَاقِ الِاسْمِ عَلَيْهِ وَتَصَوُّرِ الْمَعْنَى
فِيهِ .
وَقَدْ قَالَ بِهِ قَوْمٌ مِنْهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ ،
فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّهُ قَطَعَ فِي دِرْهَمٍ .
وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْهُ لَمْ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ كَانَ ذَا شَوَاذٍّ ، وَلَا يَسْتَرِيبُ اللَّبِيبُ ، بَلْ يَقْطَعُ
الْمُنْصِفُ أَنَّ سَرِقَةَ التَّافِهِ لَغْوٌ ، وَسَرِقَةَ الْكَثِيرِ قَدْرًا
أَوْ صِفَةً مَحْسُوبٌ ، وَالْعَقْلُ لَا يَهْتَدِي إلَى الْفَصْلِ فِيهِ بِحَدٍّ
تَقِفُ الْمَعْرِفَةُ عِنْدَهُ ، فَتَوَلَّى الشَّرْعُ تَحْدِيدَهُ بِرُبْعِ
دِينَارٍ .
وَفِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عَائِشَةَ : " مَا طَالَ
عَلَيَّ وَلَا نَسِيت : الْقَطْعُ فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا " .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَرَوَى أَصْحَابُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا قَدْ بَيَّنَّا
ضَعْفَهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ
الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ } قُلْنَا
: هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ التَّحْذِيرِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ ، كَمَا جَاءَ
فِي مَعْرَضِ التَّرْغِيبِ بِالْقَلِيلِ عَنْ الْكَثِيرِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا وَلَوْ مِثْلَ
مَفْحَصِ قَطَاةِ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } .
وَقِيلَ :
إنَّ هَذَا مَجَازٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ؛ وَذَلِكَ
أَنَّهُ إذَا ظَفِرَ بِسَرِقَةِ الْقَلِيلِ سَرَقَ الْكَثِيرَ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ؛
فَبِهَذَا تَنْتَظِمُ الْأَحَادِيثُ ، وَيَجْتَمِعُ الْمَعْنَى وَالنَّصُّ فِي
نِظَامِ الصَّوَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَمِنْهُ كُلُّ مَالٍ
يُسْرِعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ ؛ لِأَنَّهُ
يُبَاعُ وَيُبْتَاعُ وَتَمْتَدُّ إلَيْهِ الْأَطْمَاعُ ، وَتُبْذَلُ فِيهِ
نَفَائِسُ الْأَمْوَالِ .
وَشُبْهَةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ مِنْ
التَّغَيُّرِ وَالْفَسَادِ ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِيهِ لَمَا لَزِمَ
الضَّمَانُ لِمُتْلِفِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَمِنْهُ كُلُّ مَا كَانَ
أَصْلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ ؛ كَجَوَاهِرِ الْأَرْضِ وَمَعَادِنِهَا ، وَشِبْهِ
ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ، ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ ،
فَتَنْتَصِبُ إبَاحَةُ أَصْلِهِ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَطْعِ بِسَرِقَتِهِ .
قُلْنَا :
لَا تَضُرُّ إبَاحَةٌ مُتَقَدِّمَةٌ إذَا طَرَأَ
التَّحْرِيمُ ، كَالْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ قَوْمٍ ، فَإِنَّ وَطْأَهَا
حَرَامٌ يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْد خُلُوصِهَا لِأَحَدِهِمْ ، وَلَا تُوجِبُ
الْإِبَاحَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ شُبْهَةً .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرِ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ } .
رَوَاهُ قَلِيلَهْ وَأَبُو دَاوُد .
وَانْفَرَدَ قَلِيلَهْ : { وَلَا فِي حَرِيسَةِ جَبَلٍ
إلَّا فِيمَا أَوَاهُ الْمَرَاحُ
} .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَمِنْهُ مَا إذَا سَرَقَ
حُرًّا صَغِيرًا .
قَالَ مَالِكٌ : عَلَيْهِ الْقَطْعُ .
وَقِيلَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ .
قُلْنَا :
هُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْمَالِ ؛ وَلَمْ يُقْطَعُ
السَّارِقُ فِي الْمَالِ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا قُطِعَ لِتَعَلُّقِ النُّفُوسِ
بِهِ ، وَتَعَلُّقِهَا بِالْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالْعَبْدِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : مُتَعَلَّقُ
الْمَسْرُوقِ مِنْهُ : وَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ يَرْجِعُ إلَى أَنَّهُ مَا كَانَ
مَالُهُ مُحْتَرَمًا بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { فَقَدْ حُرِّمَ مَالُهُ وَدَمُهُ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ } ،
إنَّ مَالَ الزَّوْجَيْنِ مُحْتَرَمٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ،
وَإِنْ كَانَتْ أَبْدَانُهُمَا حَلَالًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَعَاقَدَا
بِعَقْدٍ يَتَعَدَّى إلَى الْمَالِ
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : وَأَحَدُ قَوْلَيْ
الشَّافِعِيِّ : لَا يُقْطَعُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَقْتَضِي الْخِلْطَةَ
وَالتَّبَسُّطَ .
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْكَلَامَ فِيمَا يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ صَاحِبِهِ .
وَالثَّانِي :
أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي مَالِ زَوْجِهِ تَبَسُّطٌ
لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ بِوَطْءِ جَارِيَتِهَا ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا ، وَهِيَ : [ الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ ] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ
السَّارِقِ مِنْ ذِي رَحِمٍ ] : إنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مُحْرِمٍ
لِمِثْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ
ذَاتَ الرَّحِمِ لَوْ وَطِئَهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَكَذَلِكَ إذَا
سَرَقَ مَالَهَا ، وَشُبْهَةُ الْمَحْرَمِيَّةِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْمَالِ .
وَإِنَّمَا هِيَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا سَرَقَ
الْعَبْدُ مِنْ مَالِ سَيِّدِهِ ، أَوْ السَّيِّدُ مِنْ عَبْدِهِ : فَلَا قَطْعَ
بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ لِسَيِّدِهِ ، فَلَمْ يَقْطَعْ أَحَدٌ
بِأَخْذِ مَالِ عَبْدِهِ لِأَنَّهُ أَخْذٌ لِمَالِهِ ، وَإِنَّمَا إذَا سَرَقَ
الْعَبْدُ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَبِقَوْلِ الْخَلِيفَةِ : " غُلَامُكُمْ
سَرَقَ مَتَاعَكُمْ " ، وَهَذَا يَشْتَرِكُ مَعَ الْأَبِ فِي الْبَابَيْنِ ،
وَقَدْ بَيَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا مُتَعَلَّقُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَهِيَ [
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
] .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : [ مُتَعَلَّقُ
الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ] : فَهُوَ الْحِرْزُ الَّذِي نُصِبَ عَادَةً لِحِفْظِ
الْأَمْوَالِ ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ .
وَالْأَصْلُ فِي اعْتِبَارِ الْحِرْزِ الْأَثَرُ
وَالنَّظَرُ .
أَمَّا الْأَثَرُ : فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ إلَّا مَا أَوَاهُ الْجَرِينُ } .
وَأَمَّا النَّظَرُ فَهُوَ أَنَّ الْأَمْوَالَ خُلِقَتْ
مُهَيَّأَةً لِلِانْتِفَاعِ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، ثُمَّ بِالْحِكْمَةِ
الْأَوَّلِيَّةِ الَّتِي بَيِّنَاهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ حُكِمَ فِيهَا
بِالِاخْتِصَاصِ الَّذِي هُوَ الْمِلْكُ شَرْعًا ، وَبَقِيَتْ الْأَطْمَاعُ
مُعَلَّقَةً بِهَا ، وَالْآمَالُ مُحَوَّمَةً عَلَيْهَا ، فَتَكُفُّهَا
الْمُرُوءَةُ وَالدِّيَانَةُ فِي أَقَلِّ الْخَلْقِ ، وَيَكُفُّهَا الصَّوْنُ
وَالْحِرْزُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ ، فَإِذَا أَحَرَزهَا مَالِكُهَا فَقَدْ اجْتَمَعَ
بِهَا الصَّوْنَانِ ، فَإِذَا هُتِكَا فَحُشَتْ الْجَرِيمَةُ فَعَظُمَتْ
الْعُقُوبَةُ ؛ وَإِذَا هُتِكَ أَحَدُ الصَّوْنَيْنِ وَهُوَ الْمِلْكُ وَجَبَ
الضَّمَانُ وَالْأَدَبُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَ الْحِرْزِ
فِي الصَّوْنِ شَيْءٌ ، لَمَّا كَانَ غَايَةَ الْإِمْكَانِ رَكَّبَ عَلَيْهِ
الشَّرْعُ غَايَةَ الْعُقُوبَةِ مِنْ عِنْدِهِ رَدْعًا وَصَوْنًا ، وَالْأُمَّةُ
مُتَّفِقَةٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْحِرْزِ فِي الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ ؛
لِاقْتِضَاءِ لَفْظِهَا ، وَلَا تَضْمَنُ حِكْمَتُهَا وُجُوبَهُ ، وَلَمْ أَعْلَمْ
مَنْ تَرَكَ اعْتِبَارَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ ، وَلَا تَحَصَّلَ لِي مَنْ
يُهْمِلُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، وَإِنَّمَا هُوَ خِلَافٌ يُذْكَرُ ، وَرُبَّمَا
نُسِبَ إلَى مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ ، فَلِذَلِكَ أَعْرَضْت عَنْ ذِكْرِهِ ،
وَلِهَذَا الْمَعْنَى أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عَلَى
الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ لِعَدَمِ الْحِرْزِ فِيهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَهْتِكْ
حِرْزًا لَمْ يُلْزِمْهُ أَحَدٌ قِطْعًا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ الشَّرِيكِ
] : لَمَّا ثَبَتَ اعْتِبَارُ النِّصَابِ فِي الْقَطْعِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا
اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ ، فَاجْتَمَعُوا عَلَى إخْرَاجِ نِصَابٍ مِنْ حِرْزِهِ ؛
فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَى إخْرَاجِهِ ، أَوْ
يَكُونَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجَهُ إلَّا بِتَعَاوُنِهِمْ فَإِنْ كَانَ
مِمَّا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ إلَّا بِالتَّعَاوُنِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ
جَمِيعُهُمْ بِاتِّفَاقٍ مِنْ عُلَمَائِنَا .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُخْرِجهُ وَاحِدٌ وَاشْتَرَكُوا
فِي إخْرَاجِهِ فَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
لَا قَطْعَ فِيهِ .
وَالثَّانِي : فِيهِ الْقَطْعُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يُقْطَعُ
فِي السَّرِقَةِ الْمُشْتَرِكُونَ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَجِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فِي حِصَّتِهِ نِصَابٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي النِّصَابِ وَمَحَلِّهِ حِينَ لَمْ يَقْطَعْ إلَّا مِنْ سَرَقَ
نِصَابًا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَسْرِقْ نِصَابًا ، فَلَا قَطْعَ
عَلَيْهِمْ .
وَدَلِيلُنَا : الِاشْتِرَاكُ فِي الْجِنَايَةِ لَا
يُسْقِطُ عُقُوبَتَهَا ، كَالِاشْتِرَاكِ فِي الْقَتْلِ ، وَمَا أَقْرَبَ مَا
بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّا قَتَلْنَا الْجَمَاعَةَ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ ، صِيَانَةً
لِلدِّمَاءِ ، لِئَلَّا يَتَعَاوَنَ عَلَى سَفْكِهَا الْأَعْدَاءُ ، وَكَذَلِكَ
فِي الْأَمْوَالِ مِثْلُهُ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ سَاعَدَنَا الشَّافِعِيُّ عَلَى
أَنَّ الْجَمَاعَةَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَطْعِ يَدِ رَجُلٍ قُطِعُوا ، وَلَا
فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا اشْتَرَكُوا
فِي السَّرِقَةِ فَإِنْ نَقَبَ وَاحِدٌ الْحِرْزَ وَأَخْرَجَ آخَرُ فَلَا قَطْعَ
عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَقَبَ وَلَمْ
يَسْرِقْ ، وَالْآخَرَ سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ مَهْتُوكِ الْحُرْمَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنْ شَارَك فِي النَّقْبِ
وَدَخَلَ وَأَخَذَ قُطِعَ .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنْ كَانَ
بَيْنَهُمَا تَعَاوُنٌ وَاتِّفَاقٌ قُطِعَا ، وَإِنْ نَقَبَ سَارِقٌ وَجَاءَ آخَرُ
لَمْ يَشْعُرْ بِهِ فَدَخَلَ النَّقْبَ وَسَرَقَ فَلَا قَطْعَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ
شَرْطِ الْقَطْعِ وَهُوَ الْحِرْزُ ، وَفَصْلُ التَّعَاوُنِ قَدْ تَقَدَّمَ
وَدَلِيلُنَا عَلَيْهِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي النَّبَّاشِ
: قَالَ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ : يُقْطَعُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ ؛
لِأَنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مَالًا مُعَرَّضًا لِلتَّلَفِ لَا مَالِكَ
لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَمْلِكُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ السَّرِقَةَ ؛ لِأَنَّهُ فِي
مَوْضِعٍ لَيْسَ فِيهِ سَاكِنٌ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ السَّرِقَةُ بِحَيْثُ
تُتَّقَى الْأَعْيُنُ ، وَيُتَحَفَّظُ مِنْ النَّاس ، وَعَلَى نَفْي السَّرِقَةِ
عَوَّلَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
وَقُلْنَا : إنَّهُ سَارِقٌ ؛ لِأَنَّهُ تَدَرَّعَ اللَّيْلَ لِبَاسًا ، وَاتَّقَى
الْأَعْيُنَ ، وَتَعَمَّدْ وَقْتًا لَا نَاظِرَ فِيهِ وَلَا مَارَّ عَلَيْهِ ؛
فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَرَقَ فِي وَقْتِ تَبَرُّزِ النَّاسِ لِلْعِيدِ
وَخُلُوِّ الْبَلَدِ مِنْ جَمِيعِهِمْ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ الْقَبْرَ غَيْرُ حِرْزٍ
فَبَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حِرْزَ كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِ حَالِهِ الْمُمَكَّنَةِ فِيهِ
كَمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَرْكُ الْمَيِّتِ عَارِيًّا ، وَلَا
يُنْفَقُ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ دَفْنِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَنَ إلَّا مَعَ
أَصْحَابِهِ ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْحَاجَةُ قَاضِيَةً بِأَنَّ ذَلِكَ حِرْزُهُ ،
وَقَدْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَمْ
نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } لَيَسْكُنَ فِيهَا حَيًّا
وَيُدْفَنَ فِيهَا مَيِّتًا .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ عُرْضَةٌ لِلتَّلَفِ
فَكُلُّ مَا يَلْبَسُهُ الْحَيُّ أَيْضًا مُعَرَّضٌ لِلتَّلَفِ وَالْإِخْلَاقِ
بِلِبَاسِهِ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ أَعْجَلُ مِنْ الثَّانِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : إذَا سَرَقَ السَّارِقُ وَجَبَ الْقَطْعُ عَلَيْهِ وَرَدُّ
الْعَيْنِ ؛ فَإِنْ تَلِفَتْ فَعَلَيْهِ مَعَ الْقَطْعِ الْقِيمَةُ إنْ كَانَ
مُوسِرًا وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْغُرْمُ ثَابِتٌ فِي
ذِمَّتِهِ فِي الْحَالَيْنِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجْتَمِعُ الْقَطْعُ
مَعَ الْغُرْمِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ : {
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا
نَكَالًا مِنْ اللَّهِ } وَلَمْ يَذْكُرْ غُرْمًا ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ
، وَهِيَ نَسْخٌ ، وَنَسْخُ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ ،
أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ ، وَأَمَّا بِنَظَرٍ فَلَا يَجُوزُ قُلْنَا : لَا
نُسَلِّمُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ
فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
{ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ
وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى
} مُطْلَقًا
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُعْطَى لِذَوِي الْقُرْبَى
إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ ؛ فَزَادَ عَلَى النَّصِّ بِغَيْرِ نَصٍّ مِثْلِهِ
مِنْ قُرْآنٍ أَوْ خَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ
.
وَأَمَّا عُلَمَاءُ الشَّافِعِيَّةِ فَعَوَّلُوا عَلَى
أَنَّ الْقَطْعَ وَالْغُرْمَ حَقَّانِ لِمُسْتَحِقَّيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَلَا
يُسْقِطُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، كَالدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَلَيْسَ لَهُمْ مُتَعَلَّقٌ
قَوِيٌّ ، وَنَازَعَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أُقِيمَ عَلَى السَّارِقِ الْحَدُّ فَلَا ضَمَانَ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ بَاطِلٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لِأَنَّ الْإِتْبَاعَ بِالْغُرْمِ
عُقُوبَةٌ ، وَالْقَطْعَ عُقُوبَةٌ ، وَلَا تَجْتَمِعُ عُقُوبَتَانِ ، وَعَلَيْهِ
عَوَّلَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ ، وَهُوَ كَلَامٌ مُخْتَلُّ اللَّفْظِ .
وَصَوَابُهُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
مِنْ أَنَّ الْقَطْعَ وَاجِبٌ فِي الْبَدَنِ ، وَالْغُرْمَ عَلَى الْمُوسِرِ
وَاجِبٌ فِي الْمَالِ ، فَصَارَا
حَقَّيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ .
وَإِذَا كَانَ مُعْسِرًا فَقُلْنَا : يَثْبُتُ الْغُرْمُ
عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، كَمَا أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ الْقَطْعَ فِي الْبَدَنِ
وَالْغُرْمَ وَهُوَ مَحَلٌّ وَاحِدٌ ، فَلَمْ يَجُزْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ
الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْكَفَّارَةَ فِي مَالِهِ أَوْ ذِمَّتِهِ ،
وَالْجَزَاءَ فِي الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ يَنْقُضُ هَذَا الْأَصْلَ ؛ لِأَنَّهُ
يُجْمَعُ مَعَ الْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ الْحَدُّ وَالْمَهْرُ إلَّا أَنْ يَطَّرِدَ
أَصْلُنَا ، فَنَقُولُ : إذَا وَجَبَ الْحَدُّ وَكَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَجِبْ
الْمَهْرُ ، وَإِنَّ الْجَزَاءَ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُعْسِرٌ ،
سَقَطَتْ الْقِيمَةُ عَنْهُ ، فَحِينَئِذٍ تَطَّرِدُ الْمَسْأَلَةُ وَيَصِحُّ
الْمَذْهَبُ ؛ أَمَّا أَنَّهُ قَدْ رَوَى النَّسَائِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { لَا يَغْرَمُ صَاحِبُ سَرِقَةٍ إذَا أَقَمْتُمْ
عَلَيْهِ الْحَدَّ } .
فَلَوْ صَحَّ هَذَا لَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْمُعْسِرِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : إنْ شَاءَ أَغْرَمَ السَّارِقَ وَلَمْ يَقْطَعْهُ ، وَإِنْ شَاءَ
قَطَعَهُ وَلَمْ يُغْرِمْهُ ؛ فَجَعَلَ الْخِيَارَ إلَيْهِ ؛ وَالْخِيَارُ إنَّمَا
يَكُونُ لِلْمَرْءِ بَيْنَ حَقَّيْنِ هُمَا لَهُ ، وَالْقَطْعُ فِي السَّرِقَةِ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُخَيَّرَ الْعَبْدُ فِيهِ
كَالْحَدِّ وَالْمَهْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : إذَا سَرَقَ
الْمَالَ مِنْ الَّذِي سَرَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ ، فَإِنَّ
حُرْمَةَ الْمَالِكِ الْأَوَّلِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ لَمْ تَنْقَطِعْ عَنْهُ ،
وَيَدَ السَّارِقِ كَلَا يَدٍ .
فَإِنْ قِيلَ : اجْعَلُوا حِرْزَهُ كَلَا حِرْزٍ .
قُلْنَا : الْحِرْزُ قَائِمٌ ، وَالْمِلْكُ قَائِمٌ ،
وَلَمْ يَبْطُلْ الْمِلْكُ فِيهِ ، فَيَقُولُوا لَنَا : أَبْطِلُوا الْحِرْزَ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا
تَكَرَّرَتْ السَّرِقَةُ بَعْدَ الْقَطْعِ فِي الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ قُطِعَ
ثَانِيًا فِيهَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا قَطْعَ عَلَيْهِ .
وَلَيْسَ لِلْقَوْمِ دَلِيلٌ يُحْكَى ، وَلَا سِيَّمَا
وَقَدْ قَالَ مَعَنَا : إذَا تَكَرَّرَ الزِّنَا يُحَدُّ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا
اعْتِرَاضَهُمْ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَأَبْطَلْنَاهُ .
وَعُمُومُ الْقُرْآنِ يُوجِبُ عَلَيْهِ الْقَطْعَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ إذَا
مَلَكَ السَّارِقُ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ ] : إذَا مَلَكَ السَّارِقُ قَبْلَ
أَنْ يُقْطَعَ الْعَيْنَ الْمَسْرُوقَةَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ سَقَطَ الْقَطْعُ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } .
فَإِذَا وَجَبَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ
يُسْقِطْهُ شَيْءٌ وَلَا تَوْبَةُ السَّارِقِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ
وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّ التَّوْبَةَ
تُسْقِطُ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُدُودَهُ ، وَعَزَوْهُ إلَى الشَّافِعِيِّ قَوْلًا ،
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } .
وَذَلِكَ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ الْوُجُوبِ ، فَوَجَبَ
حَمْلُ جَمِيعِ الْحُدُودِ عَلَيْهِ
.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا بِعَيْنِهِ هُوَ
دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَدَّ
الْمُحَارِبِ قَالَ : { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ } .
وَعَطَفَ عَلَيْهِ حَدَّ السَّارِقِ ، وَقَالَ فِيهِ : {
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ }
فَلَوْ كَانَ ظُلْمُهُ فِي الْحُكْمِ مَا غَايَرَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا ، وَيَا
مَعْشَرَ الشَّافِعِيَّةِ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَيْنَ الدَّقَائِقُ
الْفِقْهِيَّةُ وَالْحِكَمُ الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي تَسْتَنْبِطُونَهَا فِي
غَوَامِضِ الْمَسَائِلِ ، أَلَمْ تَرَوْا إلَى الْمُحَارِبِ الْمُسْتَبِدِّ
بِنَفْسِهِ ، الْمُجْتَرِئِ بِسِلَاحِهِ ، الَّذِي يَفْتَقِرُ الْإِمَامُ مَعَهُ
إلَى الْإِيجَافِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ ، كَيْف أَسْقَطَ جَزَاءَهُ
بِالتَّوْبَةِ اسْتِنْزَالًا عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ ، كَمَا فُعِلَ بِالْكَافِرِ
فِي مَغْفِرَةِ جَمِيعِ مَا سَلَفَ اسْتِئْلَافًا عَلَى الْإِسْلَامِ .
فَأَمَّا السَّارِقُ وَالزَّانِي ، وَهُمْ فِي قَبْضَةِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَتَحْتَ حُكْمِ الْإِمَامِ ، فَمَا الَّذِي يُسْقِطُ عَنْهُمْ
مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ ؟ أَوْ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَلَى الْمُحَارِبِ ،
وَقَدْ فَرَّقَتْ بَيْنَهُمَا الْحَالَةُ وَالْحِكْمَةُ ؟
هَذَا لَا يَلِيقُ بِمِثْلِكُمْ ، يَا مَعْشَرَ
الْمُحَقِّقِينَ .
وَأَمَّا مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ ، فَقَدْ {
قَالَ صَفْوَانُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ لَهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ } .
خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَغَيْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ حُكْمُ
سَارِقِ الْمُصْحَفِ ] : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُقْطَعُ سَارِقُ الْمُصْحَفِ ،
وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَا يَنْفَعُ إلَّا أَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ وَتَمَلُّكَهُ .
فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ قُلْنَا لَهُ : إذَا اشْتَرَى
رَجُلٌ وَرَقًا وَكَتَبَ فِيهِ الْقُرْآنَ لَا يُبْطِلُ مَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ
كَلَامِ اللَّهِ مِلْكَهُ ، كَمَا لَمْ يُبْطِلْ مِلْكَهُ لَوْ كَتَبَ فِيهِ
حَدِيثَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِذَا ثَبَتَ
الْمِلْكُ تَرَتَّبْ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْقَطْعِ .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } اعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ
الْمُتَقَدِّمَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ فِي الْقُرْآنِ
لِذِكْرِهَا ، وَلَكِنَّ الْعُمُومَ لَمَّا كَانَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ
وَنُظَرَاءَهُ ذَكَرْنَا أُمَّهَاتِ النَّظَائِرِ ، لِئَلَّا يَطُولَ عَلَيْكُمْ
الِاسْتِيفَاءُ ، وَبَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّخْصِيصِ لِهَذَا الْعُمُومِ ،
لِتَعْلَمُوا كَيْفِيَّةَ اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى
، وَهَكَذَا عَقَدْنَا فِي كُلِّ آيَةٍ وَسَرَدْنَا ، فَافْهَمُوهُ مِنْ آيَاتِ
هَذَا الْكِتَابِ ؛ إذْ لَوْ ذَهَبْنَا إلَى ذِكْرِ كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا
مِنْ الْأَحْكَامِ لَصَعُبَ الْمَرَامُ .
وَمِنْ أَهَمِّ الْمَسَائِلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَا وَقَعَ
التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا } ، فَنَذْكُرُ وَجْهَ إيرَادِهَا لُغَةً ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : ثُمَّ نُفِيضُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي تَمَامِهَا ،
فَإِنَّهَا عَظِيمَةُ الْإِشْكَالِ لُغَةً لَا فِقْهًا ، فَنَقُولُ : إنْ قِيلَ :
كَيْفَ قَالَ : فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا ، وَإِنَّمَا هُمَا يَمِينَانِ " ؟
قُلْت : لَمَّا تَوَجَّهَ هَذَا السُّؤَالُ وَسَمِعَهُ النَّاسُ لَمْ يَحُلْ
أَحَدٌ مِنْهُمْ بِطَائِلٍ مِنْ فَهْمِهِ .
أَمَّا أَهْلُ اللُّغَةِ فَتَقَبَّلُوهُ ، وَتَكَلَّمُوا
عَلَيْهِ ، وَتَابَعَهُمْ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَا ذَكَرُوهُ حُسْنَ ظَنٍّ بِهِمْ
مِنْ غَيْرِ تَحْقِيقٍ لِكَلَامِهِمْ ، وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ :
الْوَجْهُ الْأَوَّلُ : أَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنْ الْأَعْضَاءِ
اثْنَانِ ، فَحُمِلَ الْأَقَلُّ عَلَى الْأَكْثَرِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ :
بُطُونُهُمَا وَعُيُونُهُمَا ، وَهُمَا اثْنَانِ ؛ فَجَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَهُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْعَرَبَ فَعَلَتْ ذَلِكَ لِلْفَصْلِ
بَيْنَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ وَبَيْنَ مَا فِيهِ مِنْهُ اثْنَانِ ،
فَجَعَلَ مَا فِي الشَّيْءِ مِنْهُ وَاحِدٌ جَمْعًا إذَا ثُنِّيَ ، وَمَعْنَى
ذَلِكَ أَنَّهُ وَإِنْ جُعِلَ جَمْعًا فَالْإِضَافَةُ تَثْنِيَةٌ ، لَا سِيَّمَا
وَالتَّثْنِيَةُ
جَمْعٌ ، وَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ يُقَالَ اثْنَانِ
رَجُلَانِ ، وَلَكِنْ رَجُلَانِ يَدُلُّ عَلَى الْجِنْسِ وَالتَّثْنِيَةِ جَمِيعًا
، وَذُكِرَ كَذَلِكَ اخْتِصَارًا ، وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : قُلُوبُهُمَا
فَالتَّثْنِيَةُ فِيهِمَا قَدْ بَيَّنَتْ لَك عَدَدَ قَلْبٍ ، وَقَدْ قَالَ
الشَّاعِرُ فَجَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ : وَمَهْمَهَيْنِ قَذْفَيْنِ
مَرَّتَيْنِ ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنِ الثَّالِثُ : قَالَ
سِيبَوَيْهِ : إذَا كَانَ مُفْرَدًا قَدْ يُجْمَعْ إذَا أَرَدْت بِهِ
التَّثْنِيَةَ ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ : وَضَعَا رِحَالَهُمَا ، وَتُرِيدُ رَحْلَيْ
رَاحِلَتَيْهِمَا ، وَإِلَى مَعْنَى الثَّانِي يَرْجِعُ فِي الْبَيَانِ الرَّابِعِ
، وَيَشْتَرِكُ الْفُقَهَاءُ مَعَهُمْ فِيهِ أَنَّهُ فِي كُلِّ جَسَدٍ يَدَانِ ،
فَهِيَ أَيْدِيهِمَا مَعًا حَقِيقَةٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا أَرَادَ الْيُمْنَى مِنْ كُلِّ
جَسَدٍ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ ، جَرَى هَذَا الْجَمْعُ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ،
وَتُؤَوَّلُ كَذَلِكَ .
الْخَامِسُ :
أَنَّ ذِكْرَ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمِيعِ عِنْدَ
التَّثْنِيَةِ أَفْصَحُ مِنْ ذِكْرِهِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ مَعَ التَّثْنِيَةِ
؛ فَهَذَا مُنْتَهَى مَا تَحَصَّلَ لِي مِنْ أَقْوَالِهِمْ ، وَقَدْ تَتَقَارَبُ
وَتَتَبَاعَدُ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ عَنْهُمْ
فِي الْخَامِسِ ، مِنْ أَنَّهُمْ بَنَوْا الْأَمْرَ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ
وَحْدَهَا هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ تُقْطَعُ الْأَيْدِي
وَالْأَرْجُلُ ، فَيَعُودُ قَوْلُهُ
: أَيْدِيَهُمَا إلَى أَرْبَعَةٍ ، وَهِيَ جَمْعٌ فِي
الْآيَتَيْنِ ، وَهِيَ تَثْنِيَةٌ ؛ فَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى فَصَاحَتِهِ ،
وَلَوْ قَالَ : فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمْ لَكَانَ وَجْهًا ؛ لِأَنَّ
السَّارِقَ وَالسَّارِقَةَ لَمْ يُرَدْ بِهِمَا شَخْصَيْنِ خَاصَّةً ، وَإِنَّمَا
هُمَا اسْمًا جِنْسٍ يَعُمَّانِ مَا لَا يُحْصَى إلَّا بِالْفِعْلِ الْمَنْسُوبِ
إلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ جَمْعٌ لِحَقِيقَةِ الْجَمْعِ فِيهِ .
وَبَيَانُ مَا قُلْنَا مِنْ قَطْعِ الْأَيْدِي
وَالْأَرْجُلِ أَنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ كَثِيرًا مَآلُهُ إلَى
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ تُقْطَعُ يَمِينُ السَّارِقِ خَاصَّةً ،
وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؛ قَالَهُ عَطَاءٌ .
الثَّانِي : أَنَّهُ تَقْطَعُ الْيُسْرَى وَلَا يَعُودُ
عَلَيْهِ الْقَطْعُ فِي رِجْلِ رَجُلٍ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ :
تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ
رِجْلُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى ، فَإِنْ عَادَ
قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا قَوْلُ عَطَاءٍ فَلَيْسَ عَلَى غَلَطِهِ
غِطَاءٌ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَبْلَهُ قَالُوا خِلَافَهُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا } ، فَجَاءَ بِالْجَمْعِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَقْوَالِ النُّحَاةِ
قُلْنَا : ذَلِكَ يَكُونُ تَأْوِيلًا مَعَ الضَّرُورَةِ إذَا جَاءَ دَلِيلٌ
يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ ، فَيُرْجَعُ إلَيْهِ ، فَبَطَلَ مَا قَالَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ
حَدِيثُ الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِلِصٍّ فَقَالَ : اُقْتُلُوهُ .
قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّمَا سَرَقَ .
قَالَ : اقْطَعُوا يَدَهُ .
قَالُوا :
ثُمَّ سَرَقَ فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ ، ثُمَّ سَرَقَ عَلَى
عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ فَقُطِعَتْ يَدُهُ حَتَّى قُطِعَتْ قَوَائِمُهُ كُلُّهَا } .
رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالدَّارَقُطْنِيّ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَطَعَ
يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ
ثَالِثَةً فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ رَابِعَةً فَقَطَعَ رِجْلَهُ } .
أَمَّا النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد فَرَوَيَاهُ عَنْ
الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ .
وَأَمَّا الدَّارَقُطْنِيُّ فَرَوَاهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلًا ،
وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَوْلًا .
وَقَالَ الْحَارِثُ : إنَّ أَبَا بَكْرٍ
تَمَّمَ قَطْعَهُ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِهِ فِي
الْخَامِسَةِ ؛ وَهَذَا يُسْقِط قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ
فِي قَطْعِ الْيَمِينِ أَنَّهُ قَطَعَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ
أَمَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : لَا ؛ بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى .
قَالَ لَهُ : دُونَك .
وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَثْبُتُ رِجَالًا .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : إذَا
سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ ، فَإِنْ عَادَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ ، وَاتْرُكُوا
لَهُ يَدًا يَأْكُلُ بِهَا الطَّعَامَ ، وَيَسْتَنْجِي بِهَا مِنْ الْغَائِطِ ،
وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنْ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانَ أَقْطَعَ
الْيَدِ وَالرِّجْلِ فَإِنَّمَا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى لِعَدَمِ الْيُمْنَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : مِنْ
تَوَابِعِهَا أَنَّ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ }
يَقْتَضِي قَطْعَ يَدِ الْآبِقِ
.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ بُسْرِ
بْنِ أَرْطَاةَ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
لَا تُقْطَعُ الْأَيْدِي فِي السَّفَرِ
} .
وَرَوَى النَّسَائِيّ : { فِي الْغَزْوِ } .
فَأَمَّا قَوْلُهُ فِي السَّفَرِ فَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ
عَلَى الْآبِقِ ، وَهُوَ غَلَطٌ بَيِّنٌ ؛ لِأَجْلِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا اللَّفْظِ
الْعَامِّ لَا يُقَالُ فِيهِ يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى الشَّاذُّ النَّادِرُ
الَّذِي يَجُوزُ أَنْ يَذْكُرَ الْمُعَمِّمُ لَفْظَهُ وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ ،
فَضْلًا عَنْ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ قَصَدَهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْغَزْوِ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَقَالُوا : إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْغَانِمِينَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَظُّهُ فِي الْغَنِيمَةِ ، فَلَا يُقْطَعُ وَلَا يُحَدُّ عِنْدَ
بَعْضِ الْعُلَمَاءِ .
وَقِيلَ : يُقْطَعُ وَيُحَدُّ لِعَدَمِ تَعْيِينِ
حَظِّهِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ مُسْتَقِرٌّ
يُورَثُ عَنْهُ وَتُؤَدَّى مِنْهُ دُيُونُهُ ، فَصَارَ كَالْجَارِيَةِ
الْمُشْتَرَكَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا
وَجَبَ حَدُّ السَّرِقَةِ فَقَتَلَ السَّارِقُ رَجُلًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ
الْقِصَاصُ قَالَ مَالِكٌ : يُقْتَلُ وَيَدْخُلُ الْقَطْعُ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يُقْطَعُ لِأَنَّهُمَا حَقَّانِ
لِلْمُسْتَحِقَّيْنِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُوَفَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّهُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَحَدُهُمَا يَدْخُلُ فِي الْآخَرِ كَمَا
قَالَ مَالِكٌ : الْقَتْلُ يَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ .
قُلْنَا : إنَّ الَّذِي نَخْتَارُ أَنَّ حَدًّا لَا
يُسْقِطُ حَدًّا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَكَلَّمَ
النَّاسُ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ ، هَلْ هُوَ شَرْعُنَا خَاصَّةً أَمْ شَرْعُ مَنْ
قَبْلَنَا ؟ فَقِيلَ : كَانَ شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ .
وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ مُوسَى ؛ فَعَلَى
الْأَوَّلِ الْقَطْعُ فِي شَرْعِنَا نَاسِخٌ لِلرِّقِّ .
وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ تَوْكِيدًا لَهُ ،
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَدَّ كَانَ مُطْلَقًا فِي
الْأُمَمِ كُلِّهَا قَبْلَنَا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفِيَّتَهُ ، إذْ قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّمَا
أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُ كَانَ إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ
أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ،
وَأَيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْت
يَدَهَا } .
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْك الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ
الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ
الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ
يَأْتُوك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إنْ
أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ
اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا
خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوك فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوك شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْت
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ وَكَيْفَ
يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ
يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ
الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا
اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا
تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { أَبِي لُبَابَةَ حِينَ أَرْسَلَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ فَخَانَهُ } .
الثَّانِي
: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ
، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ شَكَوَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالُوا لَهُ : إنَّ النَّضِيرَ يَجْعَلُونَ خَرَاجَنَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ
خَرَاجِهِمْ .
وَيَقْتُلُونَ مِنَّا مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ ، وَإِنْ
قَتَلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنَّا وَدَوْهُ
أَرْبَعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ } .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي { الْيَهُودِ جَاءُوا إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُ : إنَّ رَجُلًا
مِنَّا وَامْرَأَةً زَنَيَا ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ ؟
فَقَالُوا : نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : كَذَبْتُمْ ، إنَّ
فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ ، فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ ، فَأَتَوْا بِهَا فَوَضَعَ
أَحَدُهُمْ يَدَهُ عَلَى آيَةِ الرَّجْمِ ، فَقَرَأَ مَا قَبْلَهَا وَمَا
بَعْدَهَا فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ : ارْفَعْ يَدَكَ .
فَرَفَعَ يَدَهُ ، فَإِذَا آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ .
فَقَالُوا : صَدَقَ يَا مُحَمَّدُ ، فِيهَا آيَةُ
الرَّجْمِ .
فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرُجِمَا }
.
هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ [ وَالْبُخَارِيُّ ] وَمُسْلِمٌ
وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد
.
قَالَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ :
{ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ : ائْتُونِي
أَعْلَمَ رَجُلَيْنِ فِيكُمْ فَجَاءُوا بِابْنَيْ صُورِيَّا ، فَنَشَدَهُمَا
اللَّهَ كَيْفَ تَجِدَانِ أَمَرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ قَالَا : نَجِدُ فِي
التَّوْرَاةِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا
كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا .
قَالَ : فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا ؟
قَالَ : ذَهَبَ سُلْطَانُنَا ، فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ .
فَدَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالشُّهُودِ ، فَجَاءُوا فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا
مِثْلَ الْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ
.
فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِرَجْمِهِمَا فَرُجِمَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُخْتَارِ مِنْ
ذَلِكَ : وَأَمَّا مَنْ قَالَ :
إنَّهَا فِي شَأْنِ أَبِي لُبَابَةَ وَمَا قَالَ عَلِيٌّ
عَنْ النَّبِيِّ لِبَنِي قُرَيْظَةَ فَضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ
قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ ، وَمَا شَكَوْهُ مِنْ التَّفْضِيلِ بَيْنَهُمْ
فَإِنَّهُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ
أَنَّهُ كَانَ تَحْكِيمًا مِنْهُمْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَا شَكْوًى .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ ، عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُمَرَ ، وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، كِلَاهُمَا فِي وَصْفِ
الْقِصَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَكَّمُوهُ ، فَكَانَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ كَمَا تَقَدَّمَ
أَنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَذَكَرُوا لَهُ أَمْرَ الزَّانِيَيْنِ
.
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
مُصَالَحُونَ ، وَعُمْدَةُ الصُّلْحِ أَلَّا يَعْرِضَ لَهُمْ فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ
تَعَرَّضُوا لَنَا وَرَفَعُوا أَمَرَهُمْ إلَيْنَا فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَا
رَفَعُوهُ ظُلْمًا لَا يَجُوزُ فِي شَرِيعَةٍ ، أَوْ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ
الشَّرِيعَةُ ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ
كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَشِبْهِهِ لَمْ يُمَكَّنْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فِيهِ .
وَإِذَا كَانَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ
وَيَحْكُمُونَنَا فِيهِ وَيَتَرَاضَوْا بِحُكْمِنَا عَلَيْهِمْ فِيهِ فَإِنَّ
الْإِمَامَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ حَكَمَ ، وَإِنْ شَاءَ
أَنْ يُعْرِضَ عَنْهُمْ أَعْرَضَ
.
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ
يُعْرِضَ عَنْهُمْ .
قُلْت :
وَإِنَّمَا أَنْفَذَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ، لِيُحَقِّقَ تَحْرِيفَهُمْ وَتَبْدِيلَهُمْ
وَتَكْذِيبَهُمْ وَكَتْمَهُمْ مَا فِي التَّوْرَاةِ .
وَمِنْهُ صِفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالرَّجْمُ عَلَى مَنْ زَنَا مِنْهُمْ .
وَعَنْهُ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِقَوْلِهِ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ
كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ }
فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِهِ الْبَاهِرَةِ ، وَحُجَجِهِ الْبَيِّنَةِ ، وَبَرَاهِينِهِ
الْمُثَبِّتَةِ لِلْأُمَّةِ ، الْمُخْزِيَةِ لِلْيَهُودِ وَالْمُشْرِكِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي التَّحْكِيمِ مِنْ
الْيَهُودِ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا جَاءَ الْأَسَاقِفَةُ وَالزَّانِيَانِ
فَالْحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ حَكَمَ أَوْ لَا ؟ لِأَنَّ إنْفَاذَ الْحُكْمِ
حَقُّ الْأَسَاقِفَةِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : إذَا حَكَّمَ الزَّانِيَانِ
الْإِمَامَ جَازَ إنْفَاذُهُ الْحُكْمَ ، وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْأَسَاقِفَةِ ؛
وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ حَكَّمَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا
لَنَفَذَ [ حُكْمُهُ ] وَلَمْ يَعْتَبِرْ رِضَا الْحَاكِمِ ؛ فَالْكِتَابِيُّونَ
بِذَلِكَ أَوْلَى ، إذْ الْحُكْمُ لَيْسَ بِحَقٍّ لِلْحَاكِمِ عَلَى النَّاسِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ حَقٌّ لِلنَّاسِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ عِيسَى ، عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ : لَمْ
يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ ، إنَّمَا كَانُوا أَهْلَ حَرْبٍ ، وَهَذَا الَّذِي
قَالَهُ عِيسَى عَنْهُ إنَّمَا نَزَعَ بِهِ لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ
{ أَنَّ الزَّانِيَيْنِ كَانَا مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ أَوْ فَدَكَ ، وَكَانُوا
حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُ الْمَرْأَةِ
الزَّانِيَةِ يَسْرَةُ ، وَكَانُوا بَعَثُوا إلَى يَهُودِ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ
لَهُمْ : اسْأَلُوا مُحَمَّدًا عَنْ هَذَا ، فَإِنْ أَفْتَاكُمْ بِغَيْرِ الرَّجْمِ
فَخُذُوهُ مِنْهُ وَاقْبَلُوهُ ، وَإِنْ أَفْتَى بِهِ فَاحْذَرُوهُ ، وَهَذِهِ
فِتْنَةٌ أَرَادَهَا اللَّهُ فِيهِمْ فَنَفَذَتْ ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَنْ أَعْلَمُ يَهُودَ
فِيكُمْ ؟ قَالُوا : ابْنُ صُورِيَّا
.
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فِي فَدَكَ ، فَجَاءَ فَنَشَدَهُ
اللَّهَ ، فَانْتَشَدَ لَهُ وَصَدَّقَهُ بِالرَّجْمِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ
لَهُ : وَاَللَّهِ يَا مُحَمَّدُ ، إنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ
، ثُمَّ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ ، فَبَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ .
} وَهَذَا لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ مَجِيئُهُمْ
بِالزَّانِيَيْنِ وَسُؤَالُهُمْ عَهْدًا وَأَمَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَهْدَ
ذِمَّةٍ وَدَارٍ لَكَانَ لَهُمْ حُكْمُ الْكَفِّ عَنْهُمْ وَالْعَدْلُ فِيهِمْ ،
فَلَا حُجَّةَ لِرِوَايَةِ عِيسَى فِي هَذَا ، وَعَنْهُمْ أَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ
} .
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : إنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْجَاسُوسَ بِقَوْلِهِ : { سَمَّاعُونَ
لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك } ؛ فَهَؤُلَاءِ هُمْ الْجَوَاسِيسُ ، وَلَمْ
يَعْرِضْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ
بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ تَقَرَّرَتْ الْأَحْكَامُ ، وَلَا
تَمَكَّنَ الْإِسْلَامُ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا حَكَّمُوا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْفَذَ عَلَيْهِمْ الْحُكْمَ ،
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ الرُّجُوعُ ، وَكُلُّ مَنْ حَكَّمَ رَجُلًا فِي الدِّينِ
فَأَصْلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ .
قَالَ مَالِكٌ : إذَا حَكَّمَ رَجُلٌ رَجُلًا
فَحُكْمُهُ مَاضٍ ، وَإِنْ رُفِعَ إلَى قَاضٍ أَمْضَاهُ إلَّا أَنْ يَكُون جَوْرًا
بَيِّنًا .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : يُمْضِيه إنْ رَآهُ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ
وَالْحُقُوقِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالطَّالِبِ ، فَأَمَّا الْحُدُودُ فَلَا
يُحَكَّمُ فِيهَا إلَّا السُّلْطَانَ
.
وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ حَقٍّ اخْتَصَّ بِهِ
الْخَصْمَانِ جَازَ التَّحْكِيمُ فِيهِ وَنَفَذَ تَحْكِيمُ الْمُحَكَّمِ بِهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : التَّحْكِيمُ جَائِزٌ ، وَهُوَ
غَيْرُ لَازِمٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فَتْوَى قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُقَدِّمُ آحَادُ
النَّاسِ الْوُلَاةَ وَالْحُكَّامَ ، وَلَا يَأْخُذُ آحَادُ النَّاسِ الْوِلَايَةَ
مِنْ أَيْدِيهِمْ ، وَسَنَعْقِدُ فِي تَعْلِيمِ التَّحْكِيمِ مَقَالًا يُشْفِي إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، إشَارَتُهُ إلَى أَنَّ كُلَّ مُحَكَّمٍ فَإِنَّهُ هُوَ
مُفَعَّلٌ مِنْ حَكَّمَ ، فَإِذَا قَالَ : حَكَّمْت ، فَلَا يَخْلُو أَنْ يَقَعَ
لَغْوًا أَوْ مُفِيدًا ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَقَعَ مُفِيدًا ، فَإِذَا أَفَادَ
فَلَا يَخْلُو أَنْ يُفِيدَ التَّكْثِيرَ كَقَوْلِك : كَلَّمْته وَقَلَّلْته ،
أَوْ يَكُونَ بِمَعْنَى جَعَلْت لَهُ ، كَقَوْلِك : رَكَّبْته وَحَسَّنْته ، أَيْ
جَعَلْت لَهُ مَرْكُوبًا وَحُسْنًا ؛ وَهَذَا يُفِيدُ جَعَلْتُهُ حَكَمًا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ إنَّمَا
هُوَ حَقُّهُمْ لَا حَقُّ الْحَاكِمِ ، بَيْدَ أَنَّ الِاسْتِرْسَالَ عَلَى
التَّحْكِيمِ خَرْمٌ لِقَاعِدَةِ الْوِلَايَةِ وَمُؤَدٍّ إلَى تَهَارُجِ النَّاسِ
تَهَارُجَ الْحُمُرِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ فَاصِلٍ ؛ فَأَمَرَ الشَّرْعُ
بِنَصْبِ الْوَالِي لِيَحْسِمَ قَاعِدَةَ الْهَرَجِ ، وَأَذِنَ فِي التَّحْكِيمِ
تَخْفِيفًا عَنْهُ وَعَنْهُمْ فِي مَشَقَّةِ التَّرَافُعِ ، لِتَتِمَّ
الْمَصْلَحَتَانِ ، وَتَحْصُلَ الْفَائِدَتَانِ .
وَالشَّافِعِيُّ وَمَنْ سِوَاهُ لَا يَلْحَظُونِ
الشَّرِيعَةَ بِعَيْنِ مَالِكٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَلْتَفِتُونَ إلَى الْمَصَالِحِ
، وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْمَقَاصِدَ ، وَإِنَّمَا يَلْحَظُونَ الظَّوَاهِرَ وَمَا
يَسْتَنْبِطُونَ مِنْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ
وَالْقَبَسِ فِي شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .
وَلَمْ أَرْوِ فِي التَّحْكِيمِ حَدِيثًا حَضَرَنِي
ذِكْرُهُ الْآنَ إلَّا مَا أَخْبَرَنِي بِهِ الْقَاضِي الْعِرَاقِيُّ ،
أَخْبَرَنَا الْجَوْنِيُّ ، أَخْبَرَنَا النَّيْسَابُورِيُّ ، أَخْبَرَنَا
قَلِيلَهْ ، أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ يَعْنِي
ابْنَ الْمِقْدَامِ بْنَ شُرَيْحٍ عَنْ أَبِيهِ شُرَيْحٍ ، عَنْ أَبِيهِ { هَانِئٍ
قَالَ : لَمَّا وَفَدَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ وَهُمْ يُكَنُّونَهُ أَبَا الْحَكَمِ ، فَدَعَاهُ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ هُوَ
الْحَكَمُ ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ ، فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ فَقَالَ :
إنَّ قَوْمِي إذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي فَحَكَمْت بَيْنَهُمْ ،
فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ
.
فَقَالَ : مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَك مِنْ الْوَلَدِ
؟ قَالَ : لِي شُرَيْحٌ ، وَعَبْدُ اللَّهِ ، وَمُسْلِمٌ .
قَالَ : فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ؟ قَالَ : شُرَيْحٌ .
قَالَ : فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ وَدَعَا لَهُ
وَلِوَلَدِهِ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : كَيْفَ أَنْفَذَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُكْمَ بَيْنَهُمْ ؟ : اخْتَلَفَ
فِي ذَلِكَ جَوَابُ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهُ حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ
مَنْ زَنَى مِنْهُمْ وَقَدْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ الرَّجْمُ ، فَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ
بِهِ الْإِمَامُ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ فِي الْإِحْصَانِ ؛ قَالَهُ
الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِي : حَكَمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ
عَلَيْهِمْ بِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، إذْ
شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، فَيَلْزَمُ الْعَمَلُ بِهَا حَتَّى يَقُومَ
الدَّلِيلُ عَلَى تَرْكِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ،
وَفِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِنَا ، وَإِنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ
الْحَقِّ فِي الدَّلِيلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ ؛ قَالَهُ عِيسَى عَنْ ابْنِ
الْقَاسِمِ .
الثَّالِثُ :
إنَّمَا حَكَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ ، وَلَا يَحْكُمُ
الْحَاكِمُ الْيَوْمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ؛ قَالَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : أَمَّا
قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ فَإِنَّ الْيَهُودَ جَاءُوا إلَى النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِمْ ، وَسَأَلُوهُ عَنْ
أَمْرِهِمْ ، فَفِي هَذَا يَكُونُ النَّظَرُ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ،
مُخْبِرًا عَنْ الْحَقِيقَةِ فِيهِ :
{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَك وَعِنْدَهُمْ التَّوْرَاةُ
فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } وَأَخْبَرَ
أَنَّهُمْ جَاءُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ ، فَقَالَ { فَإِنْ جَاءُوكَ } .
ثُمَّ خَيَّرَهُ فَقَالَ : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ
أَعْرِضْ عَنْهُمْ } .
ثُمَّ قَالَ لَهُ : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَالْقِسْطُ هُوَ الْعَدْلُ ، وَذَلِكَ حُكْمُ
الْإِسْلَامِ ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ شُهُودٌ مِنَّا عُدُولٌ ؛ إذْ لَيْسَ فِي
الْكُفَّارِ عَدْلٌ ، كَمَا تَقَدَّمَ
.
وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إقَامَةَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَفَضِيحَةَ الْيَهُودِ حَسْبَمَا
شَرَحْنَا ؛ وَذَلِكَ بَيِّنٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ .
وَلَوْ نَظَرَ إلَى الْحُكْمِ بِدِينِ الْإِسْلَامِ
لَمَا أَرْسَلَ إلَى ابْنِ صُورِيَّا ، وَلَكِنَّهُ اجْتَمَعَتْ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوُجُوهُ فِيهِ مِنْ قَبُولِ التَّحْكِيمِ
وَإِنْفَاذِهِ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، وَهِيَ الْحَقُّ حَتَّى
يُنْسَخَ ، وَبِشَهَادَةِ الْيَهُودِ ، وَذَلِكَ دِينٌ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ
بِالْعُدُولِ مِنَّا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَحْكُمُ
بِهَا النَّبِيُّونَ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ : وَمُحَمَّدٌ مِنْهُمْ
؛ يَحْكُمُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ ، وَهُوَ
الَّذِي يَقْتَضِيه ظَاهِرُ اللَّفْظِ وَمُطْلَقُهُ فِي قَوْلِهِ : {
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَانِيُّونَ
وَالْأَحْبَارُ } ، آخِرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ
} اخْتَلَفَ فِيهِ الْمُفَسِّرُونَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ
وَالظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كُلُّهُ لِلْيَهُودِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الْكَافِرُونَ
لِلْمُشْرِكِينَ ، وَالظَّالِمُونَ لِلْيَهُودِ ، وَالْفَاسِقُونَ لِلنَّصَارَى ،
وَبِهِ أَقُولُ ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ
، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ ، وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ .
قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ : لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ
عَنْ الْمِلَّةِ ، وَلَكِنَّهُ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ .
وَهَذَا يَخْتَلِفُ إنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى
أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ؛ فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَإِنْ
حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى
أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ
بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } .
فِيهَا اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : [ فِي سَبَبِ النُّزُولِ ] : قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ :
لَمَّا رَأَتْ قُرَيْظَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
حَكَمَ بِالرَّجْمِ وَكَانُوا يُخْفُونَهُ فِي كِتَابِهِمْ ، قَالُوا : يَا
مُحَمَّد : اقْضِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إخْوَاننَا بَنِي النَّضِيرِ ، وَكَانَ
بَيْنَهُمْ دَمٌ ، وَكَانَتْ النَّضِيرُ تَتَعَزَّزُ عَلَى قُرَيْظَةَ فِي
دِمَائِهَا وَدِيَاتِهَا كَمَا تَقَدَّمَ .
وَقَالُوا : لَا نُطِيعُك فِي الرَّجْمِ ، وَلَكِنَّا
نَأْخُذُ بِحُدُودِنَا الَّتِي كُنَّا عَلَيْهَا ، فَنَزَلَتْ : { وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ،
وَنَزَلَتْ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْمَعْنَى : فَمَا بَالُهُمْ
يُخَالِفُونَ فَيَقْتُلُونَ النَّفْسَيْنِ بِالنَّفْسِ وَيَفْقَئُونَ
الْعَيْنَيْنِ بِالْعَيْنِ ؛ وَكَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ عِنْدَهُمْ الْقِصَاصُ
خَاصَّةً ، فَشَرَّفَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَمَةَ بِالدِّيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : تَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُ
بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ : يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ نَفْسٌ
بِنَفْسٍ .
قَالَتْ لَهُ الشَّافِعِيَّةُ : هَذَا خَبَرٌ عَنْ
شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا لَيْسَ شَرْعًا لَنَا .
وَقُلْنَا نَحْنُ لَهُ : هَذِهِ الْآيَةُ ، إنَّمَا
جَاءَتْ لِلرَّدِّ عَلَى الْيَهُودِ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ الْقَبَائِلِ
وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ رَجُلًا بِرَجُلٍ ، وَنَفْسًا بِنَفْسٍ ،
وَأَخْذِهِمْ مِنْ قَبِيلَةٍ أُخْرَى نَفْسَيْنِ بِنَفْسٍ ، فَأَمَّا اعْتِبَارُ
أَحْوَالِ النَّفْسِ الْوَاحِدَةِ بِالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فَلَيْسَ لَهُ
تَعَرُّضٌ فِي ذَلِكَ ، وَلَا سِيقَتْ الْآيَةُ لَهُ ، وَإِنَّمَا تُحْمَلُ
الْأَلْفَاظُ عَلَى الْمَقَاصِدِ
.
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا عُمُومٌ
يَدْخُلُهُ التَّخْصِيصُ بِمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ
وَالنَّسَائِيُّ ، وَبَعْضُهُمْ أَوْعَبُ مِنْ بَعْضٍ ؛ { عَنْ عَلِيٍّ ، وَقَدْ سُئِلَ : هَلْ
خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ ؟ قَالَ :
لَا ، إلَّا مَا فِي هَذَا ، وَأَخْرَجَ كِتَابًا مِنْ قِرَابِ سَيْفِهِ ، وَإِذَا
فِيهِ : الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ
سِوَاهُمْ ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } .
جَوَابٌ ثَالِثٌ : وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } .
وَقَالَ :
{ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى }
فَاقْتَضَى لَفْظُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةَ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مُسْلِمٍ
وَكَافِر ؛ لِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ الْمُبِيحِ لِلدَّمِ مَوْجُودٌ بِهِ ، فَلَا
تَسْتَوِي نَفْسٌ مُبِيحُهَا مَعَهَا مَعَ نَفْسٍ قَدْ تَطَهَّرَتْ عَنْ
الْمُبِيحَاتِ ، وَاعْتَصَمَتْ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَعْلَى الْعِصَمِ .
وَقَدْ ذَكَر بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِي ذَلِكَ نُكْتَةً
حَسَنَةً ، قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ
فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي
مِلَّتِهِمْ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ تَعَادُلُ نَفْسًا ؛
فَإِذَا الْتَزَمْنَا نَحْنُ ذَلِكَ فِي مِلَّتِنَا
عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي
مِلَّتِنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ مِنَّا تُقَابِلُ نَفْسًا ،
فَأَمَّا مُقَابَلَةُ كُلِّ نَفْسٍ مِنَّا بِنَفْسٍ مِنْهُمْ فَلَيْسَ مِنْ
مُقْتَضَى الْآيَةِ ، وَلَا مِنْ مَوَارِدِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ
وَغَيْرُهُ : قَوْله تَعَالَى :
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ } يُوجِبُ قَتْلَ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ خَاصَّةً .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يُوجِبُ ذَلِكَ أَخْذَ نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ
، وَأَخْذَ أَطْرَافِهِ بِأَطْرَافِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ فِي
الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا .
وَنَخُصُّ هَذَا مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمَا
شَخْصَانِ لَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ مَعَ السَّلَامَةِ
فِي الْخِلْقَةِ فَلَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَنْفُسِ ، وَيُقَالُ
لِلْآخَرَيْنِ : إنَّ نَقْصَ الرِّقِّ الْبَاقِيَ فِي الْعَبْدِ مِنْ آثَارِ
الْكُفْرِ يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ ؛ فَلَا يَصِحُّ
أَنْ يُؤْخَذَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ سِلْعَةٌ مِنْ
السِّلَعِ يَصْرِفُهُ الْحُرُّ كَمَا يَصْرِفُ الْأَمْوَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } يُوجِبُ قَتْلَ
الرَّجُلِ [ الْحُرِّ ] بِالْمَرْأَةِ [ الْحُرَّةِ ] مُطْلَقًا ؛ وَبِهِ قَالَ
كَافَّةُ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يُحْكَمُ بَيْنَهُمْ بِالتَّرَاجُعِ ،
فَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ خُيِّرَ وَلِيُّهَا ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ
دِيَتَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أُعْطِيَ نِصْفَ الْعَقْلِ .
وَقَتَلَ الرَّجُلَ .
وَعُمُومُ الْآيَةِ يَرُدُّ عَلَيْهِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ ، فَإِنْ
أَحَبُّوا أَنْ يَقْتُلُوا أَوْ يَأْخُذُوا الْعَقْلَ } .
وَالْمَعْنَى يُعَضِّدُهُ ؛ فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا
قَتَلَ الْمَرْأَةَ فَقَدْ قَتَلَ مُكَافِئًا لَهُ فِي الدَّمِ ، فَلَا يَجِبُ
فِيهِ زِيَادَةٌ كَالرَّجُلَيْنِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ : لَا تُقْتَل الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
قَالَ : { النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
} .
قُلْنَا : هَذَا عُمُومٌ تَخُصُّهُ حِكْمَتُهُ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ إنَّمَا قَتَلَ مَنْ قَتَلَ صِيَانَةً لِلْأَنْفُسِ عَنْ
الْقَتْلِ ، فَلَوْ عَلِمَ الْأَعْدَاءُ أَنَّهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ يَسْقُطُ
الْقِصَاصُ عَنْهُمْ لَقَتَلُوا عَدُوَّهُمْ فِي جَمَاعَتِهِمْ ، فَحَكَمْنَا
بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ رَدْعًا لِلْأَعْدَاءِ ، وَحَسْمًا لِهَذَا
الدَّاءِ ، وَلَا كَلَامَ لَهُمْ عَلَى هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ
الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إذَا جَرَحَ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ أَوْ
الْأُذُنَ ثُمَّ قَتَلَ فُعِلَ بِهِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ :
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ
بِالْعَيْنِ } الْآيَةَ ؛ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ مَا أَخَذَ ، وَيُفْعَلُ بِهِ كَمَا
فَعَلَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ قَصْدَ بِذَلِكَ الْمُثْلَةَ
فُعِلَ بِهِ مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ مُضَارَبَتِهِ لَمْ
يُمَثَّلْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقِصَاصِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
التَّشَفِّيَ ، وَإِمَّا إبْطَالَ الْعُضْوِ .
وَأَيُّ ذَلِكَ كَانَ فَالْقَتْلُ يَأْتِي عَلَيْهِ .
وَهَذَا لَيْسَ بِقِصَاصٍ [ وَلَا انْتِصَافٍ ] ؛
لِأَنَّ الْمَقْتُولَ تَأَلَّمَ بِقَطْعِ الْأَعْضَاءِ [ كُلِّهَا ] وَبِالْقَتْلِ
، فَلَا بُدَّ فِي تَحْقِيقِ الْقِصَاصِ مِنْ أَنْ يَأْلَمَ كَمَا آلَمَ ، وَبِهِ
أَقُولُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ }
وَذَكَرَ الْعَيْنَ وَالْأَنْفَ وَالْأُذُنَ وَالسِّنَّ وَتَرَكَ الْيَدَ ،
فَقِيلَ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ
الْيَدَ آلَةٌ بِهَا يُفْعَلُ [
كُلُّ ] ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ حَالِ
الْيَدَيْنِ ، بِخِلَافِ الْعَيْنَيْنِ وَالْأُذُنَيْنِ ، فَإِنَّ الْيُسْرَى لَا
تُسَاوِي الْيُمْنَى ؛ فَتَرَكَ الْقَوْلَ فِيهَا لِتَدْخُلَ تَحْتَ قَوْله
تَعَالَى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ
} .
ثُمَّ يَقَعُ النَّظَرُ فِيهَا بِدَلِيلٍ آخَرَ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ الْيَدَ بِالْيَدِ لَا تَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ؛
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
يَفْتَقِرُ إلَى نَظَرٍ ، وَفِيهِ إشْكَالٌ يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } قَرَأَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ ، فَالنَّصْبُ إتْبَاعٌ
لِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ ؛ وَالرَّفْعُ ، وَفِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ
يَكُونَ عَطْفًا عَلَى حَالِ النَّفْسِ قَبْلَ دُخُولِ أَنْ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ كَلَامٍ .
وَلَمْ يَكُنْ هَذَا مِمَّا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ ،
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ فَقَأَهَا ، أَوْ أَذْهَبَ
بَصَرَهَا وَبَقِيَتْ صُورَتُهَا ، أَوْ أَذْهَبَ بَعْضَ الْبَصَرِ .
وَقَدْ أَفَادَنَا كَيْفِيَّةَ الْقِصَاصِ مِنْهَا
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَمَرَ
بِمِرْآةٍ فَحُمِّيَتْ ، ثُمَّ وَضَعَ عَلَى الْعَيْنِ الْأُخْرَى قُطْنًا ، ثُمَّ
أُخِذَتْ الْمِرْآةُ بِكَلْبَتَيْنِ فَأُدْنِيَتْ مِنْ عَيْنِهِ حَتَّى سَالَ
إنْسَانُ عَيْنِهِ .
فَلَوْ أَذْهَبَ رَجُلٌ بَعْضَ بَصَرِهِ فَإِنَّهُ
تُعْصَبُ عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ
وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ حَتَّى يَنْتَهِيَ بَصَرُ الْمَضْرُوبِ فَيُعَلَّمَ ، ثُمَّ
تُغَطَّى عَيْنُهُ وَتُكْشَفُ الْأُخْرَى ، ثُمَّ يَذْهَبُ رَجُلٌ بِالْبَيْضَةِ
وَيَذْهَبُ وَيَذْهَبُ ، فَحَيْثُ انْتَهَى الْبَصَرُ عَلَّمَ ، ثُمَّ يُقَاسُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَسَّاحَةِ ، فَكَيْفَ كَانَ الْفَضْلُ نَسَبًا ،
وَيَجِبُ مِنْ الدِّيَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ مَعَ الْأَدَبِ الْوَجِيعِ وَالسِّجْنِ
الطَّوِيلِ ؛ إذْ الْقِصَاصُ فِي مِثْلِ هَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَلَا يَزَالُ
هَذَا يُخْتَبَرُ فِي مَوَاضِعَ مُخْتَلِفَةٍ لِئَلَّا يَتَدَاهَى الْمَضْرُوبُ
فَيَنْقُصَ مِنْ بَصَرِهِ ، لِيَكْثُرَ حَظُّهُ مِنْ مَالِ الضَّارِبِ ؛ وَلَا
خِلَافَ فِي هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَوْ فَقَأَ أَعْوَرُ
عَيْنَ صَحِيحٍ : قِيلَ : لَا قَوَدَ عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ رُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ
.
وَقِيلَ : عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَالشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنْ شَاءَ فَقَأَ عَيْنَهُ ، وَإِنْ
شَاءَ أَخَذَ دِيَةً كَامِلَةً
.
وَمُتَعَلَّقُ عُثْمَانَ [ أَنَّهُ ] فِي الْقِصَاصِ
مِنْهُ أَخَذَ جَمِيعَ الْبَصَرِ بِبَعْضِهِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُسَاوَاةِ .
وَمُتَعَلَّقُ الشَّافِعِيِّ قَوْله تَعَالَى : {
الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } .
وَمُتَعَلَّقُ مَالِكٍ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا
تَعَارَضَتْ خُيِّرَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، وَالْأَخْذُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ
أَوْلَى فَإِنَّهُ أَسْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا فَقَأَ
صَحِيحٌ عَيْنَ أَعْوَرَ : فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : فِيهِ نِصْفُ
الدِّيَةِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ الظَّاهِرُ .
وَلَكِنْ عُلَمَاؤُنَا قَالُوا : إنَّ مَنْفَعَةَ
الْأَعْوَرِ بِبَصَرِهِ كَمَنْفَعَةِ السَّالِمِ أَوْ قَرِيبٍ مِنْ ذَلِكَ ،
فَوَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ دِيَتِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالُوا : إذَا ضَرَبَ
سِنَّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا دِيَتُهَا كَامِلَةً ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيهَا حُكُومَةٌ ، وَهَذَا
عِنْدِي خِلَافٌ يَئُولُ إلَى وِفَاقٍ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ سَوَادُهَا أَذْهَبَ
مَنْفَعَتَهَا ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ صُورَتُهَا كَالْيَدِ الشَّلَّاءِ
وَالْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ ، فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ .
وَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ مَنْفَعَتِهَا شَيْءٌ أَوْ
جَمِيعُهَا لَمْ يَجِبْ إلَّا بِمِقْدَارِ مَا نَقَصَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ
حُكُومَةٌ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا ضُرِبَ
سِنُّهُ فَاسْوَدَّتْ فَفِيهَا ثُلُثُ دِيَتِهَا ، وَهَذَا مِمَّا لَا يَصِحُّ
عَنْهُ سَنَدًا وَلَا فِقْهًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ مَالِكٌ :
إذَا أَخَذَ الْكَبِيرُ دِيَةَ ضِرْسِهِ ، ثُمَّ ثَبَتَتْ .
فَلَا يَرُدُّهَا .
وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : يَرُدُّهَا ؛ لِأَنَّ
عِوَضَهَا قَدْ ثَبَتَ ، أَصْلُهُ سِنُّ الصَّغِيرِ ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّ هَذَا
ثَبَاتٌ لَمْ تَجْرِ بِهِ عَادَةٌ ، وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِالنَّادِرِ
كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ ، فَلَوْ قَلَعَ رَجُلٌ سِنَّ رَجُلٍ فَرَدَّهَا
صَاحِبُهَا فَالْتَحَمَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَجَمَاعَةٌ مِنْهُمْ
عَطَاءٌ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ثَانِيَةً ، وَإِنْ رَدَّهَا أَعَادَ كُلَّ
صَلَاةٍ صَلَّاهَا لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ
.
وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ أُذُنُهُ فَأَلْصَقَهَا
بِحَرَارَةِ الدَّمِ فَالْتَزَقَتْ مِثْلُهُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا .
وَقَالَ عَطَاءٌ : يَجْبُرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى
قَلْعِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ أَلْصَقَهَا ؛ وَهَذَا غَلَطٌ بَيِّنٌ ، وَقَدْ
جَهِلَ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ رَدَّهَا وَعَوْدَهَا لِصُورَتِهَا مُوجِبٌ
عَوْدَهَا لِحُكْمِهَا ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ كَانَتْ فِيهَا لِلِانْفِصَالِ ،
وَقَدْ عَادَتْ مُتَّصِلَةً ، وَأَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ لَيْسَتْ صِفَاتٍ
لِلْأَعْيَانِ ، وَإِنَّمَا هِيَ أَحْكَامٌ تَعُودُ إلَى قَوْلِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ فِيهَا وَإِخْبَارِهِ عَنْهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَسْقُطُ عَنْ قَالِعِ السِّنِّ
دِيَتُهَا ، وَإِنْ رَجَعَتْ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا وَجَبَتْ لِقَلْعِهَا ،
وَذَلِكَ لَا يَنْجَبِرُ .
قُلْنَا :
إنَّمَا وَجَبَتْ لِفَقْدِهَا وَذَهَابِ مَنْفَعَتِهَا ؛
فَإِذَا عَادَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ ضَرَبَ عَيْنَهُ
فَفَقَدَ بَصَرَهُ ، فَلَمَّا قَضَى عَلَيْهِ عَادَ بَصَرُهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ
شَيْءٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ قَلْعِ
السِّنِّ الزَّائِدِ ] : فَلَوْ كَانَتْ لَهُ سِنٌّ زَائِدَةٌ فَقُلِعَتْ فَفِيهَا
حُكُومَةٌ ، وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ : فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ
، وَلَيْسَ فِي التَّقْدِيرِ دَلِيلٌ ، فَالْحُكُومَةُ أَعْدَلُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : [ حُكْمُ قَطْعِ
أُذُنَيْ رَجُلٍ ] : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْطَعُ أُذُنَيْ رَجُلٍ :
عَلَيْهِ حُكُومَةٌ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي السَّمْعِ ،
وَيُقَاسُ كَمَا يُقَاسُ الْبَصَرُ ، فَإِنْ أَجَابَ جَوَابَ مَنْ يَسْمَعُ لَمْ
يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ أُحْلِفَ ، لَقَدْ صُمَّتْ مِنْ ضَرْبِ هَذَا
، وَأُغْرِمَ دِيَتَهُ ، وَمِثْلُهُ فِي الْيَمِينِ فِي الْبَصَرِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : اللِّسَانُ :
اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْقَوَدِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ ، وَالْعِلَّةُ فِي التَّوَقُّفِ عَنْ الْقَوَدِ فِيهِ عَدَمُ
الْإِحَاطَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ فَالْقَوَدُ هُوَ
الْأَصْلُ ، وَيُخْتَبَرُ بِالْكَلَامِ فَمَا نَقَصَ مِنْ الْحُرُوفِ
فَبِحِسَابِهِ مِنْ الدِّيَةِ تَجِبُ عَلَى الضَّارِبِ .
فَإِنْ قَلَعَ لِسَانَ أَخْرَسَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : [ إذَا قَلَعَ لِسَانُ أَخْرَس ] : فَفِيهِ حُكُومَةٌ .
وَقَالَ النَّخَعِيُّ : فِيهِ الدِّيَةُ ، يُقَالُ لَهُ
: إذَا أَسْقَطْت الْقَوَدَ فَلَا يَبْقَى إلَّا الْحُكُومَةُ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ
قَرِينَةُ الْقَوَدِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : [ الْيَمِينُ
بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ بِالْيَسَارِ ] : إذَا قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ أَوْ
يَسَارَهُ لَمْ يُؤْخَذْ الْيَمِينُ إلَّا بِالْيَمِينِ وَالْيَسَارُ إلَّا
بِالْيَسَارِ عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : تُؤْخَذُ الْيَمِينُ
بِالْيَسَارِ وَالْيَسَارُ بِالْيَمِينِ نَظَرًا إلَى اسْتِوَائِهِمَا فِي
الصُّورَةِ وَالِاسْمِ ، وَلَمْ يَنْظُرْ إلَى الْمَنْفَعَةِ ، وَهُمَا فِيهَا
مُتَفَاوِتَتَانِ أَشَدَّ تَفَاوُتًا مِمَّا بَيْنَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَإِذَا
لَمْ تُؤْخَذْ الْيَدُ بِالرِّجْلِ فَلَا تُؤْخَذُ يُمْنَى بِيُسْرَى .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوَفِّيَةُ عِشْرِينَ : نَصَّ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ عَلَى أُمَّهَاتِ الْأَعْضَاءِ وَتَرَكَ بَاقِيَهَا لِلْقِيَاسِ
عَلَيْهَا ، وَكُلُّ عُضْوٍ فِيهِ الْقِصَاصُ إذَا أَمْكَنَ وَلَمْ يُخْشَ
عَلَيْهِ الْمَوْتُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عُضْوٍ بَطَلَتْ مَنْفَعَتُهُ وَبَقِيَتْ
صُورَتُهُ فَلَا قَوَدَ فِيهِ ، وَفِيهِ الدِّيَةُ لِعَدَمِ إمْكَانِ الْقَوَدِ
فِيهِ ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي الْأَعْضَاءِ وَالصُّوَرِ بَيَّنَّاهَا فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : [ حُكْمُ
الْجُرُوحِ ] : لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَكَرَ مَا ذَكَرَ
وَخَصَّ مَا خَصَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } فَعَمَّ بِمَا
نَبَّهَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { كَسَرَتْ الرُّبَيِّعُ وَهِيَ
عَمَّةُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَطَلَبَ
الْقَوْمُ الْقِصَاصَ ، فَأَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ .
فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ : لَا وَاَللَّهِ ، لَا تُكْسَر ثَنِيَّتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَا أَنَسُ ، كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ ، فَرَضِيَ الْقَوْمُ
وَقَبِلُوا الْأَرْشَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
لَأَبَرَّهُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : [ فَهُوَ كَفَّارَةُ لَهُ هُوَ ]
الْمَجْرُوحُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ الْجَارِحُ .
وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ هَلْ هُوَ فِي الضَّمِيرَيْنِ
وَاحِدٌ أَوْ كُلُّ ضَمِيرٍ يَعُودُ إلَى مُضْمَرٍ ثَانٍ ؟ وَظَاهِرُ الْكَلَامِ
أَنَّهُ يَعُودُ إلَى وَاحِدِ الضَّمِيرَيْنِ جَمِيعًا ؛ وَذَلِكَ يَقْتَضِي
أَنَّهُ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ فَأَسْقَطَهُ كَفَّرَ مِنْ ذُنُوبِهِ
بِقَدْرِهِ ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الصَّحَابَةِ .
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ
فَيَهَبُهُ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً ، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً } .
وَاَلَّذِي يَقُولُ : إنَّهُ إذَا عَفَا عَنْهُ
الْمَجْرُوحُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ ، فَلَا مَعْنَى
لَهُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَة قَوْله تَعَالَى : {
وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك فَإِنْ
تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ
ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قِيلَ : نَزَلَتْ فِيمَا تَقَدَّمَ .
وَقِيلَ :
{ جَاءَ ابْنُ صُورِيَّا ، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ ،
وَكَعْبُ بْنُ أُسَيْدَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ دِينِهِ ، فَقَالُوا لَهُ : نَحْنُ أَحْبَارَ
يَهُودَ ، إنْ آمَنَّا لَك آمَنَ النَّاسُ جَمِيعُهُمْ بِك ، وَبَيْنَنَا وَبَيْنَ
قَوْمٍ خُصُومَةٌ فَنُحَاكِمُهُمْ إلَيْك لِتَقْضِيَ لَنَا عَلَيْهِمْ ،
وَنُؤْمِنُ بِك وَنُصَدِّقُك ؛ فَأَبَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْآيَةَ ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : {
وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } } بِمَعْنَى وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ قَوْمٌ : هَذَا نَاسِخٌ
لِلتَّخْيِيرِ ، وَهَذِهِ دَعْوَى عَرِيضَةٌ ؛ فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ
أَرْبَعَةٌ مِنْهَا : مَعْرِفَةُ التَّارِيخِ بِتَحْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ
وَالْمُتَأَخِّرِ .
وَهَذَا مَجْهُولٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ،
فَامْتَنَعَ أَنْ يُدَّعَى أَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا نَاسِخَةٌ لِلْأُخْرَى ،
وَبَقِيَ الْأَمْرُ عَلَى حَالِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوك عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك } قَالَ
قَوْمٌ : مَعْنَاهُ عَنْ كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إلَيْك ، وَالْبَعْضُ
يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْكُلِّ قَالَ الشَّاعِرُ : تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إذَا
لَمْ أَرْضَهَا أَوْ يَغْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا وَيُرْوَى : أَوْ
يَرْتَبِطْ .
أَرَادَ كُلَّ النُّفُوسِ ، وَعَلَيْهِ حَمَلُوا قَوْله
تَعَالَى : { وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ { بَعْضَ } عَلَى حَالِهَا فِي
هَذِهِ الْآيَةِ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرَّجْمُ أَوْ الْحُكْمُ الَّذِي
كَانُوا أَرَادُوهُ وَلَمْ يَقْصِدُوا أَنْ يَفْتِنُوهُ عَنْ الْكُلِّ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ
بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ
إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } اُخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُبَادَةَ ، وَابْنِ أُبَيٍّ ؛ وَذَلِكَ { أَنَّ
عُبَادَةَ تَبَرَّأَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
حِلْفِ قَوْمٍ مِنْ الْيَهُودِ كَانَ لَهُ حِلْفُهُمْ مِثْلُ مَا لِعَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أُبَيٍّ ، وَتَمَسَّكَ ابْنُ أُبَيٍّ بِهِمْ ، وَقَالَ : إنِّي رَجُلٌ
أَخَافُ الدَّوَائِرَ .
} الثَّانِي
: كَانَ الْمُنَافِقُونَ يُوَازُونَ يَهُودَ قُرَيْظَةَ
وَنَصَارَى نَجْرَانَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ رِيفٍ ، وَكَانُوا
يَمِيرُونَهُمْ وَيُقْرِضُونَهُمْ ، فَقَالُوا : كَيْفَ نَقْطَعُ مَوَدَّةَ قَوْمٍ
إذَا أَصَابَتْنَا سَنَةٌ فَاحْتَجْنَا إلَيْهِمْ وَسَعَوْا عَلَيْنَا الْمَنَازِلَ
وَعَرَضُوا عَلَيْنَا الثِّمَارَ إلَى أَجَلٍ ، فَنَزَلَتْ ، وَذَلِكَ قَوْله
تَعَالَى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } .
الثَّالِثُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ ؛ فَأَمَّا نُزُولُهَا فِي أَبِي لُبَابَةَ
فَمُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ إلَى يَهُودِ [ بَنِي قُرَيْظَةَ ] إلَى حَلْقِهِ
بِأَنَّهُمْ إنْ نَزَلُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هُوَ الذَّبْحُ فَخَانَهُ ، ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الزُّبَيْرُ وَطَلْحَةُ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا
إلَى ذَلِكَ فِيهِمَا .
وَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ ذَكَرَ
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ لَا تَخُصُّ بِهِ أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : بَلَغَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ اتَّخَذَ بِالْيَمَنِ كَاتِبًا
ذِمِّيًّا ، فَكَتَبَ إلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ ؛
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلِيَ وِلَايَةً
أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِيًّا فِيهَا لِنَهْيِ اللَّهِ عَنْ
ذَلِكَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَا يُخْلِصُونَ النَّصِيحَةَ ، وَلَا يُؤَدُّونَ
الْأَمَانَةَ ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ
عَنْ ذَبَائِحِ نَصَارَى الْعَرَبِ ، ، فَقَرَأَ : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ
مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ مُوَضَّحًا ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ بَيَانُ تَمَامِ
الْآيَةِ ، ثُمَّ جَاءَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى عَامَّةً فِي نَفْيِ اتِّخَاذِ
الْأَوْلِيَاءِ مِنْ الْكُفَّارِ أَجْمَعِينَ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ
} .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَانَ
الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ وَالْمُنَافِقُونَ إذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ إلَى
الصَّلَاةِ وَقَعُوا فِي ذَلِكَ وَسَخِرُوا مِنْهُ ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ ، وَلَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُ
الْأَذَانِ إلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، أَمَّا إنَّهُ ذُكِرَتْ الْجُمُعَةُ عَلَى
الِاخْتِصَاصِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ
النَّصَارَى ، وَكَانَ بِالْمَدِينَةِ ، إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ :
أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ قَالَ : حُرِقَ الْكَاذِبُ ،
فَسَقَطَتْ فِي بَيْتِهِ شَرَارَةٌ مِنْ نَارٍ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَتَعَلَّقَتْ
النَّارُ بِالْبَيْتِ فَأَحْرَقَتْهُ ، وَأَحْرَقَتْ ذَلِكَ الْكَافِرَ مَعَهُ ؛
فَكَانَتْ عِبْرَةً لِلْخَلْقِ
.
وَالْبَلَاءُ مُوَكَّلٌ بِالْمَنْطِقِ .
وَقَدْ كَانُوا يُمْهِلُونَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَسْتَفْتِحُوا فَلَا يُؤَخَّرُوا بَعْدَ
ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَة الثَّالِثَةُ : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا غَزَا قَوْمًا لَمْ ، يَغْزُ حَتَّى يُصْبِحَ
وَيَنْظُرَ ، فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا أَمْسَكَ ، وَإِلَّا أَغَارَ } ؛ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ
عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ
: { كَانَ الْمُسْلِمُونَ إذَا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ
يَتَجَنَّبُونَ الصَّلَاةَ فَيَجْتَمِعُونَ ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ ،
فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : اتَّخِذُوا
نَاقُوسًا مِثْلَ النَّصَارَى .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ : اتَّخِذُوا قَرْنًا مِثْل قَرْنِ
الْيَهُودِ ؛ فَقَالَ عُمَرُ : أَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ ؟
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بِلَالُ ؛ قُمْ
فَنَادِ بِالصَّلَاةِ } .
وَفِي الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ زَيْدٍ قَالَ : { لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالنَّاقُوسِ لِيُعْمَلَ حَتَّى يُضْرَبَ بِهِ فَيَجْتَمِعَ النَّاسُ
لِلصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا ، فَقُلْت لَهُ
: يَا عَبْدَ اللَّهِ ، تَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ ؟ فَقَالَ لِي : مَا تَصْنَعُ
بِهِ ؟ فَقُلْت : نَدْعُو بِهِ لِلصَّلَاةِ .
قَالَ : أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ
ذَلِكَ ؟ فَقُلْت : بَلَى .
فَقَالَ : تَقُولُ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، اللَّهُ
أَكْبَرُ فَذَكَرَ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ .
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْت ، فَقَالَ : إنَّهَا لِرُؤْيَا
حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، قُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا
رَأَيْت فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ .
فَفَعَلْت
} .
{ فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ الْأَذَانَ خَرَجَ مُسْرِعًا ،
فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَأُخْبِرَ الْخَبَرَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛
وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ ، لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الَّذِي رَأَى .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ
} .
وَفِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَخْبَارِ الْأَذَانِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ
وَمَسَائِلِهِ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ
.
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا
أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ
سَوَاءِ السَّبِيلِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَهَى
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ مِنْ
طَرِيقَيْهِ : فِي التَّوْحِيدِ ، وَفِي الْعَمَلِ ؛ فَغُلُوُّهُمْ فِي
التَّوْحِيدِ نِسْبَتُهُمْ لَهُ الْوَلَدَ سُبْحَانَهُ ، وَغُلُوُّهُمْ فِي
الْعَمَلِ مَا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الرَّهْبَانِيَّةِ فِي التَّحْلِيلِ
وَالتَّحْرِيمِ وَالْعِبَادَةِ وَالتَّكْلِيفِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَتَرْكَبُنَّ
سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرِ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى
لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ } .
وَهَذَا صَحِيحٌ لَا كَلَامَ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصِّحَاحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ
امْرَأَةً مِنْ اللَّيْلِ تُصَلِّي ، فَقَالَ : مَنْ هَذِهِ ؟ قِيلَ :
الْحَوْلَاءُ بِنْتُ تُوَيْتٍ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ كُلَّهُ .
فَكَرِهَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عُرِفَتْ الْكَرَاهِيَةُ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ : إنَّ
اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ، اكْلَفُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ } .
وَرُوِيَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ هَذَا
الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا
قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى }
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا أَخْبَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّا نَتَّبِعُ مَنْ قَبْلَنَا
فِي سُنَنِهِ ، وَكَانَتْ الْكَفَرَةُ قَدْ شَبَّهَتْ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
بِالْخَلْقِ فِي الْوَلَدِ ، وَشَبَّهَتْ هَذِهِ الْأُمَّةُ الْبَارِيَ تَعَالَى
بِالْخَلْقِ فِي مَصَائِبَ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْأُصُولِ لَا تَقْصُرُ فِي
الْبَاطِلِ عَنْ الْوَلَدِ ، وَغَلَتْ طَائِفَةٌ فِي الْعَمَلِ حَتَّى تَرَهَّبَتْ
وَتَرَكَتْ النِّكَاحَ ، وَوَاظَبَتْ عَلَى الصَّوْمِ ، وَتَرَكَتْ الطَّيِّبَاتِ
، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي
فَلَيْسَ مِنِّي } .
وَسَنَكْشِفُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا
بِالِاخْتِصَارِ ؛ إذْ قَدْ بَيَّنَّاهُ بِالطُّولِ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ،
وَخُصُوصًا فِي قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } .
وَهِيَ
: .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا
تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ
عَلِيٌّ ، وَالْمِقْدَادُ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَعُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ ، جَلَسُوا
فِي الْبُيُوتِ ، وَأَرَادُوا أَنْ يَفْعَلُوا كَفِعْلِ النَّصَارَى مِنْ
تَحْرِيمِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَاعْتِزَالِ النِّسَاءِ ، وَهَمَّ
بَعْضُهُمْ أَنْ يَجُبَّ نَفْسَهُ ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ كَانَ
مِمَّنْ حَرَّمَ النِّسَاءَ وَالزِّينَةَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَرَادُوا أَنْ
يَتَرَهَّبُوا ، وَلَا يَأْكُلُوا لَحْمًا وَلَا وَدَكًا ؛ وَقَالُوا : نَقْطَعُ
مَذَاكِيرَنَا ، وَنَسِيحُ فِي الْأَرْضِ ، كَمَا فَعَلَ الرُّهْبَانُ .
فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَاهُمْ عَنْهُ ، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهُ يَنْكِحُ
النِّسَاءَ ، وَيَأْكُلُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ ، وَيَنَامُ وَيَقُومُ ، وَيُفْطِرُ
وَيَصُومُ ، وَأَنَّهُ مَنْ رَغِبَ عَنْ سَنَتِي فَلَيْسَ مِنِّي ، وَقَالَ لَهُمْ
: { إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالتَّشْدِيدِ ، فَشَدَّدُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ .
أُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَارِ وَالصَّوَامِعِ ،
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأُقِيمُوا الصَّلَاةَ ،
وَآتُوا الزَّكَاةَ ، وَصُومُوا رَمَضَانَ ، وَحُجُّوا وَاعْتَمِرُوا ،
وَاسْتَقِيمُوا يَسْتَقِمْ لَكُمْ
} .
وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ ، رُوِيَ
ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ
.
الثَّانِي : رُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
رَوَاحَةَ ضَافَهُ ضَيْفٌ ، فَانْقَلَبَ ابْنُ رَوَاحَةَ وَلَمْ يَتَعَشَّ .
فَقَالَ لِزَوْجَتِهِ : مَا عَشَّيْتِيهِ ؟ فَقَالَتْ :
كَانَ الطَّعَامُ قَلِيلًا ، فَانْتَظَرْتُك أَنْ تَأْتِيَ .
قَالَ : حَرَمْت ضَيْفِي مِنْ أَجْلِي ،
فَطَعَامُك عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته .
فَقَالَتْ هِيَ : وَهُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ لَمْ
تُذَقْهُ .
وَقَالَ الضَّيْفُ : هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ إنْ ذُقْته
إنْ لَمْ تَذُوقُوهُ .
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ ابْنُ رَوَاحَةَ قَالَ : قَرِّبِي
طَعَامَك ، كُلُوا بِسْمِ اللَّهِ ، وَغَدَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ
.
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَحْسَنْت .
وَنَزَلَتْ الْآيَةُ : فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ
اللَّهُ .
} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِهِ : { فَقَالُوا :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كَيْفَ نَصْنَعُ بِأَيْمَانِنَا ، فَنَزَلَتْ : { لَا
يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } } .
الثَّالِثُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
{ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ
لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي إذَا أَصَبْت اللَّحْمَ انْتَشَرْت
لِلنِّسَاءِ وَأَخَذَتْنِي شَهْوَةٌ ، فَحَرَّمْت عَلَيَّ اللَّحْمَ ، فَنَزَلَتْ
: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ } إلَى { مُؤْمِنِينَ
} } .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : صَحِيحَةُ الْإِرْسَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ظَنَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُمْ طَرِيقُ مَنْ
قَبْلَهُمْ مِنْ رَفْضِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنِّسَاءِ ، وَقَدْ قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } فَكَانَتْ
شَرِيعَةُ مَنْ قَبْلَنَا بِالرَّهْبَانِيَّةِ وَشَرِيعَتُنَا بِالسَّمْحَةِ
الْحَنِيفِيَّةِ .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ
نَهَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّبَتُّلِ ، وَلَوْ
أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا } .
وَاَلَّذِي يُوجِبُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمَ ، وَيَقْطَعُ
الْعُذْرَ ، وَيُوَضِّحُ الْأَمْرَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ لِنَبِيِّهِ :
{ وَتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلًا } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ التَّبَتُّلَ بِفِعْلِهِ ؛ وَشَرَحَ أَنَّهُ امْتِثَالُ الْأَمْرِ ،
وَاجْتِنَابُ النَّهْيِ ، وَلَيْسَ بِتَرْكِ الْمُبَاحَاتِ ، { وَكَانَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ إذَا وَجَدَهُ ،
وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ تُبْتَاعُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا ، وَيُكْثِرُ مِنْ الْوَطْءِ
، وَيَصْبِرُ إذَا عَدِمَ ذَلِكَ } ، وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِهِ لِسُنَّةِ
عِيسَى فَلَيْسَ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
هَذَا إذَا كَانَ الدِّينُ قِوَامًا ، وَلَمْ يَكُنْ الْمَالُ حَرَامًا ؛ فَأَمَّا
إذَا فَسَدَ الدِّينُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَعَمَّ الْحَرَامُ فَالتَّبَتُّلُ
وَتَرْكُ اللَّذَّاتِ أَوْلَى ، وَإِذَا وُجِدَ الْحَلَالُ فَحَالُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ وَكَانَ داتشمند رَحِمَهُ اللَّهُ
يَقُول : إذْ عَمَّ الْحَرَامُ وَطَبَقَ الْبِلَادَ ، وَلَمْ يُوجَدْ حَلَالٌ
اُسْتُؤْنِفَ الْحُكْمُ ، وَصَارَ الْكُلُّ مَعْفُوًّا عَنْهُ ، وَكَانَ كُلُّ
وَاحِدٍ أَحَقَّ بِمَا فِي يَدِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ صَاحِبَهُ .
وَأَنَا أَقُولُ : إنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُنْقَاسٌ إذَا
انْقَطَعَ الْحَرَامُ ، فَأَمَّا وَالْغَصْبُ مُتَمَادٍ ، وَالْمُعَامَلَاتُ
الْفَاسِدَةُ مُسْتَمِرَّةٌ ، وَلَا يَخْرُجُ الْمَرْءُ مِنْ حَرَامٍ إلَّا إلَى
حَرَامٍ فَأَشْبَهَ الْمَعَاشُ مَنْ كَانَ لَهُ عَقَارٌ قَدِيمُ الْمِيرَاثِ
يَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهُ ، وَمَا رَأَيْت فِي رِحْلَتِي أَحَدًا يَأْكُلُ مَالًا حَلَالًا
مَحْضًا إلَّا سَعِيدًا الْمَغْرِبِيَّ ، كَانَ يَخْرُجُ فِي صَائِفَةِ
الْخِطْمِيِّ ، فَيَجْمَعُ مِنْ زَرِيعَتِهِ قُوَّتَهُ وَيَطْحَنُهَا
وَيَأْكُلُهَا بِزَيْتٍ يَجْلِبُهُ الرُّومُ مِنْ بِلَادِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : هَذَا عَلَيَّ
حَرَامٌ لِشَيْءٍ مِنْ الْحَلَالِ عَدَا الزَّوْجَةَ فَإِنَّهُ كِذْبَةٌ لَا
شَيْءَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ
شَيْءٌ مِمَّا حَرَّمَهُ .
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَأَكْثَرِ
الصَّحَابَةِ ؛ وَرُوِيَ أَنَّهُ قَوْلٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ، وَبِهِ قَالَ
أَبُو حَنِيفَةَ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ الْمُتَقَدِّمُ .
وَفِي حَدِيثِ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْهُمْ { أَنَّهُمْ حَلَفُوا
بِاَللَّهِ فَأَذِنَ لَهُمْ فِي الْكَفَّارَةِ } ، فَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي
حَنِيفَةَ بِمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ ، وَتَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَأَمَّا إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ
حَرَامٌ فَمَوْضِعُهَا سُورَةُ التَّحْرِيمِ ، وَاَللَّهُ يُسَهِّلُ فِي
الْبُلُوغِ إلَيْهَا بِعَوْنِهِ
.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ
تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ
كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : الْيَمِينُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : لَغْوٌ وَمُنْعَقِدَةٌ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا لَغْوَ الْيَمِينِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَأَمَّا الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ فَهِيَ
الْمُنْفَعِلَةُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : حِسِّيٌّ
كَعَقْدِ الْحَبْلِ ، وَحُكْمِيٌّ كَعَقْدِ الْبَيْعِ ؛ وَهُوَ رَبْطُ الْقَوْلِ
بِالْقَصْدِ الْقَائِمِ بِالْقَلْبِ ، يَعْزِمُ بِقَلْبِهِ أَوَّلًا مُتَوَاصِلًا
مُنْتَظِمًا ، ثُمَّ يُخْبِرُ عَمَّا انْعَقَدَ مِنْ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : صُورَةُ الْيَمِينِ اللَّغْوِ
وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى هَذَا وَاحِدَةٌ ، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ؟ قُلْنَا
: قَدْ آنَ الْآنَ أَنْ نَلْتَزِمَ بِذَلِكَ الِاحْتِفَاءِ ، وَنَكْشِفَ عَنْهُ
الْخَفَاءَ ، فَنَقُولُ : إنَّ الْيَمِينَ الْمُنْعَقِدَةَ مَا قُلْنَاهُ .
وَاللَّغْوَ ضِدُّهُ وَالْيَمِينَ اللَّغْوَ سَبْعُ
مُتَعَلِّقَاتٍ فِي اخْتِلَافِ النَّاسِ : الْمُتَعَلِّقُ الْأَوَّلُ : الْيَمِينُ
مَعَ النِّسْيَانِ ، فَلَا شَكَّ فِي إلْغَائِهَا ؛ لِأَنَّهُ إذْ قَصَدَ زَيْدًا
فَتَلَفَّظَ بِعَمْرٍو فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا جَاءَتْ عَلَى خِلَافِ قَصْدِهِ ،
فَهِيَ لَغْوٌ مَحْضٌ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْيَمِينُ الْمُكَفِّرَةُ
فَلَا مُتَعَلِّقَ لَهُ يُحْكَى
.
وَالْمُتَعَلِّقُ الثَّالِثُ : فِي دُعَاءِ الْإِنْسَانِ
عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَا ، فَيَنْزِلْ بِهِ كَذَا ، فَهَذَا قَوْلٌ
لَغْوٌ فِي طَرِيقِ الْكَفَّارَةِ ، وَلَكِنَّهُ مُنْعَقِدٌ فِي الْعَقْدِ
مَكْرُوهٌ ، وَرُبَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا
يَدْعُوَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى نَفْسِهِ ، فَرُبَّمَا
صَادَفَ سَاعَةً لَا يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ
إيَّاهَا } .
وَالْمُتَعَلِّقُ الرَّابِعُ : فِي يَمِينِ
الْمَعْصِيَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ عِبَادَةً ، وَالْحَالِفَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ
تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ مَعْصِيَةً ، وَيُقَالُ لَهُ : لَا تَفْعَلْ فَكَفَّرَ ،
فَإِنْ أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ فَجَرَ فِي إقْدَامِهِ وَبَرَّ فِي يَمِينِهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهَا تَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ
قَصَدَ بِقَلْبِهِ الْفِعْلَ أَوْ الْكَفَّ فِي زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ يَتَأَتَّى
فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
.
وَهَذَا ظَاهِرٌ .
وَالْمُتَعَلِّقُ الْخَامِسُ : فِي يَمِينِ الْغَضَبِ
مَوْضِعُ فِتْنَةٍ ؛ فَإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَقُولُ : يَمِينُ الْغَضَبِ لَا
يَلْزَمُ ، وَيَنْظُرُ فِي ذَلِكَ إلَى حَدِيثٍ يُرْوَى : { لَا يَمِينَ فِي
إغْلَاقٍ } ، وَهَذَا لَمْ يَصِحَّ ، وَالْإِغْلَاقُ : الْإِكْرَاهُ ؛ لِأَنَّهُ
تُغْلِقُ الْأَبْوَابَ عَلَى الْمُكْرَهِ وَتَرُدُّهُ إلَى مَقْصِدِهِ ، وَقَدْ { حَلَفَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَاضِبًا أَلَّا يَحْمِلَ
الْأَشْعَرِيِّينَ وَحَمَلَهُمْ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنِّي
لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت
الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ يَمِينِي } .
وَهَذَا بَيِّنٌ ظَاهِرٌ جِدًّا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَوْلُ الرَّجُلِ : لَا
وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ
.
فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ :
نَزَلَتْ : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } فِي
قَوْلِ الرَّجُلِ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ .
قُلْنَا : هَذَا صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ إذَا أَكْثَرَ
الرَّجُلُ فِي يَمِينِهِ مِنْ قَوْلِ
: لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ، عَلَى
أَشْيَاءَ يَظُنُّهَا كَمَا قَالَ ، فَتَخْرُجُ بِخِلَافِهِ .
أَوْ عَلَى حَقِيقَةٍ ، فَهِيَ تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ :
قِسْمًا يُظَنُّ وَقِسْمًا يُعْقَدُ ، فَلَا يُؤَاخَذُ مِنْهَا فِيمَا وَقَعَ
عَلَى ظَنٍّ ، وَيُؤَاخَذُ فِيمَا عَقَّدَ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَظُنَّ
أَحَدٌ أَنَّ قَوْلَهُ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى
وَاَللَّهِ ، فِيمَا يَعْتَقِدُهُ وَيُعَقِّدُهُ أَنَّهُ لَغْوٌ ، وَهُوَ
مَنْهِيٌّ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِيهِ وَالتَّهَافُتِ بِهِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ
عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ
النَّاسِ } فَنُهِيَ عَنْهَا وَلَا يُؤَاخَذُ إذَا فَعَلَهَا .
هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ هُوَ الْقَوْلُ اللَّغْوُ ،
وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَهُ مَالِكٌ ، وَأَنَّهُ
الْيَمِينُ عَلَى ظَنٍّ يَخْرُجُ بِخِلَافِهِ .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ :
فَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ فِي أَيِّ قِسْمٍ هِيَ ؟ : قُلْنَا هِيَ مَسْأَلَةٌ
عُظْمَى وَدَاهِيَةٌ كُبْرَى تَكَلَّمَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ، وَقَدْ أَفَضْنَا
فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
.
وَوَجْهُ إشْكَالِهَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ لَا
كَفَّارَةَ فِيهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ اللَّغْوِ ، فَلَا تَقَعُ فِيهَا مُؤَاخَذَةٌ
، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يُؤَاخَذُ بِهَا فَهِيَ فِي قِسْمِ الْمُنْعَقِدَةِ ،
تَلْزَمُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ
.
وَحَلُّهُ طَوِيلٌ ؛ اخْتِصَارُهُ أَنَّ الْآيَةَ
وَرَدَتْ بِقِسْمَيْنِ : لَغْوٌ ، وَمُنْعَقِدَةٌ خَرَجَتْ عَلَى الْغَالِبِ فِي
أَيْمَانِ النَّاسِ ؛ فَأَمَّا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ فَلَا يَرْضَى بِهَا ذُو
دِينٍ أَوْ مُرُوءَةٍ ، وَيَحِلُّ الْإِشْكَالُ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى قِسْمَيْ الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ ، فَدَعْ مَا
بَعْدَهَا يَكُونُ مِائَةَ قِسْمٍ فَإِنَّهُ لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ .
فَإِنْ قِيلَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ مُنْعَقِدَةٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا مُكْتَسَبَةٌ
بِالْقَلْبِ ، مَعْقُودَةٌ بِخَبَرٍ ، مَقْرُونَةٌ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى .
قُلْنَا : عَقْدُ الْقَلْبِ إنَّمَا يَكُونُ عَقْدًا
إذَا تُصُوِّرَ حِلُّهُ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ مَكْرٌ وَخَدِيعَةٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الَّذِي صَوَّرَهُ
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ مَوْجُودٌ فِي يَمِينِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَلَا
كَفَّارَةَ فِيهَا ؛ فَثَبَتَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْقَصْدِ لَا يَكْفِي فِي
الْكَفَّارَةِ ، هَذَا وَقَدْ فَارَقَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ الْحِلَّ .
وَكَيْفَ تَنْعَقِدُ ؟ وَقَدْ مَهَدْنَا الْقَوْلَ
فِيهَا فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي حَقِيقَةِ الْيَمِينِ
: قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَسَائِلِ ، وَهِيَ رَبْطُ الْعَقْدِ بِالِامْتِنَاعِ
وَالتَّرْكِ أَوْ بِالْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلٍ بِمَعْنَى مُعَظَّمٍ حَقِيقَةً أَوْ
اعْتِقَادًا .
وَالْمُعَظَّمُ حَقِيقَةً ، كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا
دَخَلْت الدَّارَ أَوْ لَأَدْخُلَنَّ
.
وَالْمُعَظَّمُ اعْتِقَادًا ، كَقَوْلِهِ : إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ أَنْتَ حُرٌّ .
وَالْحُرِّيَّةُ مُعَظَّمَةٌ عِنْدَهُ ، لِاعْتِقَادِهِ
عَظِيمَ مَا يَخْرُجُ عَنْ يَدِهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ .
وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } .
فَسَمَّى الْحَالِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ حَالِفًا .
وَقَدْ اتَّفَقَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ :
إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَعَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ،
وَلَكِنَّهُ مِنْ جِهَةِ النَّذْرِ لَا مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ .
وَالنَّذْرُ يَمِينٌ حَقِيقَةً ، وَلِأَجْلِهِ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَفَّارَةُ النَّذْرِ
كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا قَالَ : أَقْسَمْت
عَلَيْك ، أَوْ أَقْسَمْت لَيَكُونَنَّ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا
إذَا قَصَدَ بِاَللَّهِ .
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ يَمِينًا حَتَّى يُذْكَرَ
بِهِ اسْمُ اللَّهِ تَعَالَى ؛ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ ،
فَلَا يَكُونُ يَمِينًا .
قُلْنَا :
إنْ كَانَ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ فَقَدْ نَوَاهُ ،
وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ
امْرِئٍ مَا نَوَى } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ
تَعَالَى أَوْ بِصِفَاتِهِ الْعُلْيَا وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى فَهِيَ يَمِينٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا قَالَ : وَعِلْمِ
اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا .
وَظَنَّ قَوْمٌ مِمَّنْ لَمْ يُحَصِّلْ مَذْهَبَهُ
أَنَّهُ يُنْكِرُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ ؛ لِأَنَّهُ
قَدْ قَالَ : إذَا حَلَفَ : وَقُدْرَةِ اللَّهِ كَانَتْ يَمِينًا .
وَإِنَّمَا الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ
الْعِلْمَ قَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى الْمَعْلُومِ ، وَهُوَ الْمُحْدَثُ ، فَلَا
يَكُونُ يَمِينًا ، وَذُهِلَ عَنْ أَنَّ الْقُدْرَةَ أَيْضًا تَنْطَلِقُ عَلَى
الْمَقْدُورِ ، وَكُلُّ كَلَامٍ لَهُ فِي الْمَقْدُورِ فَهُوَ حُجَّتُنَا فِي
الْمَعْلُومِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ
بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ : وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ :
إذَا حَلَفَ بِالنَّبِيِّ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ؛
لِأَنَّهُ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ ، فَلَزِمَتْهُ
الْكَفَّارَةُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ : { مَنْ كَانَ
حَالِفًا فَلِيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } وَلِأَنَّ هَذَا يُنْتَقَضُ
بِمَنْ قَالَ : وَآدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ ، فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ،
وَقَدْ حَلَفَ بِمَا لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إلَّا بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَقَّدْتُمْ
الْأَيْمَانَ } فِيهِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتِ : عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ ،
وَعَقَدْتُمْ بِتَخْفِيفِ الْقَافِ ، وَعَاقَدْتُمْ بِالْأَلِفِ .
فَأَمَّا التَّخْفِيفُ فَهُوَ أَضْعَفُهَا رِوَايَةً
وَأَقْوَاهَا مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ فَعَلْتُمْ مِنْ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ .
وَإِذَا قُرِئَ عَاقَدْتُمْ فَهُوَ فَاعَلْتُمْ ،
وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ اثْنَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّانِي مِنْ حَلَفَ
لِأَجْلِهِ فِي كَلَامٍ وَقَعَ مَعَهُ ، وَقَدْ يَعُودُ ذَلِكَ إلَى الْمَحْلُوفِ
عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رَبَطَ بِهِ الْيَمِينَ ، وَقَدْ يَكُونُ فَاعَلَ بِمَعْنَى
فَعَلَ ، كَقَوْلِك : طَارَقَ النَّعْلَ ، وَعَاقَبَ اللِّصَّ ، فِي أَحَدِ
الْوَجْهَيْنِ فِي اللِّصِّ خَاصَّةً
.
وَإِذَا قَرَأَ عَقَّدْتُمْ بِتَشْدِيدِ الْقَافِ فَقَدْ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: قَالَ مُجَاهِدٌ : تَعَمَّدْتُمْ
.
الثَّانِي : قَالَ الْحَسَنُ : مَعْنَاهُ مَا تَعَمَّدْت
بِهِ الْمَأْثَمَ فَعَلَيْك فِيهِ الْكَفَّارَةُ .
الثَّالِثُ :
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : التَّشْدِيدُ يَقْتَضِي
التَّكْرَارَ ، فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا إذَا كَرَّرَ
الْيَمِينَ .
الرَّابِعُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : التَّشْدِيدُ
لِلتَّأْكِيدِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ :
مَا تَعَمَّدْتُمْ فَهُوَ صَحِيحٌ يَعْنِي مَا قَصَدْتُمْ إلَيْهِ احْتِرَازًا
مِنْ اللَّغْوِ .
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ مَا تَعَمَّدْتُمْ فِيهِ
الْمَأْثَمَ فَيَعْنِي بِهِ مُخَالَفَةَ الْيَمِينِ ، فَحِينَئِذٍ تَكُونُ
الْكَفَّارَةُ وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ حَسَنَانِ يَفْتَقِرَانِ إلَى تَحْقِيقٍ ،
وَهُوَ بَيَانُ وَجْهِ التَّشْدِيدِ ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ حَمَلَهُ عَلَى
التَّكْرَارِ ، وَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ لِضَعْفِهِ .
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { وَإِنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى
غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفَّرْت عَنْ
يَمِينِي } .
فَذَكَرَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي
الْيَمِينِ الَّتِي لَمْ تَتَكَرَّرْ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ : إنَّ التَّشْدِيدَ فِي
التَّأْكِيدِ مَحْمُولٌ عَلَى تَكْرَارِ الصِّفَاتِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَنَا : "
وَاَللَّهِ " يَقْتَضِي جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ
الْعُلْيَا ، فَإِذَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ :
وَاَللَّهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ التَّغْلِيظِ
بِالْأَلْفَاظِ ؟ قُلْنَا : لَا تَغْلِيظَ عِنْدَنَا بِالْأَلْفَاظِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَإِنْ غَلَّظْنَا فَلَيْسَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا
لَيْسَ بِمُغَلَّظٍ لَيْسَ بِيَمِينٍ ، وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْإِرْهَابِ عَلَى
الْحَالِفِ فَإِنَّهُ كُلَّمَا ذَكَرَ بِلِسَانِهِ اللَّهَ تَعَالَى حَدَثَ لَهُ
غَلَبَةُ حَالٍ مِنْ الْخَوْفِ ، وَرُبَّمَا اقْتَضَتْ لَهُ رَعْدَةً ، وَقَدْ
يَرْهَبُ بِهَا عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ : { وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } فَأَرْهَبَ
عَلَيْهِمْ بِالتَّوْحِيدِ ، لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ عُزَيْرًا ابْنَ اللَّهِ .
وَاَلَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ التَّشْدِيدَ
عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الْمَرْءَ يَعْقِدُ عَلَى الْمَعْنَى بِالْقَصْدِ
إلَيْهِ ، ثُمَّ يُؤَكِّدُ الْحَلِفَ بِقَصْدٍ آخَرَ ، فَهَذَا هُوَ الْعَقْدُ
الثَّانِي الَّذِي حَصَلَ بِهِ التَّكْرَارُ أَوْ التَّأْكِيدُ ، بِخِلَافِ
اللَّغْوِ فَإِنَّهُ قَصَدَ الْيَمِينَ وَفَاتَهُ التَّأْكِيدُ بِالْقَصْدِ
الصَّحِيحِ إلَى الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : الْيَمِينُ لَا يَقْتَضِي
تَحْرِيمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَقْتَضِي تَحْرِيمَ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي تَلْخِيصِ
الطَّرِيقَتَيْنِ الْعِرَاقِيَّةِ وَالْخُرَاسَانِيَّة عَلَى التَّمَامِ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْ قَالَ : حَرَّمْت
عَلَى نَفْسِي هَذَا الطَّعَامَ ، أَوْ هَذَا الثَّوْبَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ
؛ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ ، فَرَكَّبَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ .
وَلَمَّا رَأَى عُلَمَاؤُنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ أَبِي
حَنِيفَةَ فِي تَحْرِيمِ الْحَلَالِ مُرَكَّبَةٌ عَلَى الْيَمِينِ أَنْكَرُوا لَهُ
أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ ، وَكَانَ هَذَا لِأَنَّ النُّظَّارَ تَحْمِلُهُمْ
مُقَارَعَةُ الْخُصُومِ عَلَى النَّظَرِ فِي الْمُنَاقَضَاتِ وَتَرْكِ
التَّحْقِيقِ ، وَالنَّظَّارُ الْمُحَقِّقُ يَتَفَقَّدُ الْحَقَائِقَ ، وَلَا
يُبَالِي عَلَى مَنْ دَار النَّظَرُ ، وَلَا مَا صَحَّ مِنْ مَذْهَبٍ .
وَاَلَّذِي نَعْتَقِدُهُ أَنَّ الْيَمِينَ تُحَرِّمُ
الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ
فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ قَدْ مَنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يُكَفِّرَ ، فَإِنْ
أَقْدَمَ عَلَى الْفِعْلِ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَزِمَهُ أَدَاؤُهَا ؛
وَالِامْتِنَاعُ هُوَ التَّحْرِيمُ بِعَيْنِهِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى هُوَ
الْمُحَرِّمُ وَهُوَ الْمُحَلِّلُ ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهُ يَكُونُ ابْتِدَاءً
كَمُحَرَّمَاتِ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ بِأَسْبَابٍ يُعَلِّقُهَا عَلَيْهِ
مِنْ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ ، كَتَعْلِيقِ التَّحْرِيمِ بِالطَّلَاقِ ،
وَالتَّحْرِيمِ بِالْيَمِينِ .
وَيَرْفَعُ التَّحْرِيمُ الْكَفَّارَةَ مَفْعُولَةً أَوْ
مَعْزُومًا عَلَيْهَا .
وَيَرْفَعُ تَحْرِيمُ الطَّلَاقِ النِّكَاحَ بِحَسَبِ
مَا رَتَّبَ سُبْحَانَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ ، وَبَيَّنَ مِنْ الشُّرُوطِ .
هَذَا لُبَابُهُ ، وَتَمَامُهُ فِي التَّلْخِيصِ ،
فَلْيُنْظَرْ فِيهِ [ بَاقِي قِسْمَيْ هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ فِيهِ لَغُنْيَةُ
الْأَلْبَابِ ] .
وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِينَ كَانُوا
قَدْ اجْتَمَعُوا وَاعْتَقَدُوا تَحْرِيمَ الْأَطَايِبِ
مِنْ الطَّعَامِ وَالزِّينَةِ مِنْ الثِّيَابِ وَاللَّذَّةِ مِنْ النِّسَاءِ
حَلَفُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَلِأَجْلِهِ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ ؛ وَإِنْ كَانُوا
لَمْ يَحْلِفُوا ، وَلَكِنَّهُمْ اعْتَقَدُوا ، فَقَدْ دَخَلَتْ مَسْأَلَتُهُمْ
فِي قِسْمِ اللَّغْوِ ؛ وَإِذَا أَرَادَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُلْحِقَ قَوْلَهُ :
حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ ، بِقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَكَلْت ،
تَبَيَّنَ لَكُمْ نُقْصَانُ هَذَا الْإِلْحَاقِ وَفَسَادُهُ ؛ لِأَنَّهُ
بِالْيَمِينِ حَرَّمَ وَأَكَّدَ التَّحْرِيمَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا
قَالَ : حَرَّمْت عَلَى نَفْسِي الْأَكْلَ ، فَتَحْرِيمُهُ وَحْدَهُ دُونَ ذِكْرِ
اللَّهِ تَعَالَى كَيْفَ يَلْحَقُ بِالتَّحْرِيمِ الْمَقْرُونِ بِذِكْرِ اللَّهِ
تَعَالَى بَعْدَ إسْقَاطِهِ هَذَا الْإِلْحَاقَ ؟ لَا يَخْفَى تَهَاتُرُهُ عَلَى
أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ
عُمَرَ : إذَا لَمْ يُؤَكِّدْ الْيَمِينَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، وَإِذَا
أَكَّدَهَا أَعْتَقَ رَقَبَةً .
قِيلَ لِنَافِعٍ : مَا التَّأْكِيدُ ؟ قَالَ : أَنْ
تَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ مِرَارًا ؛ وَهَذَا تَحَكُّمٌ لَا يَشْهَدُ لَهُ شَيْءٌ
مِنْ الْأَثَرِ وَلَا مِنْ النَّظَرِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ كَمَا
قَدَّمْنَا حَلَّتْهَا الْكَفَّارَةُ أَوْ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَكِلَاهُمَا
رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
.
فَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فَقَالَ الْعُلَمَاءُ : إنَّهُ
يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْيَمِينِ نَسْقًا عَلَيْهَا لَا يَكُونُ
مُتَرَاخِيًا عَنْهَا .
الثَّانِي : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : يَكُونُ
مُقْتَرِنًا بِالْيَمِينِ اعْتِقَادًا أَوْ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْهَا ، فَإِنْ بَدَا
لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَاسْتَثْنَى لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُدْرِكُ الْيَمِينَ
الِاسْتِثْنَاءَ [ وَلَوْ ] بَعْدَ سَنَةٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَعَلَّقَ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ }
إلَى آخِرِ الْآيَةِ إلَى قَوْلِهِ : { مُهَانًا } فَإِنَّهَا نَزَلَتْ ، فَلَمَّا كَانَ
بَعْدَ عَامٍ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى :
{ إلَّا مَنْ تَابَ } .
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى
أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ هَلْ يَحِلُّ الْيَمِينَ بَعْدَ عَقْدِهَا [ أَوْ
يَمْنَعُهَا مِنْ الِانْعِقَادِ ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِحِلِّ
الْيَمِينِ ] ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {
إنِّي وَاَللَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهَ
} [ فَجَاءَ ] فِيهَا بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ
الْيَمِينِ لَفْظًا فَكَذَلِكَ يَكُونُ عَقْدًا .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَخَارِجٌ عَنْ
اللُّغَةِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ تَابَ } فَإِنَّ
الْآيَتَيْنِ كَانَتَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي
لَوْحِهِ ؛ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ نُزُولُهَا لِحِكْمَةِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى
ذَلِكَ فِيهَا ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا ؛ أَمَّا إنَّهُ يَتَرَكَّبُ عَلَيْهَا
فَرْعٌ حَسَنٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَالِفَ إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت
الدَّارَ ، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ، وَاسْتَثْنَى فِي
يَمِينِهِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ ، وَاسْتَثْنَى فِي
الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فِي قَلْبِهِ أَيْضًا مَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِثْنَاءِ
الَّذِي يَرْفَعُ الْيَمِينَ لِمُدَّةٍ وَلِسَبَبٍ أَوْ
لِمَشِيئَةِ أَحَدٍ ، وَلَمْ يُظْهِرْ شَيْئًا مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ إرْهَابًا
عَلَى الْمَحْلُوفِ لَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفَعُهُ وَلَا يَنْعَقِدُ
الْيَمِينَانِ عَلَيْهِ وَهَذَا فِي الطَّلَاق مَا لَمْ تَحْضُرْهُ الْبَيِّنَةُ ،
فَإِنْ حَضَرَتْهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ دَعْوَاهُ ، لِئَلَّا يَكُونَ
نَدَمًا .
وَقَدْ تَيَقَّنَّا التَّحْرِيمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ ،
فَلَا يَنْفَعُهُ دَعْوَاهُ الِاسْتِثْنَاءَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَافِعًا
لَهُ وَحْدَهِ إذَا جَاءَ مُسْتَفْتِيًا .
نُكْتَةٌ : كَانَ أَبُو الْفَضْلِ الْمَرَاغِيُّ
يَقْرَأُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ ، فَكَانَتْ الْكُتُبُ تَأْتِي إلَيْهِ مِنْ
بَلَدِهِ ، فَيَضَعُهَا فِي صُنْدُوقٍ ، وَلَا يَقْرَأُ مِنْهَا وَاحِدًا
مَخَافَةَ أَنْ يَطَّلِعَ فِيهَا عَلَى مَا يُزْعِجُهُ أَوْ يَقْطَعُ بِهِ عَنْ
طَلَبِهِ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ خَمْسَةِ أَعْوَامٍ ، وَقَضَى غَرَضًا مِنْ
الطَّلَبِ ، وَعَزَمَ عَلَى الرَّحِيلِ شَدَّ رَحْلَهُ ، وَأَبْرَزَ كُتُبَهُ ،
وَأَخْرَجَ تِلْكَ الرَّسَائِلِ وَقَرَأَ مِنْهَا مَا لَوْ أَنَّ وَاحِدَةً
مِنْهَا قَرَأَهَا فِي وَقْتِ وُصُولِهَا مَا تَمَكَّنَ بَعْدَهَا مِنْ تَحْصِيلِ
حَرْفٍ مِنْ الْعِلْمِ ، فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَرَحَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ
قاشه ، وَخَرَجَ إلَى بَابِ الْحَلْبَةِ طَرِيقِ خُرَاسَانَ ، وَتَقَدَّمَهُ
الْكَرِيُّ بِالدَّابَّةِ ، وَأَقَامَ هُوَ عَلَى فَامِيٍّ يَبْتَاعُ مِنْهُ
سُفْرَتَهُ ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ يُحَاوِلُ ذَلِكَ مَعَهُ إذْ سَمِعَهُ يَقُولُ
لِفَامِيٍّ آخَرَ : أَيْ فُلَ ، أَمَا سَمِعْت الْعَالِمَ يَقُولُ يَعْنِي
الْوَاعِظَ : إنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ وَلَوْ بَعْدَ سَنَةٍ
، لَقَدْ اشْتَغَلَ بَالِي بِذَلِكَ مِنْهُ مُنْذُ سَمِعْته يَقُولُهُ :
وَظَلَلْتُ فِيهِ مُتَفَكِّرًا ؛ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا لَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى لِأَيُّوبَ : { وَخُذْ بِيَدِك ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا
تَحْنَثْ } .
وَمَا الَّذِي كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَقُولَ
حِينَئِذٍ : قُلْ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؟ فَلَمَّا سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ قُلْت :
بَلَدٌ يَكُونُ الْفَامِيُّونَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ
الْمَرْتَبَةِ أَخْرُجُ عَنْهُ إلَى الْمَرَاغَةِ ؟ لَا
أَفْعَلُهُ أَبَدًا ؛ وَاقْتَفَى أَثَرَ الْكَرِيِّ ، وَحَلَّلَهُ مِنْ الْكِرَاءِ
، وَصَرَفَ رَحْلَهُ .
وَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي الْأَفْضَلِ
: مِنْ اسْتِمْرَارِ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ أَوْ الْحِنْثِ إلَى الْكَفَّارَةِ :
فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : { لَأَنْ يَلِجَ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ
عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ عَنْهَا كَفَّارَتَهُ الَّتِي فَرَضَ اللَّهُ
عَلَيْهِ } .
وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ حَالِ
الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنْ حَلَفَ أَلَّا يَأْتِيَ أَمْرًا لَا يَجُوزُ
فَالْبِرُّ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِي
الصَّحِيحَيْنِ حِينَ { نَبَذَ خَاتَمَ الذَّهَبِ مِنْ يَدِهِ وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا
أَلْبَسُهُ أَبَدًا } .
وَنَبَذَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَكْرُوهٍ فَالْبِرُّ مَكْرُوهٌ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى وَاجِبٍ عَصَى وَالْحِنْثُ وَاجِبٌ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ
إلَيْهِ : فَإِنْ كَانَ تَرْكُهُ مُضِرًّا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحِنْثُ .
وَإِنْ كَانَ فِي فِعْلِهِ مَنْفَعَةٌ اُسْتُحِبَّ لَهُ
الْحِنْثُ .
وَفِيهِ جَاءَ قَوْلُهُ : { لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ
فِي أَهْلِهِ بِيَمِينِهِ } إلَى آخِرِهِ حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ : .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي تَقْدِيمِ
الْكَفَّارَةِ عَلَى الْحِنْثِ
: لِعُلَمَائِنَا رِوَايَتَانِ : إحْدَاهُمَا يَجُوزُ
ذَلِكَ لَهُ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : لَا يَجُوزُ ؛
وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ
.
وَالْمَسْأَلَةُ طَوِيلَةٌ قَدْ أَفَضْنَا فِيهَا عِنْدَ
ذِكْرِنَا مَسَائِلَ الْخِلَافِ بِالتَّحْقِيقِ الْكَامِلِ ، وَهَا هُنَا مَا
يَحْتَمِلُ بَعْضَ ذَلِكَ ، فَنَذْكُرُ مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ
الْقُرْآنِ : قَالَ رَبُّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ
أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } ، فَعَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى سَبَبٍ ، وَهُوَ
الْحَلِفُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنَّا وَمِنْهُمْ :
مَعْنَاهُ إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا هِيَ
لِرَفْعِ الْإِثْمِ ، وَمَا لَمْ يَحْنَثْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مَا يُرْفَعُ ،
فَلَا مَعْنَى لِفِعْلِهَا ، لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَرْفَعُ الْمُسْتَقْبَلَ
، وَإِنَّمَا تَرْفَعُ الْمَاضِيَ مِنْ الْإِثْمِ ، فَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيه
ظَاهِرُ قَوْلِنَا : الْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ الَّذِي أَوْجَبَ أَنْ تُقَدَّرُ
الْآيَةُ بِقَوْلِهِ : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ
وَحَنِثْتُمْ .
وَتَعَلَّقَ الَّذِينَ جَوَّزُوا التَّقْدِيمَ بِأَنَّ
الْيَمِينَ سَبَبُ الْكَفَّارَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : {
ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } فَأَضَافَ الْكَفَّارَةَ إلَى
الْيَمِينِ .
وَالْمَعَانِي تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَأَكَّدُوا
ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: أَنَّ الْحِنْثَ قَدْ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ،
كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا جَاءَ فُلَانٌ غَدًا مِنْ سَفَرِهِ ، وَلَا طَلَعَتْ
الشَّمْسُ غَدًا .
الثَّانِي : أَنَّ شُهُودَ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ
عَلَى الزَّوْجِ إذَا رَجَعُوا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الصَّدَاقُ ، وَلَوْلَا كَوْنُ
الْيَمِينِ سَبَبًا مَا ضَمِنُوا مَا لَا تَعَلُّقَ بِهِ بِالتَّفْوِيتِ ؛ لِأَنَّ
التَّفْوِيتَ عَلَى قَوْلِهِمْ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ
الْحِنْثُ لَا بِالْيَمِينِ .
وَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نَنْظُرَ فِي حَدِيثِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ آكَدُ مِنْ النَّظَرِ فِي
الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى ، وَهِيَ الْمَحِلُّ الثَّانِي ، فَوَجَدْنَا
الْآثَارَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ مُخْتَلِفَةً فِي ذَلِكَ : رَوَى أَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيُّ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ، وَسَمُرَةُ بْنُ
جُنْدُبٍ قَالَ أَبُو مُوسَى : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { وَإِنِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ ، فَأَرَى
غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا كَفَّرْت عَنْ يَمِينِي ، وَأَتَيْت الَّذِي هُوَ
خَيْرٌ } .
وَقَدْ رُوِيَ لَنَا { فَلِيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ
يَمِينِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ
وَلْيَفْعَلْ } .
قَالَ عَدِيٌّ : فَلْيُكَفِّرْهَا وَلِيَأْتِ الَّذِي
هُوَ خَيْرٌ ؛ فَوَجَبَ التَّرْجِيحُ ، فَكَانَ تَقْدِيمُ الْحِنْثِ أَوْلَى ؛
لِأَنَّا إذَا رَدَدْنَا حَدِيثَ تَقْدِيمِ الْحِنْثِ إلَى حَدِيثِ تَقْدِيمِ
الْكَفَّارَةِ يُسْقِطُهُ ، وَرَدُّ حَدِيثِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ إلَى
تَقْدِيمِ الْحِنْثِ يُثْبِتُهُمَا جَمِيعًا .
وَأَمَّا الْمَعَانِي فَهِيَ مُتَعَارِضَةٌ ، فَمَنْ
أَرَادَ التَّلْخِيصَ مِنْهَا فَلْيَنْظُرْهَا فِي التَّلْخِيصِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : ذَكَرَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ فِي الْكِتَابِ الْخِلَالَ الثَّلَاثَ مُخَيِّرًا فِيهَا ،
وَعَقَّبَ عِنْدَ عَدَمِهَا بِالصِّيَامِ فَالْخُلَّةُ الْأُولَى هِيَ
الْإِطْعَامُ ، وَبَدَأَ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ الْأَفْضَلَ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ
لِغَلَبَةِ الْحَاجَةِ فِيهَا عَلَى الْخَلْقِ ، وَعَدَمِ شِبَعِهِمْ .
وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ عَلَى
التَّخْيِيرِ ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ مِنْ خِلَالِهَا .
وَعِنْدِي أَنَّهَا تَكُونُ بِحَسَبِ الْحَالِ ؛ فَإِنْ عَلِمْت
مُحْتَاجًا فَالْإِطْعَامُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّك إذَا أَعْتَقْت لَمْ تَرْفَعْ
حَاجَتَهُمْ وَزِدْت مُحْتَاجًا حَادِيَ عَشَرَ إلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ
الْكِسْوَةُ تَلِيه ، وَلَمَّا عَلِمَ اللَّهُ [ غَلَبَةَ ] الْحَاجَةِ بَدَأَ
بِالْمُهِمِّ الْمُقَدَّمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَقَوْلُهُ : { تُطْعِمُونَ }
يَحْتَمِلُ طَعَامَهُمْ بَقِيَّةَ عُمْرِهِمْ ، وَيَحْتَمِلُ غَدَاءً وَعَشَاءً ؛
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَكْلَةِ الْيَوْمِ وَسَطًا فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ وَشِبَعًا فِي غَيْرِهَا ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ :
تَتَقَدَّرُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِي الْبُرِّ بِنِصْفِ صَاعٍ ، وَفِي التَّمْرِ
وَالشَّعِيرِ بِصَاعٍ .
وَأَصْلُ الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَسَطَ فِي
لِسَانِ الْعَرَبِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْأَعْلَى وَالْخِيَارِ ، وَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } أَيْ عُدُولًا خِيَارًا .
وَيَنْطَلِقُ عَلَى مَنْزِلَةٍ بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ ،
وَنِصْفًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ ، وَإِلَيْهِ يُعْزَى الْمِثْلُ الْمَضْرُوبُ :
" خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا
" .
وَقَدْ أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ
بِمَعْنَى الْخِيَارِ هَاهُنَا مَتْرُوكٌ ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ
الْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهَا مَعْلُومَةً
عَادَةً ، وَمِنْهُ مَنْ قَدَّرَهَا كَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ
عَلَى ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ صَغِيرٍ قَالَ : { قَامَ
فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَطِيبًا ، فَأَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ
صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ رَأْسٍ ، أَوْ صَاعِ بُرٍّ بَيْنَ اثْنَيْنِ } ،
وَبِهِ أَخَذَ سُفْيَانُ وَابْنُ الْمُبَارَكِ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ صَاعٌ مِنْ الْكُلِّ
مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي سَعِيدٍ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ مَشْهُورٌ .
وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ
الْوَسَطُ مِنْ الْجِنْسِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } وَإِنَّمَا يُخْرِجُ الرَّجُلُ مِمَّا يَأْكُلُ .
وَقَدْ زَلَّتْ هَاهُنَا جُمْلَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ ؛
فَقَالُوا : إنَّهُ إذَا كَانَ يَأْكُلُ الشَّعِيرَ وَيَأْكُلُ النَّاسُ الْبُرَّ
فَلْيُخْرِجْ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ، وَهَذَا سَهْوٌ بَيِّنٌ ، فَإِنَّ
الْمُكَفِّرَ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ إلَّا الشَّعِيرَ لَمْ
يُكَلَّفْ أَنْ يُعْطِيَ لِغَيْرِهِ سِوَاهُ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ، صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ، صَاعًا مِنْ تَمْرٍ } .
فِي مَوْضِعٍ كَانَ فِيهِ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ أَكْثَرَ
مِنْ الْبُرِّ ، وَالْبُرُّ أَكْثَرَ مِنْ الشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ ، فَإِنَّمَا
فَصَّلَ ذِكْرَهُمَا لِيُخْرِجَ كُلُّ أَحَدٍ فَرْضَهُ مِمَّا يَأْكُلُ مِنْهَا ،
وَهَذَا مِمَّا لَا خَفَاءَ بِهِ
.
وَنَحْنُ نَقُولُ : أَرَادَ بِهِ الْجِنْسَ وَالْقَدْرَ
جَمِيعًا ، وَذَلِكَ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَهُوَ الْعَدْلُ مِنْ الْقَدْرِ
.
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةِ مَسَاكِينَ .
وَالْفَرَقُ ثَلَاثَةُ آصُعٍ مُجْمَلُ قَوْلِهِ :
صَدَقَةٌ ، وَلَمْ يُجْمِلْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي كَفَّارَةِ
الْيَمِينِ ، بَلْ قَالَ { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وَقَدْ
كَانَ عِنْدَهُمْ جِنْسُ مَا يُطْعِمُونَ وَقَدْرُهُ مَعْلُومًا ، وَوَسَطُ
الْقَدْرِ مُدٌّ ، وَأَطْلَقَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فَقَالَ : { فَإِطْعَامُ
سِتِّينَ مِسْكِينًا } .
فَحُمِلَ عَلَى الْأَكْثَرِ ، وَهَذِهِ سَبِيلُ مَهْيَعٌ
، وَلَمْ
يُرَدَّ مُطْلَقُ ذَلِكَ إلَى مُقَيَّدِهِ ، وَلَا عَامُّهُ إلَى خَاصِّهِ ، وَلَا
مُجْمَلُهُ إلَى مُفَسَّرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَا بُدَّ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَسَاكِينِ مَا يَخْرُجُ
لَهُمْ ، وَدَفْعِهِ إلَيْهِمْ حَتَّى يَتَمَلَّكُوهُ وَيَتَصَرَّفُوا فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ
جَازَ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُهُ .
وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ ؛ وَهِيَ
طُيُولِيَةٌ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ قَالَ
: إنَّ التَّمْكِينَ مِنْ الطَّعَامِ إطْعَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } .
فَبِأَيِّ وَجْهٍ أَطْعَمَهُ دَخَلَ فِي الْآيَةِ .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَقَالَ : إنَّ الْإِطْعَامَ هُوَ
التَّمْلِيكُ حَقِيقَةً قَالَ تَعَالَى : { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { أَطْعَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ } ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ ( أَطْعَمَ
) مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ إلَى مَفْعُولَيْنِ ، كَقَوْلِنَا
أَعْطَيْته ، فَيَقُولُ : طَعِمَ زَيْدٌ ، وَأَطْعَمْته أَيْ جَعَلْته يَطْعَمُ ،
وَحَقِيقَتُهُ بِالتَّمْلِيكِ هَذِهِ بِنِيَّةِ النَّظَرِ لِلْفَرِيقَيْنِ .
وَتَحْرِيرُهُ : أَنَّ الْآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ
لِلْوَجْهَيْنِ ، فَمَنْ يَدَّعِي التَّمْلِيكَ هُوَ الَّذِي يُخَصِّصُ الْعُمُومَ
فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ ، وَنَخُصُّهُ نَحْنُ بِالْقِيَاسِ حَمْلًا عَلَى زَكَاةِ
الْفِطْرِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَغْنُوهُمْ عَنْ سُؤَالِ هَذَا الْيَوْمِ } .
فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ إلَّا التَّمْلِيكُ .
وَهَذَا بَالِغٌ ، وَلَا سِيَّمَا وَالْمَقْصُودُ مِنْ
الْإِطْعَامِ التَّمْلِيكُ التَّامُّ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الْمِسْكِينُ
مِنْ الطَّعَامِ تَمَكُّنَ الْمَالِكِ ، كَالْكِسْوَةِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهَا
أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَفَّارَةِ الْمَدْفُوعَةِ إلَى الْمِسْكِينِ ، فَلَمْ يَجُزْ فِيهَا
إلَّا التَّمْلِيكُ ، أَصْلُهُ الْكِسْوَةُ وَمَا أَقْرَبُ مَا بَيْنَهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَفَعَهَا
إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ لَمْ يُجْزِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تُجْزِيهِ ، وَكَذَلِكَ فِي
كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَتَعَلَّقَ بِالْآيَةِ وَهِيَ عَكْسُ الْأُولَى ؛
لِأَنَّ الْعُمُومَ مَعَهُمْ ، وَنَحْنُ نَفْتَقِرُ إلَى تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ
، وَمَعَنَا نَحْنُ ظَاهِرُ الْعَدَدِ وَذِكْرُهُ وَهُمْ يُحَاوِلُونَ إسْقَاطَهُ
بِالْمَعْنَى .
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ : {
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا
} .
فَذَكَرَ الْإِطْعَامَ وَالْمَطْعُومَ فَتَعَيَّنَا .
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامَ
سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قُلْنَا :
الْإِطْعَامُ مَصْدَرٌ ، وَالْمَصْدَرُ مُقَدَّرٌ مَعَ
الْفِعْلِ ، كَمَا سَبَقَ فِي التَّحْرِيرِ وَالصِّيَامِ ، وَكَذَلِكَ هُنَا ،
وَمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ : فَعَلَيْهِ إطْعَامُ طَعَامِ سِتِّينَ
مِسْكِينًا ، كَلَامُ مَنْ لَا خِبْرَةَ لَهُ بِاللِّسَانِ ؛ فَإِنَّ الْإِطْعَامَ
يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ ، وَلَا يَنْتَظِمُ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ
، بِخِلَافِ مَفْعُولَيْ ظَنَنْت ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَجُوزُ فِيهِ
الِاقْتِصَارُ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَلَا يَجُوزُ فِي مَفْعُولَيْ ظَنَنْت أَنْ
يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَصْلًا ، فَإِنْ صَرَّحَ بِأَحَدِهِمَا وَتَرَكَ
الْآخَرَ فَهُوَ مُضْمَرٌ ؛ فَأَمَّا أَنْ يُقَدِّرَ مَا أَضْمَرَ وَيُسْقِطَ مَا
صَرَّحَ فَكَلَامٌ غَبِيٌّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ
كِسْوَتُهُمْ } قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : أَقَلُّ مَا يَقَعُ
عَلَيْهِ الِاسْمُ ، وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَقَلُّ مَا تُجْزِئُ فِيهِ
الصَّلَاةُ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الْفَرَجِ عَنْ مَالِكٍ ، وَبِهِ
قَالَ إبْرَاهِيمُ وَمُغِيرَةُ : مَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْبَدَنِ بِنَاءً عَلَى
أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُجْزِئُ فِي أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَلَعَلَّ قَوْلَ الْمُخَالِفِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ
الِاسْمُ يُمَاثِلُ مَا تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ؛ فَإِنَّ مِئْزَرًا وَاحِدًا
تُجْزِئُ فِيهِ الصَّلَاةُ ، وَيَقَعُ بِهِ الِاسْمُ عِنْدَهُمْ عَلَى الْأَقَلِّ .
وَمَا كَانَ أَحَرَصَنِي عَلَى أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ
لَا يُجْزِئُ فِيهِ إلَّا كِسْوَةٌ تَسْتُرُ عَنْ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ،
كَمَا أَنَّ عَلَيْهِ طَعَامًا يُشْبِعُهُ مِنْ الْجُوعِ فَأَقُولُ بِهِ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِمِئْزَرٍ وَاحِدٍ فَلَا أَدْرِيه ،
وَاَللَّهُ يَفْتَحُ لِي وَلَكُمْ فِي الْمَعْرِفَةِ بِمَعُونَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : لَا تُجْزِئُ
الْقِيمَةُ عَنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ :
تُجْزِئُ ، وَهُوَ يَقُولُ : تُجْزِئُ الْقِيمَةُ فِي الزَّكَاةِ ، فَكَيْفَ فِي
الْكَفَّارَةِ ؟ وَعُمْدَتُهُ أَنَّ الْغَرَضَ سَدُّ الْخُلَّةِ ، وَرَفْعُ
الْحَاجَةِ ، فَالْقِيمَةُ تُجْزِئُ فِيهِ .
قُلْنَا : إنْ نَظَرْتُمْ إلَى سَدِّ الْخُلَّةِ
فَأَيْنَ الْعِبَادَةُ ؟ وَأَيْنَ نَصُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَعْيَانِ
الثَّلَاثَةِ وَالِانْتِقَالُ بِالْبَيَانِ مِنْ نَوْعٍ إلَى نَوْعٍ ؛ وَلَوْ
كَانَ الْمُرَادُ الْقِيمَةَ لَكَانَ فِي ذِكْرِ نَوْعٍ وَاحِدٍ مَا يُرْشِدُ
إلَيْهِ وَيُغْنِي عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَفَعَ
الْكِسْوَةَ إلَى ذِمِّيٍّ أَوْ الطَّعَامَ لَمْ يُجْزِهِ : وَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : يُجْزِئُ لِأَنَّهُ مِسْكِينٌ يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْمَسْكَنَةِ ،
وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عُمُومُ الْآيَةِ ، فَعَلَيْنَا التَّخْصِيصُ ،
فَتَخْصِيصُهُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ نَقُولَ : هُوَ كَافِرٌ ، فَلَا
يَسْتَحِقُّ فِي الْكَفَّارَةِ حَقًّا كَالْحَرْبِيِّ .
أَوْ نَقُولَ : جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ يَجِبُ إخْرَاجُهُ
لِلْمَسَاكِينِ ، فَلَا يَجُوزُ لِلْكَافِرِ ، أَصْلُهُ الزَّكَاةُ .
وَقَدْ اتَّفَقْنَا مَعَهُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
دَفْعُهَا لِلْمُرْتَدِّ ، فَكُلُّ دَلِيلٍ خَصَّ بِهِ الْمُرْتَدَّ فَهُوَ
دَلِيلُنَا فِي الذِّمِّيِّ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى
{ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } : سَمِعْت ، عَنْ الْبَائِسِ أَنَّهُ قَالَ :
يُجْزِئُ الْمَعِيبُ ، فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ الَّذِي لَا
يُفْسِدُ جَارِحَةً ، وَلَا مُعْظَمَ مَنْفَعَتِهَا ، كَثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ
كَفٍّ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ .
وَإِنْ أَرَادَ الْعَيْبَ الْمُطْلَقَ فَقَدْ خَسِرَتْ
صَفْقَتُهُ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا
مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَعْتِقُ امْرَأً مُسْلِمًا إلَّا كَانَ فِكَاكُهُ مِنْ
النَّارِ ، كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِعُضْوٍ حَتَّى الْفَرْجِ بِالْفَرْجِ } ؛
وَلِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعِيبَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَلَا
تَكُونُ كَافِرَةً ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ اللَّفْظِ يَقْتَضِيهَا ؛ لِأَنَّهَا
قُرْبَةٌ وَاجِبَةٌ ، فَلَا يَكُونُ الْكَافِرُ مَحِلًّا لَهَا كَالزَّكَاةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي التَّلْخِيصِ ، وَهِيَ طُيُولِيَةٌ
فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله
تَعَالَى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
} الْمُعْدَمُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ يَكُونُ لِوَجْهَيْنِ : إمَّا لِمَغِيبِ الْمَالِ عَنْ الْحَالِفِ ،
أَوْ لِعَدَمِ ذَاتِ الْيَدِ ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَغِيبِ الْمَالِ فَحَيْثُ كَانَ
ثَاوِيًا كَانَ كَعَدَمِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ آخَرَ ، وَوَجَدَ مِنْ
يُسَلِّفُهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُسَلِّفُهُ
اُخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ : يَنْتَظِرُ إلَى بَلَدِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ ؛
بَلْ يُكَفِّرُ بِالصِّيَامِ فِي مَوْضِعِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ
إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الذِّمَّةِ ، وَالشَّرْطُ
مِنْ الْعَدَمِ قَدْ تَحَقَّقَ ، فَلَا وَجْهَ لِتَأْخِيرِ الْأَمْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : فِي
تَحْدِيدِ الْعَدَمِ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : مَنْ لَمْ يَجِدْ : مَنْ لَمْ يَكُنْ
عِنْدَهُ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ
.
وَقَالَ الْحَسَنُ : دِرْهَمَانِ .
وَقِيلَ : مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَنْ رَأْسِ
مَالِهِ الَّذِي يَعِيشُ مِنْهُ مَعَ عِيَالِهِ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَجِدْ .
وَقِيلَ :
مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قُوتُ يَوْمِهِ
وَلَيْلَتِهِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ ؛ فَهَذِهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهَا دَلِيلٌ يَقُومُ عَلَيْهِ ، وَلَا
سِيَّمَا مَنْ قَالَ بِدِرْهَمٍ وَدِرْهَمَيْنِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ أَطْعَمَ
كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّ جُمُعَةٍ مِسْكِينًا حَتَّى يُتِمَّ كَفَّارَتَهُ .
وَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَلَا يُعْطِيهَا إلَّا مَنْ كَانَ
لَهُ فَوْقَ قُوتِ سَنَةٍ .
وَأَمَّا الرَّقَبَةُ فَقَدْ تَفَطَّنَ مَالِكٌ
لِلْحَقِّ ، فَقَالَ : إنَّ مَنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا رَقَبَةً أَوْ دَارًا لَا
فَضْلَ فِيهِمَا ؛ أَوْ عَرَضًا ثَمَنَ رَقَبَةٍ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقُ ،
فَذَكَرَ الدَّارَ وَالْعَرَضَ وَالرَّقَبَةَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هُنَالِكَ رَمَقًا ، لَكِنْ
لَمْ يَذْكُرْ مَا مَعَهُ غَيْرُهُمَا ، هَلْ يُعْتِقُ الرَّقَبَةَ الَّتِي
كَانَتْ تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا وَكَسْبِهَا أَمْ عِنْدَهُ فَضْلٌ غَيْرُهَا ؟
فَإِنْ كَانَتْ الرَّقَبَةُ هِيَ الَّتِي كَانَتْ
تُعَيِّشُهُ بِخَرَاجِهَا فَلَا سَبِيلَ إلَى عِتْقِهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ الْمُغْنِيَةِ عَنْ التَّفْصِيلِ ذَلِكَ
عَلَى التَّرَاخِي ، وَلَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ فَلْيَتَرَيَّثْ فِي ذَلِكَ حَتَّى
يَفْتَحَ اللَّهُ لَهُ .
أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْفَوْتُ أَوْ يُؤْثِرَ
الْعِتْقَ ، أَوْ الْإِطْعَامَ بِسَبَبٍ يَدْعُوهُ إلَى ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ
مُتَتَابِعَاتٍ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : يُجْزِئُ
التَّفْرِيقُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، إذْ التَّتَابُعُ صِفَةٌ لَا تَجِبُ إلَّا
بِنَصٍّ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى مَنْصُوصٍ ، وَقَدْ عُدِمَا فِي مَسْأَلَتِنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : يُعْطَى فِي الْكَفَّارَةِ الْخُبْزُ ، وَالْإِدَامُ زَيْتٌ أَوْ
كِشْكٌ أَوْ كَامِخٌ أَوْ مَا تَيَسَّرَ ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ مَا أَرَاهَا
عَلَيْهِ وَاجِبَةً .
أَمَّا إنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ مَعَ
الْخُبْزِ السُّكَّرَ نَعَمْ وَاللَّحْمَ ، وَأَمَّا تَضْمِينُ الْإِدَامِ
لِلطَّعَامِ مَعْنًى يَتَضَمَّنَهُ لَفْظُهُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَالَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : بَدَأَ اللَّهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِالْأَهْوَنِ
؛ لِأَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ ، فَإِذَا شَاءَ انْتَقَلَ إلَى الْأَعْلَى
وَهُوَ الْإِعْتَاقُ ، وَبَدَأَ فِي الظِّهَارِ بِالْأَشَدِّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى
التَّرْتِيبِ ؛ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَنْتَقِلَ لَمْ يَقْدِرْ ، وَهَذَا إنَّمَا
يَصِحُّ لَهُ تَأْوِيلًا بِالْعِرَاقِ حَيْثُ الْبُرُّ ثَلَاثُمِائَةٍ رِطْلٍ
بِدِينَارٍ إذَا طُلِبَ ، فَإِذَا زُهِدَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ثَمَنٌ .
فَأَمَّا بِالْحِجَازِ حَيْثُ الْبُرُّ فِيهِ إذَا
رَخُصَ أَرْبَعَةُ آصُعٍ وَخَمْسَةُ آصُعٍ بِدِينَارٍ فَإِنَّ الْعَبْدَ فِيهِ
أَرْخَصُ ، وَالْحَاجَةَ إلَى الطَّعَامِ أَعْظَمُ ، فَقَدْ يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ
بِدِينَارٍ ، وَلَكِنْ يُخْرِجُهُ مِنْ الرِّقِّ إلَى الْجُوعِ ، وَيَتَفَادَى
مِنْهُ سَيِّدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } { وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ } يَحْتَمِلُ ثَلَاثَةَ مَعَانٍ : الْأَوَّلُ : احْفَظُوهَا ، فَلَا
تَحْلِفُوا فَتَتَوَجَّهُ عَلَيْكُمْ هَذِهِ التَّكْلِيفَاتُ .
الثَّانِي : احْفَظُوهَا إذَا حَنِثْتُمْ ؛ فَبَادِرُوا
إلَى مَا لَزِمَكُمْ .
الثَّالِثُ : احْفَظُوهَا فَلَا تَحْنَثُوا ؛ وَهَذَا
إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ الْبُرُّ أَفْضَلَ أَوْ الْوَاجِبَ .
وَالْكُلُّ عَلَى هَذَا مِنْ الْحِفْظِ صَحِيحٌ عَلَى
وَجْهِهِ الْمَذْكُورِ وَصِفَتِهِ الْمُنْقَسِمَةِ إلَيْهِ ، فَلْيُرَكَّبْ عَلَى
ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا
فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا فَإِنَّهَا تُذْهِبُ الْعَقْلَ وَالْمَالَ "
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } .
فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
" اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا "
فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الَّتِي فِي النِّسَاءِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ
} ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اللَّهُمَّ بَيِّنْ
لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا " فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلَى قَوْلِهِ : {
مُنْتَهُونَ } ؛ فَدُعِيَ عُمَرُ ، فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : "
انْتَهَيْنَا .
انْتَهَيْنَا
" .
وَرُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُلَاحَاةٍ جَرَتْ
بَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
وَهُمَا عَلَى شَرَابٍ لَهُمَا ، وَقَدْ انْتَشَيَا ،
فَتَفَاخَرَتْ الْأَنْصَارُ وَقُرَيْشٌ ، فَأَخَذَ الْأَنْصَارِيُّ لَحْيَيْ
جَمَلٍ فَضَرَبَ بِهِ أَنْفَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَفَزَرَهُ ، فَنَزَلَتْ
الْآيَةُ .
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ عِتْبَانُ
بْنُ مَالِكٍ ، رَوَى ذَلِكَ الطَّبَرِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا .
وَهَذَا لَيْسَ بِمُتَعَارِضٍ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ
يَجْرِيَ بَيْنَ سَعْدٍ وَبَيْنِ عِتْبَانَ مَا يُوجِبُ نُزُولَ الْآيَةِ كَمَا
رَوَى الطَّبَرِيُّ ، فَيُدْعَى عُمَرُ فَتُقْرَأُ عَلَيْهِ ، كَمَا رَوَى
التِّرْمِذِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ اسْمِ
الْخَمْرِ وَالْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ : وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَصَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ .
وَأَمَّا الْمَيْسِرُ : فَهُوَ شَيْءٌ مُحَرَّمٌ لَا
سَبِيلَ إلَى عَمَلِهِ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي ذِكْرِهِ ؛ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ
يَمُوتَ ذِكْرُهُ وَيُمْحَى رَسْمُهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي قَوْله تَعَالَى : {
رِجْسٌ } : وَهُوَ النَّجَسُ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي صَحِيحِ حَدِيثِ الِاسْتِنْجَاءِ
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِحَجَرَيْنِ
وَرَوْثَةٍ ، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ ، وَقَالَ : إنَّهَا
رِكْسٌ } أَيْ نَجَسٌ .
وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا مَا
يُؤْثَرُ عَنْ رَبِيعَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، وَهِيَ طَاهِرَةٌ
، كَالْحَرِيرِ عِنْدَ مَالِكٍ مُحَرَّمٌ ، مَعَ أَنَّهُ طَاهِرٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ،
الرِّجْسِ النَّجِسِ ، الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ } .
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ
تَمَامَ تَحْرِيمِهَا وَكَمَالَ الرَّدْعِ عَنْهَا الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا
حَتَّى يَتَقَذَّرَهَا الْعَبْدُ ، فَيَكُفُّ عَنْهَا ، قُرْبَانًا بِالنَّجَاسَةِ
وَشُرْبًا بِالتَّحْرِيمِ ، فَالْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاجْتَنِبُوهُ } يُرِيدُ أَبْعِدُوهُ ، وَاجْعَلُوهُ نَاحِيَةً ؛ وَهَذَا أَمْرٌ
بِاجْتِنَابِهَا ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا سِيَّمَا وَقَدْ عُلِّقَ بِهِ
الْفَلَاحُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى
رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ
} .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نَزَلَتْ
فِي قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ شَرِبُوا الْخَمْرَ وَانْتَشَوْا ، فَعَبَثَ
بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ ، فَلَمَّا صَحَوْا ، وَرَأَى بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِ بَعْضٍ
آثَارَ مَا فَعَلُوا ، وَكَانُوا إخْوَةً لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ضَغَائِنُ ،
فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ : لَوْ كَانَ أَخِي بِي رَحِيمًا مَا فَعَلَ هَذَا بِي
، فَحَدَثَتْ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا
يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ } الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ
} كَمَا فُعِلَ بِعَلِيٍّ ، وَرُوِيَ : بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فِي
الصَّلَاةِ حِينَ أَمَّ النَّاسَ ، فَقَرَأَ : قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَقَالَ عُمَرُ : انْتَهَيْنَا .
حِينَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ ، { وَأَمَرَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي
سِكَكِ الْمَدِينَةِ : أَلَا إنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ ؛ فَكُسِرَتْ
الدِّنَانُ ، وَأُرِيقَتْ الْخَمْرُ حَتَّى جَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ ،
وَمَا كَانَ خَمْرُهُمْ يَوْمئِذٍ إلَّا مِنْ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ } ، وَهَذَا ثَابِتٌ صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا } وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِلتَّحْرِيمِ ،
وَتَشْدِيدٌ فِي الْوَعِيدِ .
قَالَ : فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ
إلَّا الْبَلَاغُ ، فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا
الْبَلَاغُ الْمُبِينُ .
أَمَّا عِقَابُ التَّوْلِيَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فَعَلَى
الْمُرْسِلِ لَا عَلَى الرَّسُولِ
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا
طَعِمُوا إذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا
وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : كُنْت سَاقِيَ
الْقَوْمِ فِي مَنْزِلِ أَبِي طَلْحَةَ ، فَنَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، فَأَمَرَ
مُنَادِيًا يُنَادِي ؛ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ : اُخْرُجْ فَانْظُرْ مَا هَذَا
الصَّوْتُ ؛ قَالَ : فَخَرَجْت ، فَقُلْت : هَذَا مُنَادٍ يُنَادِي : أَلَا إنَّ
الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ .
فَقَالَ لِي : اذْهَبْ فَأَهْرِقْهَا ، وَكَانَ
الْخَمْرُ مِنْ الْفَضِيخِ .
قَالَ : فَجَرَتْ فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ .
فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ : قُتِلَ قَوْمٌ وَهِيَ فِي
بُطُونِهِمْ .
قَالَ :
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلَى قَوْلِهِ : { الْمُحْسِنِينَ } .
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ صَحِيحًا عَنْ الْبَرَاءِ
أَيْضًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ نَزَلَتْ الْآيَةُ فِيمَنْ
شَرِبَ الْخَمْرَ ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ : إذَا مَا طَعِمُوا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ
دَلِيلًا عَلَى تَسْمِيَةِ الشُّرْبِ طَعَامًا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي
سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا
مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } إلَى : { الْمُحْسِنِينَ }
اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : اتَّقَوْا فِي
اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ ، وَاتَّقَوْا فِي الثَّبَاتِ عَلَى
ذَلِكَ ، وَاتَّقَوْا فِي لُزُومِ النَّوَافِلِ ؛ وَهُوَ الْإِحْسَانُ إلَى آخِرِ
الْعُمْرِ .
الثَّانِي : اتَّقَوْا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فِي
غَيْرِهَا مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا بَعْدَ تَحْرِيمِهَا شُرْبَهَا
، ثُمَّ اتَّقَوْا فِي الَّذِي بَقِيَ مِنْ أَعْمَارِهِمْ ، فَاجْتَنَبُوا الْعَمَلَ
الْمُحَرَّمَ .
الثَّالِثُ : اتَّقَوْا الشِّرْكَ ، وَآمَنُوا ، ثُمَّ
اتَّقَوْا الْحَرَامَ ، ثُمَّ اتَّقَوْا تَرْكَ الْإِحْسَانِ ، فَيَعْبُدُونَ
اللَّهَ ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ .
وَقَدْ صُرِفَتْ فِيهَا أَقْوَالٌ عَلَى قَدْرِ وَظَائِفِ
الشَّرِيعَةِ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا ، وَأَشْبَهُهَا بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ الشُّرَّابَ كَانُوا
يُضْرَبُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ وَبِالْعِصِيِّ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ أَكْثَرَ
مِنْهُمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ
أَبُو بَكْرٍ يَجْلِدُهُمْ أَرْبَعِينَ حَتَّى تُوُفِّيَ ، فَكَانَ عُمَرُ مِنْ
بَعْدِهِ يَجْلِدُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ ، ثُمَّ أُتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ شَرِبَ ، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُجْلَدَ ،
فَقَالَ : أَتَجْلِدُنِي ، بَيْنِي وَبَيْنَك كِتَابُ اللَّهِ " .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَجِدُ
أَلَّا أَجْلِدَك ؟ " فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { لَيْسَ عَلَى
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ ؛
فَأَنَا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ، ثُمَّ اتَّقَوْا
وَآمَنُوا ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا ، شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَأُحُدًا
وَالْخَنْدَقَ وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَلَا تَرُدُّونَ عَلَيْهِ مَا
يَقُولُ " ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ أُنْزِلَتْ
عُذْرًا لِمَنْ صَبَرَ وَحُجَّةً عَلَى النَّاسِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
يَقُولُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ }
الْآيَةَ ، ثُمَّ قَرَأَ حَتَّى أَنْفَذَ الْآيَةَ الْأُخْرَى ؛ فَإِنْ كَانَ مِنْ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
نَهَاهُ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ
.
فَقَالَ عُمَرُ : " صَدَقْت ، مَاذَا تَرَوْنَ
" ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ : " إنَّهُ إذَا شَرِبَ سَكِرَ ، وَإِذَا سَكِرَ
هَذَى ، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى ، وَعَلَى الْمُفْتَرِي جَلْدُ ثَمَانِينَ " .
[ فَأَمَرَ بِهِ عُمَرُ فَجُلِدَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ] .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَالَ : اسْتَعْمَلَ عُمَرُ قُدَامَةَ بْنَ
مَظْعُونٍ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَقَدْ كَانَ يَشْهَدُ بَدْرًا ، وَهُوَ خَالُ
ابْنِ عُمَرَ وَحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛
زَادَ الْبَرْقَانِيُّ : فَقَدِمَ الْجَارُودُ مِنْ الْبَحْرَيْنِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ قُدَامَةَ بْنَ مَظْعُونٍ قَدْ شَرِبَ مُسْكِرًا ، وَإِنِّي
إذَا رَأَيْت حَدًّا مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى حُقَّ عَلَيَّ أَنْ أَرْفَعَهُ
إلَيْك .
فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : " مَنْ يَشْهَدُ لِي عَلَى
مَا تَقُولُ ؟ " فَقَالَ : أَبُو هُرَيْرَةَ .
فَدَعَا عُمَرُ أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ : "
عَلَامَ تَشْهَدُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ " ؟ فَقَالَ : " لَمْ أَرَهُ
حِينَ شَرِبَ ، وَقَدْ رَأَيْته سَكْرَانَ يَقِيءُ " .
فَقَالَ عُمَرُ : " لَقَدْ تَنَطَّعْت فِي
الشَّهَادَةِ " .
ثُمَّ كَتَبَ عُمَرَ إلَى قُدَامَةَ وَهُوَ
بِالْبَحْرَيْنِ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ .
فَلَمَّا قَدِمَ قُدَامَةُ وَالْجَارُودُ بِالْمَدِينَةِ
كَلَّمَ الْجَارُودُ عُمَرَ ، فَقَالَ لَهُ : أَقِمْ عَلَى هَذَا كِتَابَ اللَّهِ
فَقَالَ عُمَرُ لِلْجَارُودِ : " أَشَهِيدٌ أَنْتَ أَمْ خَصْمٌ " ؟
فَقَالَ الْجَارُودُ : أَنَا شَهِيدٌ
.
قَالَ : " قَدْ كُنْت أَدَّيْت الشَّهَادَةَ " .
فَسَكَتَ الْجَارُودُ ، ثُمَّ قَالَ
: لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي أَنْشُدُك اللَّهَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " أَمَا وَاَللَّهِ لَتَمْلِكَنَّ
لِسَانَك أَوْ لَأَسُوءَنَّكَ
" .
فَقَالَ الْجَارُودُ : أَمَا وَاَللَّهِ مَا ذَلِكَ
بِالْحَقِّ أَنْ يَشْرَبَ ابْنُ عَمِّك وَتَسُوءَنِي : فَتَوَعَّدَهُ عُمَرُ .
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ جَالِسٌ : " يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنْ كُنْت تَشُكُّ فِي شَهَادَتِنَا فَسَلْ بِنْتَ
الْوَلِيدِ امْرَأَةَ ابْنِ مَظْعُونٍ
" .
فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى هِنْدَ يَنْشُدُهَا بِاَللَّهِ ،
فَأَقَامَتْ هِنْدُ عَلَى زَوْجِهَا قُدَامَةَ الشَّهَادَةَ .
فَقَالَ عُمَرُ : " يَا قُدَامَةُ ؛ إنِّي جَالِدُك " .
فَقَالَ قُدَامَةُ : وَاَللَّهِ لَوْ شَرِبْت كَمَا
تَقُولُونَ مَا كَانَ لَك أَنْ تَجْلِدَنِي يَا عُمَرُ .
قَالَ :
" لِمَ يَا قُدَامَةُ ؟ " قَالَ : لِأَنَّ
اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ :
{ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ إلَى : { الْمُحْسِنِينَ } .
فَقَالَ عُمَرُ : " إنَّك أَخْطَأْت التَّأْوِيلَ
يَا قُدَامَةُ ؛ إذَا اتَّقَيْت اللَّهَ اجْتَنَبْت مَا حَرَّمَ اللَّهُ " .
ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى الْقَوْمِ فَقَالَ : "
مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ " فَقَالَ الْقَوْمُ : لَا نَرَى أَنْ
تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا ، فَسَكَتَ عُمَرُ عَنْ جَلْدِهِ أَيَّامًا ، ثُمَّ
أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ عَلَى جَلْدِهِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : "
مَا تَرَوْنَ فِي جَلْدِ قُدَامَةَ ؟ " فَقَالُوا : لَا نَرَى أَنْ
تَجْلِدَهُ مَا دَامَ وَجِعًا .
فَقَالَ عُمَرُ : " إنَّهُ وَاَللَّهِ لَأَنْ
يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ تَحْتَ السَّوْطِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى
اللَّهَ وَهِيَ فِي عُنُقِي ، وَاَللَّهِ لَأَجْلِدَنَّهُ ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ " .
فَجَاءَ مَوْلَاهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ رَقِيقٍ صَغِيرٍ ،
فَأَخَذَهُ عُمَرُ فَمَسَحَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِأَسْلَمَ : " قَدْ
أَخَذْتُك بِإِقْرَارِ أَهْلِكَ ، ائْتُونِي بِسَوْطٍ غَيْرِ هَذَا " .
قَالَ :
فَجَاءَهُ أَسْلَمُ بِسَوْطٍ تَامٍّ ، فَأَمَرَ عُمَرُ
بِقُدَامَةَ فَجُلِدَ ، فَغَاضَبَ قُدَامَةُ عُمَرَ وَهَجَرَهُ ، فَحَجَّا
وَقُدَامَةُ مُهَاجِرٌ لِعُمَرَ ، حَتَّى قَفَلُوا مِنْ حَجِّهِمْ ، وَنَزَلَ
عُمَرُ
بِالسُّقْيَا وَقَامَ بِهَا ؛ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ
عُمَرُ قَالَ : " عَجِّلُوا عَلَيَّ بِقُدَامَةَ ، انْطَلِقُوا فَأْتُونِي
بِهِ ، فَوَاَللَّهِ إنِّي لَأَرَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ جَاءَنِي آتٍ فَقَالَ
لِي : سَالِمْ قُدَامَةُ فَإِنَّهُ أَخُوكَ " .
فَلَمَّا جَاءُوا قُدَامَةَ أَبَى أَنْ يَأْتِيَهُ ؛
فَأَمَرَ عُمَرُ بِقُدَامَةَ أَنْ يُجَرَّ إلَيْهِ جَرًّا حَتَّى كَلَّمَهُ عُمَرُ
وَاسْتَغْفَرَ لَهُ ، فَكَانَ أَوَّلَ صُلْحِهِمَا .
فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى تَأْوِيلِ الْآيَةِ ، وَمَا
ذُكِرَ فِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي حَدِيثِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَعُمَرَ فِي
حَدِيثِ الْبَرْقَانِيِّ ، وَهُوَ صَحِيحٌ .
وَبَسْطُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ
وَاتَّقَى اللَّهَ فِي غَيْرِهِ لَا يُحَدُّ عَلَى الْخَمْرِ مَا حُدَّ أَحَدٌ ،
فَكَانَ هَذَا مِنْ أَفْسَدِ تَأْوِيلٍ ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَى قُدَامَةَ ،
وَعَرَفَهُ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لَهُ كَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ .
وَإِنَّ حَرَامًا لَا أَرَى الدَّهْرَ بَاكِيًا عَلَى
شَجْوِهِ إلَّا بَكَيْت عَلَى عُمَرَ
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ
الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ
بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْحُدَيْبِيَةِ
، أَحْرَمَ بَعْضُ النَّاسِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَمْ يُحْرِمْ بَعْضُهُمْ فَكَانَ إذَا عَرَضَ صَيْدٌ اخْتَلَفَتْ فِيهِ
أَحْوَالُهُمْ ، وَاشْتَبَهَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ بَيَانًا لِأَحْكَامِ أَحْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ
وَمَحْظُورَاتِ حَجِّهِمْ وَعُمْرَتِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ
فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ، خَاطَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا كُلَّ مُسْلِمٍ
مِنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي
مَسَائِلِ الْأُصُولِ هَذِهِ التَّرْجَمَةَ ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَتَهَا ،
وَأَوْضَحْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَاهَا فِي كُلِّ آيَةٍ تَجْرِي عَلَيْهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فِي الْمُخَاطَبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ
الْمُحِلُّونَ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ
.
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ، وَتَعَلَّقَ مَنْ عَمَّمَ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } مُطْلَقٌ فِي الْجَمِيعِ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ خَصَّ بِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَيَبْلُوَنَّكُمْ } يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الْمُحْرِمُونَ ، فَإِنَّ تَكْلِيفَ
الِامْتِنَاعِ الَّذِي يَتَحَقَّقُ بِهِ الِابْتِلَاءُ هُوَ مَعَ الْإِحْرَامِ .
وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : {
لَيَبْلُوَنَّكُمْ } الَّذِي يَقْتَضِي التَّكْلِيفَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُحِلِّ
بِمَا شُرِطَ لَهُ مِنْ أُمُورِ الصَّيْدِ ، وَمَا شُرِعَ لَهُ مِنْ وَظِيفَةٍ فِي
كَيْفِيَّةِ الِاصْطِيَادِ ، وَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ ابْتِلَاءٌ وَإِنْ تَفَاضَلَ
فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ ، وَتَبَايَنَ فِي الضَّعْفِ وَالشِّدَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ قَوْمٌ : الْأَصْلُ
فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ ، وَالْإِبَاحَةُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ،
وَهَذَا يَنْعَكِسُ فَيُقَالُ : الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ
وَالتَّحْرِيمُ فَرْعُهُ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ ، وَلَا دَلِيلَ يُرَجَّحُ أَحَدُ
الْقَوْلَيْنِ بِهِ
.
وَنَحْنُ نَقُولُ : لَا أَصْلَ فِي شَيْءٍ إلَّا مَا
أَصَّلَهُ الشَّرْعُ بِتِبْيَانِ حُكْمِهِ وَإِيضَاحِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ مِنْ
حِلٍّ أَوْ تَحْرِيمٍ ، وَوُجُوبٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ كَرَاهِيَةٍ ، وَقَدْ
بَيَّنَّا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَكْلِ لِمَا أَكَلَهُ الْكَلْبُ مِنْ
الصَّيْدِ ، حَتَّى قِيلَ الْأَصْلُ فِي الصَّيْدِ التَّحْرِيمُ .
وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَهُوَ
مَشْكُوكٌ فِيهِ .
وَقُلْنَا : إنَّ الْأَصْلَ فِي الصَّيْدِ الْإِبَاحَةُ
فَلَا يُحَرِّمُهُ أَكْلُ الْكَلْبِ مِنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ .
ثُمَّ ذَكَرْنَا التَّعَارُضَ فِيهِ وَالِانْفِصَالَ
عَنْهُ ، فَلْيُنْظَرْ فِي مَوْضِعِهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ
} بَيَانٌ لِحُكْمِ صِغَارِ الصَّيْدِ وَكِبَارِهِ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ
مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } فَكُلُّ شَيْءٍ يَنَالُهُ
الْإِنْسَانُ بِيَدِهِ ، أَوْ بِرُمْحِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ سِلَاحِهِ فَقَتَلَهُ
، فَهُوَ صَيْدٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : [ صَيْدُ الذِّمِّيِّ ] : قَالَ مَالِكٌ
: لَا يَحِلُّ صَيْدُ الذِّمِّيِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَاطَبَ
الْمُؤْمِنِينَ الْمُحَلِّينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ، فَخَرَجَ عَنْهُمْ أَهْلُ
الذِّمَّةِ ، لِاخْتِصَاصِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْإِيمَانِ ، فَيَقْتَضِي ذَلِكَ
اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِمْ إلَّا بِدَلِيلٍ يَقْتَضِي التَّعْمِيمَ .
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ دَلِيلِ الْخِطَابِ الَّذِي
هُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ ، لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ
الْآخَرَ بِخِلَافِهِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ بَابِ أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ
مَنْطُوقٌ بِهِ ، مُبَيَّنٌ حُكْمُهُ ، وَالثَّانِي مَسْكُوتٌ عَنْهُ ، وَلَيْسَ
فِي مَعْنَى مَا نُطِقَ بِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنْ كَانَ مَسْكُوتًا عَنْهُ فَحَمَلَهُ
عَلَيْهِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } .
قُلْنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ أَكْلِ
طَعَامِهِمْ .
وَالصَّيْدُ بَابٌ آخَرُ ؛ فَلَا يَدْخُلُ فِي عُمُومِ
ذِكْرِ الطَّعَامِ ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ لَفْظِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : نَقِيسُهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَوْعُ
ذَكَاةٍ ، فَجَازَ مِنْ الذِّمِّيِّ كَذَبْحِ الْإِنْسِيِّ .
قُلْنَا :
لِلْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِمَّا يُذَكَّى شُرُوطٌ ،
وَلِمَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ شُرُوطٌ أُخَرُ ؛ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مَوْضُوعٌ وُضِعَ عَلَيْهِ ، وَمَنْصِبٌ جُعِلَ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ
الْإِلْحَاقُ فِيمَا اخْتَلَفَ مَوْضُوعُهُ فِي الْأَصْلِ ؛ وَهَذَا فَنٌّ مِنْ
أُصُولِ الْفِقْهِ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ أَمَّا صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ
: فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ الْوَاقِعَ مِنْهُ
دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى
: { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ } وَالْمَجُوسِيُّ إنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ
، وَيَتَحَرَّكُ وَيَسْكُنُ ، وَيَفْعَلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ إذَا ذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَى كَلْبِك الْمُعَلَّمِ فَكُلْ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَالذِّمِّيُّ لَا يَذْكُرُ اسْمَ
اللَّهِ وَيُؤْكَلُ صَيْدُهُ .
قُلْنَا : لَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الذِّمِّيِّ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ فَيَسْقُطُ عَنَّا هَذَا الِالْتِزَامُ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يُؤْكَلُ فَلِمُطْلَقِ قَوْله
تَعَالَى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } عَلَى أَحَدِ
الْأَدِلَّةِ ، وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّانِي نَأْكُلُهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ
يُخَاطَبُوا بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ
.
وَعَلَى الدَّلِيلِ الثَّالِثِ يَكُونُ كَمَتْرُوكِ
التَّسْمِيَةِ عَمْدًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مُتَرَدِّدٌ عَلَى الْآيَاتِ بِحُكْمِ
التَّعَارُضِ فِيهَا .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي جَوَازُ أَكْلِ صَيْدِهِ ، وَأَنَّ
الْخِطَابَ فِي الْآيَةِ لِجَمِيعِ النَّاسِ مُحِلِّهِمْ وَمُحْرِمِهِمْ ؛
وَلِأَجْلِ هَذَا قَالَ قَاضِي الْقُضَاةِ ابْنُ حَبِيبٍ : إنَّ مَعْنَى قَوْلِ : { لَيَبْلُوَنَّكُمْ
} لَيُكَلِّفَنَّكُمْ .
ثُمَّ بَيَّنَ التَّكْلِيفَ بَعْدَهُ فَقَالَ وَهِيَ :
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ
كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ
أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ
وَاَللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
} .
فِيهَا ثَمَانِ وَثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قَوْلِهِ : { لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ } وَالْقَتْلُ
: كُلُّ فِعْلٍ يُفِيتُ الرُّوحَ ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ :
مِنْهَا الذَّبْحُ وَالنَّحْرُ ، وَالْخَنْقُ وَالرَّضْخُ وَشِبْهُهُ ؛ فَحَرَّمَ
اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الصَّيْدِ كُلَّ فِعْلٍ يَكُونُ مُفِيتًا
لِلرُّوحِ ، وَحَرَّمَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى نَفْسَ الِاصْطِيَادِ ؛ فَقَالَ :
{ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَاقْتَضَى
ذَلِكَ تَحْرِيمَ كُلِّ فِعْلٍ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّ
التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْأَعْيَانِ وَالذَّوَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ
عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ خِطَابِ الشَّارِعِ بِالْأَعْيَانِ ، فَالْمُحْرِمُ هُوَ
الْقَوْلُ فِيهِ : لَا تَقْرَبُوهُ ، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ : لَا
تَتْرُكُوهُ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَمَّا نَهَى اللَّهُ
سُبْحَانَهُ الْمُحْرِمَ عَنْ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ وَقَعَ عَامًّا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يَجُوزُ ذَبْحُ الْمُحْرِمِ
لِلصَّيْدِ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيَةِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : ذَبْحُ الْمُحْرِمِ لِلصَّيْدِ
ذَكَاةٌ ؛ وَتَعَلَّقَ بِأَنَّهُ ذَبْحٌ صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَهُوَ
الْمُسْلِمُ ، مُضَافًا إلَى مَحَلِّهِ وَهُوَ الْأَنْعَامُ ، فَأَفَادَ
مَقْصُودَهُ مِنْ حِلِّ الْأَكْلِ مِنْ أَصْلِهِ ذَبْحِ الْحَلَالِ .
وَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى دَعْوَى ؛
فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَبْحِ الصَّيْدِ ؛ إذْ الْأَهْلِيَّةُ لَا
تُسْتَفَادُ عَقْلًا ، وَإِنَّمَا يُفِيدُهَا الشَّرْعُ ، وَذَلِكَ بِإِذْنِهِ فِي
الذَّبْحِ ؛ أَوْ يَنْفِيهَا الشَّرْعُ أَيْضًا ؛ وَذَلِكَ بِنَهْيِهِ عَنْ
الذَّبْحِ .
وَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَقَدْ
انْتَفَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالنَّهْيِ
.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : فَأَفَادَ مَقْصُودَهُ ، فَقَدْ
اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا ذَبَحَ الصَّيْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ
أَكْلُهُ ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُ مِنْهُ عِنْدَهُمْ غَيْرُهُ ، فَإِذَا كَانَ
الذَّبْحُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ لِلذَّابِحِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَلَا يُفِيدَهُ
لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فِي أَحْكَامِهِ ، فَلَا
يَصِحُّ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ مَا لَا يَثْبُتُ لِأَصْلِهِ .
وَإِذَا بَطَلَ مَنْزَعُ الشَّافِعِيِّ وَمَأْخَذُهُ
فَقَدْ اعْتَمَدَ عُلَمَاؤُنَا سِوَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلَى أَنَّهُ ذَبْحٌ
مُحَرَّمٌ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ ، فَلَا يَجُوزُ
كَذَبْحِ الْمَجُوسِيِّ ، وَهَذَا صَحِيحٌ .
فَإِنَّ الَّذِي قَالَ : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ
يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } هُوَ الْقَائِلُ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
وَالْأَوَّلُ : نَهْيٌ عَنْ الْمَقْصُودِ بِالسَّبَبِ ،
فَدَلَّ عَلَى عَدَمِ السَّبَبِ
.
وَالثَّانِي : نَهْيٌ عَنْ السَّبَبِ ، فَدَلَّ عَلَى
عَدَمِهِ شَرْعًا ، فَلَا يُفِيدُ مَقْصُودُهُ حُكْمًا ، وَهَذَا مِنْ
نَفِيسِ الْأُصُولِ فَتَأَمَّلُوهُ .
وَقَوْلُ عُلَمَائِنَا : لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ فِيهِ
احْتِرَازٌ مِنْ السِّكِّينِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْكَالَّةِ وَمِلْكِ الْغَيْرِ ،
فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ التَّذْكِيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلَكِنَّهُ مَا لَمْ
يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الذَّابِحِ وَلَا فِي الْمَذْبُوحِ لَمْ يُحَرَّمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } فَجَعَلَ الْقَتْلَ
مُنَافِيًا لِلتَّذْكِيَةِ خَارِجًا عَنْ حُكْمِ الذَّبْحِ لِلْأَكْلِ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ وَلَدِي فَهُوَ عَاصٍ
، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَذْبَحَ وَلَدِي
فَإِنَّهُ يَفْتَدِيه بِشَاةٍ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ
، وَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ بَيَانُهُ .
وَالْمِقْدَارُ الْمُتَعَلِّقُ مِنْهُ هَاهُنَا بِهَذَا
الْمَوْضِعِ أَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّذْكِيَةِ بِمُطْلَقِهِ
وَلَا الْخَنْقَ ، وَلَا يُعَدُّ مِنْ بَابِ الذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ اللَّذَيْنِ
شُرِعَا فِي الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِتَطْيِيبِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } جَرَى عُمُومُهُ عَلَى كُلِّ صَيْدٍ
بَرِّيٍّ وَبَحْرِيٍّ ، حَتَّى جَاءَ قَوْله تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَأَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ إبَاحَةً
مُطْلَقَةً ، وَحَرَّمَ صَيْدَ الْبَرِّ عَلَى الْمُحْرِمِينَ ؛ فَصَارَ هَذَا
التَّقْسِيمُ وَالتَّنْوِيعُ دَلِيلًا عَلَى خُرُوجِ صَيْدِ الْبَحْرِ مِنْ
النَّهْيِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي التَّحْرِيمِ بِالزَّمَانِ ، وَفِي التَّحْرِيمِ
بِالْمَكَانِ ، وَفِي التَّحْرِيمِ بِحَالَةِ الْإِحْرَامِ ، إلَّا أَنَّ
تَحْرِيمَ الزَّمَانِ خَرَجَ بِالْإِجْمَاعِ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُعْتَبَرًا ،
وَبَقِيَ تَحْرِيمُ الْمَكَانِ وَحَالَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى أَصْلِ التَّكْلِيفِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَا
تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي كُلِّ صَيْدٍ كَانَ ،
مَأْكُولًا أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ ، سَبُعًا أَوْ غَيْرَ سَبُعٍ ، ضَارِيًا أَوْ
غَيْرَ ضَارٍ ، صَائِلًا أَوْ سَاكِنًا ؛ بَيْدَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا
فِي خُرُوجِ السِّبَاعِ عَنْهُ وَتَخْصِيصِهِ مِنْهَا ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ
قَتْلُ السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ الْمُبْتَدِئَةِ بِالْمَضَرَّةِ كَالْأَسَدِ
وَالنَّمِرِ وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالْكَلْبِ الْعَقُورِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا
، وَمِنْ الطَّيْرِ كَالْغُرَابِ وَالْحَدَأَةِ ؛ وَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِقَوْلِنَا فِي الْكَلْبِ
الْعَقُورِ وَالذِّئْبِ وَالْغُرَابِ وَالْحِدَأَةِ ، وَخَالَفَنَا فِي السَّبُعِ
وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ وَغَيْرِهَا مِنْ السِّبَاعِ ، فَأَوْجَبَ عَلَى
الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ بِقَتْلِهَا
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : كُلُّ مَا لَا يُؤْكَلُ
لَحْمُهُ فَلَا جَزَاءَ فِيهِ إلَّا السَّمْعُ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ بَيْنَ
الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : " { خَمْسٌ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ
وَالْحَرَمِ : الْحِدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْعَقْرَبُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ
الْعَقُورُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { الْحَيَّةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ
} خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ بِأَجْمَعِهِمْ .
وَفِيهِ {
الْغُرَابُ الْأَبْقَعُ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ ، وَفِيهِ
: { السَّبُعُ الْعَادِي } خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَهَذَا
تَنْبِيهٌ عَلَى الْعِلَّةِ وَعَلَى الْأَجْنَاسِ .
أَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الْفِسْقُ بِالْإِذَايَةِ ،
وَأَمَّا الْأَجْنَاسُ فَنَبَّهَ بِكُلِّ مَذْكُورٍ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْجِنْسِ
وَذَكَرَ الْكَلْبَ الْعَقُورَ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَهُ بِعِلَّةِ
الْعَقْرِ الْفَهْدُ وَالسَّبُعُ ، وَلَا سِيَّمَا بِالنَّصِّ عَلَيْهِ مِنْ
طَرِيقِ السِّجْزِيِّ وَالتِّرْمِذِيِّ
.
وَالْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنْ يَحْمِلَ
التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ ، وَلَا يَحْمِلَ السِّبَاعَ
الْعَادِيَةَ
عَلَى الْكَلْبِ الْعَقُورِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ
وَالْعَقْرِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِذَا قُلْنَا بِأَنَّ
لَحْمَهَا لَا يُؤْكَلُ فَهِيَ مَعْقُورَةٌ لَا جَزَاءَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ مَا لَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا جَزَاءَ فِيهِ كَالْخِنْزِيرِ .
وَأَمَّا إنْ قُلْنَا : إنَّهَا تُؤْكَلُ فَفِيهَا
الْجَزَاءُ لِأَنَّهَا صَيْدٌ مَأْكُولٌ .
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ فِي أَكْلِهَا فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ إنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى .
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّهُ صَيْدٌ
تَتَنَاوَلُهُ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ وَالْجَزَاءِ بَعْدَ ارْتِكَابِ النَّهْيِ ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ صَيْدٌ أَنَّهُ يُقْصَدُ لِأَجْلِ جِلْدِهِ ،
وَالْجِلْدُ مَقْصُودٌ فِي الْمَالِيَّةِ ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ فِي
الْأَكْلِ .
قُلْنَا : لَا تُسَمِّي الْعَرَبُ صَيْدًا إلَّا مَا
يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ كَانَتْ الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا
عِنْدَ الْعَرَبِ صَيْدًا .
فَإِنَّهَا كَانَتْ تَأْكُلُ كُلَّ مَا دَبَّ وَدَرَجَ ،
ثُمَّ جَاءَ الشَّرْعُ بِالتَّحْرِيمِ ، فَغَيَّرَ الشَّرْعُ الْأَحْكَامَ دُونَ
الْأَسْمَاءِ .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ عَظِيمٌ ، إنَّ الصَّيْدَ لَا
يُعْرَفُ إلَّا فِيمَا يُؤْكَلُ
.
وَقَوْلُهُمْ : إنَّ الشَّرْعَ غَيَّرَ الْأَحْكَامَ
دُونَ الْأَسْمَاءِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَابِعَةٌ لِلْأَسْمَاءِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ أَبِي عَمَّارٍ أَنَّهُ قَالَ
لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
.
الضَّبُعُ أَصَيْدٌ هِيَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فِيهَا جَزَاءٌ ؛ قَالَ : نَعَمْ ، كَبْشٌ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ
أَكْلِهَا ، وَبَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَهُ عَنْ جَزَائِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
} .
وَلِقَوْلِهِ : { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وَقَوْلِهِ : {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } عَامٌّ فِي النَّوْعَيْنِ .
وَقَوْلِهِ :
{ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، يُقَالُ : رَجُلٌ حَرَامٌ
وَامْرَأَةٌ حَرَامٌ ، وَجَمْعُ ذَلِكَ حُرُمٌ ، كَقَوْلِنَا : قَذَالٌ وَقُذُلٌ .
وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ الْأَحْرَارُ
وَالْعَبِيدُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ
الْمَعَانِي فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } فَذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَعَمِّدَ
فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ خَاصَّةً ، وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ ،
مُتَعَمِّدٌ ، وَمُخْطِئٌ ، وَنَاسٍ ؛ فَالْمُتَعَمِّدُ هُوَ الْقَاصِدُ
لِلصَّيْدِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْإِحْرَامِ ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ
شَيْئًا فَيُصِيبُ صَيْدًا .
وَالنَّاسِي هُوَ الَّذِي يَتَعَمَّدُ الصَّيْدَ وَلَا
يَذْكُرُ إحْرَامَهُ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ
وَالنِّسْيَانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَطَاءٍ
وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالزُّهْرِيِّ .
الثَّانِي : إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ،
نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ فَقَدْ
حَلَّ وَلَا حَجَّ لَهُ ، وَمَنْ أَخْطَأَ فَذَلِكَ الَّذِي يُجْزِي .
الثَّالِثُ : لَا شَيْءَ عَلَى الْمُخْطِئِ وَالنَّاسِي
، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
وَاخْتَلَفَ الَّذِينَ قَالُوا بِعُمُومِ الْكَفَّارَةِ
فِي تَوْجِيهِ ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ وَرَدَ
الْقُرْآنُ بِالْعَمْدِ ، وَجَعَلَ الْخَطَأُ تَغْلِيظًا ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { مُتَعَمِّدًا } خَرَجَ
عَلَى الْغَالِبِ ، فَأُلْحِقَ بِهِ النَّادِرُ ، كَسَائِرِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الزُّهْرِيُّ : إنَّهُ وَجَبَ
الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ ، وَفِي الْخَطَأِ وَالنِّسْيَانِ
بِالسُّنَّةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ وَجَبَ بِالْقِيَاسِ عَلَى قَاتِلِ
الْخَطَأِ بِعِلَّةِ أَنَّهَا كَفَّارَةُ إتْلَافِ نَفْسٍ ؛ فَتَعَلَّقَتْ بِالْخَطَأِ
، كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ ؛ وَتَعَلَّقَ مُجَاهِدٌ بِأَنَّهُ أَرَادَ مُتَعَمِّدًا
لِلْقَتْلِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ، لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَمَنْ عَادَ
فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ، وَلَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ لَوَجَبَتْ
عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ .
وَتَعَلَّقَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى
رِوَايَتَيْهِ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا بِأَنَّهُ
خَصَّ الْمُتَعَمِّدَ بِالذِّكْرِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُ بِخِلَافِهِ ،
وَزَادَ بِأَنْ قَالَ الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، فَمَنْ ادَّعَى شَغْلَهَا
فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا مُتَعَلِّقُ مَنْ قَالَ : وَجَبَ فِي
النِّسْيَانِ تَغْلِيظًا فَدَعْوَى تَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ خَرَجَ عَلَى الْغَالِبِ
فَحِكْمَةُ الْآيَةِ وَفَائِدَةُ التَّخْصِيصِ مَا قَالُوهُ ، فَأَيْنَ دَلِيلُهُ
؟ وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ وَجَبَ فِي النِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ
كَانَ يُرِيدُ بِهِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
عُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَمَا أَحْسَنُهَا أُسْوَةً ، وَأَمَّا مَنْ تَعَلَّقَ
بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ لِلشَّافِعِيِّ الَّذِي
يَرَى الْكَفَّارَةَ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ عَمْدًا وَخَطَأً ، فَأَمَّا نَحْنُ
وَقَدْ عَقَدْنَا أَصْلَنَا عَلَى أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ فِي الْآدَمِيِّ لَا
كَفَّارَةَ فِيهِ ، وَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ عَمْدًا الْكَفَّارَةَ فَلَا يَصِحُّ
ذَلِكَ مِنَّا لِوُجُودِ الْمُنَاقَضَةِ مِنَّا بِالْمُخَالَفَةِ فِيهِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُ عِنْدَنَا .
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ مِنْ الْآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهَا
أَنَّ مَنْ قَتَلَ الصَّيْدَ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ نَاسِيًا
لِإِحْرَامِهِ ، أَوْ جَاهِلًا بِتَحْرِيمِهِ ، فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ يَكْفِي لِوَصْفِ التَّعَمُّدِ ، فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِهِ ،
لِاكْتِفَاءِ الْمَعْنَى مَعَهُ
.
وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
فَأَمَّا إذَا قَتَلَهُ مُتَعَمِّدًا لِلْقَتْلِ
وَالْإِحْرَامِ فَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِ الْعَمْدِيَّةِ ؛ لَكِنْ مِنْ
النَّاسِ مَنْ قَالَ : لَا حَجَّ لَهُ
.
وَهَذِهِ دَعْوَى لَا يَدُلُّك عَلَيْهَا دَلِيلٌ مِنْ
ظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَلَا مِنْ السُّنَّةِ وَلَا مِنْ الْمَعْنَى ،
وَسَنَسْتَوْفِي بَقِيَّةَ الْقَوْلِ فِي آخِرِ الْآيَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } الْجَزَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ
: الْمُقَابِلُ لِلشَّيْءِ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ فِي
مُقَابِلِ مَا أَتْلَفَ وَبَدَلٌ مِنْهُ ؛ وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ " مُلْجِئَةِ
الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " وَقَدْ
تَقَدَّمَ أَمْثَالُهُ قَبْلَ هَذَا ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ ؛
لِأَنَّ فِي مُقَابَلَتِهَا ثَوَابًا بِثَوَابٍ وَعِقَابًا بِعِقَابٍ ،
وَدَرَجَاتٍ وَدَرَكَاتٍ ؛ وَذَلِكَ مُحَقَّقٌ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : { مِثْلُ }
قُرِئَ بِخَفْضِ مِثْلَ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى { فَجَزَاءٌ } .
وَبِرَفْعِهِ وَتَنْوِينِهِ صِفَةً لِلْجَزَاءِ ؛
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ رِوَايَةً ، صَوَابٌ مَعْنًى ، فَإِذَا كَانَ عَلَى
الْإِضَافَةِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَيْرَ الْمِثْلِ ؛ إذْ
الشَّيْءُ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ ، وَإِذَا كَانَ الصِّفَةُ بِرَفْعِهِ
وَتَنْوِينِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمِثْلُ هُوَ الْجَزَاءَ بِعَيْنِهِ
، لِوُجُوبِ كَوْنِ الصِّفَةِ عَيْنَ الْمَوْصُوفِ ؛ وَسَتَرَى ذَلِكَ فِيمَا
بَعْدُ مَشْرُوحًا إنْ شَاءَ اللَّهَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { مِنْ النَّعَمِ } قَدْ بَيَّنَّا فِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ
" دَرَجَاتِ حَرْفِ مِنْ ، وَأَنَّ مِنْ جُمْلَتِهَا بَيَانُ الْجِنْسِ ،
كَقَوْلِك : خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ ، وَقَدَّمْنَا قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ السَّرَّاجِ
فِي شَرْحِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ الَّذِي أَوْقَفَنَا عَلَيْهِ شَيْخُ السُّنَّةِ
فِي وَقْتِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْحَضْرَمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّهَا لَا
تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ بِحَالٍ ، وَلَا فِي مَوْضِعٍ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ
التَّبْعِيضُ فِيهَا بِالْقَرِينَةِ ، فَجَاءَتْ مُقْتَرِنَةً بِقَوْلِهِ : { مِنْ
النَّعَمِ } لِبَيَانِ جِنْسٍ مِثْلِ الْمَقْتُولِ الْمُفْدَى ، وَأَنَّهُ مِنْ
الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ ،
وَمِثْلُ الشَّيْءِ حَقِيقَتُهُ وَهُوَ شَبَهُهُ فِي الْخِلْقَةِ الظَّاهِرَةِ ،
وَيَكُونُ مِثْلَهُ فِي مَعْنًى ، وَهُوَ مَجَازُهُ ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ الْمِثْلُ
اقْتَضَى بِظَاهِرِهِ حَمْلَهُ عَلَى الشَّبَهِ الصُّورِيِّ دُونَ الْمَعْنَى ،
لِوُجُوبِ الِابْتِدَاءِ بِالْحَقِيقَةِ فِي مُطْلَقِ الْأَلْفَاظِ قَبْلَ
الْمَجَازِ حَتَّى يَقْتَضِيَ الدَّلِيلُ مَا يَقْضِي فِيهِ مِنْ صَرْفِهِ عَنْ
حَقِيقَتِهِ إلَى مَجَازِهِ ؛ فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ الْخِلْقِيُّ ؛ وَبِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ
بِالْمِثْلِ .
فِي الْقِيمَةِ دُونَ الْخِلْقَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ
الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ :
مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمِثْلَ حَقِيقَةً هُوَ الْمِثْلُ مِنْ طَرِيقِ
الْخِلْقَةِ .
الثَّانِي :
أَنَّهُ قَالَ : { مِنْ النَّعَمِ } فَبَيَّنَ جِنْسَ
الْمِثْلِ ، وَلَا اعْتِبَارَ عِنْدَ الْمُخَالِفِ بِالنَّعَمِ بِحَالٍ .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُ قَالَ : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ } وَهَذَا ضَمِيرٌ رَاجِعٌ إلَى مِثْلِ مِنْ النَّعَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ
يَتَقَدَّمْ ذِكْرٌ سِوَاهُ يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهِ .
وَالْقِيمَةُ الَّتِي يَزْعُمُ الْمُخَالِفُ أَنَّهُ
يَرْجِعُ الضَّمِيرُ إلَيْهَا لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهَا ذِكْرٌ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهُ قَالَ : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
وَاَلَّذِي يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْهَدْيُ مِثْلُ الْمَقْتُولِ مِنْ النَّعَمِ ؛
فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ هَدْيًا .
فَإِنْ قِيلَ : الْقِيمَةُ مِثْلٌ شَرْعِيٌّ مِنْ
طَرِيقِ الْمَعْنَى فِي الْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِ ، حَتَّى يُقَالَ الْقِيمَةُ
مِثْلٌ لِلْعَبْدِ ، وَلَا يَجْعَلُ فِي الْإِتْلَافِ مِثْلَهُ عَبْدًا يَغْرَمُ
فِيهِ ، وَأَوْجَبْنَا فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي الْمُتْلِفَاتِ الْمِثْلَ
خِلْقَةً ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ كَالطَّعَامِ وَالدُّهْنَ كَالدُّهْنِ ؛ وَلَمْ
يُوجَبْ فِي الْعَبْدِ عَبْدٌ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْخِلْقَةَ لَمْ تَقُمْ
بِالْمِثْلِيَّةِ ، فَكَيْفَ أَنْ يَجْعَلَ الْبَدَنَةَ
مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ .
قُلْنَا :
هَذَا مَزْلَقٌ يَنْبَغِي أَنْ يَتَثَبَّتَ فِيهِ قَدَمُ
النَّاظِرِ قَلِيلًا ، وَلَا يَطِيشَ حُلْمُهُ ، فَاسْمَعْ مَا نَقُولُ ، فَلَا
خَفَاءَ بِوَاضِحِ الدَّلِيلِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ،
وَلَيْسَ يُعَارِضُهُ الْآنَ مَا مَوَّهُوا بِهِ مِنْ أَنَّ النَّعَامَةَ لَا
تُمَاثِلُهَا الْبَدَنَةُ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَوْا بِهَا فِيهَا ، وَهُمْ
بِكِتَابِ اللَّهِ أَفْهَمُ ، وَبِالْمِثْلِ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ
وَالْمَعْنَى أَعْلَمُ ، فَلَا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ سِوَاهُ إلَّا وَهَمَ ،
وَلَا يَتَّهِمُهُمْ فِي قُصُورِ النَّظَرِ ، إلَّا مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ .
وَالدَّقِيقَةُ فِيهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ ظَاهِرِ
الْقُرْآنِ مَعَ شَبَهٍ وَاحِدٍ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ
ظَاهِرِ الْقُرْآنِ مَعَ التَّوَفُّرِ عَلَى مُرَاعَاةِ الشَّبَهِ الْمَعْنَوِيِّ
؛ هَذَا مَا لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ فِي مَطْرَحِ النَّظَرِ إلَّا نَافِذُ
الْبَصِيرَةِ وَالْبَصَرِ .
فَإِنْ قِيلَ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَوَّمُوا
النَّعَامَةَ بِدَرَاهِمَ ، ثُمَّ قَوَّمُوا الْبَدَنَةَ بِدَرَاهِمَ .
قُلْنَا :
هَذَا جَهْلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
سَرْدَ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَا سَنُورِدُهُ يُبْطِلُ هَذَا فَإِنَّهُ لَيْسَ
فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُ .
الثَّانِي : أَنَّ قِيمَةَ النَّعَامَةِ لَمْ تُسَاوِ
قَطُّ قِيمَةَ الْبَدَنَةِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ ، لَا مُتَقَدِّمٍ وَلَا
مُتَأَخِّرٍ ، عُلِمَ ذَلِكَ ضَرُورَةً وَعَادَةً ، فَلَا يَنْطِقُ بِمِثْلِ هَذَا
إلَّا مُتَسَاخِفٌ بِالنَّظَرِ
.
وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمِثْلِيَّةُ فِي الِاعْتِدَاءِ
عَلَى الْحَيَوَانِ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ
الْفِقْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الشَّبَهُ مِنْ طَرِيقِ الْخِلْقَةِ
مُعْتَبَرًا ، فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي الْحِمَارِ بَقَرَةٌ ، وَفِي
الظَّبْيِ شَاةٌ لَمَا أَوْقَفَهُ عَلَى عَدْلَيْنِ يَحْكُمَانِ بِهِ ؛ لِأَنَّ
ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الِارْتِيَاءِ وَالنَّظَرِ ،
وَإِنَّمَا يَفْتَقِرُ إلَى الْعُدُولِ وَالْحُكْمِ مَا يُشْكَلُ الْحَالُ فِيهِ
وَيَضْطَرِبُ وَجْهُ النَّظَرِ عَلَيْهِ .
وَالْجَوَابُ
: أَنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ فِي
حَالِ الْمَصِيدِ مِنْ صِغَرٍ وَكِبَرٍ ، وَمَا لَهُ جِنْسٌ مِمَّا لَا جِنْسَ
لَهُ ، وَلْيَعْتَبِرْ مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّحَابَةِ ،
فَيَلْحَقُ بِهِ مَا لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُمْ نَصٌّ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { أَوْ كَفَّارَةٌ
طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } ، فَشَرَكَ بَيْنَهُمَا بِ
" أَوْ " فَصَارَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنْ النَّعَمِ ، أَوْ مِنْ الطَّعَامِ ، أَوْ مِنْ الصِّيَامِ ، وَتَقْدِيرُ
الْمِثْلِيَّةِ فِي الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ بِالْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ فِي
الْمِثْلِ الْأَوَّلِ .
قُلْنَا : هَذَا جَهْلٌ أَوْ تَجَاهُلٌ ؛ فَإِنَّ قَوْله
تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ظَاهِرٌ كَمَا
قَدَّمْنَا فِي مِثْلِ الْخِلْقَةِ ، وَمَا عَدَاهُ يَمْتَنِعُ فِيهِ مِثْلِيَّةُ
الْخِلْقَةِ حِسًّا ؛ فَرَجَعَ إلَى مِثْلِيَّةِ الْمَعْنَى حُكْمًا ، وَلَيْسَ
إذَا عُدِمَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ فِي مَوْضِعٍ وَيَرْجِعُ إلَى بَدَلِهِ
يَلْزَمُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَدَلِهِ مَعَ وُجُودِهِ .
تَكْمِلَةٌ : وَمَنْ يَعْجَبُ فَعَجَبٌ مِنْ قِرَاءَةِ
الْمَكِّيِّ وَالْمَدَنِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ : فَجَزَاءُ مِثْلِ
بِالْإِضَافَةِ ؛ وَهَذَا يَقْتَضِي الْغَيْرِيَّةَ بَيْنَ الْمُضَافِ
وَالْمُضَافِ إلَيْهِ ، وَأَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ لِمِثْلِ الْمَقْتُولِ لَا
الْمَقْتُولِ ، وَمِنْ قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ : فَجَزَاءً مِثْلَ عَلَى الْوَصْفِ ،
وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ هُوَ الْمِثْلَ .
وَيَقُولُ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ الْفُقَهَاءِ : إنَّ
الْجَزَاءَ غَيْرُ الْمِثْلِ .
وَيَقُولُ الْمَدَنِيُّونَ وَالْمَكِّيُّونَ
وَالشَّامِيُّونَ مِنْ الْفُقَهَاءِ
: إنَّ الْجَزَاءَ هُوَ الْمِثْلُ ؛ فَيَبْنِي كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَذْهَبَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى ظَاهِرِ قِرَاءَةِ قُرَّاءِ
بَلَدِهِ .
وَقَدْ قَالَ لَنَا الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ
الْقَرَافِيُّ الزَّاهِدُ : إنَّ ابْنَ مَعْقِلٍ الْكَاتِبَ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي
عَلِيٍّ النَّحْوِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ
جَزَاءُ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءُ مِثْلِ الْمَقْتُولِ .
وَالْإِضَافَةُ تُوجِبُ جَزَاءَ الْمِثْلِ لَا جَزَاءَ
الْمَقْتُولِ .
قَالَ :
وَمَنْ أَضَافَ الْجَزَاءَ إلَى الْمِثْلِ فَإِنَّهُ
يَخْرُجُ عَلَى تَقْدِيرِ إقْحَامِ الْمِثْلِ ؛ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِمْ : أَنَا
أُكْرِمُ مِثْلَك ؛ أَيْ أُكْرِمُك
.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ :
وَذَلِكَ سَائِغٌ فِي اللُّغَةِ ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ
فِي قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : فِي سَرْدِ
الْآثَارِ عَنْ السَّلَفِ فِي الْبَابِ : وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ ،
لُبَابُهَا سَبْعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ السُّدِّيُّ : " فِي
النَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ بَدَنَةٌ ، وَفِي بَقَرَةِ الْوَحْشِ أَوْ الْإِبِلِ
أَوْ الْأَرْوَى بَقَرَةٌ ، وَفِي الْغَزَالِ وَالْأَرْنَبِ شَاةٌ ، وَفِي
الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ سَخْلَةٌ قَدْ أَكَلَتْ الْعُشْبَ ، وَشَرِبَتْ الْمَاءَ
، فَفَرَّقَ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ .
الثَّانِي : قَالَ عَطَاءٌ : " صَغِيرُ الصَّيْدِ
وَكَبِيرُهُ سَوَاءٌ " لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ
النَّعَمِ } ، مُطْلَقًا ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُطْلَبُ
صِفَةُ الصَّيْدِ ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ
الدَّرَاهِمُ بِالْحِنْطَةِ ، ثُمَّ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
الرَّابِعُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : " تُذْبَحُ
عَنْ الظَّبْيِ شَاةٌ ؛ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ سِتَّةَ مَسَاكِينَ .
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ " .
الْخَامِسُ :
قَالَ الضَّحَّاكُ : " الْمِثْلُ مَا كَانَ لَهُ
قَرْنٌ كَوَعْلٍ وَأُيَّلٍ فَدَاهُ بِبَقَرَةٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَرْنٌ
كَالنَّعَامَةِ وَالْحِمَارِ فَفِيهِ بَدَنَةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ ظَبْيٍ فَمِنْ
النَّعَمِ مِثْلُهُ ، وَفِي الْأَرْنَبِ ثَنِيَّةٌ ، وَمَا كَانَ مِنْ يَرْبُوعٍ
فَفِيهِ جَمَلٌ صَغِيرٌ .
فَإِنْ أَصَابَ فَرْخَ صَيْدٍ أَوْ بِيضَهُ تَصَدَّقَ
بِثَمَنِهِ ، أَوْ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا " .
السَّادِسُ :
قَالَ النَّخَعِيُّ : " يُقَوِّمُ الصَّيْدَ
الْمَقْتُولَ بِقِيمَتِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ يَشْتَرِي الْقَاتِلُ
بِقِيمَتِهِ فِدَاءً مِنْ النَّعَمِ ، ثُمَّ يُهْدِيه إلَى الْكَعْبَةِ " .
السَّابِعُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ :
" أَحْسَنُ مَا سَمِعْت فِي الَّذِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ
فِيهِ أَنَّهُ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ الَّذِي أَصَابَ ، فَيَنْظُرُ كَمْ ثَمَنُهُ
مِنْ الطَّعَامِ ؛ فَيُطْعِمُ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ
كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا " .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : " إنْ قَوَّمَ
الصَّيْدَ دَرَاهِمَ ثُمَّ قَوَّمَهَا طَعَامًا أَجْزَأَهُ " .
وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِثْلَهُ
قَالَ عَنْهُ : وَهُوَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِالْخِيَارِ أَيْ ذَلِكَ فِعْلٌ
أَجْزَأَهُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ ، وَجُمْهُورُ
الْفُقَهَاءِ .
فَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ
وَكَبِيرِهِ وَهِيَ [ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ ] الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : [ الْفَرْقُ بَيْنَ صَغِيرِ الصَّيْدِ وَكَبِيرِهِ ] : فَصَحِيحٌ
، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِالْمِثْلِيَّةِ فِي الْخِلْقَةِ ،
وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ مُتَفَاوِتَانِ فِيهَا ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ
التَّفَاوُتُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى التَّقْوِيمِ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ
الصَّغِيرِ فِيهِ وَالْكَبِيرِ كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ
عُلَمَائِنَا ، وَلِذَلِكَ قَالُوا : لَوْ كَانَ الصَّيْدُ أَعْوَرَ أَوْ أَعْرَجَ
أَوْ كَسِيرًا لَكَانَ الْمِثْلُ عَلَى صِفَتِهِ لِتَحَقُّقِ الْمِثْلِيَّةِ ،
وَلَا يَلْزَمُ الْمُتْلِفَ فَوْقَ مَا أَتْلَفَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : وَأَمَّا تَرْتِيبُ الثَّلَاثَةِ الْوَاجِبَاتِ فِي
هَذِهِ الْمِثْلِيَّةِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : فَاَلَّذِي
اخْتَارَهُ عُلَمَاؤُنَا كَمَا تَقَدَّمَ أَنْ يَكُونَ بِالْخِيَارِ فِيهَا ،
وَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ، وَقَالُوا : كُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ
فِيهِ " أَوْ " فَهُوَ فِيهِ بِالْخِيَارِ .
وَتَحْقِيقُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدِي أَنَّ الْأَمْرَ
مَصْرُوفٌ إلَى الْحَكَمَيْنِ ، فَمَا رَأَيَاهُ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ وَالصِّيَامِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ
: فَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ،
حَيْثُ قَدَّرَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ مِسْكِينًا بِيَوْمٍ ، وَلَا يُعْدَلُ
عَنْ تَقْدِيرِهِ تَعَالَى وَتُقَدَّسُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ التَّقْدِيرَاتِ
تَتَعَارَضُ فِيهِ الْأَقْوَالُ ، وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ ؛ فَالِاقْتِصَارُ
عَلَى الشَّاهِدِ الْجَلِيِّ أَوْلَى
.
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى
: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُقِيمُ
الْمُتْلِفُ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي
ذَلِكَ ، فَيَنْظُرَانِ فِيمَا أَصَابَ ، وَيَحْكُمَانِ عَلَيْهِ بِمَا رَأَيَاهُ
فِي ذَلِكَ ، فَمَا حَكَمَا عَلَيْهِ لَزِمَهُ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ إنْ كَانَ الْإِمَامُ حَاضِرًا
أَوْ نَائِبَهُ أَنَّهُ يَكُونُ الْحُكْمُ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا
أَقَامَ حِينَئِذٍ الْمُتْلِفُ مَنْ يَحْكُمُ عَلَيْهِ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّحْكِيمِ ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَدْ تَقَدَّمَ الذِّكْرُ فِيهِ ،
وَلِأَجْلِهِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا
: إنَّهُ يَجُوزُ حُكْمُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ
؛ وَذَلِكَ عِنْدِي صَحِيحٌ ؛ إذْ يَتَعَذَّرُ أَمْرُهُ .
وَقَدْ رَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيُّ
قَالَ : أَصَبْت صَيْدًا ، وَأَنَا مُحْرِمٌ ، فَأَتَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ
، فَأَخْبَرْته ، فَقَالَ : " ائْتِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِك
فَلْيَحْكُمَا عَلَيْك " فَأَتَيْت عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدًا
، فَحَكَمَا عَلَيَّ بِتَيْسٍ أَعْفَرَ
.
وَهُوَ أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَتَوَلَّى فَصْلَ الْقَضَاءِ رَجُلَانِ ، وَقَدْ مَنَعَتْهُ الْجَهَلَةُ ؛
لِأَنَّ اخْتِلَافَ اجْتِهَادِهِمَا يُوجِبُ تَوَقُّفَ الْأَحْكَامِ بَيْنَهُمَا ،
وَقَدْ بَعَثَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى إلَى
الْيَمَنِ ، كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى مِخْلَافٍ ، وَبَعَثَ أُنَيْسًا إلَى الْمَرْأَةِ
الْمَرْجُومَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ الِاشْتِرَاكُ فِي الْحُكْمِ إلَّا فِي هَذِهِ
النَّازِلَةِ ؛ لِأَجْلِ أَنَّهَا عِبَادَةٌ لَا خُصُومَةَ فِيهَا ، فَإِنْ
اتَّفَقَا لَزِمَ الْحُكْمُ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَإِنْ اخْتَلَفَا نُظِرَ فِي غَيْرِهِمَا .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : وَلَا يَأْخُذُ
بِأَرْفَعِ قَوْلِهِمَا ؛ يُرِيدُ لِأَنَّهُ عَمَلٌ بِغَيْرِ تَحْكِيمٍ ،
وَكَذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ عَنْ الْمِثْلِ الْخِلْقِيِّ ، إذَا حَكَمَا بِهِ ،
إلَى الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ قَدْ لَزِمَ قَالَهُ ابْنُ شَعْبَانَ ؛
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إنْ
أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْجَزَاءِ مِنْ الْمِثْلِ
فَفَعَلَا ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ إلَى الطَّعَامِ جَازَ .
وَفِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَجَاوُزٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: قَوْلُهُ : إنْ أَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا بِالْمِثْلِ ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ إلَيْهِ
، وَإِنَّمَا يُحَكِّمُهُمَا .
ثُمَّ يَنْظُرَانِ فِي الْقَضِيَّةِ ، فَمَا أَدَّى
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُمَا لَزِمَهُ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ عَنْهُ .
وَهُوَ الثَّانِي لِأَنَّهُ نَقْضٌ لِحُكْمِهِمَا ؛
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِالْتِزَامِهِ لِحُكْمِهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } : الْمَعْنَى إذَا حَكَمَا
بِالْمِثْلِ يَفْعَلُ بِهِ مَا يَفْعَلُ بِالْهَدْيِ ، يُقَلِّدُهُ وَيُشْعِرُهُ ،
وَيُرْسِلُهُ إلَى مَكَّةَ وَيَنْحَرُهُ بِهَا ، وَيَتَصَدَّقُ بِهِ فِيهَا ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الْهَدْيَ لَا بُدَّ لَهُ
مِنْ الْحَرَمِ .
وَاخْتُلِفَ هَلْ يُفْتَقَرُ إلَى حِلٍّ مَعَهُ ؟
فَقَالَ مَالِكٌ : لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ يَبْتَاعُ بِالْحِلِّ ، وَيُقَلِّدُ
وَيُشْعِرُ ، وَيَدْفَعُ إلَى الْحَرَمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِلِّ .
وَحَقِيقَةُ قَوْله تَعَالَى : { بَالِغَ الْكَعْبَةِ }
يَقْتَضِي أَنْ يَهْدِيَ مِنْ مَكَان يَبْلُغُ مِنْهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَلَمْ
يُرِدْ الْكَعْبَةَ بِعَيْنِهَا ؛ فَإِنَّ الْهَدْيَ لَا يَبْلُغُهَا ، إذْ هِيَ
فِي الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا أَرَادَ الْحَرَمَ ، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّ الصَّغِيرَ
مِنْ الْهَدْيِ يَجِبُ فِي الصَّغِيرِ مِنْ الصَّيْدِ ، لِأَنَّهُ يَبْتَاعُهُ فِي
الْحَرَمِ وَيُهْدِيه فِيهِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَا يَكُونُ الْجَزَاءُ فِي
الصَّغِيرِ إلَّا بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ الصَّغِيرَ لَا يُمْكِنُ
حَمْلُهُ إلَى الْحَرَمِ ، وَهَذَا لَا يُغْنِي ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ قَضَتْ فِي
الصَّغِيرِ صَغِيرًا ، وَفِي الْكَبِيرِ كَبِيرًا ، وَإِذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ
إلَى الْحَرَمِ حُمِلَتْ قِيمَتُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ بِالْمَغْرِبِ : بَعِيرِي
هَذَا هَدْيٌ ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُحْمَلُ ثَمَنُهُ إلَى مَكَّةَ ، وَكَذَلِكَ
يَجِبُ أَنْ يَكُونَ فِي صَغِيرِ الْهَدْيِ مِثْلُهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ صَغِيرَ الْهَدْيِ مِثْلُ
كَبِيرِهِ فِي الْقِيمَةِ ، كَمَا أَنَّ صَغِيرَ الْآدَمِيِّ مِثْلُ كَبِيرِهِ فِي
الدِّيَةِ .
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ الدِّيَةَ مُقَدَّرَةٌ
جَبْرًا ، وَهَذَا مُقَدَّرٌ نَظَرًا ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ،
فَافْتَرَقَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { أَوْ كَفَّارَةٌ }
سَمَّاهُ بِهَا لِيُبَيِّنَّ أَنَّ الطَّعَامَ عَنْ
الصَّيْدِ لَا عَنْ الْهَدْيِ ، وَلِيُلْحِقَهَا بِأَمْثَالِهَا وَنَظَائِرِهَا
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { طَعَامُ مَسَاكِينَ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إذَا قَتَلَ
الْمُحْرِمُ ظَبْيًا وَنَحْوَهُ فَعَلَيْهِ شَاةٌ تُذْبَحُ بِمَكَّةَ ، فَإِنْ
لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ
صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَإِنْ قَتَلَ أُيَّلًا أَوْ نَحْوَهُ فَعَلَيْهِ
بَقَرَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ مِسْكِينًا ، فَإِنْ لَمْ
يَجِدْ صَامَ عِشْرِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ قَتَلَ نَعَامَةً أَوْ حِمَارًا
فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ مِنْ الْإِبِلِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَإِطْعَامُ ثَلَاثِينَ
مِسْكِينًا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَالطَّعَامُ
مُدٌّ مُدٌّ لِشِبَعِهِمْ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا : إنْ لَمْ يَجِدْ جَزَاءً
قَوَّمَ الْجَزَاءَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ قُوِّمَتْ الدَّرَاهِمُ حِنْطَةً ، ثُمَّ
صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا .
وَقَالَ : إنَّمَا أُرِيدَ بِالطَّعَامِ الصَّوْمَ ،
فَإِذَا وَجَدَ طَعَامًا وَجَبَ جَزَاءً .
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ النَّخَعِيِّ ، وَمُجَاهِدٍ ،
وَالسُّدِّيِّ ، وَحَمَّادٍ ، وَغَيْرِهِمْ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا
فَإِطْعَامُ سِتَّةَ مَسَاكِينَ ، فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ عَلَى التَّخْيِيرِ
لَا عَلَى التَّرْتِيبِ بِمَا يَقْتَضِيه حَرْفُ " أَوْ " فِي لِسَانِ
الْعَرَبِ .
وَأَمَّا تَقْدِيرُ الطَّعَامِ فِي الظَّبْيِ بِسِتَّةِ
مَسَاكِينَ ، وَفِي الْبَدَنَةِ بِثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَلَيْسَ بِتَقْدِيرٍ
نَافِذٍ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ تَحَكُّمٌ بِاخْتِيَارِ قِيمَةِ الطَّعَامِ
بِالدَّرَاهِمِ أَصْلًا أَوْ بَدَلًا كَمَا تَقَدَّمَ ، ثُمَّ يُعْطَى عَنْ كُلِّ
مُدٍّ يَوْمًا لَا نِصْفَ صَاعٍ
.
وَقَدْ رَوَى بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيّ :
كَانَ رَجُلَانِ مِنْ الْأَعْرَابِ مُحْرِمِينَ ، فَحَاشَ أَحَدُهُمَا صَيْدًا
فَقَتَلَهُ الْآخَرُ ، فَأَتَيَا عُمَرُ ، وَعِنْدَهُ عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا
تَرَى ؟ قَالَ : شَاةٌ .
قَالَ : وَأَنَا أَرَى ذَلِكَ .
اذْهَبَا فَأَهْدَيَا شَاةً .
فَلَمَّا مَضَيَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا
دَرَى أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَا يَقُولُ ، حَتَّى سَأَلَ صَاحِبَهُ .
فَسَمِعَهُ عُمَرُ ، فَرَدَّهُمَا ، فَقَالَ : هَلْ
تَقْرَآنِ سُورَةَ الْمَائِدَةِ ؟ فَقَالَا : لَا .
فَقَرَأَ عَلَيْهِمَا : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ
مِنْكُمْ هَدْيًا } ثُمَّ قَالَ : اسْتَعَنْت بِصَاحِبِي هَذَا .
وَعَنْ قَبِيصَةَ وَصَاحِبٍ لَهُ أَنَّهُمَا أَصَابَا
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ : إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ
يَدْرِ مَا يَقُولُ .
فَسَمِعَهُمَا عُمَرُ .
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ ضَرْبًا بِالدِّرَّةِ ، وَقَالَ :
تَقْتُلُ الصَّيْدَ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ، وَتَغْمِصُ الْفُتْيَا ، إنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ
: { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَهَذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَأَنَا عُمَرُ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاشْتِرَاكَ فِي قَتْلِ
الصَّيْدِ الْمُحَرَّمِ يُوجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِكِينَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً
لِقَضَاءِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى
رَجُلَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ
كَامِلٌ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَهِيَ تَنْبَنِي
عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لُغَوِيٌّ قُرْآنِيٌّ ، وَالْآخَرُ مَعْنَوِيٌّ .
أَمَّا اللُّغَوِيُّ الْقُرْآنِيُّ : فَإِنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ لِلصَّيْدِ قَاتِلٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ
وَالتَّمَامِ ، بِدَلِيلِ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مُتْلِفٌ نَفْسًا عَلَى الْكَمَالِ وَمُذْهِبٌ رَوْحًا عَلَى التَّمَامِ .
وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ ،
وَقَدْ قُلْنَا بِوُجُوبِهِ إجْمَاعًا مِنَّا وَمِنْهُمْ فَثَبَتَ مَا قُلْنَا .
وَأَمَّا الْمَعْنَوِيُّ : فَإِنَّ عِنْدَنَا أَنَّ
الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قِيمَةٌ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا
الْجَزَاءَ كَفَّارَةٌ وَمُقَابِلٌ لِلْجِنَايَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ جَنَى عَلَى
إحْرَامِهِ جِنَايَةً كَامِلَةً ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى قَاتِلًا ؛
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ سَمَّى
الْجَزَاءَ كَفَّارَةً فِي كِتَابِهِ
.
وَأَمَّا كَمَالُ الْجِنَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
عَلَى الْإِحْرَامِ فَصَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ارْتَكَبَ
مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَسُمِّيَ قَاتِلًا حَقِيقَةً
فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءً .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّهُ يَقُومُ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ ،
وَيَلْحَظُ فِيهِ شِبْهَهُ .
وَلَوْ كَانَ كَفَّارَةً لَاعْتُبِرَ مُطْلَقًا مِنْ
اعْتِبَارِ ذَلِكَ كُلِّهِ ، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَلَمَّا كَانَ
كَذَلِكَ صَارَ كَالدِّيَةِ .
قُلْنَا : هَذَا بَاطِلٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ دُخُولُ الصَّوْمِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ بَدَلَ مُتْلَفٍ مَا دَخَلَ الصِّيَامُ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الصِّيَامَ إنَّمَا مَوْضِعُهُ وَمَوْضُوعُهُ
الْكَفَّارَاتُ ، لَا أَبْدَالُ الْمُتْلَفَاتِ .
جَوَابٌ آخَرُ : وَذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا تُقَدَّرُ
بِقَدْرِ الْمَحِلِّ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَهَا ، مَحِلٌّ ، فَيَزِيدُ
بِزِيَادَتِهِ ، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهِ ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْآدَمِيِّ
فَإِنَّهُ حَدٌّ لَا يَتَقَدَّرُ حَقِيقَةً فَيُقَدَّرُ كَفَّارَةً .
جَوَابٌ ثَالِثُ : وَذَلِكَ أَنَّ الْجَزَاءَ لَا
يَجُوزُ إسْقَاطُهُ ، وَالدِّيَةُ يَجُوزُ إسْقَاطُهَا ، فَدَلَّ عَلَى
اخْتِلَافِهِمَا بِالصِّفَةِ وَالْمَوْضُوعِ .
جَوَابٌ رَابِعُ : وَذَلِكَ أَنَّ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى يَسْتَوِي فِي الْجَزَاءِ ، وَيَخْتَلِفُ فِي الدِّيَةِ ، وَقِيمَةِ
الْإِتْلَافِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَظَهَرَ
أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ ضَعِيفٌ جِدًّا .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : خَالَفَ
أَبُو حَنِيفَةَ مَالِكًا فِي فَرْعٍ ؛ وَهُوَ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةٌ صَيْدًا فِي
حَرَمٍ وَهُمْ مُحِلُّونَ فَعَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ
قَتَلَهُ الْمُحْرِمُونَ فِي الْحِلِّ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ قَتَلَ نَفْسًا مُحَرَّمَةً ، فَسَوَاءٌ كَانَتْ فِي الْحِلِّ أَوْ فِي
الْحَرَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ .
وَأَمَّا الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ فَبَنَاهُ فِي
أَسْرَارِ اللَّهِ عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ : السِّرُّ فِيهِ أَنَّ
الْجِنَايَةَ فِي الْإِحْرَامِ عَلَى الْعِبَادِ ، فَقَدْ ارْتَكَبَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ مَحْظُورًا فِي إحْرَامِهِ
.
وَإِذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا
أَتْلَفَ نَفْسًا مُحْتَرَمَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتْلَفَ جَمَاعَةٌ
دَابَّةً ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ دَابَّةً ، وَيَشْتَرِكُونَ
فِي الْقِيمَةِ ، وَهَذَا مِمَّا يَسْتَهِينُ بِهِ عُلَمَاؤُنَا ، وَهُوَ عَسِيرُ
الِانْفِصَالِ .
وَقَدْ عَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ
يَكُونُ مُحْرِمًا بِدُخُولِهِ فِي الْحَرَمِ ، كَمَا يَكُونُ مُحْرِمًا
بِتَلْبِيَتِهِ بِالْإِحْرَامِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَدْ
أَكْسَبَهُ صِفَةً تَعَلَّقَ بِهَا نَهْيٌ ، فَهُوَ هَاتِكٌ لَهَا فِي
الْحَالَيْنِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ أَقْوَى مِنَّا ، عَلَى أَنَّ
عُلَمَاءَنَا قَالُوا : إذَا قَتَلَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ وَهُوَ مُحْرِمٌ
فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ قَتَلَهُ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ حُكُومَةٌ ،
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا
جَزَاءَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ أَصْلًا
.
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : حُرْمَةُ الْحَرَمِ كَالْإِحْرَامِ ،
وَاللَّفْظُ فِيهِمَا وَاحِدٌ ، يُقَالُ : أَحْرَمَ الرَّجُلُ إذَا تَلَبَّسَ
بِالْإِحْرَامِ ، كَمَا يُقَالُ : أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ حَسْبَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ مَنْ أَسْقَطَ الْجَزَاءَ
فِيهِ ، وَيُضَعَّفُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا لِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِ لِوُجُوبِ
الْجَزَاءِ وَعُمُومِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ :
وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ أَوْ
دَخَلَ الْحَرَمَ كَكَفَّارَةِ الْحُرِّ سَوَاءٌ ؛ لَكِنْ يَكُونُ حُكْمُهُ فِي
الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةِ وَالْبَدَنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْحَالِ ، كَمَا
سَيَأْتِي فِي آيَةِ الظِّهَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : إذَا قُوِّمَ
الطَّعَامُ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيْنَ يُقَوَّمُ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ :
يُقَوَّمُ فِي مَوْضِعِ الْجِنَايَةِ ؛ قَالَهُ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ
وَمَالِكٌ وَسِوَاهُمْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُقَوَّمُ حَيْثُ يُكَفِّرُ
بِمَكَّةَ .
وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ؛ فَإِنَّ
الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْتَبَرُ بِهِ قِيمَةُ
الْمُتْلَفِ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ :
يَوْمَ الْإِتْلَافِ .
وَقَالَ آخَرُ : يَوْمَ الْقَضَاءِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَلْزَمُ الْمُتْلِفُ أَكْثَرَ
الْقِيمَتَيْنِ مِنْ الْإِتْلَافِ إلَى يَوْمِ الْحُكْمِ ، وَاخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا كَاخْتِلَافِهِمْ
.
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْقِيمَةَ يَوْمَ
الْإِتْلَافِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْوُجُوبَ كَانَ
حَقًّا لِلْمُتْلَفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا أَعْدَمَهُ الْمُتْلِفُ لَزِمَهُ
إيجَادُهُ بِمِثْلِهِ ، وَذَلِكَ فِي وَقْتِ الْعَدَمِ ، فَالْقَضَاءُ يُظْهِرُ
الْوَاجِبَ فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ ، وَلَا يَسْتَأْنِفُ الْقَاضِي إيجَابًا لَمْ
يَكُنْ ، وَهَذَا يُعَضِّدُ فِي مَسْأَلَتِنَا الْوُجُوبَ فِي مَوْضِعِ
الْإِتْلَافِ ، فَأَمَّا فِي مَوْضِعِ فِعْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا وَجْهَ لَهُ .
الْمَسْأَلَة الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : فَأَمَّا الْهَدْيُ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَكَّةَ .
وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ مَالِكٍ
؛ هَلْ يَكُونُ بِمَكَّةَ أَوْ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ .
وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ : إنَّهُ
يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ .
وَقَالَ حَمَّادٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُكَفِّرُ
بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ .
وَقَالَ عَطَاءٌ : مَا كَانَ مِنْ دَمٍ أَوْ طَعَامٍ
بِمَكَّةَ ، وَيَصُومُ حَيْثُ شَاءَ
.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : يُكَفِّرُ حَيْثُ شَاءَ .
فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُ يُكَفِّرُ
حَيْثُ أَصَابَ ، فَلَا وَجْهَ لَهُ فِي النَّظَرِ وَلَا أَثَرَ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَصُومُ حَيْثُ شَاءَ
فَلِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِالصَّائِمِ ، فَتَكُونُ فِي كُلِّ
مَوْضِعٍ كَصِيَامِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا وَجْهُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الطَّعَامَ يَكُونُ
بِمَكَّةَ فَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْهَدْيِ أَوْ نَظِيرٌ لَهُ ؛ وَالْهَدْيُ
حَقٌّ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ ؛ فَلِذَلِكَ يَكُونُ بِمَكَّةَ بَدَلَهُ أَوْ
نَظِيرَهُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَكُونُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ ،
وَهُوَ الْمُخْتَارُ ، فَإِنَّهُ اعْتِبَارٌ بِكُلِّ طَعَامٍ وَفِدْيَةٍ ،
فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِكُلِّ مَوْضِعٍ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله
تَعَالَى : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : الْعَدْلُ وَالْعِدْلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا : هُوَ
الْمِثْلُ ، وَيُؤْثَرُ عَنْ السَّكَّاكِيِّ أَنَّهُ قَالَ : عِدْلُ الشَّيْءِ
بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ جِنْسِهِ ، وَبِفَتْحِ الْعَيْنِ مِثْلُهُ مِنْ
غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَأَرَادَ أَوْ يَصُومُ صَوْمًا مُمَاثِلًا لِلطَّعَامِ ، وَلَا
يَصِحُّ أَنْ يُمَاثِلَ الطَّعَامُ الطَّعَامَ فِي وَجْهٍ أَقْرَبَ مِنْ الْعَدَدِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ : يَصُومُ عَلَى عَدَدِ
الْمَسَاكِينِ فِي الطَّعَامِ لَا عَلَى عَدَدِ الْأَمْدَادِ الْأَشْهُرِ ، وَهُوَ
عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، وَالْكَافَّةِ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِالْأَمْدَادِ ، وَقَدْ
قَالَ الشَّافِعِيُّ : عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي
لِمَالِكٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَصُومُ عَنْ كُلِّ مُدَّيْنِ
يَوْمًا اعْتِبَارًا بِفِدْيَةِ الْأَذَى .
وَاعْتِبَارُ الْكَفَّارَةِ بِالْفِدْيَةِ لَا وَجْهَ
لَهُ فِي الشَّرِيعَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نُظَرَائِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَالَ
بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّمَا يُفْتَقَرُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ ؛
فِي الْجَزَاءِ مِنْ النَّعَمِ ، وَالْإِطْعَامِ ؛ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ
يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا فِي الْحَالِ كُلِّهَا ، وَهِيَ تَنْحَصِرُ فِي مَوَاضِعَ
سَبْعَةٍ : الْأَوَّلُ : هَلْ يُحْكَمُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ أَوْ فِي
الْعَمْدِ وَحْدَهُ ؟ الثَّانِي : هَلْ يُحْكَمُ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ فِي
الْحَرَمِ كَمَا يَكُونُ فِي الْإِحْرَامِ ؟ الثَّالِثُ : هَلْ يُحْكَمُ
بِالْجَزَاءِ حَيَوَانًا أَوْ قِيمَةً ؟ الرَّابِعُ : إذَا رَأَى الْحَيَوَانَ
جَزَاءً عَنْ حَيَوَانٍ .
فِي تَعْيِينِ الْحَيَوَانِ خِلَافٌ كَثِيرٌ لَا بُدَّ
مِنْ تَسْلِيطِ نَظَرِهِ عَلَيْهِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِ
الْعُلَمَاءِ فِيهِ ؛ هَلْ يَسْتَوِي صَغِيرُهُ وَكَبِيرُهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ
فِي الْكِتَابِ حِينَ جَعَلَهُ كَالدِّيَةِ أَمْ لَا ؟ وَهَلْ يُرَاعِي صِفَاتِهِ
أَجْمَعَ حَتَّى الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ ، أَمْ تُرَاعَى
الْأُصُولُ ، أَوْ يُرَاعَى الْعَيْبُ وَالسَّلَامَةُ ،
أَوْ هُمَا وَاحِدٌ ؟ وَهَلْ يَكُونُ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ كَمَا فِي كِتَابِ
مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِ ، أَمْ يَكُونُ فِيهَا الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّهَا لَا
تُقَارِبُ خَلْقَ الْبَقَرِ وَلَا تَبْلُغُ خَلْقَ الْإِبِلِ ؟ الْخَامِسُ : هَلْ
الْحَيَوَانَاتُ كُلُّهَا تُجْزِئُ أَمْ بَعْضُهَا ؟ السَّادِسُ : هَلْ يَقُومُ
الْمِثْلُ بِالطَّعَامِ أَوْ بِالدَّرَاهِمِ ؟ السَّابِعُ : هَلْ يَكُونُ
التَّقْوِيمُ بِمَوْضِعِ الْإِصَابَةِ أَمْ بِمَوْضِعِ الْكَفَّارَةِ ؟ وَهَكَذَا
إلَى آخِرِ فُصُولِ الِاخْتِلَافِ ، فَيُرْفَعُ الْأَمْرُ إلَى الْحُكْمَيْنِ
حَتَّى يُخَلِّصَ اجْتِهَادُهُمَا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْوُجُوهِ
الْمُخْتَلِفَةِ ، فَيَلْزَمُهُ مَا قَالَا .
وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : إذَا
قَتَلَ مُحْرِمٌ صَيْدًا فَجَزَاهُ
.
ثُمَّ قَتَلَهُ ثَانِيَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ
قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } ، وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْمَرَّةِ الْأُولَى
وَالثَّانِيَةِ ، وَمِمَّنْ تَعَلَّقَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَحْبَارٌ مِمَّنْ لَا
يَلِيقُ بِمَرْتَبَتِهِمْ إيرَادُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛
فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ عُلِّقَ بِشَرْطٍ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ ،
فَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ [ فَإِنَّ
الطَّلَاقَ ] لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ ، فَإِنْ قَامَ دَلِيلٌ
عَلَى تَكْرَارِ الْحُكْمِ بِتَكْرَارِ الشَّرْطِ فَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ
الدَّلِيلِ الْقَائِمِ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ الْمُضَافِ إلَيْهِ ؛
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ }
فَإِنَّ الْوُضُوءَ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْقِيَامِ مَعَ الْحَدَثِ ،
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ
صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ } .
وَهَا هُنَا تَكَرَّرَ الِاسْمُ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ ،
بِقَوْلِهِ : { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } .
وَالنَّهْيُ دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَيْهِ ، فَالْجَزَاءُ
لِأَجْلِ ذَلِكَ مُتَوَجِّهٌ لَازِمٌ ذِمَّتَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { عَفَا اللَّهُ عَمَّا
سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وَلَمْ يَذْكُرْ جَزَاءً
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قُلْنَا : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ
: { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } يَعْنِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَا الْإِسْلَامِ
، أَوْ عَمَّا قَبْلَ بَيَانِ الْحُكْمِ ؛ فَإِنَّ الْوَاقِعَ قَبْلَهُ عَفْوٌ .
وقَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ عَادَ } وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : يَعْنِي فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ
مِنْهُ ، وَعَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّلِيلِ الْكَفَّارَةُ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ
مَرَّتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ ،
وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَمَادِي
التَّحْرِيمِ فِي الْإِحْرَامِ وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ فِي دِينِ
الْإِسْلَامِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الدَّلِيلِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : {
وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } يَعْنِي وَهُوَ مُحْرِمٌ ، { فَجَزَاءٌ
مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ
} .
وَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْحَسَنُ
وَإِبْرَاهِيمَ وَمُجَاهِدٌ وَشُرَيْحٌ
.
وَيُرْوَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ
عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : نَعَمْ نَحْكُمُ عَلَيْهِ أَفَيُخْلَعُ يَعْنِي يُخْرَجُ عَنْ
حُكْمِ الْمُحْرِمِينَ ؛ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ : إنَّهُ إذَا قَتَلَهُ
مُتَعَمِّدًا فَقَدْ حَلَّ إحْرَامُهُ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا [ يُنَافِي ]
عِبَادَةً فِيهَا ، فَأَبْطَلَهَا ، كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ أَوْ
أَحْدَثَ فِيهَا .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ
الْجَزَاءَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفَسَادَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ
الْمَسَائِلِ مَا يُفْسِدُ الْحَجَّ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ
إعَادَتِهِ ، فَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْحَجِّ بِالصَّلَاةِ فَإِنَّهُمَا
مُخْتَلِفَانِ شَرْطًا وَوَصْفًا وَوَضْعًا فِي الْأَصْلِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ
أَحَدُهُمَا بِالْآخِرِ بِحَالٍ
.
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَفِيمَا
تَقَدَّمَ ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ الْمُعَلَّيْ أَنَّ
رَجُلًا أَصَابَ صَيْدًا وَهُوَ مُحْرِمٌ فَتَجُوزُ عَنْهُ ، ثُمَّ عَادَ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَارًا مِنْ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ ،
وَهَذِهِ عِبْرَةٌ لِلْأُمَّةِ وَكَفٌّ لِلْمُعْتَدِينَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَا
تَقَدَّمَ فِيهِ لِلصَّحَابَةِ حُكْمٌ مِنْ الْجَزَاءِ فِي صَيْدٍ يَبْتَدِئُ الْآنَ
الْحَكَمَانِ النَّظَرَ فِيهِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُنْظَرُ فِيمَا نَظَرَتْ
فِيهِ الصَّحَابَةُ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ نَفَذَ ، وَهَذَا يَبْطُلُ بِقَضَايَا
الدِّينِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ حُكْمٍ أَنْفَذَتْهُ الصَّحَابَةُ يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ
فِيهِ ثَانِيًا .
وَذَلِكَ فِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا
انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعٌ ، وَهَذَا أَبْيَنُ مِنْ إطْنَابٍ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : لَا
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ الْجَانِي أَحَدَ الْحَكَمَيْنِ ، وَهَذَا تَسَامُحٌ مِنْهُ ؛
فَإِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي جَانِيًا وَحَكَمَيْنِ ، فَحَذْفُ بَعْضِ
الْعَدَدِ إسْقَاطٌ لِلظَّاهِرِ ، وَإِفْسَادٌ لِلْمَعْنَى لِأَنَّ حُكْمَ
الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاسْتَغْنَى
بِنَفْسِهِ عَنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ،
فَزِيَادَةُ ثَانٍ إلَيْهِ غَيْرَهُ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِئْنَافِ الْحُكْمِ
بِرَجُلَيْنِ سِوَاهُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ
وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْلُهُ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } : عَامٌّ فِي الْمُحِلِّ
وَالْمُحْرِمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ جِهَةِ التَّقْسِيمِ
وَالتَّنْوِيعِ قَبْلَ هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { الْبَحْرِ } هُوَ كُلُّ
مَاءٍ كَثِيرٍ ، وَأَصْلُهُ الِاجْتِمَاعُ ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ الْمَدَائِنُ
بِحَارًا .
وَيُقَالُ لِلْبَلْدَةِ : الْبَحْرَةُ وَالْبُحَيْرَةُ ؛
لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا ؛ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { ظَهَرَ الْفَسَادُ
فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } : إنَّ الْبَحْرَ الْبِلَادُ ، وَالْبَرَّ الْفَيَافِي
وَالْقِفَارُ .
وَفَائِدَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ بَرًّا
وَبَحْرًا وَهَوَاءً ، وَجَعَلَ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ مِنْ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ
الثَّلَاثَةِ عِمَارَةً ، فَعِمَارَةُ الْهَوَاءِ الطَّيْرُ ، وَعِمَارَةُ
الْمَاءِ الْحِيتَانُ ، وَعِمَارَةُ الْأَرْضِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ ، وَجَعَلَ
كُلَّ ذَلِكَ مُبَاحًا لِلْإِنْسَانِ عَلَى شُرُوطٍ وَتَنْوِيعٍ ، هِيَ
مُبَيَّنَةٌ فِي مَسَائِلِ الْأَحْكَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي
خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { صَيْدُ الْبَحْرِ
} : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ
: الْأَوَّلُ : مَا صِيدَ مِنْهُ عَلَى مَعْنَى
تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّانِي : هُوَ حِيتَانُهُ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : السَّمَكُ الْجَرِيُّ ؛ قَالَهُ ابْنُ
جُبَيْرٍ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَرْجِعُ إلَى
قَوْلٍ وَاحِدٍ ، وَهِيَ حِيتَانُهُ تَفْسِيرًا ، وَيَرْجِعُ مِنْ طَرِيقِ الِاشْتِقَاقِ
إلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَا حُووِلَ أَخْذُهُ بِحِيلَةٍ وَعَمَلٍ ، وَيَدْخُلُ
تَحْتَ قَوْلِهِ : مَا صِيدَ مِنْهُ ، وَهُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ ، فَكَأَنَّهُ
قَالَ : " أُحِلَّ لَكُمْ أَخْذُ مَا فِي الْبَحْرِ مِنْ الْحِيتَانِ
بِالْمُحَاوَلَةِ ، وَأُحِلَّ لَكُمْ طَعَامُهُ ، وَهُوَ مَا أُخِذَ بِغَيْرِ
مُحَاوَلَةٍ " وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ بِغَيْرِ
مُحَاوَلَةٍ وَلَا حِيلَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا طَفَا عَلَيْهِ
مَيْتًا .
وَالثَّانِي : مَا جَزَرَ عَنْهُ الْمَاءُ ، فَأَخَذَهُ
النَّاسُ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي قَوْله تَعَالَى : {
وَطَعَامُهُ } : عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا جَزَرَ عَنْهُ .
وَالثَّانِي
: مَا طَفَا عَلَيْهِ ؛ قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
وَقَتَادَةُ ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَعْنٍ عَنْ سُفْيَانَ ، قَالَ : صَيْدُ الْبَحْرِ
مَا صِيدَ ، وَطَعَامُهُ مَيْتَتُهُ
.
الثَّالِثُ : مَمْلُوحُهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ
وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا
أَلْقَاهُ الْبَحْرُ أَوْ جَزَرَ عَنْهُ فَكُلُوهُ ، وَمَا مَاتَ فِيهِ فَطَفَا
فَلَا تَأْكُلُوهُ } .
وَقَالَ أَبُو دَاوُد : الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ
عَلَى جَابِرٍ .
وَرَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ { أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْبَحْرِ : هُوَ الطَّهُورُ
مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ }
.
وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ ، وَلَا كَلَامَ
بَعْدَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
.
وَتَعَلَّقَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِينَ
قَالُوا : إنَّ مَيْتَةَ الْبَحْرِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق