الجمعة، 5 مايو 2023

ج9.وج10. كتاب : أحكام القرآن الجصاص :لابن العربي

ج9.وج10. كتاب : أحكام القرآن :ابن العربي

حَرَامٌ بِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } وَهِيَ كُلُّ حَيَوَانٍ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَخُصُّ هَذَا الْعُمُومَ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ قَالَ بِهِ الْخَلِيفَتَانِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَثَبَتَ بِحَدِيثِ جَابِرٍ { عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَكْلِهِمْ الْحُوتَ الْمَيِّتَ فِي غُزَاةِ سَيْفِ الْبَحْرِ ، وَمِنْ ادِّخَارِهِمْ مِنْهُ جُزْءًا ، حَتَّى لَقُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْهُ } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذِهِ الْآيَةُ إنَّمَا سِيقَتْ لِبَيَانِ مَا يُحَرَّمُ بِالْإِحْرَامِ ، وَمَا لَا يُحَرَّمُ بِهِ ، لَا لِبَيَانِ مَا حَرُمَ بِنَفْسِهِ .
وَإِنَّمَا بَيَانُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ فِي قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } إلَى آخِرِهَا .
وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ السَّمَكُ الْمَذْكُورُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ فَأَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ .
وَهَذِهِ عُمْدَةُ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ .
قُلْنَا : هَذَا قَلْبُ الْمَبْنَى ، وَإِفْسَادُ الْمَعْنَى لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا إنَّمَا جَاءَتْ لِبَيَانِ تَحْلِيلِ الصَّيْدِ ، وَهُوَ أَخْذُ مَا لَا قُدْرَةَ لِلْعَبْدِ عَلَيْهِ ، وَلَا أَنَسَ لَهُ بِهِ ، وَصِفَةُ تَذْكِيَتِهِ حَتَّى يَحِلَّ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ بِهِ الْمُحِلِّينَ ، فَبَيَّنَ رُكْنَ التَّحْلِيلِ فِي ذَلِكَ وَأَخْذَهُ بِالْقَهْرِ وَالْحِيلَةِ فِي كِبَارِهِ ، وَبِالْيُسْرِ فِي صِغَارِهِ ، ثُمَّ أَطْلَقَ تَحْلِيلَ صَيْدِ الْبَحْرِ فِي بَابِهِ ، وَزَادَ مَا لَا يُصَادُ مِنْهُ ؛ وَإِنَّمَا يَرْمِيهِ الْبَحْرُ رَمْيًا ، ثُمَّ قَيَّدَ تَحْرِيمَ صَيْدِ الْبَرِّ خَاصَّةً بِالْإِحْرَامِ ، وَبَقِيَ الْبَاقِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ .
فَأَمَّا الْمُحَرَّمَاتُ وَأَجْنَاسُهَا فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } فَهُوَ عَامٌّ خَصَّصَهُ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ ، فِي مَيْتَةِ الْمَاءِ خَاصَّةً .

وَأَمَّا حَدِيثُ : { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ } ؛ فَلَمْ يَصِحَّ فَلَا يَلْزَمُنَا عَنْهُ جَوَابٌ ، ثُمَّ نَقُولُ : إنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ قَوْلُهُ : السَّمَكُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا فِي الْبَحْرِ ، اسْمٌ عَامٌّ .
وَقَدْ يُطْلَقُ بِالْعُرْفِ فِي بَعْضِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى أَصْلِ الْإِطْلَاقِ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِمْ عِنْدَنَا لِبَعْضِ الْحُوتِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ سَمَكٌ دُونَ سَائِرِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلِلسَّيَّارَةِ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لِلْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ " أَبِي عُبَيْدَةَ : إنَّهُمْ أَكَلُوهُ وَهُمْ مُسَافِرُونَ ، وَأَكَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُقِيمٌ " فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ حَلَالٌ لِمَنْ أَقَامَ ، كَمَا أَحَلَّهُ فِي حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ لِمَنْ سَافَرَ .
الثَّانِي : إنَّ السَّيَّارَةَ هُمْ الَّذِينَ يَرْكَبُونَهُ كَمَا ثَبَتَ فِي أَصْلِ الْحَدِيثِ : { أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ الْعَرَكِيُّ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّا نَرْكَبُ الْبَحْرَ وَمَعَنَا الْقَلِيلُ مِنْ الْمَاءِ ، فَإِنْ تَوَضَّأْنَا بِهِ عَطِشْنَا ، أَفَنَتَوَضَّأُ لَهُ بِمَاءِ الْبَحْرِ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فَلَوْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " نَعَمْ " لَمَا جَازَ الْوُضُوءُ بِهِ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الْعَطَشِ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُرْتَبِطٌ بِالسُّؤَالِ .
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْتَدَأَ بِتَأْسِيسِ الْحُكْمِ وَبَيَانِ الشَّرْعِ ؛ فَقَالَ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
فَزَادَ فِي جَوَابِ السَّائِلِ جَوَابَيْنِ : أَحَدُهُمَا : قَوْلُهُ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ } ابْتِدَاءً .
الثَّانِي : { الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّحْرِيمَ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْأَعْيَانِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِأَفْعَالٍ ؛ فَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } إنْ كَانَ الصَّيْدُ الْفِعْلَ فَمَعْنَاهُ مَعَ الِاصْطِيَادِ كُلِّهِ عَلَى أَنْوَاعِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَعْنَى الصَّيْدِ الْمَصِيدَ عَلَى مَعْنَى تَسْمِيَةِ الْمَفْعُولِ بِالْفِعْلِ ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ : حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ، وَهَذَا مِنْ غَرِيبِ الْمُتَعَلِّقَاتِ لِلتَّكْلِيفِ بِالْأَفْعَالِ ، وَتَفْسِيرُ وَجْهِ التَّعَلُّقِ ؛ فَصَارَ الصَّيْدُ فِي الْبَرِّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ مُمْتَنِعًا بِكُلِّ وَجْهٍ ، وَكَانَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهِ كَإِضَافَةِ الْخَمْرِ إلَى الْمُكَلَّفِينَ وَالْمَيْتَةِ ؛ إذْ إنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَقَدْ رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ " أَبِي قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : { خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ وَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ إذْ أَبْصَرْت أَصْحَابِي يَتَرَاءَوْنَ ، فَنَظَرْت فَإِذَا حِمَارُ وَحْشٍ ، فَأَسْرَجْت فَرَسِي ، وَأَخَذْت رُمْحِي ، ثُمَّ رَكِبْت ، فَسَقَطَ سَوْطِي ، فَقُلْت لِأَصْحَابِي وَكَانُوا مُحْرِمِينَ : نَاوِلُونِي السَّوْطَ .
فَقَالُوا : وَاَللَّهِ لَا نُعِينُك عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، فَنَزَلْت فَتَنَاوَلْته ، ثُمَّ رَكِبْت فَأَدْرَكْته مِنْ خَلْفِهِ ، وَهُوَ وَرَاءَ أَكَمَةٍ ، فَطَعَنْته بِرُمْحِي ، فَعَقَرْته ، فَأَتَيْت بِهِ أَصْحَابِي ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : كُلُوهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا نَأْكُلُهُ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَنَا ، فَحَرَّكْت دَابَّتِي فَأَدْرَكْته ، فَقَالَ : هُوَ حَلَالٌ ، فَكُلُوهُ } .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : { هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ ؟ قَالُوا : لَا .
قَالَ : فَكُلُوا .
هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ ؟ قَالُوا : مَعَنَا رِجْلُهُ .
قَالَ : فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ فَأَكَلَهَا } .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ " الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ { أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ .
قَالَ : فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِي وَجْهِهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ قَالَ : إنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْك إلَّا أَنَّا حُرُمٌ } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ } .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هُوَ أَحْسَنُ حَدِيثٍ فِي الْبَابِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عُثْمَانَ فَأُتِيَ عُثْمَانُ بِلَحْمِ صَيْدٍ صَادَهُ حَلَالٌ ، فَأَكَلَ عُثْمَانُ ، وَأَبَى عَلِيٌّ أَنْ يَأْكُلَ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا صِدْنَا وَلَا أَمَرْنَا وَلَا أَشَرْنَا .
فَقَالَ عَلِيٌّ : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : إنَّمَا صِيدَ قَبْلَ أَنْ نُحْرِمَ ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ : وَنَحْنُ قَدْ بَدَأْنَا وَأَهْلَلْنَا وَنَحْنُ حَلَالٌ ، أَفَيَحِلُّ لَنَا الْيَوْمَ ؟ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَرِهَ لَحْمَ الصَّيْدِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، أُخِذَ لَهُ أَوْ لَمْ يُؤْخَذْ ، وَإِنْ صَادَهُ الْحَلَالُ .
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ مِثْلُهُ .
وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ الْفِعْلُ بِقَوْلِهِ صَيْدُ الْبَرِّ ، أَوْ الْمُحَرَّمَ مُضْمَرٌ ؛ وَالْمُرَادُ بِالصَّيْدِ الْمَصِيدُ ، وَاَلَّذِي ثَبَتَ عَلَى الدَّلِيلِ أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِالْمَصِيدِ لَا بِالصَّيْدِ ؛ فَيَكُونُ التَّحْرِيمُ يَتَعَلَّقُ بِتَنَاوُلِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِهِ أَوْ بِقَصْدِ تَنَاوُلِ الْحِيلَةِ فِي تَحْصِيلِهِ لَهُ ، بَيَّنَ ذَلِكَ حَدِيثُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَيْدُ الْبَرِّ لَكُمْ حَلَالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ } ؛ فَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ الْمُحْرِمُ صَيْدَهُ بِنَفْسِهِ وَلَا قَصَدَ بِهِ حَلَّ لَهُ أَكْلُهُ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ

أَخْذُهُ وَلَا مِلْكُهُ ؛ { لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَدَّهُ عَلَى الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا } ، وَالْمُحْرِمُ لَا يَمْلِكُ الصَّيْدَ .
وَقِيلَ : إنَّمَا رَدَّهُ لِأَنَّهُ صِيدَ لَهُ ، وَيَكُونُ بِذَلِكَ دَاخِلًا فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا لَمْ يُعَنْ فِيهِ بِدَلَالَةٍ وَلَا سِلَاحٍ جَازَ لَهُ أَكْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ صِيدَ مِنْ أَجْلِهِ .
وَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ يَرُدُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إذَا أَحْرَمَ وَفِي مِلْكِهِ صَيْدٌ : فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَحِلُّ لَهُ إمْسَاكُهُ وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ .
وَالْآخَرُ يُمْسِكُهُ حَتَّى يَحِلَّ فِي تَفْصِيلٍ بَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ مِثْلُهُمَا .
وَجْهُ الْقَوْلِ بِإِرْسَالِهِ قَوْله تَعَالَى : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } .
وَهَذَا عَامٌّ فِي [ مَنْعِ ] الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ كُلِّهِ .
وَجْهُ الْقَوْلِ بِإِمْسَاكِهِ أَنَّهُ مَعْنَى يَمْتَنِعُ مَعَ ابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ اسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ ؛ أَصْلُهُ النِّكَاحُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَإِنْ صَادَهُ الْحَلَالُ فِي الْحِلِّ ، فَأَدْخَلَهُ فِي الْحَرَمِ جَازَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ ذَبْحِهِ وَأَكْلِ لَحْمِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْنَى يَفْعَلُ فِي الصَّيْدِ ؛ فَجَازَ فِي الْحَرَمِ الْحَلَالُ كَالْإِمْسَاكِ وَالشِّرَاءِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِمَا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلِأَنَّ الْمَقَامَ فِي الْحَرَمِ يَدُومُ ، وَالْإِحْرَامُ يَنْقَطِعُ ، فَلَوْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ لَأَدَّى إلَى مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ ، فَسَقَطَ التَّكْلِيفُ عَنْهُ فِيهِ لِذَلِكَ .
وَهَذَا مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْمَصَالِحِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَالْمَصْلَحَةُ مِنْ أَقْوَى أَنْوَاعِ الْقِيَاسِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا كَانَ الْمُحْرِمُ مُحْرِمًا بِدُخُولِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاصْطِيَادُ فِيهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُك وَخَلِيلُك حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ الْمَدِينَةَ بِمِثْلِ مَا حَرَّمَ بِهِ إبْرَاهِيمُ مَكَّةَ ، وَمِثْلُهُ مَعَهُ ؛ لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا } .
وَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ ، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ : وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : إذَا صَادَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ آثِمًا وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ إنْ قَتَلَهُ بِهَا .
وَقَالَ سَعْدٌ : جَزَاؤُهُ أَخْذُ سَلَبِهِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ : عَلَيْهِ الْجَزَاءُ .
أَمَّا قَوْلُ سَعْدٍ : فَإِنَّ مُسْلِمًا خَرَّجَ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا صَادَ بِالْمَدِينَةِ فَلَقِيَهُ سَعْدٌ فَأَخَذَ سَلَبَهُ فَكُلِّمَ فِي رَدِّهِ ، فَقَالَ : مَا كُنْت لِأَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ؛ وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِسَعْدٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُلْ مَنْ لَقِيَ صَائِدًا بِالْمَدِينَةِ فَلْيَسْتَلِبْهُ ثِيَابَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ .
وَأَمَّا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ حَرَمٌ ، فَكَانَ الْجَزَاءُ عَلَى مَنْ قَتَلَ فِيهِ صَيْدًا ، كَمَا يُفْعَلُ فِي حَرَمِ مَكَّةَ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَوْ كَانَ حَرَمُ الْمَدِينَةِ كَحَرَمِ مَكَّةَ مَا جَازَ دُخُولُهَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ ، فَافْتَرَقَا .
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَزَاءَ الْمُتَعَدِّي فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ : { مَنْ أَحْدَثَ أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } .
فَأَرْسَلَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا دَلَّ الْحَرَامُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْحَلَالُ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا ؛ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَالْمَسْأَلَةُ غَامِضَةُ الْمَأْخَذِ بَعِيدَةُ الْغَوْرِ ، وَلِعُلَمَائِنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ طُرُقٍ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
أَقْوَاهَا طَرِيقُ مَنْشَأِ غَوْرٍ .
وَقَالَ الْجَوْنِيُّ : الضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الشَّرِيعَةِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ : إمَّا بِإِتْلَافٍ مُبَاشِرٍ ، كَالْقَتْلِ .
أَوْ بِتَلَفٍ تَحْتَ يَدٍ عَادِيَةٍ ، كَمَا لَوْ مَاتَ الْحَيَوَانُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ .
أَوْ بِسَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِالْفَاعِلِ ؛ كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي جِهَةِ التَّعَدِّي ؛ وَلَمْ يُوجَدْ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، فَبَطَلَ تَعَلُّقُ الْجَزَاءِ بِهِ .
وَعَوَّلَ مَنْ أَوْجَبَ الْجَزَاءَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ الْمُتَقَدِّمِ : { هَلْ أَشَرْتُمْ ؟ هَلْ أَعَنْتُمْ ؟ } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ لَوْ أَشَارَ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ .
قُلْنَا : إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ ؛ فَأَمَّا عَلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فَلَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي الْحَيَوَانِ الَّذِي يَكُونُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ، هَلْ يَحِلُّ صَيْدُهُ لِلْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَحْرِ أَمْ لَا يَحِلُّ لِأَنَّهُ مِنْ حَيَوَانِ الْبَرِّ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الصَّدْرُ الْأَوَّلُ .
وَالصَّحِيحُ مَنْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ فِيهِ دَلِيلَانِ : دَلِيلُ تَحْلِيلٍ ، وَدَلِيلُ تَحْرِيمٍ ، فَغَلَّبْنَا دَلِيلَ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا ؛ وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ أَبُو يُوسُفَ : مَا أَخْرَجَ مِنْ اللُّؤْلُؤِ وَالْعَنْبَرِ مِنْ الْبَحْرِ يُخَمَّسُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ شَبِيهُ الْبَرِّ وَقَسِيمُهُ وَنَظِيرُهُ ؛ إذْ الدُّنْيَا بَرٌّ وَبَحْرٌ ، فَنَقُولُ : فَائِدَةُ أُخْرِجَتْ مِنْ الْبَاطِنِ فَوَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ ، أَصْلُهُ الرِّكَازُ ، أَوْ لِأَنَّهُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ ، فَجَازَ أَنْ يَجِبَ حَقُّ اللَّهِ فِيمَا يُوجَدُ فِي بَاطِنِهِ ، أَصْلُهُ الرِّكَازُ .
وَالتَّعْلِيلُ لِلْبَحْرِ .
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : " لَا زَكَاةَ فِي الْعَنْبَرِ ، إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَقْذِفُهُ الْبَحْرُ " وَلِأَنَّهُ مِنْ فَوَائِدِ الْبَحْرِ ، فَلَا يَجِبُ فِيهِ حَقٌّ أَصْلُهُ السَّمَكُ .
وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَحْرَ لَمْ يَكُنْ فِي أَيْدِي الْكَفَرَةِ فَتَجْرِي فِيهِ الْغَنِيمَةُ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ ، كَالصَّيْدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا تَقُولُونَ فِي ذَهَبٍ يُوجَدُ فِي الْبَحْرِ ؟ قُلْنَا : لَا رِوَايَةَ فِيهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ لَيْسَ بِمَعْدِنٍ لِلذَّهَبِ ، فَوُجُودُهُ فِيهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّيُولَ قَذَفَتْهُ فِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ : يَحْتَمِلُ أَلَّا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ لِأَنَّ فِي الْبَحْرِ جِبَالًا لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهَا .

قَوْله تَعَالَى : { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فِيهِ تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { جَعَلَ اللَّهُ } : وَهُوَ يَتَصَرَّفُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : بِمَعْنَى سَمَّى ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ بِمَا يَنْبَغِي .
الثَّانِي : بِمَعْنَى خَلَقَ ، كَمَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا ، مِنْهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } .
الثَّالِثُ : بِمَعْنَى صَيَّرَ ، كَقَوْلِك ، جَعَلْت الْمَتَاعَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ .
وَتَحْقِيقُهُ هَاهُنَا خَلَقَ ثَانِيًا وَصْفًا لِشَيْءٍ مَخْلُوقٍ أَوَّلًا ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ الْكَعْبَةَ وُجُودًا أَوَّلًا ، ثُمَّ خَلَقَ فِيهَا صِفَاتٍ ثَانِيًا ، فَ " خَلَقَ " عَامٌّ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ، وَ " جَعَلَ " خَاصٌّ فِي الثَّانِي خَبَرٌ عَنْ الصِّفَاتِ الَّتِي فِيهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : الْكَعْبَةُ : وَفِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهَا سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِتَرَبُّعِهَا ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا سُمِّيَتْ كَعْبَةً لِنُتُوئِهَا وَبُرُوزِهَا ؛ فَكُلُّ نَاتِئٍ بَارِزٌ كَعْبٌ ، مُسْتَدِيرًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُسْتَدِيرٍ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ، يُقَالُ : كَعَبَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ ؛ وَهَذِهِ صِفَتُهَا هُنَا ، وَقَدْ شَرَحْنَا أَمْرَهَا فِي " إيضَاحِ الصَّحِيحَيْنِ " .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْبَيْتَ الْحَرَامَ } : سَمَّاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْتًا ؛ لِأَنَّهَا ذَاتُ سَقْفٍ وَجِدَارٍ ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْبَيْتِيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَا سَاكِنٌ ؛ وَلَكِنْ جَعَلَ لَهَا شَرَفَ الْإِضَافَةِ بِقَوْلِهِ : { أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ } .
وَقَالَ : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } .
عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { الْحَرَامَ } : سَمَّاهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَامًا بِتَحْرِيمِهِ إيَّاهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا أَوْ يَعْضِدَ بِهَا شَجَرًا ، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا لَهُ : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ ، وَلْيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } .
رَوَاهُ الْكُلُّ مِنْ الْأَئِمَّةِ ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ ذَا الْحِجَّةِ ؟ قُلْنَا : بَلَى .
قَالَ : أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ .
فَقَالَ : أَلَيْسَ الْبَلْدَةُ ؟ } يَعْنِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا أُمِرْت أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَيْسَ الْبَلَدَ الْحَرَامَ ؟ قُلْنَا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ } .
وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : حَرَّمَهَا أَيْ بِعِلْمِهِ وَكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ وَإِخْبَارِهِ بِتَحْرِيمِهَا وَخَلْقِهِ لِتَحْرِيمِهَا ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْهُ صَحِيحٌ ، وَإِلَيْهِ مَنْسُوبٌ .
فَإِنْ قِيلَ : وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ حَرَّمَهَا ؟ قُلْنَا : مِنْ سَطْوَةِ الْجَبَابِرَةِ وَمِنْ ظَلَمَةِ الْكُفْرِ فِيهَا بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لِيُخَرِّبَن الْكَعْبَةَ ذُو السَّوِيقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ } .
قُلْنَا : هَذَا عِنْدَ انْقِلَابِ الْحَالِ ، وَانْقِضَاءِ الزَّمَنِ ، وَإِقْبَالِ السَّاعَةِ ، وَسَيَأْتِي

بَيَانُهُ الْآنَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قِيَامًا لِلنَّاسِ } قِيَامُ الشَّيْءِ قَوَامُهُ وَمِلَاكُهُ أَيْ يَقُومُونَ بِهِ قِيَامًا ، كَمَا قَالَ : { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } ؛ أَيْ يَقُومُونَ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : [ الْأَوَّلُ ] : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : قِيَامًا لِلنَّاسِ ، أَيْ صَلَاحًا .
الثَّانِي : قِيَامًا لِلنَّاسِ أَيْ أَمْنًا .
الثَّالِثُ : يَعْنِي فِي الْمَنَاسِكِ وَالْمُتَعَبِّدَات ؛ قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ يَدْخُلُ فِيهِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْأَمْنَ مِنْ الصَّلَاحِ ، وَيَدْخُلُ التَّمَكُّنُ مِنْ الْمَنَاسِكِ وَالْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ لِكُلٍّ مَصْلَحَةً .
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ وَحِكْمَتُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ فِي الْجِبِلَّةِ أَخْيَافًا يَتَقَاطَعُونَ تَدَابُرًا وَاخْتِلَافًا ، وَيَتَنَافَسُونَ فِي لَفِّ الْحُطَامِ إسْرَافًا ، لَا يَبْتَغُونَ فِيهِ إنْصَافًا ، وَلَا يَأْتَمِرُونَ فِيهِ بِرُشْدٍ اعْتِرَافًا ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْخِلَافَةِ ، وَجَعَلَ فِيهِمْ الْمَمْلَكَةَ ، وَصَرَفَ أُمُورَهُمْ إلَى تَدْبِيرِ وَاحِدٍ يَزَعُهُمْ عَنْ التَّنَازُعِ ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّأَلُّفِ مِنْ التَّقَاطُعِ ، وَيَرْدَعُ الظَّالِمَ عَنْ الْمَظْلُومِ ، وَيُقَرِّرُ كُلَّ يَدٍ عَلَى مَا تَسْتَوْلِي عَلَيْهِ حَقًّا ، وَيَسُوسُهُمْ فِي أَحْوَالِهِمْ لُطْفًا وَرِفْقًا ، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ صِدْقَ ذَلِكَ وَصَوَابَهُ ، وَأَرَاهُمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالتَّجْرِبَةِ صَلَاحَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ وَمَآلِهِ ، وَلَقَدْ يَزَعُ اللَّهُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ ، فَالرِّيَاسَةُ لِلسِّيَاسَةِ وَالْمُلْكُ لِنَفْيِ الْمُلْكِ ، وَجَوْرُ السُّلْطَانِ عَامًا وَاحِدًا أَقَلُّ إذَايَةً مِنْ كَوْنِ النَّاسِ فَوْضَى لَحْظَةً وَاحِدَةً ، فَأَنْشَأَ اللَّهُ الْخَلِيقَةَ لِهَذِهِ الْفَائِدَةِ وَالْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ ، كُلَّمَا بَانَ خَلِيفَةٌ خَلَفَهُ آخَرُ ، وَكُلَّمَا هَلَكَ مَلِكٌ مَلَكَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ ؛ لِيَسْتَتِبَّ

بِهِ التَّدْبِيرُ ، وَتَجْرِيَ عَلَى مُقْتَضَى رَأْيِهِ الْأُمُورُ ، وَيَكُفَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ عَادِيَةَ الْجُمْهُورِ ؛ فَإِذَا بَعَثَ نَبِيًّا سَخَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْمُلْكَ فِي وَقْتِهِ إنْ كَانَ ضَعِيفًا ، فَكَانَ صَغْوُهُ إلَيْهِ وَعَوْنُهُ مَعَهُ ، كَمَا فَعَلَ بِدَانْيَالَ وَأَمْثَالِهِ .
وَإِنْ بَعَثَهُ قَوِيًّا يَسَّرَ لَهُ الِاسْتِيلَاءَ عَلَى الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ ، وَأَعْرَى أَرْضَ السُّلْطَانِ عَنْ ظِلِّهِ ، وَجَعَلَ الْأَمْرَ فِي الدِّينِ وَأَهْلِهِ ، كَمَا فَعَلَ بِمُوسَى ، وَلِمَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ، وَالتَّقْدِيمِ لَهُ ، وَالتَّشْرِيفِ لِقَوْمِهِ أَسْكَنَ أَبَاهُ إسْمَاعِيلَ الْبَلْدَةَ الْحَرَامَ حَيْثُ لَا إنْسَ وَلَا أَنِيسَ ، وَاسْتَخْرَجَ فِيهَا ذُرِّيَّتَهُ ، وَسَاقَ إلَيْهِ مِنْ الْجُوَارِ مَنْ عَمَرَتْ بِهِ تِلْكَ الْبِلَادُ وَالدِّيَارُ ، وَجَرَّدَهُمْ عَنْ الْمُلْكِ تَقَدُّمَةً لِرِئَاسَةِ الْمِلَّةِ ، وَكَانُوا عَلَى جِبِلَّةِ الْخَلِيقَةِ وَسَلِيقَةِ الْآدَمِيَّةِ ، مِنْ التَّحَاسُدِ وَالتَّنَافُسِ ، وَالتَّقَاطُعِ وَالتَّدَابُرِ ، وَالسَّلْبِ وَالْغَارَةِ ، وَالْقَتْلِ وَالثَّارَّةِ ، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ فِي الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْمَشِيئَةِ الْأَوَّلِيَّةِ مِنْ كَافٍّ يَدُومُ مَعَ الْحَالِ ، وَرَادِعٍ يُحْمَدُ مَعَهُ الْمَآلُ ؛ فَعَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قُلُوبِهِمْ الْبَيْتَ الْحَرَامَ لِحَقِّهِ ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ هَيْبَتَهُ لِحِكْمَتِهِ ، وَعَظَّمَ بَيْنَهُمْ حُرْمَتَهُ لِقَهْرِهِ ؛ فَكَانَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ مَعْصُومًا بِهِ ، وَكَانَ مَنْ اُضْطُهِدَ مَحْمِيًّا بِالْكَوْنِ فِيهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } .
بَيْدَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَوْضِعًا مَخْصُومًا لَا يُدْرِكُهُ كُلُّ مَظْلُومٍ وَلَا يَنَالُهُ كُلُّ خَائِفٍ جَعَلَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : مَلْجَأٌ آخَرُ ، فَقَرَّرَ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَأَوْقَعَ فِي نُفُوسِهِمْ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ؛ فَكَانُوا لَا يَرُوعُونَ فِيهَا سَرْبًا ، وَلَا يَطْلُبُونَ فِيهَا

ذَنْبًا ، وَلَا يَتَوَقَّعُونَ فِيهَا ثَأْرًا ، حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ فَلَا يُؤْذِيهِ .
وَاقْتَطَعُوا فِيهَا ثُلُثَ الزَّمَانِ ، وَوَصَلُوا مِنْهَا ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَةً ، فُسْحَةً وَرَاحَةً ، وَمَجَالًا لِلسِّيَاحَةِ فِي الْأَمْنِ وَاسْتِرَاحَةً ، وَجَعَلُوا مِنْهَا وَاحِدًا مُفْرَدًا فِي نِصْفِ الْعَامِ دَرْكًا لِلِاحْتِرَامِ ؛ ثُمَّ يَسَّرَ لَهُمْ الْإِلْهَامَ ، وَشَرَعَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْكِرَامِ الْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ، فَكَانُوا إذَا أَخَذُوا بَعِيرًا أَشْعَرُوهُ دَمًا ، وَعَلَّقُوا عَلَيْهِ نَعْلًا .
رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : أَنَّ الْقَلَائِدَ حَبْلٌ يَفْتِلُهُ ، وَنَعْلَانِ يُقَلِّدُهُمَا ، وَالنَّعْلُ الْوَاحِدُ تُجْزِي ؛ وَلِذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقَلِّدُ نَعْلَيْنِ .
وَرُبَّمَا قَلَّدَ نَعْلًا وَاحِدًا ، فَإِذَا فَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ فِي بَعِيرِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَرُعْهُ ذَلِكَ حَيْثُ لَقِيَهُ ، وَكَانَ الْفَيْصَلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ طَلَبَهُ أَوْ ظَلَمَهُ ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَبَيَّنَ الْحَقَّ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَانْتَظَمَ الدِّينُ فِي سَلْكِهِ ، وَعَادَ الْحَقُّ إلَى نِصَابِهِ ، وَبِهَذَا وَجَبَتْ الْخِلَافَةُ هُدًى ، وَمَنَعَ اللَّهُ الْخَلْقَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ، فَأُسْنِدَتْ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ ، وَانْبَنَى وُجُوبُهَا عَلَى الْخَلْقِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلِيُبَدِّلْنَهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي وَلَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ : الْمَعْنَى أَنَّهُ دَبَّرَ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِهِ ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ قَضَائِهِ

بِقُدْرَتِهِ عَلَى مُقْتَضَى عِلْمِهِ ، لِيَعْلَمُوا بِظُهُورِ هَذَا التَّقْدِيرِ وَانْتِظَامِهِ فِي التَّدْبِيرِ عُمُومَ عِلْمِهِ ، وَشُمُولَ قُدْرَتِهِ ، وَإِحَاطَتَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، كَيْفَمَا تَصَرَّفَ أَوْ تَقَدَّرَ .

قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَك كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْخَبِيثِ : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْكَافِرُ .
وَالثَّانِي : الْحَرَامُ .
وَأَمَّا الطَّيِّبُ وَهِيَ : [ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ ] : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : [ الطَّيِّبُ ] : وَفِيهِ أَيْضًا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْمُؤْمِنُ .
الثَّانِي : الْحَلَالُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ أَعْجَبَك كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } : وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُعْجِبُهُ الْكُفَّارُ وَلَا الْحَرَامُ ، وَإِنَّمَا يُعْجِبُ ذَلِكَ النَّاسَ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْجَابًا بِهِ لَهُ أَنَّهُ صَارَ عِنْدَهُ عَجَبًا مِمَّا يُشَاهِدُ مِنْ كَثْرَةِ الْكُفَّارِ ، وَالْمَالِ الْحَرَامِ ، وَقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقِلَّةِ الْمَالِ الْحَلَالِ .
وَقَدْ سَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمُهُ بِذَلِكَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ : يَا آدَم ، ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ ، فَيَقُولُ : يَا رَبِّ : وَمَا بَعْثُ النَّارِ ؟ فَيَقُولُ : مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِلنَّارِ وَوَاحِدٌ لِلْجَنَّةِ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي وَجْهِ عَدَمِ اسْتِوَائِهِ وَوُجُوبِ تَفَاوُتِهِ : إنَّ الْحَرَامَ يُؤْذِي فِي الدِّينِ ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ وَرَدُّهُ ، وَالْحَلَالُ يَنْفَعُ وَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ [ وَيَصِحُّ تَنْفِيذُهُ ] .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ } .
وَقَالَ : { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ } .
فَلَا يُعْجِبَنَّكَ كَثْرَةُ الْمَالِ الرِّبَوِيِّ ، وَنُقْصَانُ الْمَالِ بِصَدَقَتِهِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يَمْحَقُ ذَلِكَ الْكَثِيرَ فِي الْعَاقِبَةِ ، وَيُنَمِّي الْمَالَ الزَّكَاتِيَّ بِالصَّدَقَةِ ؛ وَبِهَذَا احْتَجَّ مِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ رَأَى أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُفْسَخُ ، وَلَا يُمْضَى بِحَوَالَةِ سُوقٍ ، وَلَا بِتَغَيُّرِ بَدَنٍ ؛ فَيَسْتَوِي فِي إمْضَائِهِ مَعَ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ ؛ بَلْ يُفْسَخُ أَبَدًا .
وَقَدْ احْتَجَّ أَيْضًا مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَنْ اكْتَرَى قَاعَةً إلَى أَمَدٍ فَكَمُلَ أَمَدُهُ ، وَقَدْ بَنَى بِهَا وَأَسَّسَ ، فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ يُخْرِجَهُ ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ قِيمَةَ بِنَائِهِ قَائِمًا ، وَلَا يَهْدِمُهُ عَلَيْهِ ، كَمَا يُفْعَلُ بِالْغَاصِبِ إذَا بَنَى فِي الْبُقْعَةِ الْمَغْصُوبَةِ .
وَنَظَرَ آخَرُونَ إلَى أَنَّ الْبَيْعَ إذَا فُسِخَ بَعْدَ الْفَوْتِ يَكُونُ فِيهِ غَبْنٌ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا عُقُوبَةَ فِي الْأَمْوَالِ .
وَكَذَلِكَ إذَا كَمُلَ أَمَدُ الْبَانِي فَأَيُّ حُجَّةٍ لَهُ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبُنْيَانَ إلَى أَمَدٍ ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْعَرْصَةِ سَيَحْتَاجُ إلَى عَرْصَتِهِ لِمِثْلِ مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْبِنَاءِ أَوْ لِغَيْرِهِ ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَلْزَمَهُ إخْلَاؤُهَا مِمَّا شَغَلَهَا بِهِ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا حُقُوقٌ مُرْتَبِطَةٌ بِحَقَائِقَ وَأَدِلَّةٍ تَتَّفِقُ تَارَةً وَتَفْتَرِقُ أُخْرَى

، وَتَتَبَايَنُ تَارَةً وَتَتَمَاثَلُ أُخْرَى .
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : حَقِيقَةُ الِاسْتِوَاءِ : الِاسْتِمْرَارُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمِثْلُهُ الِاسْتِقَامَةُ ، وَضِدُّهُ الِاعْوِجَاجُ ، وَذَلِكَ يَتَصَرَّفُ إلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : الِاسْتِوَاءُ فِي الْمِقْدَارِ ، وَلَا يَتَسَاوَى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ مِقْدَارًا فِي الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ أَوْزَنُ دُنْيَا وَالطَّيِّبُ أَوْزَنُ أُخْرَى .
الثَّانِي : الِاسْتِوَاءُ فِي الْمَكَانِ ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ فِي النَّارِ وَالطَّيِّبَ فِي الْجَنَّةِ .
الثَّالِثُ : الِاسْتِوَاءُ فِي الذَّهَابِ ، وَلَا يَتَسَاوَيَانِ أَيْضًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخَبِيثَ يَأْخُذُ جِهَةَ الشِّمَالِ وَالطَّيِّبَ يَأْخُذُ فِي جِهَةِ الْيَمِينِ .
الرَّابِعُ : الِاسْتِوَاءُ فِي الْإِنْفَاقِ ، وَلَا يَسْتَوِيَانِ أَيْضًا فِيهِ ؛ لِأَنَّ مُنْفِقَ الْخَبِيثِ يَعُودُ عَلَيْهِ الْخُسْرَانُ فِي الدَّارَيْنِ ، وَمُنْفِقَ الطَّيِّبِ يَرْبَحُ فِي الدَّارَيْنِ .
أَمَّا خُسْرَانُ الْأَوَّلِ فَنَقْصُ مَالِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَنَقْصُ مَالِهِ فِي الْآخِرَةِ ؛ وَرَبِحَ مُنْفِقُ الطَّيِّبِ فِي الدُّنْيَا حُسْنُ النِّيَّةِ وَصِدْقُ الرَّجَاءِ فِي الْعِوَضِ ، وَرِبْحُهُ فِي الْآخِرَةِ ثِقَلُ الْمِيزَانِ .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاَللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ : { خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً مَا سَمِعْنَا مِثْلَهَا .
قَالَ : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا .
قَالَ : فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُجُوهَهُمْ ، وَلَهُمْ حُنَيْنٌ .
فَقَالَ رَجُلٌ : مَنْ أَبِي ؟ فَقَالَ : أَبُوك فُلَانٌ } ، فَنَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } .
الثَّانِي : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِهْزَاءً ، فَيَقُولُ الرَّجُلُ : مَنْ أَبِي ؟ وَيَقُولُ الرَّجُلُ : تَضِلُّ نَاقَتُهُ : أَيْنَ نَاقَتِي } ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } .
الثَّالِثُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفِي كُلِّ عَامٍ ؟ قَالَ : لَا .
وَلَوْ قُلْت : نَعَمْ لَوَجَبَتْ } .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بَعْضُهُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبَحِيرَةِ ، وَالسَّائِبَةِ ، وَالْوَصِيلَةِ ، وَالْحَامِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } : هَذَا الْمَسَاقُ يُعَضِّدُ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّ سَبَبَهَا سُؤَالُ ذَلِكَ الرَّجُلِ : مَنْ أَبِي ؟ لِأَنَّهُ لَوْ كَشَفَ لَهُ عَنْ سِرِّ أُمِّهِ رُبَّمَا كَانَتْ قَدْ بَغَتْ عَلَيْهِ فَيَلْحَقُ الْعَارُ بِهِمْ .
وَلِذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ السَّائِلِ قَالَتْ لَهُ : يَا بُنَيَّ ؛ أَرَأَيْت أُمَّك لَوْ قَارَفْت بَعْضَ مَا كَانَ يُقَارِفُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، أَكُنْت تَفْضَحُهَا ؟ فَكَانَ السَّتْرُ أَفْضَلَ .
وَيُعَضِّدُهُ أَيْضًا رِوَايَةُ مَنْ رَوَى عَنْ تَفْسِيرِ فَرْضِ الْحَجِّ ؛ فَإِنَّ تَكْرَارَهُ مُسْتَثْنًى لِعَظِيمِ الْمَشَقَّةِ فِيهِ ، وَعَظِيمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ أَمَرَكُمْ بِأَشْيَاءَ فَامْتَثِلُوهَا ، وَنَهَاكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ فَاجْتَنِبُوهَا ، وَسَكَتَ لَكُمْ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً مِنْهُ ، فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهَا } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } : وَهَذَا يَشْهَدُ لِكَوْنِهَا مِنْ بَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي لَا يُبَيِّنُهُ إلَّا نُزُولُ الْقُرْآنِ ، وَجَعَلَ نُزُولَ الْقُرْآنِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْجَوَابِ ؛ إذْ لَا شَرْعَ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَقِّقُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أَيْ أَسْقَطَهَا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي يَسْقُطُ لِعَدَمِ بَيَانِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهِ وَسُكُوتِهِ عَنْهُ هُوَ بَابُ التَّكْلِيفِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ، فَيُحَرِّمُ عَالِمٌ ، وَيُحِلُّ آخَرُ ، وَيُوجِبُ مُجْتَهِدٌ .
وَيُسْقِطُ آخَرُ ؛ وَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ رَحْمَةٌ لِلْخَلْقِ ، وَفُسْحَةٌ فِي الْحَقِّ ، وَطَرِيقٌ مَهْيَعٌ إلَى الرِّفْقِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَوْمُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَائِدَةِ .
الثَّانِي : قَوْمُ صَالِحٍ فِي النَّاقَةِ .
الثَّالِثُ : قُرَيْشٌ فِي الصَّفَا ذَهَبًا .
الرَّابِعُ : بَنُو إسْرَائِيلَ ، كَانَتْ تَسْأَلُ : فَإِذَا عَرَفْت بِالْحُكْمِ لَمْ تُقِرَّ وَلَمْ تَمْتَثِلْ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي الْكُلِّ ، وَلَقَدْ كَفَرَتْ الْعِيسَوِيَّةُ بِعِيسَى وَبِالْمَائِدَةِ ، وَالصَّالِحِيَّةِ بِالنَّاقَةِ ، وَالْمَكِّيَّةِ بِكُلِّ مَا شَهِدَتْ مِنْ آيَةٍ ، وَعَايَنَتْ مِنْ مُعْجِزَةٍ مِمَّا سَأَلَتْهُ وَمِمَّا لَمْ تَسْأَلْهُ عَلَى كَثْرَتِهَا ؛ وَهَذَا تَحْذِيرٌ مِمَّا وَقَعَ فِيهِ مَنْ سَبَقَ مِنْ الْأُمَمِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اعْتَقَدَ قَوْمٌ مِنْ الْغَافِلِينَ تَحْرِيمَ أَسْئِلَةِ النَّوَازِلِ حَتَّى تَقَعَ تَعَلُّقًا بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَهُوَ جَهْلٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ قَدْ صَرَّحَتْ بِأَنَّ السُّؤَالَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إنَّمَا كَانَ فِيمَا تَقَعُ الْمَسَاءَةُ فِي جَوَابِهِ ، وَلَا مَسَاءَةَ فِي جَوَابِ نَوَازِلِ الْوَقْتِ ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ يَكْرَهُهَا أَيْضًا ، وَيَقُولُ فِيمَا يَسْأَلُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ : دَعُوهُ دَعُوهُ حَتَّى يَقَعَ ، يُرِيدُ : فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حِينَئِذٍ يُعِينُ عَلَى جَوَابِهِ ، وَيَفْتَحُ إلَى الصَّوَابِ مَا اسْتَبْهَمَ مِنْ بَابِهِ ؛ وَتَعَاطِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ غُلُوٌّ فِي الْقَصْدِ ، وَسَرَفٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِ ؛ وَقَدْ وَقَفَ أَعْرَابِيٌّ عَلَى رَبِيعَةِ الرَّأْيِ وَهُوَ يُفَرِّعُ الْمَسَائِلَ ، فَقَالَ : مَا الْعِيُّ عِنْدَنَا إلَّا مَا هَذَا فِيهِ مُنْذُ الْيَوْمِ .
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْتَنِيَ بِبَسْطِ الْأَدِلَّةِ ، وَإِيضَاحِ سُبُلِ النَّظَرِ ، وَتَحْصِيلِ مُقَدَّمَاتِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِعْدَادِ الْآلَةِ الْمُعِينَةِ عَلَى الِاسْتِمْدَادِ ؛ فَإِذَا عَرَضَتْ النَّازِلَةُ أَتَيْت مِنْ بَابِهَا ، وَنُشِدَتْ فِي مَظَانِّهَا ، وَاَللَّهُ يَفْتَحُ فِي صَوَابِهَا .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَهُمْ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي ثَلَاثَةِ فُصُولٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ : إنَّ قَوْلَهُ : { لَا تَسْأَلُوا } إلَى قَوْلِهِ : { تَسُؤْكُمْ } سُؤَالٌ عَمَّا لَا يَعْنِي ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ سُؤَالٌ عَمَّا يَضُرُّ وَيَسُوءُ ، فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ شَيْءٍ يَضُرُّ .
وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَمَّا لَا يَعْنِي .
وَهَذَا بَيِّنٌ .
الثَّانِي : قَالَ : قَوْلُهُ : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } يَعْنِي : وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْ غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَهَاهُمْ فَكَيْفَ يَنْهَاهُمْ وَيَقُولُ : إنَّهُ يُبَيِّنُ لَهُمْ إنْ سَأَلُوهُ عَنْهَا .
وَهَذَا اسْتِبْعَادٌ مَحْضٌ عَارٍ عَنْ الْبُرْهَانِ ؛ وَأَيُّ فَرْقٍ أَوْ أَيُّ اسْتِحَالَةٍ فِي أَنْ يُقَالَ : لَا تَسْأَلْ ، فَإِنَّك إنْ سَأَلْت يُبَيِّنُ لَك مَا يَسُوءُك ، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِك ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَفَا عَنْهَا لَك .
الثَّالِثُ : قَوْلُهُ : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ } : قَالَ : فَهَذَا السُّؤَالُ لِغَيْرِ الشَّيْءِ ، وَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي هُوَ سُؤَالٌ عَنْ غَيْرِ الشَّيْءِ ، وَهَذَا كَلَامٌ فَاتِرٌ ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ ضِدُّهُ حِينَ قَالَ : إنَّ السُّؤَالَ الثَّانِيَ هُوَ سُؤَالٌ عَنْ الشَّيْءِ ، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ بَلَاغٌ فِي الْآيَةِ ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { جَعَلَ } : وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْسِيمُهُ وَتَفْسِيرُهُ ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ هَاهُنَا : مَا سَمَّى اللَّهُ ذَلِكَ حُكْمًا وَلَا يُعْتَدُّ بِهِ شَرْعًا ، بَيْدَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ عِلْمًا ، وَأَوْجَدَهُ بِقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ خَلْقًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ الْمُسَمَّيَاتِ فِيهَا لُغَةٌ : فَالْبَحِيرَةُ ، هِيَ : النَّاقَةُ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنُ لُغَةً ، يُقَالُ : بَحَرْت أُذُنَ النَّاقَةِ أَيْ شَقَقْتهَا .
وَالسَّائِبَةُ ، هِيَ : الْمُخَلَّاةُ لَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ لَهَا .
وَالْوَصِيلَةُ فِي الْغَنَمِ : كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا وَلَدَتْ الشَّاةُ أُنْثَى كَانَتْ لَهُمْ ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا كَانَتْ لِآلِهَتِهِمْ ، وَإِنْ وَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى قَالُوا : وَصَلَتْ أَخَاهَا ، فَكَانَ الْكُلُّ لِلْآلِهَةِ ، وَلَمْ يَذْبَحُوا الذَّكَرَ .
وَالْحَامِي : كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا نَتَجَتْ مِنْ صُلْبِ الْفَحْلِ عَشَرَةُ أَبْطُنٍ قَالُوا : حَمَى ظَهْرَهُ فَسَيَّبُوهُ لَا يُرْكَبُ وَلَا يُهَاجُ .
وَلِهَذِهِ الْآيَةِ تَفْسِيرٌ طَوِيلٌ بِاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ يَرْجِعُ إلَى مَا أَوْضَحَهُ مَالِكٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْتِقُونَ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ يُسَيِّبُونَهَا ، فَأَمَّا الْحَامِي فَمِنْ الْإِبِلِ ؛ كَانَ الْفَحْلُ إذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ مِنْ رِيشِ الطَّوَاوِيسِ وَسَيَّبُوهُ .
وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ فَمِنْ الْغَنَمِ وَلَدَتْ أُنْثَى بَعْدَ أُنْثَى سَيَّبُوهَا .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَوَّلُ مَنْ نَصَبَ النُّصُبَ ، وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ ، وَغَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ ؛ وَلَقَدْ رَأَيْته يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ ، يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِهِ } .
قَالَ : وَأَوَّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحَائِرَ { رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ عَمَدَ إلَى نَاقَتَيْنِ لَهُ ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا ، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا وَظُهُورَهُمَا ، ثُمَّ احْتَاجَ إلَيْهِمَا ، فَشَرِبَ أَلْبَانَهُمَا ، وَرَكِبَ ظُهُورَهُمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ رَأَيْتهمَا فِي النَّارِ يَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا وَيَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا } .
وَنَحْوُهُ عَلِيُّ بْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ

: " لَقَدْ رَأَيْته يُؤْذِي أَهْلَ النَّارِ بِرِيحِهِ " وَلَمْ يَزِدْ .
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : السَّوَائِبُ الْغَنَمُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ .
وَالسَّائِبَةُ هِيَ النَّاقَةُ إذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشْرِ إنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ لَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا ، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرَهَا ، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقَّتْ أُذُنُهَا ، وَخُلِّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمِّهَا ، فَلَمْ يَرْكَبْ ظَهْرَهَا ، وَلَمْ يَجُزَّ وَبَرَهَا ، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنَهَا إلَّا ضَيْفٌ ، كَمَا فُعِلَ بِأُمِّهَا ؛ فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السَّائِبَةِ .
وَالْوَصِيلَةُ : الشَّاةُ إذَا أَتَأَمَّتْ عَشْرَ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ جُعِلَتْ وَصِيلَةً ، قَالُوا : قَدْ وُصِلَتْ ، فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذُّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ الْإِنَاثِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَشْتَرِكُونَ فِي أَكْلِهِ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ .
وَرُوِيَ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إِسْحَاقَ : فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِذُكُورِهِمْ دُونَ إنَاثِهِمْ .
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : وَالْحَامِي الْفَحْلُ إذَا نَتَجَ لَهُ عَشْرُ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ حُمِيَ ظَهْرُهُ ، فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهُ ، وَلَمْ يُجَزَّ وَبَرُهُ ، وَخُلِّيَ فِي إبِلِهِ يَضْرِبُ ، لَا يُنْتَفَعُ مِنْهُ بِشَيْءٍ بِغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْبَحِيرَةُ النَّاقَةُ .
وَالْوَصِيلَةُ الشَّاةُ .
وَالْحَامِي الْفَحْلُ .
وَسَائِبَةٌ يَقُولُ يُسَيِّبُونَهَا لِأَصْنَامِهِمْ .
وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ .
قَالَ : فَسَأَلْته عَمَّنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنْ النَّاسِ .
قَالَ : هَلَكُوا } .
وَرُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نَصْبِ الْأَوْثَانِ وَتَغْيِيرِ دِينِ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الشَّامِ ، فَلَمَّا قَدِمَ مَأْرِبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ؛ وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ أَوْلَادُ عِمْلِيقَ ، وَيُقَالُ عِمْلَاقُ بْنُ

لَاوِذْ بْنُ سَامِ بْنُ نُوحٍ ، رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ ، فَقَالَ لَهُمْ : مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ الَّتِي أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا : هَذِهِ أَصْنَامٌ نَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا ، وَنَسْتَنْصِرُنَا فَتَنْصُرُهَا .
فَقَالَ لَهُمْ : أَفَلَا تُعْطُونِي مِنْهَا صَنَمًا أَسِيرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ فَيَعْبُدُوهُ ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ هُبَلُ .
فَقَدِمَ بِهِ مَكَّةَ فَنَصَبَهُ ، وَأَخَذَ النَّاسُ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَقِّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بِزَعْمِهِمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِرِضَا رَبِّهِمْ وَفِي طَاعَتِهِ ، وَطَاعَةُ اللَّهِ وَرِضَاهُ إنَّمَا تُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ لِلَّهِ بِذَلِكَ قَوْلٌ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَفْتَرُونَهُ عَلَى اللَّهِ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } .
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ اللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنْ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمِنْ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }

.
وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ : { وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ : { رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنَ قَمْعَةَ بْنَ خِنْدِفٍ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ ، فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْك بِهِ وَلَا بِهِ مِنْك .
فَقَالَ أَكْثَمُ : أَخْشَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : لَا ؛ لَأَنَّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ ؛ إنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ ، وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ ، وَحَمَى الْحَامِيَ } .
وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَوْنُ بْنُ مَالِكٍ بْنُ نَضْلَةَ الْجُشَمِيُّ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّهُ وَفَدَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَرَبُّ إبِلٍ أَنْتَ أَمْ رَبُّ غَنَمٍ ؟ فَقَالَ : مِنْ كُلِّ الْمَالِ آتَانِي اللَّهُ فَأَكْثَرَ وَأَطْيَبَ .
فَقَالَ : هَلْ تُنْتِجُ إبِلُك صِحَاحًا آذَانُهَا فَتَعْمِدَ إلَى الْمَوَاسِي فَتَقْطَعَ آذَانَهَا ، فَتَقُولَ : هَذِهِ بُحُرٌ .
وَتَشُقُّ جُلُودَهَا ، فَتَقُولَ : هَذِهِ صُرُمٌ ، فَتُحَرِّمُهَا عَلَيْك وَعَلَى أَهْلِك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحَلَّ لَك مَا آتَاك ، وَمُوسَى اللَّهِ أَحَدُّ ، وَسَاعِدُ اللَّهِ أَشَدُّ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْعَرَبَ عَلَى مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ تَحْذِيرًا لِلْأُمَّةِ عَنْ الْوُقُوعِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ الْبَاطِلِ ، وَلَزِمَهُمْ الِانْقِيَادُ إلَى مَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، دُونَ التَّعَلُّقِ بِمَا كَانَ يُلْقِيهِ إلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : سَمِعْت الشَّافِعِيَّ يَقُولُ : قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : الْحَبْسُ الَّذِي جَاءَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِهَا الَّتِي فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ } .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا الَّذِي كَلَّمَ بِهِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَبَا يُوسُفَ عِنْدَ هَارُونَ .
وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ أَبَا يُوسُفَ خَالَفَ مَالِكًا فِي الْأَحْبَاسِ ، وَرَأَى رَأْيَ شَيْخِهِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْحَبْسَ بَاطِلٌ .
وَرَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ : حَضَرْت مَالِكًا وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عَنْ صَدَقَةِ الْحَبْسِ ، فَقَالَ : إذَا حِيزَتْ مَضَتْ .
قَالَ الْعِرَاقِيُّ : إنَّ شُرَيْحًا قَالَ : لَا حَبْسَ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ .
فَضَحِكَ مَالِكٌ ، وَكَانَ قَلِيلَ الضَّحِكِ ، وَقَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ شُرَيْحًا لَوْ دَرَى مَا صَنَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مَالِكًا قَالَ لَهُ أَبُو يُوسُفَ بِحَضْرَةِ الرَّشِيدِ : إنَّ الْحَبْسَ لَا يَجُوزُ .
فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ : فَهَذِهِ الْأَحْبَاسُ أَحْبَاسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ وَفَدَكَ وَأَحْبَاسُ أَصْحَابِهِ ؟ فَأَمَّا { حَظُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ } .
وَأَمَّا أَصْحَابُهُ : فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَعُثْمَانَ ، وَعَلِيٍّ ، وَطَلْحَةَ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَعَائِشَةَ ، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ ، وَرَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ ، وَخَالِدَ بْنَ

الْوَلِيدِ ، وَجَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ، وَابْنَ عُمَرَ ، وَأُمَّ سَلَمَةَ ، وَحَفْصَةَ ، وَقَدْ رَوَى حَدِيثَ عُمَرَ جَمَاعَةٌ ، قَالُوا : { إنَّ عُمَرَ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي أَصَبْت مَالًا بِخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ قَطُّ مَالًا أَنْفَسَ مِنْهُ يَعْنِي بِسَمْعٍ ، وَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : احْبِسْ الْأَصْلَ وَسَبِّلْ الثَّمَرَاتِ } .
وَأَشَارَ بِهِ إلَى الصَّدَقَةِ الدَّائِمَةِ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ صَدَقَةً فَبِيعَ لَانْقَطَعَ أَجْرُهُ فِي الْحَبْسِ ؛ وَكَتَبَ عُمَرُ فِي شَرْطِهِ : " هَذَا مَا تَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَدَقَةً لَا تُبَاعُ وَلَا تُورَثُ وَلَا تُوهَبُ ، لِلْفُقَرَاءِ ، وَالْقُرْبَى ، وَالرِّقَابِ ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالضَّيْفِ ، وَابْنِ السَّبِيلِ ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأَثِّلٍ مَالًا " .
وَجَاءَ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ هَذِهِ أُمَّهَاتُهَا .
وَتَعَلَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَابَ عَلَى الْعَرَبِ مَا كَانَتْ تَفْعَلُ مِنْ تَسْيِيبِ الْبَهَائِمِ وَحِمَايَتِهَا وَحَبْسِ أَنْفُسِهَا عَنْهَا .
وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَرَّفُوا بِعُقُولِهِمْ بِغَيْرِ شَرْعٍ تَوَجَّهَ إلَيْهِمْ ، أَوْ تَكْلِيفٍ فُرِضَ عَلَيْهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا عَابَ عَلَيْهِمْ أَنْ نَقَلُوا الْمِلْكَ إلَى غَيْرِ مَالِكٍ ، وَالْمِلْكُ قَدْ عَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمْوَالِ ، وَجَعَلَ الْأَيْدِي تَتَبَادَلُ فِيهِ بِوُجُوهٍ شَرْعِيَّةٍ ، أَوْ تَبْطُلُ فِي الْأَعْيَانِ بِمَعَانٍ قَرِيبَةٍ ، كَالْعِتْقِ وَالْهَدْيِ ؛ فَأَمَّا هَذِهِ الطَّرِيقُ فَبِدْعَةٌ .
قُلْنَا : بَلْ سُنَّةٌ كَمَا تَقَدَّمَ .
جَوَابٌ ثَانٍ : وَذَلِكَ أَنَّ الْحَبْسَ عِنْدَنَا لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ ؛ بَلْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِ مَالِكِهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْحَبْسُ فِي الْغَلَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي يُنْقَلُ الْمِلْكُ إلَى الْمَحْبُوسِ

عَلَيْهِ وَهُوَ مَالِكٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا كَانَ يَصِحُّ هَذَا لَوْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ ، فَأَمَّا الْمَجْهُولُ وَالْمَعْدُومُ فَلَا يَنْتَقِلُ الْمِلْكُ إلَيْهِ .
قُلْنَا : هَذَا يَبْطُلُ بِأَرْبَعَةِ مَسَائِلَ : الْأُولَى الْمَسْجِدُ .
الثَّانِيَةُ الْمَقْبَرَةُ .
الثَّالِثَةُ الْقَنْطَرَةُ ، قَالُوا يَصِحُّ هَذَا ، وَهُوَ حَبْسٌ عَلَى مَعْدُومٍ وَمَجْهُولٍ [ وَهُوَ الرَّابِعُ ] .
جَوَابٌ خَامِسٌ : وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ ؛ فَقَالَ : إذَا أَوْصَى بِالْحَبْسِ جَازَ ، وَهَذِهِ الْمُنَاقَضَاتُ الْخَمْسُ لَا جَوَابَ لَهُ عَنْهَا إلَّا وَيَنْعَكِسُ عَلَيْهِمْ فِي مَسْأَلَتِنَا ، وَلَهُمْ آثَارٌ لَمْ نَرْضَ ذِكْرَهَا لِبُطْلَانِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي عِتْقِ السَّائِبَةٍ : قَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ : أَكْرَهُ عِتْقَ السَّائِبَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَهِبَةِ الْوَلَاءِ .
وَقَالَ عِيسَى : أَكْرَهُهُ وَأَنْهَى عَنْهُ .
قَالَ سَحْنُونٌ : لَا يُعْجِبُنَا كَرَاهِيَتُهُ لَهُ ، وَهُوَ جَائِزٌ ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتِقَ عَنْ غَيْرِهِ يُرِيدَانِ : وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ هِبَةً لِلْوَلَاءِ ، كَذَلِكَ فِي السَّائِبَةِ ، وَهَذَا الَّذِي قَالَاهُ صَحِيحٌ عَلَى تَعْلِيلِهِ .
وَأَمَّا لَوْ عَلَّلَ الْكَرَاهَةَ بِأَنَّهَا لَفْظَةٌ مَذْمُومَةٌ شَرْعًا ، فَلَا يَتَقَرَّبُ بِهَا ؛ إذْ لَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ أَلْفَاظِ الْعِتْقِ فِي كِنَايَاتِهِ وَصَرَائِحِهِ مَنْدُوحَةٌ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ ، وَتَبَيَّنَتْ الْمَسْأَلَةُ ؛ وَبِالْكَرَاهَةِ أَقُولُ لِلْمَعْنَى الَّذِي نَبَّهْت عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَصْوِيرِهِ : وَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِلْعَبْدِ : أَنْتَ سَائِبَةٌ ، وَيَنْوِيَ الْعِتْقَ .
أَوْ يَقُولَ : أُعْتِقُك سَائِبَةً .
فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ ، وَابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَمُطَرِّفٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : وَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِهِ ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَابْنُ نَافِعٍ ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ .
وَجْهُ الْأَوَّلِ : أَنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي أَنْ يَزُولَ عَنْهُ الْمِلْكُ وَالْيَدُ وَيَبْقَى كَالْجَمَلِ الْمُسَيَّبِ الَّذِي لَا يُعْرَضُ لَهُ ، وَلَوْ تَبَيَّنَ الْوَلَاءُ لِأَحَدٍ لَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا الْمَعْنَى .
وَوَجْهُ الثَّانِي وَبِهِ أَقُولُ : إنَّهُ لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يُعْتَقْ عَنْ مُعَيَّنٍ ، فَلَا يَخْرُجُ الْوَلَاءُ عَنْهُ ، كَمَا لَوْ أَطْلَقَ الْعِتْقَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } : وَهَذَا عَامٌّ فِيهِمْ ، لَكِنْ افْتِرَاؤُهُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُمْ : افْتِرَاءُ مُعَانِدٍ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ وَزُورٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ ، وَهُمْ الْأَتْبَاعُ لِرُؤَسَائِهِمْ وَأَهْلُ الْغَفْلَةِ مِنْهُمْ ، وَهُمْ الْأَكْثَرُ ؛ وَالْعَذَابُ يُشْرِكُهُمْ وَيَعُمُّهُمْ ، وَالْعِنَادُ أَعْظَمُ عَذَابًا .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ارْتِبَاطُهَا بِمَا قَبْلَهَا : وَذَلِكَ بَيِّنٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ جَهَالَةِ الْعَرَبِ فِيمَا تَحَكَّمَتْ فِيهِ بِآرَائِهَا السَّقِيمَةِ فِي الْبَحَائِرِ وَالسَّوَائِبِ وَالْحَوَامِي ، وَاحْتِجَاجُهُمْ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ أَمْرٌ وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ ؛ فَاتَّبَعُوهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَتَرَكُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَأَمَرَ بِهِ مِنْ دِينِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعُقُولَ لَا حُكْمَ لَهَا بِتَحْسِينٍ وَلَا تَقْبِيحٍ ، وَلَا تَحْلِيلٍ وَلَا تَحْرِيمٍ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى الشَّرْعِ ؛ إذْ الْعُقُولُ لَا تَهْتَدِي إلَى الْمَنَافِعِ الَّتِي تُرْشِدُ مِنْ ضَلَالِ الْخَوَاطِرِ ، وَتُنْجِي مِنْ أَهْوَالِ الْآخِرَةِ بِمَا لَا يَهْتَدِي الْعَقْلُ إلَى تَفْصِيلِهِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِهِ ، فَكَيْفَ إنْ تَغَيَّرَ مَا مَهَّدَهُ الشَّرْعُ ، وَتَبَدَّلَ مَا سَنَّهُ وَأَوْضَحَهُ ، وَذَلِكَ [ كُلُّهُ ] مِنْ غُرُورِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ وَتَحَكُّمِهِ عَلَى الْخَلْقِ بِالْوَعْدِ الصَّادِقِ : لَأَجْلِبَنَّ عَلَيْهِمْ وَلِأُشَارِكَنهُمْ وَلَأَعِدَنَّهُمْ .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِك وَرَجْلِك وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا } .
.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : تَعَلَّقَ قَوْمٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي ذَمِّ التَّقْلِيدِ ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَمَّ الْكُفَّارِ بِاتِّبَاعِهِمْ لِآبَائِهِمْ بِالْبَاطِلِ ، وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِمْ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْقُرْآنِ .
وَأَكَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَا فَسَّرْنَاهُ فِي الْبَاطِلِ .
فَأَمَّا التَّقْلِيدُ فِي الْحَقِّ فَأَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ ، وَعِصْمَةٌ مِنْ عِصَمِ الْمُسْلِمِينَ يَلْجَأُ إلَيْهَا الْجَاهِلُ الْمُقَصِّرُ عَنْ دَرْكِ النَّظَرِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ ، فَأَمَّا جَوَازُهُ ، بَلْ وُجُوبُهُ ، فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ فَصَحِيحٌ ، وَهُوَ قَبُولُ قَوْلِ الْعَالِمِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِدَلِيلِهِ ؛ وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يُقَالَ : إنَّا نُقَلِّدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ ، وَأَصْلٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ، وَهُوَ الْمُعْجِزَةُ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِهِ مُوَافِقَةً لِدَعْوَاهُ ، وَدَالَّةً عَلَى صِدْقِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَ التَّقْلِيدِ وَوَجْهَهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
لِبَابِهِ : أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْعَامِّيِّ إذَا نَزَلَتْ بِهِ نَازِلَةٌ أَنْ يَقْصِدَ أَعْلَمَ مَنْ فِي زَمَانِهِ وَبَلَدِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْ نَازِلَتِهِ ، فَيَمْتَثِلُ فِيهَا فَتْوَاهُ ، وَعَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ فِي مَعْرِفَةِ [ أَعْلَمَ ] أَهْلِ وَقْتِهِ بِالْبَحْثِ عَنْ ذَلِكَ ، حَتَّى يَتَّصِلَ لَهُ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ وَيَقَعُ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ مِنْ الْأَكْثَرِ مِنْ النَّاسِ .
وَعَلَى الْعَالِمِ أَيْضًا فَرْضُ أَنْ يُقَلِّدَ عَالِمًا مِثْلَهُ فِي نَازِلَةٍ خَفِيَ عَلَيْهِ فِيهَا وَجْهُ الدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ ، وَأَرَادَ أَنْ يُرَدِّدَ فِيهَا الْفِكْرَ ، حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْمَطْلُوبِ ؛ فَضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ ذَلِكَ ، وَخِيفَ عَلَى الْعِبَادَةِ أَنْ تَفُوتَ ، أَوْ عَلَى الْحُكْمِ أَنْ يَذْهَبَ فِي تَفْصِيلٍ طَوِيلٍ ، وَاخْتِلَافٍ كَثِيرٍ ، عَوَّلُوا مِنْهُ عَلَى مَا أَشَرْنَا لَكُمْ إلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } : هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأَدِلَّةَ وَالِاحْتِجَاجَاتِ لَا تَكُونُ بِمُحْتَمَلٍ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ الِاتِّبَاعُ فِيهَا بِمَا خَرَجَ مِنْ الِاحْتِمَالِ ، وَوَجَبَتْ لَهُ الصِّحَّةُ فِي طُرُقِ الِاسْتِدْلَالِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ : وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ، فَنَحْنُ نَقْتَدِي بِهِمْ فِي أَفْعَالِهِمْ ، وَنَمْتَثِلُ مَا شَاهَدْنَاهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُمْ أَنَّ آبَاءَهُمْ بِالْهُدَى عَامِلُونَ ، وَعَنْ غَيْرِ الْحَقِّ مَعْصُومُونَ ، وَنَسُوا أَنَّ الْبَاطِلَ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ ، وَالْخَطَأَ وَالْجَهْلَ لَاحِقٌ بِهِمْ ؛ فَبَطَلَ وَجْهُ الْحُجَّةِ فِيهِ ، وَوَضَحَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلِ بِشُرُوطِهِ حَسْبَمَا قَرَرْنَاهُ مِنْ شُرُوطِ الْأَدِلَّةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .

قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ إلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَرِيبَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ لَيْسَ لَهَا أُخْتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَذَلِكَ أَنَّهَا آيَةٌ يَنْسَخُ آخِرُهَا أَوَّلَهَا ؛ نَسَخَ قَوْلُهُ : { إذَا اهْتَدَيْتُمْ } قَوْلَهُ : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } .
وَقَدْ حَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ النَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ ، فَالْحَظُوهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْلَمُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَتَأَوَّلُونَهَا عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } .
وَإِنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ .
وَرَوَى { أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ قَالَ : أَتَيْت أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ ، فَقُلْت لَهُ : كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؟ فَقَالَ : أَيَّةُ آيَةٍ ؟ قُلْت : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؛ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا خَبِيرًا ، سَأَلْت عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : بَلْ ائْتَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ، وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ، حَتَّى إذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا ، وَهَوًى مُتَّبَعًا ، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً ، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسِك ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ ؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا ، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا ، يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ } الْحَدِيثَ إلَى

آخِرِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُصُولِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّينِ وَخِلَافَةُ الْمُسْلِمِينَ : وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاؤُنَا أَبْوَابَهُ وَمَسَائِلَهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ ، وَهِيَ مِنْ فُرُوعِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهَا فِي آيَاتٍ قَبْلَ هَذَا ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ شُرُوطِهِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْقِيَامَ بِهِ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ .
وَعَرَضْت هَذِهِ الْآيَةَ الْمُوهِمَةَ فِي ابْتِدَاءِ الْحَالِ لِمُعَارَضَتِهَا لِمَا تَقَدَّمَ ، أَوْ لِمَا يَتَأَخَّرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْآيَاتِ الْمُؤَكِّدَةِ لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَعِنْدَ سَدَادِ النَّظَرِ وَانْتِهَائِهِ إلَى الْغَايَةِ يَتَبَيَّنُ الْمَطْلُوبُ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } .
وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ وَاقِعٌ بِهِمْ لِأَجْلِ سُكُوتِهِمْ عَنْ الْمُنْكَرِ الْمَفْعُولِ ، وَالْمَعْرُوفِ الْمَتْرُوكِ ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مُخَاطَبَةِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، وَأَنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى تَرْكِهَا ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ آنِفًا بِقَوْلِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ } .
وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ بِيَقِينِ الْأَمْنِ مِنْ الضَّرَرِ عِنْدَ الْقِيَامِ بِهِ ؛ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ : { فَإِذَا رَأَيْت شُحًّا مُطَاعًا ، وَهَوًى مُتَّبَعًا ، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً ، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْك بِخَاصَّةِ نَفْسِك ، وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ } .
وَذَلِكَ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ عَلَى مُعَارَضَةِ الْخَلْقِ ، وَالْخَوْفِ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ مِنْ الْقِيَامِ بِالْحَقِّ .
وَتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَسَّرَهَا عَلَيْنَا ، وَفَضْلُهُ الْعَمِيمُ آتَانَاهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ

الْعَمَلِ فِيهِ وَالِاخْتِلَافَ عَلَيْهِ .
وَيَعْضُدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِلِسَانِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَلْيُغَيِّرْهُ بِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى حَدَّثَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَصْعَدَ الْمِنْبَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي خُطْبَةِ الْعِيدَيْنِ ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ : ذَهَبَ مَا كُنْت تَعْلَمُ .
فَسَكَتَ أَبُو سَعِيدٍ ، وَذَكَرَ نَحْوَ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ ؛ إذْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مُخَالَفَةِ الْمَلِكِ ، وَلَا اسْتَطَاعَ مُنَازَعَةَ الْإِمَارَةِ ، وَسَكَتَ .
فَإِنْ قِيلَ : لِمَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ النَّاسِ ، وَلِمَ يَحْضُرُ بِدْعَةً ، وَيُقِيمُ سُنَّةً مُبْدَلَةً ؟ قُلْنَا : فِي الْجَوَابِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا قَالَ عُثْمَانُ ، حِينَ قِيلَ لَهُ إنَّهُ يُصَلِّي لَنَا إمَامُ فِتْنَةٍ .
قَالَ : " الصَّلَاةُ أَحْسَنُ مَا يَفْعَلُ النَّاسُ ؛ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ ، وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إسَاءَتَهُمْ " .
الثَّانِي : أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ لَمْ يَسْتَطِعْ الْخُرُوجَ ؛ فَإِنَّ الْمَوْضِعَ كَانَ مُحَاطًا بِهِ مِنْ الْحَرَسِ مَشْحُونًا بِحَاشِيَةِ مَرْوَانَ ، يَحْفَظُونَ أَعْمَالَ النَّاسِ ، وَيَلْحَظُونَ حَرَكَاتِهِمْ ، فَلَوْ خَرَجَ أَبُو سَعِيدٍ لَخَافَ أَنْ يَلْقَى هَوَانًا ، فَأَقَامَ مَعَ النَّاسِ فِي الطَّاعَةِ ، وَخَلَصَ بِنَفْسِهِ مِنْ التَّبَاعَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : تَذَاكَرْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى طَهَّرَهُ اللَّهُ مَعَ شَيْخِنَا أَبِي بَكْرٍ الْفِهْرِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ : { إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ لِلْعَامِلِ فِيهَا أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ .
فَقَالُوا : بَلْ مِنْهُمْ .
فَقَالَ : بَلْ مِنْكُمْ ؛ لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا ، وَهُمْ لَا يَجِدُونَ عَلَيْهِ أَعْوَانًا } ، وَتَفَاوَضْنَا كَيْفَ يَكُونُ أَجْرُ مَنْ يَأْتِي مِنْ الْأُمَّةِ أَضْعَافَ أَجْرِ الصَّحَابَةِ ، مَعَ أَنَّهُمْ أَسَّسُوا الْإِسْلَامَ ، وَعَضَّدُوا الدِّينَ ، وَأَقَامُوا الْمَنَارَ ، وَافْتَتَحُوا الْأَمْصَارَ ، وَحَمَوْا الْبَيْضَةَ ، وَمَهَّدُوا الْمِلَّةَ ؟ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { دَعُوا لِي أَصْحَابِي ، فَلَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } .
فَتَرَاجَعْنَا الْقَوْلَ فَكَانَ الَّذِي تَنَخَّلَ مِنْ الْقَوْلِ ، وَتَحَصَّلَ مِنْ الْمَعْنَى لُبَابًا أَوْضَحْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، الْإِشَارَةُ إلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانَ لَهُمْ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ فِيهَا مَا تَقَدَّمَ سَرْدُهُ ؛ وَذَلِكَ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ ، وَلَا يُدَانِي شَأْوَهُمْ فِيهَا بَشَرٌ ، وَالْأَعْمَالُ سِوَاهَا مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ يُسَاوِيهِمْ فِيهَا فِي الْأَجْرِ مَنْ أَخْلَصَ إخْلَاصَهُمْ ، وَخَلَّصَهَا مِنْ شَوَائِبِ الْبِدَعِ وَالرِّيَاءِ بَعْدَهُمْ ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ بَابٌ عَظِيمٌ هُوَ ابْتِدَاءُ الدِّينِ وَالْإِسْلَامِ ، وَهُوَ أَيْضًا انْتِهَاؤُهُ ؛ وَقَدْ كَانَ قَلِيلًا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ ، صَعْبَ الْمَرَامِ لِغَلَبَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْحَقِّ ، وَفِي آخِرِ الزَّمَانِ أَيْضًا يَعُودُ كَذَلِكَ بِوَعْدِ الصَّادِقِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَسَادِ الزَّمَانِ ، وَظُهُورِ الْفِتَنِ ، وَغَلَبَةِ الْبَاطِلِ ، وَاسْتِيلَاءِ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ عَلَى الْحَقِّ مِنْ الْخَلْقِ ، وَرُكُوبِ مَنْ يَأْتِي سَنَنَ مَنْ مَضَى

مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا فَلَا بُدَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحُكْمِ هَذَا الْوَعْدِ الصَّادِقِ أَنْ يَرْجِعَ الْإِسْلَامُ إلَى وَاحِدٍ كَمَا بَدَأَ مِنْ وَاحِدٍ ، وَيَضْعُفَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ ، حَتَّى إذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ مَعَ احْتِوَاشِهِ بِالْمَخَاوِفِ ، وَبَاعَ نَفْسَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الدُّعَاءِ إلَيْهِ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ أَضْعَافُ مَا كَانَ لِمَنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ ، مُعَانًا عَلَيْهِ بِكَثْرَةِ الدُّعَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ : " لِأَنَّكُمْ تَجِدُونَ عَلَى الْخَيْرِ أَعْوَانًا وَهُمْ لَا يَجِدُونَ إلَيْهِ أَعْوَانًا حَتَّى يَنْقَطِعَ ذَلِكَ انْقِطَاعًا بَاتًّا ، لِضَعْفِ الْيَقِينِ ، وَقِلَّةِ الدِّينِ " كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ اللَّهُ اللَّهُ } .
يُرْوَى بِرَفْعِ الْهَاءِ وَنَصْبِهَا مِنْ الْمَكْتُوبَةِ ، فَإِنْ رُوِيَتْ بِرَفْعِ الْهَاءِ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى مُوَحِّدٌ يَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِذَا نَصَبْت الْهَاءَ كَانَ مَعْنَاهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يَبْقَى آمِرٌ بِمَعْرُوفٍ ، وَلَا نَاهٍ عَنْ مُنْكَرٍ يَقُولُ : خَافُوا اللَّهَ ، وَحِينَئِذٍ يَتَمَنَّى الْعَاقِلُ الْمَوْتَ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ : يَا لَيْتَنِي مَكَانَهُ } .
.

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ إنْ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إنَّا إذًا لَمِنْ الْآثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إنَّا إذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } .
وَإِنَّمَا نَظَمْنَاهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ الْمُشْكِلَاتِ ، وَقَدْ عَسُرَ الْقَوْلُ فِيهَا عَلَى الْمُتَبَحِّرِينَ ، فَأَمَّا الشَّادُونَ فَالْحِجَابُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِعْزَفٌ ، وَالسَّبِيلُ الْمُوَصِّلَةُ إلَيْهَا لَا تُعْرَفُ ، وَمَا زِلْنَا مُدَّةَ الطَّلَبِ نَقْرَعُ بَابَهَا وَنَجْذِبُ حِجَابَهَا إلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا بِمَا سَرَدْنَاهُ لَكُمْ وَجَلَوْنَاهُ عَلَيْكُمْ فِي تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ لَوْ سَرَدْنَاهَا بِطُرُقِهَا ، وَسَطَرْنَاهَا بِنُصُوصِهَا ، وَكَشَفْنَا عَنْ أَحْوَالِ رُوَاتِهَا بِالتَّجْرِيحِ وَالتَّعْدِيلِ لَاتَّسَعَ الشَّرْحُ ، وَطَالَ عَلَى الْقَارِئِ الْبَرْحُ ، فَلِذَا نَذْكُرُ لَكُمْ مِنْ ذَلِكَ أَيْسَرَهُ وَوَرَدَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ أَكْثَرُهُ ، فَنَقُولُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ بَاذَانَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، { عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فِي هَذِهِ

الْآيَةِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } بَرِئَ مِنْهَا النَّاسُ غَيْرِي وَغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ يَخْتَلِفَانِ إلَى الشَّامِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ، فَأَتَيَا الشَّامَ لِتِجَارَتِهِمَا ، وَقَدِمَ عَلَيْهِمَا مَوْلًى لِبَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ بِتِجَارَتِهِ ، وَمَعَهُ جَامُ فِضَّةٍ يُرِيدُ بِهِ الْمَلِكَ ، وَهُوَ عُظْمُ تِجَارَتِهِ ، فَمَرِضَ ، فَأَوْصَى إلَيْهِمَا ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يُبَلِّغَا مَا تَرَكَ أَهْلَهُ .
قَالَ تَمِيمٌ : فَلَمَّا مَاتَ أَخَذْنَا ذَلِكَ الْجَامَ فَبِعْنَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ اقْتَسَمْنَاهَا أَنَا وَعَدِيُّ بْنُ بَدَاءَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا إلَى أَهْلِهِ دَفَعْنَا إلَيْهِمْ مَا كَانَ مَعَنَا ، وَفَقَدُوا الْجَامَ ، فَسَأَلُونَا عَنْهُ ، فَقُلْنَا : مَا تَرَكَ غَيْرَ هَذَا ، وَمَا دَفَعَ إلَيْنَا غَيْرَهُ .
قَالَ تَمِيمٌ : فَلَمَّا أَسْلَمْت بَعْدَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ تَأَثَّمْتُ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ ، فَأَخْبَرْتُهُمْ الْخَبَرَ ، وَأَدَّيْت إلَيْهِمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَأَخْبَرْتُهُمْ أَنَّ عِنْدَ صَاحِبِي مِثْلَهَا ، فَأَتَوْا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُمْ الْبَيِّنَةَ ، فَلَمْ يَجِدُوا ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ بِمَا يُقْطَعُ بِهِ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ ، فَحَلَفَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إلَى قَوْله تَعَالَى : { أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } فَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَرَجُلٌ آخَرُ فَحَلَفَا ، فَنُزِعَتْ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ } .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ ، وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِصَحِيحٍ .
وَقَدْ رُوِيَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى الِاخْتِصَارِ قَالَ : { خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ ، فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ ثُمَّ وَجَدُوا الْجَامَ بِمَكَّةَ ، فَقَالُوا : اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ عَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ وَتَمِيمٍ ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ، وَإِنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ .
قَالَ : وَفِيهِمْ نَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } } .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ ، وَكَذَلِكَ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ بِلَفْظِهِ وَالدَّارَقُطْنِيّ فَهُوَ صَحِيحٌ .
وَذَكَرَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ الْجُعْفِيُّ صَاحِبُ التَّفْسِيرِ الْكَبِيرِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ ، حَدَّثَنَا الْكَلْبِيُّ أَنَّ أَبَا صَالِحٍ حَدَّثَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : { وَأَمَّا قَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } .
قَالَ : بَلَغَنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مَوْلًى مِنْ مَوَالِي قُرَيْشٍ ، ثُمَّ لِآلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ انْطَلَقَ فِي تِجَارَةٍ نَحْوَ الشَّامِ ، وَمَعَهُ تَمِيمُ بْنُ أَوْسٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيُّ بْنُ بَدَاءَ ، وَيُرْوَى بَيْدَاءَ ، وَهُمَا نَصْرَانِيَّانِ يَوْمَئِذٍ ، فَتُوُفِّيَ الْمَوْلَى فِي مَسِيرِهِ ؛ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ كَتَبَ وَصِيَّتَهُ ثُمَّ جَعَلَهَا فِي مَالِهِ وَمَتَاعِهِ ، ثُمَّ دَفَعَهَا إلَيْهِمَا ، وَقَالَ لَهُمَا : أَبْلِغَا أَهْلِي مَالِي وَمَتَاعِي ؛ فَانْطَلَقَا لِوَجْهِهِمَا الَّذِي تَوَجَّهَا إلَيْهِ ، فَفَتَّشَا مَتَاعَ الْمَوْلَى الْمُتَوَفَّى بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَأَخَذَا مَا أَعْجَبَهُمَا مِنْهُ ، ثُمَّ رَجَعَا بِالْمَالِ وَالْمَتَاعِ الَّذِي بَقِيَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ فَدَفَعَاهُ إلَيْهِمْ ، فَلَمَّا فَتَّشَ الْقَوْمُ الْمَالَ وَالْمَتَاعَ الَّذِي بَقِيَ فَقَدُوا بَعْضَ مَا خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُمْ مَعَهُ مِنْ عِنْدِهِمْ ، فَنَظَرُوا إلَى الْوَصِيَّةِ وَهِيَ فِي الْمَتَاعِ فَوَجَدُوا الْمَالَ وَالْمَتَاعَ فِيهِمَا مُسَمًّى ، فَدَعَوْا تَمِيمًا وَصَاحِبَهُ ، فَقَالُوا لَهُمَا : هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شَيْئًا مِمَّا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ اشْتَرَى ؟ فَقَالُوا : لَا .
قَالُوا : فَهَلْ مَرِضَ فَطَالَ مَرَضُهُ فَأَنْفَقَ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ؟ قَالُوا : لَا

.
قَالُوا : فَإِنَّا نَفْقِدُ بَعْضَ الَّذِي مَضَى بِهِ صَاحِبُنَا مَعَهُ .
قَالُوا : مَا لَنَا عَمَّا مَضَى بِهِ مِنْ عِلْمٍ ، وَلَا بِمَا كَانَ فِي وَصِيَّتِهِ ؛ وَلَكِنْ دَفَعَ إلَيْنَا هَذَا الْمَالَ وَالْمَتَاعَ ، فَبَلَّغْنَاكُمُوهُ كَمَا دَفَعَهُ إلَيْنَا .
فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرُوا لَهُ الْأَمْرَ ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } إلَى { الْآثِمِينَ } فَقَامَا فَحَلَفَا عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إدْبَارَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، فَخَلَّى سَبِيلَهُمَا ، ثُمَّ طَلَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى إنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشٍ مُمَوَّهٍ بِالذَّهَبِ عِنْدَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ ، فَقَالُوا : هَذَا مِنْ آنِيَةِ صَاحِبِنَا الَّتِي مَضَى بِهَا مَعَهُ ، وَقَدْ قُلْتُمَا إنَّهُ لَمْ يَبِعْ مِنْ مَتَاعِهِ شَيْئًا ، فَقَالَا : إنَّا كُنَّا قَدْ اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ ، فَنَسِينَا أَنْ نُخْبِرَكُمْ بِهِ ؛ فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَ : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } إلَى { الْفَاسِقِينَ } فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ إنَّهُ فِي وَصِيَّتِهِ ، وَإِنَّهَا لَحَقٌّ ، وَلَقَدْ خَانَهُ تَمِيمٌ وَعَدِيٌّ .
فَأَخَذَ تَمِيمٌ وَعَدِيٌّ بِكُلِّ مَا وُجِدَ فِي الْوَصِيَّةِ لَمَّا اطَّلَعَ عِنْدَهُمَا مِنْ الْخِيَانَةِ } .
وَقَدْ ذَكَرَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حِبَّانَ عَنْ الْحَسَنِ ، وَعَنْ الضَّحَّاكِ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : { رَكِبُوا الْبَحْرَ مَعَ الْمَوْلَى بِمَالٍ مَعْلُومٍ ، وَقَدْ عَلِمَهُ أَوْلِيَاؤُهُ وَعَرَفُوهُ مِنْ بَيْنِ آنِيَةٍ وَوَرِقٍ وَهِيَ الْفِضَّةُ ، فَمَرِضَ الْمَوْلَى ، فَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ إلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ النَّصْرَانِيِّينَ ، وَذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ ، وَقَالَ : أَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، فَحَلَفَا بِاَللَّهِ رَبِّ السَّمَوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ مَا تَرَكَ مَوْلَاكُمْ مِنْ

الْمَتَاعِ إلَّا مَا أَتَيْنَاكُمْ بِهِ ، وَإِنَّا لَا نَشْتَرِي بِأَيْمَانِنَا ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ الدُّنْيَا .
قَالَ : ثُمَّ وُجِدَ عِنْدَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ إنَاءٌ مِنْ آنِيَةِ الذَّهَبِ ، فَأُخِذَا بِهِ ، فَقَالَا : اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَبَا ، فَكَلَّفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةَ فَلَمْ يَقْدِرَا عَلَى بَيِّنَةٍ ، فَرَفَعَا ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا } إلَى { الْفَاسِقِينَ } .
فَحَلَفَ وَلِيَّانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ : إنَّ مَالَ صَاحِبِنَا كَذَا ، وَإِنَّ الَّذِي نَطْلُبُهُ قِبَلَ الدَّارِيَّيْنِ حَقٌّ } .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ دَارِينَ أَحَدُهُمَا تَمِيمِيٌّ ، وَالْآخَرُ يَمَانٍ ، صَحِبَهُمَا مَوْلًى لِقُرَيْشٍ فِي تِجَارَةٍ ، وَمَعَ الْقُرَشِيِّ مَالٌ مَعْلُومٌ ، قَدْ عَلِمَهُ أَهْلُهُ مِنْ بَيْنِ آنِيَةٍ وَوَرِقٍ فَمَرِضَ ، فَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ إلَى الدَّارِيَّيْنِ ، فَمَاتَ وَقَبَضَهَا الدَّارِيَّانِ ، فَدَفَعَاهَا إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَيِّتِ وَخَانَاهُ بِبَعْضِ مَالِهِ ، فَقَالُوا : إنَّ صَاحِبَنَا قَدْ خَرَجَ ، وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْجُعْفِيِّ .
وَذَكَرَ سُنَيْدٌ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي { تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءَ النَّصْرَانِيِّينَ وَكَانَا يَخْتَلِفَانِ إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ؛ فَبَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَالْمُطَّلِبُ بْنُ وَدَاعَةَ السَّهْمِيُّ مَعَهُمَا رَجُلًا يُقَالُ لَهُ بُدَيْلُ بْنُ أَبِي مَارِيَةَ الرُّومِيُّ مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ بِمَتَاعٍ إلَى أَرْضِ الشَّامِ فِيهِ آنِيَةٌ مِنْ ذَهَبٍ ، وَآنِيَةٌ مِنْ فِضَّةٍ ، وَآنِيَةٌ مُمَوَّهَةٌ بِالذَّهَبِ .
فَلَمَّا قَدِمُوا الشَّامَ مَرِضَ بُدَيْلٌ ، وَكَانَ مُسْلِمًا ، فَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا تَمِيمٌ الدَّارِيِّ وَلَا عَدِيٌّ ، وَأَدْخَلَهَا فِي مَتَاعِهِ ، ثُمَّ تُوُفِّيَ وَلَمْ يَبِعْ شَيْئًا مِنْ مَتَاعِهِ ، فَقَدِمَ تَمِيمٌ

الدَّارِيِّ وَعَدِيٌّ الْمَدِينَةَ ، وَدَفَعَا الْمَتَاعَ إلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَإِلَى الْمُطَّلِبِ ، وَأَخْبَرَاهُمَا بِمَوْتِ بُدَيْلٍ ، فَقَالَ عَمْرٌو وَالْمُطَّلِبُ : لَقَدْ مَضَى مِنْ عِنْدِنَا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا ، فَهَلْ بَاعَ شَيْئًا ؟ قَالَا : لَا .
فَمَضَوْا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْلَفَ لَهُمَا تَمِيمًا وَعَدِيًّا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا تَرَكَ عِنْدَنَا غَيْرَ هَذَا .
ثُمَّ إنَّ عَمْرًا وَالْمُطَّلِبَ ظَهَرَا عَلَى آنِيَةٍ عِنْدَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَعَدِيٍّ ، فَقَالَا : هَذِهِ الْآنِيَةُ لَنَا ، وَهِيَ مِمَّا مَضَى بِهِ بُدَيْلٌ مِنْ عِنْدِنَا .
فَقَالَ لَهُمْ تَمِيمٌ وَصَاحِبُهُ عَدِيٌّ : اشْتَرَيْنَا هَذِهِ الْآنِيَةَ مِنْهُ .
فَقَالَ عَمْرٌو وَالْمُطَّلِبُ : قَدْ سَأَلْنَاكُمَا هَلْ بَاعَ شَيْئًا ؟ فَقُلْتُمَا : لَا ، وَقَدْ كَانَتْ وَصِيَّةُ بُدَيْلٍ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا .
فَحَلَفَ عَمْرٌو وَالْمُطَّلِبُ وَاسْتَحَقَّا الْآنِيَةَ } .
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ الْآيَاتِ الثَّلَاثَ نَزَلَتْ فِي { تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ ، وَكَانَا نَصْرَانِيَّيْنِ ، وَكَانَ مَتْجَرُهُمَا إلَى مَكَّةَ ، فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ قَدِمَ ابْنُ أَبِي مَارِيَةَ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمَدِينَةَ ، وَهُوَ يُرِيدُ الشَّامَ تَاجِرًا فَخَرَجَ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَأَخِيهِ عَدِيٍّ حَتَّى إذَا كَانَا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ مَرِضَ ابْنُ أَبِي مَارِيَةَ ، وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ ، وَدَسَّهَا فِي مَتَاعِهِ ، وَأَوْصَى إلَى تَمِيمٍ وَعَدِيٍّ ، فَلَمَّا مَاتَ فَتَحَا مَتَاعَهُ ، وَأَخَذَا مِنْهُ مَا أَرَادَا ، وَأَوْصَلَا بَقِيَّةَ التَّرِكَةِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ ، فَفَتَحُوا فَوَجَدُوا وَصِيَّتَهُ ، وَقَدْ كُتِبَ فِيهَا مَا خَرَجَ بِهِ ، فَفَقَدُوا أَشْيَاءَ ، فَسَأَلُوا تَمِيمًا وَعَدِيًّا عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : مَا نَدْرِي ، هَذَا الَّذِي قَبَضْنَا لَهُ ، فَرَفَعُوهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } الْآيَةَ .
فَأَمَرَ رَسُولُ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَحْلَفَا بِاَللَّهِ مَا قَبَضْنَا لَهُ غَيْرَ هَذَا ، وَمَا كَتَمْنَاهُ شَيْئًا .
فَحَلَفَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَى إنَاءٍ مِنْ فِضَّةٍ مَنْقُوشٍ بِذَهَبٍ مَعَهُمَا ، فَقَالَا اشْتَرَيْنَاهُ مِنْهُ ، فَارْتَفَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُخْرَى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا } .
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمَيِّتِ فَحَلَفَا ، وَاسْتَحَقَّا الْإِنَاءَ } .
ثُمَّ إنَّ تَمِيمًا أَسْلَمَ ، فَكَانَ يَقُولُ : صَدَقَ اللَّهُ ، وَبَلَّغَ رَسُولُهُ ؛ أَنَا أَخَذْت الْإِنَاءَ .
وَرَوَى الشَّعْبِيُّ أَنَّ رَجُلًا مِنْ خَثْعَمَ خَرَجَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى السَّوَادِ .
فَمَاتَ بِدَقُوقَاءَ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَشْهَدُ عَلَى وَصِيَّتِهِ ، فَأَشْهَدَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَقَدِمَا الْكُوفَةَ ، فَأَتَيَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ ، فَأَخْبَرَاهُ ، وَقَدِمَا بِتَرِكَتِهِ وَوَصِيَّتِهِ ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ : هَذَا أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الَّذِي كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَحْلَفَهُمَا ، وَأَمْضَى شَهَادَتَهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ بِمَسْجِدِ الْكُوفَةِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، مَا كَتَمَا وَلَا غَيَّرَا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى الْعِلْجَيْنِ حَتَّى انْتَهَى بِهِمَا إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، فَفَتَحَ الصَّحِيفَةَ ؛ فَأَنْكَرَ أَهْلُ الْمَيِّتِ وُجُوهَهُمَا ، فَأَرَادَ أَبُو مُوسَى أَنْ يَسْتَحْلِفَهُمَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ ، فَقُلْت : لَا يُبَالُونَ بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَلَكِنْ اسْتَحْلَفَهُمَا بَعْدَ صَلَاتِهِمَا فِي دِينِهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى ( شَهِيدٍ ) فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَيْضًا بِعَيْنِهَا ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَنْوَاعِهَا ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ ، مِنْهَا قَوْلُهُ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } قِيلَ : مَعْنَاهُ أَحْضِرُوا .
وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } قَضَى .
وَمِنْهَا شَهِدَ ، أَيْ أَقَرَّ ، كَقَوْلِهِ : { وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ } .
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى حَكَمَ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا } .
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى حَلَفَ ، كَمَا جَاءَ فِي اللِّعَانِ .
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى عَلِمَ .
كَمَا قَالَ : { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أَيْ عِلْمَ اللَّهِ .
وَمِنْهَا شَهِدَ بِمَعْنَى وَصَّى ، كَقَوْلِهِ هَاهُنَا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } .
انْتَهَى كَلَامُهُ .
وَقَدْ نَقَصَ مَوَارِدُ مِنْهُ ، مِنْهَا قَوْلُهُ : { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي ذَلِكَ تَحْقِيقُ ذَلِكَ : وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " شَهِدَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا يُعْلَمُ بِدَرْكِ الْحَوَاسِّ ، كَمَا أَنَّ " غَيَّبَ " مَوْضُوعٌ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا لَمْ يُدْرَكْ بِهَا وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الْبَارِي تَعَالَى وَتَقَدَّسَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَمَعْنَى شَهِدْت : أَدْرَكْت بِحَوَاسِّي ، أَيْ عَلِمْت بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ طُرُقًا لِعِلْمِي ، ثُمَّ يُنْقَلُ مَجَازًا إلَى مُتَعَلَّقَاتِهِ ، فَمَعْنَى شَهِدَ اللَّهُ : عَلِمَ مُشَاهَدَةً ، وَأَخْبَرَ عَمَّا عَلِمَ بِكَلَامِهِ ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الْمُحَدِّثِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَوْلُهُ : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } أَيْ أَحْضِرُوا مَنْ يَعْلَمُ لَكُمْ مَا يُشَاهِدُ مِنْ عَقْدِكُمْ .
وَقَوْلُهُ : { شَهِدَ اللَّهُ } أَيْ عَلِمَ وَأَخْبَرَ عَنْ عِلْمِهِ ، وَبَيَّنَ مَا عَلِمَ لَنَا حَتَّى نَتَبَيَّنَهُ .
فَأَخْبَرَ عَنْ حُكْمِهِ ، فَيَرْجِعُ إلَى عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا

يُخْبِرُ عَنْهُ ، لِارْتِبَاطِ الْخَبَرِ وَالْعِلْمِ .
وَشَهِدَ بِمَعْنَى حَلَفَ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِ ، وَقَرَنَ بِخَبَرِهِ تَعْظِيمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
وَقَوْلُهُ : { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } يُرِيدُ مَا عَلِمْنَاهُ وَعَلِمَهُ اللَّهُ مَعَنَا ، فَإِنْ صَدَقَ وَإِلَّا كَانَ خَبَرُهُ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ كَذِبًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَالِمُ الَّذِي لَا يَجْهَلُ ، وَالصَّادِقُ الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْكَذِبِ .
وَأَمَّا شَهِدَ بِمَعْنَى وَصَّى فَلَا مَعْنَى لَهُ إلَّا عَلَى بُعْدٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا بِمَعْنَى حَلَفَ .
وَالثَّانِي : بِمَعْنَى حَضَرَ لِلتَّحَمُّلِ .
وَالثَّالِثُ : بِمَعْنَى الْأَدَاءِ عِنْدَ الْحَاكِمِ .
تَقُولُ : أَشْهَدُ عِنْدَك ، أَيْ حَضَرْت لِأُؤَدِّيَ عِنْدَك مَا عَلِمْت ، وَأَدَاؤُهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ بَعِيدٌ لَا دَرْكَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ لِمَعْنَاهُ ، وَلَا يُجْزِي غَيْرُهُ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بَيْنِكُمْ } قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : مَعْنَاهُ شَهَادَةُ مَا بَيْنِكُمْ ، فَحُذِفَتْ مَا ، وَأُضِيفَتْ الشَّهَادَةُ إلَى الظَّرْفِ ، اُسْتُعْمِلَ الْبَيْنُ اسْمًا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } .
وَأَنْشَدُوا : تُصَافِحُ مَنْ لَاقَيْت لِي ذَا عَدَاوَةٍ صِفَاحًا وَعَنِّي غَيْبُ عَيْنَيْك مُنْزَوِي وَأَنْشَدُوا : وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٌ ذَاتُ بَيْنِهِمْ قَدْ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَتَى آجِلُهُ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ " بَيْنَ " فِي أَصْلِهِ مَصْدَرُ قَوْلِك : بَانَ يَبِينُ بَيْنًا أَيْ فَارَقَ مَا كَانَ مُجْتَمِعًا مَعَهُ ، وَانْفَصَلَ عَمَّا كَانَ مُتَّصِلًا بِهِ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ فَهُوَ مَيِّتٌ } .
الْمَعْنَى مَا فُصِلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيَوَانِ عَنْهُ حَالَ حَيَاتِهِ فَهُوَ مَيْتَةٌ يَعْنِي لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ؛ وَاسْتُعْمِلَ ظَرْفًا عَلَى مَعْنَى الصَّدْر ، وَهُوَ بَابٌ مِنْ

أَبْوَابِ النَّحْوِ ، تَقُولُ : بَيْنَ الدَّارِ وَالْمَسْجِدِ مَسَافَةٌ .
وَلَوْ كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْنٌ ، أَيْ مَوْضِعٌ خَالٍ مِنْهُمَا .
وَمَا كَانَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى ضَرْبَيْنِ : اجْتِمَاعُ أَجْسَامٍ ، وَاجْتِمَاعُ مَعَانٍ ، وَهِيَ الْأَخْلَاقُ وَالْأَهْوَاءُ جَعَلَ افْتِرَاقَ الْأَهْوَاءِ كَافْتِرَاقِ الْأَجْسَامِ ، وَاسْتَعْمَلَ فِيهِ " بَيْنَ " الَّذِي هُوَ الِافْتِرَاقُ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِك حِجَابٌ } .
وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ : بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَحِمٌ ، أَيْ مَا افْتَرَقْنَا إلَّا عَنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ .
وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ أَيْ افْتَرَقْنَا فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا عَنْ جَمْعِ الْمَالِ الْمَخْصُوصِ .
فَقَالَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ : هُوَ مَصْدَرٌ فِي الْمَعَانِي ، ظَرْفٌ فِي الْأَجْسَامِ لَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُ مِسَاحَاتٍ مَحْسُوسَاتٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَعَانِي ، وَالْكُلُّ فِي الْحَقِيقَةِ تَبَايُنٌ وَتَبَاعُدٌ وَفُرْقَةٌ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } مَرْفُوعًا وَمَنْصُوبًا .
الْمَعْنَى : لَقَدْ تَقَطَّعَ تَبَاعُدُكُمْ وَافْتِرَاقُكُمْ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ لَهُ اتِّصَالٌ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَبِينُ عَلَى قِسْمَيْنِ ، مِنْهُ مَا يُرْجَى لَهُ اتِّصَالٌ ، وَمِنْهُ مَا لَا يُرْجَى لَهُ اتِّصَالٌ ، فَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّقَطُّعِ .
وَقَدْ جَعَلَ أَهْلُ الصِّنَاعَةِ هُنَا " بَيْنَ " لِلظَّرْفِ ، وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى جُعِلَ اسْمًا فِي الْأَهْوَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ ، مَجَازًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا ، وَعَلَيْهِ يُخَرَّجُ : لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُمْ عَلَى قِرَاءَةِ الرَّفْعِ .
الْمَعْنَى : لَقَدْ تَفَرَّقَتْ أَهْوَاؤُكُمْ وَأَخْلَاقُكُمْ .
وَتَارَةً تُضَافُ بِالْكِنَايَةِ إلَيْهِ فَيُقَالُ : ذَاتُ الْبَيْنِ .
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } .
قَالَ الشَّاعِرُ : وَأَهْلُ خِبَاءٍ صَالِحٌ ذَاتُ بَيْنِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَيُقَالُ : الْأَمْرُ الَّذِي بَيْنَكُمْ ، وَمَا بَيْنَكُمْ مُبْهَمٌ ، مَعْنَاهُ الْأَمْرُ الَّذِي فَرَّقَكُمْ .
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا

فَمَعْنَى قَوْلِهِ : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } ، أَيْ شَهَادَةُ اخْتِلَافِكُمْ وَتَنَازُعِكُمْ ؛ فَتَكُونُ الشَّهَادَةُ مُضَافَةً إلَى الْمَصْدَرِ ، لَا إلَى الظَّرْفِ وَلَا عَلَى تَقْدِيرٍ مَحْذُوفٍ .
وَهَذِهِ غَايَةُ الْبَيَانِ ، وَلَوْ هُدِيَ لَهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْآيَةِ وَمَا تَخَبَّطَ فِيهَا وَلَا خَلَطَ مَعَانِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ } : وَلَفْظُ { حَضَرَ } يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْوُجُودِ مُشَاهَدَةً ، وَضِدُّهُ غَابَ ، وَهُوَ أَيْضًا عِبَارَةٌ عَنْ الْوُجُودِ الَّذِي لَمْ يُشَاهَدْ ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِقَوْلِك : " غَابَ " عَنْ الْمَعْدُومِ .
وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ؛ أَيْ عَالِمُ الْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ ؟ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْوُجُودِ فِي عَدَمِ الْمُشَاهَدَةِ .
وَقَدْ وَرَدَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ عِبَارَةً عَنْ الْمَوْتِ فِي كِتَابِ اللَّهِ حَقِيقَةً ، وَهُوَ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ } .
وَفِي قَوْلِهِ : { حَتَّى إذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ } فَهُوَ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ حَقِيقَةُ الْوُجُودِ مُشَاهَدَةً .
وَأَمَّا وُرُودُهَا مَجَازًا فَبِأَنْ يُعَبَّرَ عَنْ حُضُورِ سَبَبِهِ بِحُضُورِهِ ، وَهُوَ الْمَرَضُ ، فَيُعَبَّرَ عَنْ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ ، وَهُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَجَازِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } وَمَعْنَى { حِينَ } وَقْتَ ؛ وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا أَرَدْتُمْ الْوَصِيَّةَ وَقَدْ مَرِضْتُمْ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ الْأَوَّلُ : حَالَ الْبِدَارِ إلَى السَّنَةِ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ وَقْتِ ذَلِكَ وَسَبَبِهِ وَحَقِيقَةِ الْوَصِيَّةِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي وَقْتِ الْوَصِيَّةِ وَسُنَنِهَا بِالْإِيضَاحِ وَالْبَسْطِ : وَذَلِكَ عِنْدَ السَّفَرِ لِلْمَخَافَةِ فِيهِ ، وَالْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ رَائِدُ الْمَنِيَّةِ وَمَظِنَّتُهَا .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ : إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ فِي مَرَضِهِ : أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهَا حَالَةُ مَرَضٍ ، فَاقْتَضَتْ ذَلِكَ قَرِينَةً فِي الْحُكْمِ بِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ ، فَجَازَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ .
وَقَدْ كُنْت أَرَدْت بَسْطَهُ ، فَلَمَّا ذَكَرْت طُولَهُ قَبَضْت عَنْهُ الْعَنَانَ ، وَأَحَلْت عَلَى مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِالْبَيَانِ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { اثْنَانِ } وَكَانَ بِمُطْلَقِهِ يَقْتَضِي شَخْصَيْنِ ، وَيَحْتَمِلُ رَجُلَيْنِ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : ذَوَا عَدْلٍ ، فَيُبَيِّنُ أَنَّهُ أَرَادَ رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْمُذَكَّرِ ، كَمَا أَنَّ " ذَوَاتَيْ " لَا تَصْلُحُ إلَّا لِلْمُؤَنَّثِ الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إعْرَابُهُ : وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ " شَهَادَةُ " مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ وَاثْنَانِ خَبَرُهُ التَّقْدِيرُ شَهَادَةُ اثْنَيْنِ .
الثَّانِي : أَنْ يَرْتَفِعَ اثْنَانِ بِشَهَادَةٍ ؛ التَّقْدِيرُ وَفِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ أَنْ يَشْهَدَ اثْنَانِ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ اثْنَانِ مَفْعُولًا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ بِشَهَادَةٍ .
الرَّابِعُ : يَكُونُ تَقْدِيرُهُ : شُهُودُ شَهَادَةِ بَيْنِكُمْ اثْنَانِ ، وَيَجُوزُ الْحَذْفُ مَعَ الِابْتِدَاءِ ، كَمَا يَجُوزُ مَعَ الْخَبَرِ وَفِي الثَّالِثِ بُعْدٌ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ مَصْدَرُ شَهِدَ ، وَهُوَ بِنَاءٌ لَا يَتَعَدَّى ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْكُمْ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْكَافُ وَالْمِيمُ لِضَمِيرِهِمَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَمُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : مِنْ قَبِيلَتِكُمْ : قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .
الثَّالِثُ : مِنْكُمْ : مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ } قِيلَ : هِيَ لِلتَّخْيِيرِ .
وَقِيلَ : لِلتَّفْصِيلِ .
مَعْنَاهُ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْكُمْ قَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ ، وَأَبُو مِجْلَزٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَابْنُ جُبَيْرٍ ، وَشُرَيْحٌ ؛ وَيُرْوَى عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ .
وَتَحْقِيقُ النَّظَرِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْكُمْ } قَدْ تَقَدَّمَ فِيهِ الْخِلَافُ ، وَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ قَوْلُهُ : أَوْ آخَرَانِ ، وَقَوْلُهُ : غَيْرِكُمْ ؟ وَهِيَ مَسْأَلَتَانِ تَتِمُّ بِهِمَا سِتَّ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً ، فَإِنْ كَانَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ كَانَ قَوْلُهُ : غَيْرِكُمْ لِلْكَافِرِينَ ، وَكَانَ الْآخَرَانِ مَنْ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ كَانَ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمَا " فَقَبِيلُ الْمَيِّتِ وَعَشِيرَتُهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ قَالَ بِأَنَّهُ مِنْ غَيْرِ مِلَّتِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَاطَبَ الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ : مِنْ غَيْرِكُمْ ؛ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ الْكَافِرُونَ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ فَلِأَنَّ الْحَجَّ لَهُمْ وَالْكَلَامَ مِنْهُمْ وَمَعَهُمْ ؛ وَيُؤَكِّدُهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } .
ثُمَّ قَالَ { مِنْ غَيْرِكُمْ } يَعْنِي أَوْ آخَرَانِ عَدْلَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ .
وَبِهِ يَصِحُّ الْعَطْفُ ، وَقَالَ : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ ، وَإِذَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ الْقَبِيلَةِ أَوْ مِنْ الْوَرَثَةِ ، وَيَتَرَجَّحُ ذَلِكَ

بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : إنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الشَّهَادَةَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَيَتَخَصَّصُ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا قَالَ : { إنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } ، كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ فِي الْغَالِبِ ، فَيُؤْخَذُ الْكَافِرُ عِوَضًا مِنْهُ لِلضَّرُورَةِ فِي الشَّهَادَةِ ؛ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ التَّابِعِينَ ، وَاخْتَارَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَأَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ وَالْآيَةِ .
وَنُبَيِّنُهُ فِيمَا بَعْدُ ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } يَعْنِي وَقَدْ أَسْنَدْتُمْ النَّظَرَ إلَيْهِمَا ، وَاسْتَشْهَدْتُمُوهُمَا .
أَوْ ارْتَبْتُمْ بِهِمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سَرْدِ الْقَصَصِ وَالرِّوَايَاتِ وَذِكْرِ الْآثَارِ وَالْمَقَالَاتِ

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى حَبْسِ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ ، وَهُوَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْحُكُومَةِ ، وَحُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ ؟ فَإِنَّ الْحُقُوقَ الْمُتَوَجِّهَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا مَا يَصِحُّ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا ، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَإِنْ خُلِّيَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَغَابَ وَاخْتَفَى بَطَلَ الْحَقُّ وَتَوِيَ ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّوَثُّقِ مِنْهُ ، فَإِمَّا بِعِوَضٍ عَنْ الْحَقِّ وَيَكُونُ بِمَالِيَّةٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ ؛ وَهِيَ الْمُسَمَّى رَهْنًا ، وَهُوَ الْأَوْلَى وَالْأَوْكَدُ ؛ وَإِمَّا شَخْصٌ يَنُوبُ مَنَابَهُ فِي الْمُطَالَبَةِ وَالذِّمَّةِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَغِيبَ كَغَيْبَتِهِ ، وَيَتَعَذَّرُ وُجُودُهُ كَتَعَذُّرِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا .
فَإِنْ تَعَذَّرَا جَمِيعًا لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوَثُّقُ بِحَبْسِهِ ، حَتَّى تَقَعَ مِنْهُ التَّوْفِيَةُ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ ؛ فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ بَدَنِيًّا لَا يُقْبَلُ الْبَدَلُ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَمْ يَتَّفِقْ اسْتِيفَاؤُهُ مُعَجَّلًا ، لَمْ يَبْقَ إلَّا التَّوَثُّقُ بِسِجْنِهِ ؛ وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْحِكْمَةِ شُرِعَ السِّجْنُ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ رَجُلًا ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ } .
وَفِي مُصَنَّفِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِسَارِقٍ فَقَالَ : احْبِسُوهُ ؛ فَإِنْ مَاتَ صَاحِبُهُ فَاقْتُلُوهُ } .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ يَمِينٌ وَأَنَّهُ عَنَى بِهِمْ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي الْحَقِّ لَا الْقَائِمَيْنِ بِالشَّهَادَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَائِمَ بِالشَّهَادَةِ لَا حَبْسَ عَلَيْهِ

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : بَعْدَ الْعَصْرِ ؛ قَالَهُ شُرَيْحٌ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي : مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الثَّالِثُ : أَيُّ صَلَاةٍ كَانَتْ .
الرَّابِعُ : مِنْ بَعْدِ صَلَاتِهِمَا ، عَلَى أَنَّهُمَا كَافِرَانِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَّفَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَرُوِيَ بَعْدَ الظُّهْرِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لَقِيَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } .
وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ بِالزَّمَانِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَشَرَحْنَا أَنَّ حُكْمَ التَّغْلِيظِ يَتَعَلَّقُ بِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : تَغْلِيظٌ بِالْأَلْفَاظِ .
الثَّانِي : تَغْلِيظٌ بِالْمَكَانِ ، كَالْمَسْجِدِ وَالْمِنْبَرِ ؛ لِأَنَّهُ مُجْتَمَعُ النَّاسِ ، فَيَكُونُ لَهُ أَخْزَى ، وَلِفَضِيحَتِهِ أَشْهَرُ .
الثَّالِثُ : التَّغْلِيظُ بِالزَّمَانِ ، كَمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ " النُّورِ " إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَمِنْ عُلَمَائِنَا مَنْ قَالَ : إنَّ التَّغْلِيظَ يَكُونُ بِسِتَّةِ أَوْجُهٍ : الْأَوَّلُ : بِاللَّفْظِ .
الثَّانِي : بِالتَّكْرَارِ .
الثَّالِثُ : بِالْمُصْحَفِ .
الرَّابِعُ : بِالْحَالِ .
الْخَامِسُ : بِالْمَكَانِ .
السَّادِسُ : بِالزَّمَانِ .
أَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْأَلْفَاظِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : لَا تُجْزِئُهُ .
الثَّانِي : الِاكْتِفَاءُ بِقَوْلِهِ : بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ .
وَقَالَ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ : أَمَّا رُبْعُ دِينَارٍ وَالْقَسَامَةُ ، وَاللِّعَانُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَقُولَ فِيهِ : بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ .
وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّالِثُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَلَقَدْ

شَاهَدْت الْقُضَاةَ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، الطَّالِبُ الْغَالِبُ ، الضَّارُّ النَّافِعُ ، الْمُدْرِكُ الْمُهْلِكُ ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ .
وَهَذَا مَا لَا آخِرَ لَهُ إلَّا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ اسْمًا ، وَغَيْرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الَّتِي حَلَفُوا بِهَا أَرْهَبُ وَأَعْظَمُ مَعْنًى مِنْ غَيْرِهَا .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ : " الْحَلِفُ بِاَللَّهِ وَبِاَلَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، وَهُوَ التَّغْلِيظُ ، وَبِالْمُصْحَفِ ؛ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَهُوَ بِدْعَةٌ مَا ذَكَرَهَا أَحَدٌ قَطُّ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَكُلُّ فَصْلٍ يُسْتَوْفَى بِمَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ } قِيلَ : هُمَا الْوَصِيَّانِ إذَا اُرْتِيبَ بِقَوْلِهَا .
وَقِيلَ : هُمَا الشَّاهِدَانِ إذَا لَمْ يَكُونَا عَدْلَيْنِ وَارْتَابَ بِهِمَا الْحَاكِمُ حَلَّفَهُمَا .
وَاَلَّذِي سَمِعْت وَهُوَ بِدْعَةٌ عَنْ أَبِي لَيْلَى أَنْ يَحْلِفَ الطَّالِبُ مَعَ شَاهِدَيْهِ أَنَّ الَّذِي شَهِدَا بِهِ حَقٌّ ، وَحِينَئِذٍ يُقْضَى لِلْمُدَّعِي بِالْحَقِّ .
وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدِي إذَا ارْتَابَ الْحَاكِمُ بِالْقَبْضِ لِلْحَقِّ فَيَحْلِفُ إنَّهُ لَبَاقٍ .
وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ .
هَذَا فِي الْمُدَّعِي فَكَيْفَ يُحْبَسُ الشَّاهِدُ أَوْ يَحْلِفُ ؟ هَذَا مِمَّا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { بِاَللَّهِ } وَهَذَا نَصٌّ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فِي تَرْكِ التَّغْلِيظِ بِالْأَلْفَاظِ .
وَاَلَّذِي أَقُولُ : إنَّهُ إنْ كَانَ الْحَالِفُ كَافِرًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَرْدِ الْأَقْوَالِ وَالرِّوَايَاتِ ، وَقُلْنَا بِالتَّغْلِيظِ فَلَا يُقَالُ لَهُ فِي التَّغْلِيظِ قُلْ : بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ بِهَا .
وَعَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَى هَذَا الْإِنْكَارِ بَذَلُوا الْجِزْيَةَ ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ ، كَمَا رَوَى أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ : أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى } ، وَتَغَلَّظَ عَلَيْهِمْ بِالْمَكَانِ فِي كَنَائِسِهِمْ وَبِالزَّمَانِ بَعْدَ صَلَاتِهِمْ ، كَمَا تَقَدَّمَ ذَكَرَهُ فِي قِصَّةِ دَقُوقَاءَ ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْ هَذَا التَّغْلِيظِ كُلِّهِ زَجْرُ الْحَالِفِ عَنْ الْبَاطِلِ ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْحَقِّ ، وَرَهْبَتُهُ بِمَا يُحِلُّ مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَةً لِلِانْكِفَافِ عَنْ الْبَاطِلِ وَالرُّجُوعِ إلَى الْحَقِّ ، وَهُوَ مَعْنَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } .
وَقَدْ حَقَّقْنَا هَذَا الْغَرَضَ ، فَقُلْنَا : إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مَا غَلَّظَ فِي كِتَابِهِ يَمِينًا ، إنَّمَا قَالَ : فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { قُلْ إي وَرَبِّي إنَّهُ لَحَقٌّ } .
وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ خَلِيلِهِ : { وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } .
وَلَكِنْ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اتَّقُوا اللَّهَ ، فَوَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ لَتَعْلَمُنَّ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا } .
وَرَوَى النَّسَائِيّ وَأَبُو دَاوُد أَنَّ { خَصْمَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي : الْبَيِّنَةُ .
قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَيْسَ

لِي بَيِّنَةٌ .
فَقَالَ لِلْآخَرِ : احْلِفْ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ مَا لَهُ عَلَيْك شَيْءٌ ، أَوْ مَا لَهُ عِنْدَك شَيْءٌ } .
وَتَغْلِيظُ الْعَدَدِ فِي اللِّعَانِ ، وَهُوَ التَّكْرَارُ ، وَفِي الْقَسَامَةِ مِثْلُهُ .
وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ رَأَى ابْنَ مَازِنٍ قَاضِي صَنْعَاءَ يَحْلِفُ بِالْمُصْحَفِ وَيُؤْثِرُ أَصْحَابُهُ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَلَمْ يَصِحَّ .
وَأَمَّا التَّغْلِيظُ بِالْحَالِ فَرُوِيَ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَبَعْضِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَحْلِفُ قَائِمًا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ .
وَرَوَى ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ : يَحْلِفُ جَالِسًا .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَحْلِفُ كَمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا إنْ قَائِمًا فَقَائِمًا ، وَإِنْ جَالِسًا فَجَالِسًا ؛ إذْ لَمْ يَثْبُتْ فِي أَثَرٍ وَلَا نَظَرٍ اعْتِبَارُ قِيَامٍ أَوْ جُلُوسٍ .
وَتَغْلِيظُ الْمَكَانِ كَمَا قُلْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ } .
فَقِيلَ : أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ الْحَالَ ؛ لِأَنَّهُ مَقْطَعُ الْحُقُوقِ .
وَقِيلَ : أَرَادَ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ قَوْمٍ عَاهَدُوا وَحَلَفُوا عَلَى الْمِنْبَرِ لِلنَّاسِ ثُمَّ غَدَرُوا .
وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَأَى رَجُلًا يَحْلِفُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ فَقَالَ : أَعَلَى دَمٍ أَوْ عَلَى مَالٍ عَظِيمٍ ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْمُسْتَقِرِّ فِي الشَّرْعِ أَلَّا يَحْلِفَ هُنَالِكَ إلَّا عَلَى مَا وَصَفَ ، فَكُلُّ مَالٍ تُقْطَعُ فِيهِ الْيَدُ ، وَتَسْقُطُ فِيهِ حُرْمَةُ الْعُضْوِ فَهُوَ عَظِيمٌ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ ارْتَبْتُمْ } وَالرِّيبَةُ : هِيَ التُّهْمَةُ يَعْنِي مَنْ ادَّعَى عَلَيْهِمَا بِخِيَانَةٍ .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرْتَابِ ، فَقِيلَ : هُوَ الْحَاكِمُ .
وَقِيلَ : هُمْ الْوَرَثَةُ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَالتُّهْمَةُ وَالرِّيبَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا تَقَعُ الرِّيبَةُ فِيهِ بَعْدَ ثُبُوتِ الْحَقِّ أَوْ تَوَجُّهِ الدَّعْوَى ؛ فَهَذَا لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْيَمِينِ .
الثَّانِي : التُّهْمَةُ الْمُطْلَقَةُ فِي الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ ؛ وَهُوَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ ، بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْمَسَائِلِ وَصُوَرُهَا مِنْ الْمَذْهَبِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ هَاهُنَا الدَّعْوَى ، وَثَبَتَتْ عَلَى مَا سَطَّرَ فِي الرِّوَايَاتِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا } قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ لَا نَشْتَرِي بِهِ ذَا ثَمَنٍ ، ثُمَّ حَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ .
وَهَذَا مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الثَّمَنَ عِنْدَنَا مُشْتَرًى ، كَمَا أَنَّ الْمَثْمُونَ مُشْتَرًى ؛ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَبِيعَيْنِ ثَمَنًا وَمَثْمُونًا ، كَانَ الْبَيْعُ دَائِرًا عَلَى عَرْضٍ أَوْ نَقْدٍ ، أَوْ عَلَى عَرْضَيْنِ أَوْ نَقْدَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ تَنْبَنِي مَسْأَلَةُ مَا إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي وَوُجِدَ مَتَاعُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ ، هَلْ يَكُونُ أَوْلَى بِهِ ؟ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَكُونُ أَوْلَى بِهِ ، وَبَنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { بِهِ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : يَعْنِي الْقَوْلَ الَّذِي قُلْنَاهُ .
الثَّانِي : أَنَّ الْهَاءَ تَعُودُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَعْنَى : لَا نَبِيعُ حَظَّنَا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِهَذَا الْعَرْضِ .
الثَّالِثُ : هُوَ ضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ ، وَهُمْ الْوَرَثَةُ ، وَهُمْ الْمُتَّهِمُونَ الَّذِينَ لَهُمْ الطَّلَبُ وَلَهُمْ التَّحْلِيفُ ، وَالْحَاكِمُ يَقْتَضِي لَهُمْ وَيَنُوبُ عَنْهُمْ فِي إيفَاءِ الْحَقِّ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي : أَنَّهُ يَعُودُ عَلَى الْقَوْلِ ، فَبِهِ يَتَمَكَّنُ الْمَعْنَى وَلَا يُحْتَاجُ إلَى سِوَاهُ

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } مَعْنَاهُ : لَا نَشْهَدُ الزُّورَ ، وَلَا نَأْخُذُ رِشْوَةً لِنَكْذِبَ ، وَلَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ لَهُ ذَا قُرْبَى قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ ؛ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا يَمِينٌ قَالَ : التَّقْدِيرُ : لَا نَأْخُذُ بِيَمِينِنَا بَدَلًا مَنْفَعَةً ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لِذِي الْقُرْبَى ، فَكَيْفَ لِأَجْنَبِيٍّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَا عَلِمَ اللَّهُ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ لَا نَكْتُمُ مَا أَعْلَمَنَا اللَّهُ مِنْ الشَّهَادَةِ ؛ أَضَافَهَا إلَيْهِ لِعِلْمِهِ بِهَا ، وَأَمْرِهِ بِأَدَائِهَا ، وَنَهْيِهِ عَنْ كِتْمَانِهَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيَقُولَانِ فِي يَمِينِهِمَا : بِاَللَّهِ إنَّ صَاحِبَكُمْ بِهَذَا أَوْصَى أَنَّ هَذِهِ تَرِكَتُهُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ لَا تَتَعَيَّنُ لِلْيَمِينِ ، وَلَا لِلشَّهَادَةِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْيَمِينُ عَلَى نَفْيِ الدَّعْوَى كَيْفَمَا كَانَتْ ، وَتَكُونُ الشَّهَادَةُ بِصِفَةِ الْحَالِ كَمَا جَرَتْ ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ الشَّاهِدُ : إنِّي لَا أَشْتَرِي بِشَهَادَتِي شَيْئًا ، وَلَوْ كَانَ قَرَابَتِي .
أَوْ يَقُولُهَا الْحَالِفُ فِي يَمِينِهِ ، فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ عِنْدِي وَلَا عِنْدَ أَحَدٍ ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ أَوْ يَشْهَدُ كَمَا وَصَفْنَا وَيَعْتَقِدُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَهَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ يَكُونُ فِي اعْتِقَادِهِ لَا فِي لَفْظِهِ فِي شَهَادَةٍ أَوْ يَمِينٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا } يُرِيدُ ظَهَرَ ، وَأَظْهَرُ شَيْءٍ فِي الطَّرِيقِ مَا عُثِرَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَيُسْتَعْمَلُ فِيمَا كَانَ غَائِبًا عَنْك وَكُنْت جَاهِلًا بِهِ ، ثُمَّ حَضَرَ لَدَيْك وَاطَّلَعْت عَلَيْهِ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ أَعَثَرْنَا عَلَيْهِمْ } لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَطْلُبُونَهُمْ ، وَقَدْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ مَوْضِعُهُمْ .
التَّقْدِيرُ : إذَا نَفَذَ الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ فِي الظَّاهِرِ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ كَذِبُهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّهُمَا } قِيلَ : هُمَا الشَّاهِدَانِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَقِيلَ : هُمَا الْوَصِيَّانِ ؛ قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ .
وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ ، وَيَخْتَلِفُ التَّقْدِيرُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إثْمًا } يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ عُقُوبَةً ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ غُرْمًا ، وَظَاهِرُ الْإِثْمِ الْعُقُوبَةُ ، لَكِنْ صَرَفَ عَنْ هَذَا الظَّاهِرِ قَوْلُهُ : اسْتَحَقَّا ، وَالْعُقُوبَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِالْمَعَاصِي ، وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ حَسْبَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ اسْتَوْجَبَا غُرْمًا بِطَرِيقَةٍ .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ قَوْله تَعَالَى : { مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ } فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مَا كَانَا اسْتَحَقَّاهُ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ الْقَوْمَ ادَّعَوْا أَنَّهُ كَانَ لِلْمَيِّتِ دَعْوَى مِنْ انْتِقَالِ مِلْكٍ عَنْهُ إلَيْهِمَا بِبَعْضِ مَا تَزُولُ بِهِ الْأَمْلَاكُ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ الْيَمِينُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ دُونَ الْمُدَّعِي ، وَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَآخَرَانِ } إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ الِاتِّفَاقِ أَنَّ الْوَارِثَيْنِ كَانَا اثْنَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ وَاحِدًا لَأَجْزَأَهُ .
الْمَسْأَلَةُ

الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوْلَيَانِ } مَعْنَاهُ : مِمَّنْ كَانَ نَفَذَ عَلَيْهِمْ الْقَضَاءُ قَبْلَ ذَلِكَ بِوَصِيَّةٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرَهُ ، وَهُمْ الْوَرَثَةُ .
وَمَنْ يَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُ عُلَمَائِنَا : إنَّ فِي قَوْلِهِ { عَلَيْهِمْ } ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ ، لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهَا ، وَلَا نَحْفِلُ بِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { اسْتَحَقَّ } مَعَ قَوْلِهِ : " عَلَى " مُتَلَائِمٌ فَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { الْأَوْلَيَانِ } وَهَذَا فَصْلٌ مُشْكِلُ الْمَعْنَى مُشْكِلُ الْإِعْرَابِ ، كَثُرَ فِيهِ الِاخْتِلَاطُ : أَمَّا إعْرَابُهُ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الضَّمِيرِ فِي " يَقُومَانِ " وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ : فَالْأَوْلَيَانِ يَقُومَانِ مَقَامَ الْأَوَّلَيْنِ .
وَهَذَا حَسَنٌ ؛ لَكِنَّهُ فِيهِ رَدُّ الْبَعِيدِ إلَى الْقَرِيبِ فِي الْبَدَلِيَّةِ بَعْدَمَا حَالَ بَيْنَهُمَا مِنْ طَوِيلِ الْكَلَامِ ، وَيَكُونُ فَاعِلُ " اُسْتُحِقَّ " بِضَمِّ التَّاءِ مُضْمَرًا تَقْدِيرُهُ الْحَقُّ أَوْ الْوَصِيَّةُ أَوْ الْإِيصَاءُ أَوْ الْمَالُ .
وَقِيلَ : فَاعِلُ اُسْتُحِقَّ عَائِدٌ عَلَى الْإِثْمِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ ، وَهُوَ الْغُرْمُ لِلْمَالِ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
الثَّانِي : أَنَّ " الْأَوْلَيَانِ " فَاعِلٌ بِاسْتُحِقَّ ، يُرِيدُ الْأَوْلَيَانِ بِالْيَمِينِ بِأَنْ يُحَلِّفَا مَنْ يَشْهَدُ بَعْدَهُمَا ، فَإِنْ جَازَتْ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّينَ كَانَ الْأَوْلَيَانِ النَّصْرَانِيِّينَ ، وَالْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِ بَيْتِ أَهْلِ الْمَيِّتِ .
هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ .
وَلَا أَقُولُ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا : مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْأَوَّلُ وَبِالْحَقِّ .
الثَّالِثُ : أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ قَوْلِهِ : آخَرَانِ .
الرَّابِعُ : أَنْ يَكُونَ عَلَى الِابْتِدَاءِ ، وَالْخَبَرُ مُقَدَّمٌ ، تَقْدِيرُهُ فَالْأَوْلَيَانِ آخَرَانِ .
وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذَا هُوَ الْأَوَّلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ ، وَأَكْمَلْنَا تَقْدِيرَ الْآيَةِ فِيهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ الْأَوَّلَيْنِ وَهُوَ حَمْزَةُ ، وَأَبُو بَكْرٍ فَيُرْجَعُ إلَى الْأَوَّلَيْنِ ، وَهُوَ حَسَنٌ .
وَقَرَأَ حَفْصٌ اسْتَحَقَّ بِمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمْ .
وَمِنْ الْغَرِيبِ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ : { عَلَيْهِمْ } فَقِيلَ فِيهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أَيْ فِي مُلْكِ سُلَيْمَانَ .
وَهَذَا كَثِيرٌ .
وَقَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ مِنْهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } .
وَهَذِهِ دَعَاوَى

وَضَرُورَاتٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا ، وَلَا يَصِحُّ مُرَادُهُمْ فِي بَعْضِ مَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ : مَعْنَى الْأَوْلَيَانِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْأَوْلَى بِالشَّهَادَةِ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ : الْأَوْلَى بِالْمَيِّتِ مِنْ الْوَرَثَةِ .
الثَّالِثُ : الْأَوْلَى بِتَحْلِيفِ غَيْرِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ فُورَكٍ ؛ وَهُوَ يَرْجِعُ إلَى الثَّانِي ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا } الْمَعْنَى : لَقَوْلُنَا أَحَقُّ مِنْ قَوْلِهِمَا .
وَهَذَا الْقَوْلُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى ، وَأَنَّ يَمِينَ الْحَالِفِ لَا تَكُونُ إلَّا بِلَفْظِ الدَّعْوَى .
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا كَانَتْ بِإِنَّ قَوْلِي أَصْدَقُ مِنْ قَوْلِك رُبَّمَا وَرَدَ فِي يَمِينِهِ ، بِأَنْ يَكُونَ مُدَّعِيهِ قَدْ كَذَبَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَكَذَبَ هُوَ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، فَيَلْزَمُ التَّصْرِيحُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْكَذِبَ ، وَتَحْصُلُ الْمُجَاهَرَةُ إنْ خَالَفَ ، لِيَأْتِيَ بِالصِّدْقِ عَلَى وَجْهِهِ ؛ فَإِذَا صَحَّ بِالْقَوْلِ فِي الْيَمِينِ لَمْ يَنْفَعْهُ مَا نَوَى إذَا أَضْمَرَ مِنْ مَعْنَى الْيَمِينِ خِلَافَ الظَّاهِرِ مِنْهَا ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُك عَلَيْهِ صَاحِبُك } .
وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَمَعْنًى قَوِيمٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ قَرَرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ : فِي بَقَاءِ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ ارْتِفَاعِهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حُكْمُهَا مَنْسُوخٌ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : حُكْمُهَا ثَابِتٌ ، فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ قَالَ : إنَّ الْيَمِينَ الْآنَ لَا تَجِبُ عَلَى الشَّاهِدِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ اُرْتِيبَ بِهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ رِيبَةٌ وَلَا فِي حَالِهِ خُلَّةٌ لَمْ يُحْتَجْ إلَى الْيَمِينِ ، وَعَلَى هَذَا عَوَّلَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَنُخْبَتُهُمْ .
وَقَدْ قَرَّرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَحَقَّقَهُ بِأَمْرِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَ { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } .
فَوَقَعَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَدَالَةِ ، وَاقْتُضِيَتْ الْيَمِينُ مِنْهَا إنْ كَانَتْ فِيهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا ثَابِتَةٌ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَائِزَةٌ فِي السَّفَرِ ؛ مِنْهُمْ أَحْمَدُ كَمَا تَقَدَّمَ يُجَوِّزُهَا فِي السَّفَرِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَصَارَ بَعْضُ أَشْيَاخِنَا إلَى أَنَّ ذَلِكَ بَاقٍ بِالْيَمِينِ ، وَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ ، وَجَهْلٌ بِالتَّأْوِيلِ ، وَقُصُورٌ عَنْ النَّظَرِ ، وَإِذَا أَسْقَطَ أَحْمَدُ الْيَمِينَ فَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي الْآيَةِ وَلَا فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَثْبُتُ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الشَّهَادَةَ الْيَمِينُ ، وَهِيَ هَاهُنَا يَمِينُ الْوَصِيَّيْنِ ، كَمَا سُمِّيَتْ الْيَمِينُ فِي اللِّعَانِ شَهَادَةً .
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ : إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْيَمِينِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أَجْلِ دَعْوَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ عَلَى الْمُسْنَدِ إلَيْهِمَا الْوَصِيَّةُ بِالْخِيَانَةِ ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ ، مَا لَا يَبْرَأُ فِيهِ الْمُدَّعِي ذَلِكَ قِبَلَهُ إلَّا بِيَمِينٍ ؛ فَإِنَّ نَقْلَ الْيَمِينِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ إنَّمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ عَثَرَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فِي أَيْمَانِهِمَا بِإِثْمٍ ، وَظَهَرَ عَلَى كَذِبِهِمَا فِي ذَلِكَ بِمَا ادَّعَوْا مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ بَاعَهُ

مِنْهُمَا ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ الْخِيَانَةَ ظَهَرَتْ فِي أَدَاءِ الْمَالِ ، وَلِذَلِكَ حَلَفَا مَعَ الشَّهَادَةِ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذَا يَصِحُّ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا أَنَّهُمَا ادَّعَيَا بَيْعَ الْجَامِ مِنْهُمَا .
وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا التَّأْوِيلُ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ أَدَّيَا التَّرِكَةَ فِيمَا ذُكِرَ فِيهَا ، وَانْقَلَبَا عَلَى سَتْرٍ وَسَلَامَةٍ ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ فِي الْجَامِ ؛ إمَّا بِأَنَّهُ وُجِدَ يُبَاعُ ، وَإِمَّا بِتَحَرُّجِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ وَتَأَثُّمِهِ وَأَدَائِهِ مَا كَانَ أَخَذَهُ مِنْهُ .
وَتَحْقِيقُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ كُلَّ رِوَايَةٍ مِنْ تِلْكَ الرِّوَايَاتِ عَضَّدَتْهَا صِيغَةُ الْقِصَّةِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسَرَدُوهَا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ ، وَكُلُّ مَا لَمْ يُعَضِّدْهُ مِنْهَا فَهُوَ مَرْدُودٌ .
أَمَّا إنَّهُ إذَا فَسَّرْت الْكَلَامَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَاحْتَجْت إلَى تَجْوِيزٍ أَوْ تَقْدِيمٍ أَوْ تَأْخِيرٍ فَكُلَّمَا كَانَ أَقَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّأْوِيلَاتِ فَهُوَ أَرْجَحُ ، وَكُلَّمَا كَانَ مِنْ خِلَافِ الْأُصُولِ فِيهِ أَقَلَّ فَهُوَ أَرْجَحُ ، كَتَأْوِيلٍ فِيهِ إجَازَةُ شَهَادَةِ الْكَافِرِ وَإِحْلَافُ الشَّاهِدِ عَلَى شَهَادَتِهِ ؛ فَإِنَّ التَّأْوِيلَ الَّذِي يُخَرَّجُ عَنْهُ هَذَا هُوَ أَرْجَحُ ، وَلَا يَسْلَمُ تَأْوِيلٌ مِنْ اعْتِرَاضٍ ؛ فَإِنَّ الْبَيَانَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَحْكَامِ جَاءَ عَلَى صِفَةٍ غَرِيبَةٍ وَهُوَ سِيَاقُهُ عَلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْقِصَّةِ ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ بِانْتِقَالَاتٍ كَثِيرَةٍ ، مِنْهَا أَنَّهُ قَالَ : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } .
وَرُبَّمَا كَانَ الْمُدَّعِي وَاحِدًا ، فَلَيْسَ قَوْله تَعَالَى : { فَآخَرَانِ } خَارِجًا مَخْرَجَ الشَّرْطِ ، وَإِنَّمَا هُوَ كِنَايَةٌ عَمَّا جَرَى مِنْ الْعَدَدِ فِي الْقِصَّةِ ، وَالْوَاحِدُ كَالِاثْنَيْنِ فِيهَا ؛ فَيَطْلُبُ النَّاظِرُ مَخْرَجًا أَوْ تَأْوِيلًا لِلَّفْظِ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَيُدْخِلُ الْإِشْكَالَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ

حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ ، فَلَا يُسَاحَلُ عَنْ هَذَا الْبَحْرِ أَبَدًا ؛ وَكَذَلِكَ مَا جَرَى مِنْ التَّعْدِيدِ لَا يُمْنَعُ مِنْ كَوْنِ الشَّهَادَةِ بِمَعْنَى الْيَمِينِ كَمَا فِي اللِّعَانِ .
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَذْكَرْ فِي اللِّعَانِ عَدَدًا ، وَجَرَى ذِكْرُهُ هَاهُنَا لِاتِّفَاقِهِ فِي الْقِصَّةِ ؛ لَا لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي الْحُكْمِ .
وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْعَدَالَةِ تَنْبِيهًا عَلَى مَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَشْهَدَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا لِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، فَإِنْ ائْتَمَنَهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : فِي تَقْدِيرِ الْآيَةِ : وَهُوَ : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ، وَحَضَرَكُمْ الْمَرَضُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمَوْتِ ، وَأَرَدْتُمْ الْوَصِيَّةَ فَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ مِنْ قَرَابَتِكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فَإِنْ خَافَا فَاحْبِسُوهُمَا عَلَى الْيَمِينِ إنْ عَدِمْتُمْ الْبَيِّنَةَ .
فَإِنْ تَبَيَّنَتْ بَعْدَ ذَلِكَ خِيَانَتُهُمْ حَلَفَ مِمَّنْ حَلَفُوا لَهُ وَهُوَ أَوْلَى بِاسْتِحْقَاقِ مَا يَجِبُ بِالْيَمِينِ " .
وَعَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ يَكُونُ تَقْدِيرُ الْآيَةِ : " فَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَأَشْهِدُوا الْكُفَّارَ " فَإِنْ أَدَّيَا مَا أُحْضِرَا لَهُ أَوْ ائْتُمِنَا عَلَيْهِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِنْ أَدْرَكَتْهُمْ تُهْمَةٌ أَوْ تَبَيَّنَتْ عَلَيْهِمْ خِيَانَةٌ ، حَلَفُوا .
وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ فِي الْوَصِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ .
وَإِنَّمَا قَبِلْنَا نَحْنُ شَهَادَةَ الْعَدْلِ فِي الْوَصِيَّةِ بِدَلِيلٍ آخَرَ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ الْكُفَّارِ إذَا عُدِمَ الْمُسْلِمُونَ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا ، فَكُلُّ شَيْءٍ يَعْتَرِضُكُمْ مِنْ الْإِشْكَالِ عَلَى دَلِيلِنَا وَتَقْدِيرِنَا الَّذِي قَدَّرْنَاهُ آنِفًا ، فَانْظُرُوهُ فِي مَوْضِعِهِ هَاهُنَا تَجِدُوهُ مُبَيَّنًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

سُورَةُ الْأَنْعَامِ فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَعِنْدَهُ } اعْلَمُوا أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْآيَةَ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ إلَى مَعْرِفَةِ غَوَامِضِ النَّحْوِيِّينَ " بِمَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ هَاهُنَا أَنَّ " عِنْدَهُ " كَلِمَةً يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّا قَرُبَ مِنْك وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ دُنُوَّ الشَّيْءِ مِنْ الشَّيْءِ يُقَالُ فِيهِ قَرِيبٌ ، وَنَأْيُهُ عَنْهُ يُقَالُ فِيهِ بَعِيدٌ ، وَأَصْلُهُ : الْمَكَانُ فِي الْمِسَاحَةِ ، تَقُولُ : زَيْدٌ قَرِيبٌ مِنْك ، وَعَمْرٌو بَعِيدٌ عَنْك .
وَيُوضَعُ الْفِعْلُ مَوْضِعَ الِاسْمِ ؛ فَتَقُولُ : زَيْدٌ قُرْبُك ، ثُمَّ يُنْقَلُ إلَى الْمَكَانَةِ الْمَعْقُولَةِ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ ، فَيُقَالُ : الْعِلْمُ مِنْك قَرِيبٌ ، وَعَلَيْهِ يُتَأَوَّلُ مَا يُخْبَرُ بِهِ عَنْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَبِهِ يُفَسَّرُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَإِذَا سَأَلَك عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } بِعِشْرِينَ مَعْنًى جَائِزَةٍ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهَا وَيُخْبَرُ عَنْهُ بِمَعْنَاهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ " .
وَتَقُولُ : زَيْدٌ قُدَّامُك ، وَعَمْرٌو وَرَاءَك .
فَإِذَا قُلْت زَيْدٌ قُدَّامُك احْتَمَلَ الْمَسَافَةَ مِنْ لَدُنْ جِسْمِهِ إلَى مَا لَا يَنْحَصِرُ مُنْتَهَاهُ قَدَمًا ، وَكَذَلِكَ وَرَاءَك ، فَصَغَّرُوهُ إذَا أَرَادُوا قُرْبَ الْمَسَافَةِ مِنْ الْمُخْبَرِ عَنْهُ ، فَقَالُوا : قُدَيْدِيمَةُ .
وَإِذَا أَرَادُوا تَخْلِيصَ الْقُرْبِ بِغَايَةِ الدُّنُوِّ قَالُوا : زَيْدٌ عِنْدَك ، عَبَّرُوا بِهِ عَنْ نِهَايَةِ الْقُرْبِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُصَغِّرُوهُ ، فَيَقُولُوا فِيهِ عُنَيْدَ .
وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهَا أَيْضًا عَمَّا فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ ، فَيُقَالُ : عِنْدَهُ كَذَا وَكَذَا ؛ أَيْ فِي مِلْكِهِ

لِأَنَّ الْمِلْكَ يَخْتَصُّ بِالْمَرْءِ اخْتِصَاصَ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ ؛ فَعَبَّرُوا بِأَقْرَبِ الْوُجُوهِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ : عِنْدَهُ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك } يَعْنِي فِي مِلْكِك .
إذَا ثَبَتَ هَذَا وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ قُرْبَهَا مِنْهُ قُرْبَ مَكَانَةٍ وَتَيْسِيرٍ ، لَا قُرْبَ مَكَان .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا فِي مِلْكِهِ يُظْهِرُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ وَيُخْفِي مَا يَشَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ عَقَائِدِ الْمُسْلِمِينَ ، وَرُكْنٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ ، مُعْظَمُهَا يَتَفَسَّرُ بِهَا ، وَفِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ نُكْتَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ فَأَمَّا مَنْزَعُهَا فِي الْأُصُولِ فَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ؛ وَأَمَّا نُكْتَتُهَا الْأَحْكَامِيَّةُ فَنُشِيرُ إلَيْهَا فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جِنْسِ مَضْمُونِهِ ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى مَا تَضَمَّنَهُ كِتَابُ الْمُشْكِلَيْنِ لِيَنْفَتِحَ بِذَلِكَ غَلْقُ الْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ فِي هَذَا الْمَجْمُوعِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَفَاتِحُ الْغَيْبِ } وَاحِدُهَا مَفْتَحٌ وَمِفْتَاحٌ ، وَجَمْعُهُ مَفَاتِحُ وَمَفَاتِيحُ ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَعْنَى يَحِلُّ غَلْقًا ، مَحْسُوسًا كَانَ كَالْقُفْلِ عَلَى الْبَيْتِ ، أَوْ مَعْقُولًا كَالنَّظَرِ ، وَالْخَبَرُ يَفْتَحُ قُفْلَ الْجَهْلِ عَنْ الْعِلْمِ وَالْغَيْبِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : عِبَارَةٌ عَنْ مُتَعَلِّقٍ لَا يُدْرَكُ حِسًّا أَوْ عَقْلًا ، وَكَمَا لَا يُدْرِكُ الْبَصَرُ مَا وَرَاءَ الْجِدَارِ أَوْ مَا فِي الْبَيْتِ الْمُقْفَلِ ، كَذَلِكَ لَا تُدْرِكُ الْبَصِيرَةُ مَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ الْخَمْسِ ، وَالْمَحْسُوسَاتُ مُنْحَصِرَةُ الطُّرُقِ بِانْحِصَارِ الْحَوَاسِّ وَالْمَعْقُولَاتُ لَا تَنْحَصِرُ طُرُقُهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ قِسْمَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا يُدْرَكُ بِبَدِيهَةِ النَّظَرِ .
الثَّانِي : مَا يَتَحَصَّلُ مِنْ سَبِيلِ النَّظَرِ .
أَمَّا إنَّهُ لَهُ أُمَّهَاتٌ خَمْسٌ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا وَجَاءَتْ الْعِبَارَةُ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي

نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .
فَالْأُمُّ الْكُبْرَى : السَّاعَةُ ؛ وَمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْمَوْقِفِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْأَهْوَالِ ، وَحَالُ الْخَلْقِ فِي الْحِسَابِ ، وَمِنْقَلُهُمْ بَعْدَ تَفْضِيلٍ وَحَطٍّ وَتَفْصِيلِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ .
الْأُمُّ الثَّانِيَةُ : تَنْزِيلُ الْغَيْثِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْإِحْيَاءِ وَالْإِنْبَاتِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ مِيكَائِيلَ وَتَحْتَ نَظَرِهِ مَلَائِكَةٌ لَا يُحْصِيهَا إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ تَصْدُرُ عَنْ أَمْرِهِ فِي تَنْفِيذِ الْمَقَادِيرِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَلِكَ مِنْ إنْشَاءِ الرِّيَاحِ ، وَتَأْلِيفِ السَّحَابِ ، وَإِلْقَاحِهَا بِالْمَاءِ ، وَفَتْقِهَا بِالْقَطْرِ ، وَعَلَى يَدَيْ كُلِّ مَلِكٍ قَطْرَةٌ يُنْزِلُهَا إلَى بُقْعَةٍ مَعْلُومَةٍ لِيُنَمِّيَ بِهَا شَجَرَةً مَخْصُوصَةً ؛ لِيَكُونَ رِزْقًا لِحَيَوَانٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَيْهِ الْأُمُّ الثَّالِثَةُ : مَا تَحْوِيهِ الْأَرْحَامُ ، وَقَدْ وَكَّلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ فِي مَوْرِدِ الْأَمْرِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ إسْرَافِيلُ ، وَفِي زِمَامِهِ : مِنْ الْمَلَائِكَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَرَنَ بِكُلِّ رَحِمٍ مَلَكًا يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ تَدْبِيرُ النُّطْفَةِ فِي أَطْوَارِ الْخِلْقَةِ .
الْأُمُّ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا } .
وَهُوَ مَعْنًى خَبَّأَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ الْخَلْقِ تَحْتَ أَسْتَارِ الْأَقْدَارِ ، بِحِكْمَتِهِ الْقَائِمَةِ ، وَحُجَّتِهِ الْبَالِغَةِ ، وَقُدْرَتِهِ الْقَاهِرَةِ ، وَمَشِيئَتِهِ النَّافِذَةِ ، فَكَائِنَاتُ غَدٍ تَحْتَ حِجَابِ اللَّهِ ، وَنَبَّهَ : بِالْكَسْبِ عَنْ تَعْمِيَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوْكَدُ مَا عِنْدَ الْمَرْءِ لِلْمَعْرِفَةِ ، وَأَوْلَاهُ لِلتَّحْصِيلِ ، وَعَلَيْهِ يَتَرَكَّبُ الْعُمْرُ وَالرِّزْقُ ، وَالْأَجَلُ ، وَالنَّجَاةُ ، وَالْهَلَكَةُ ، وَالسُّرُورُ ، وَالْغَمُّ ، وَالْغَرَائِزُ الْمُزْدَوِجَةُ فِي جِبِلَّةِ الْآدَمِيِّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ أَوْ مَكْرُوهٍ لَهُ .
الْأُمُّ الْخَامِسَةُ :

قَوْله تَعَالَى : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } .
نَبَّأَ بِهِ عَنْ الْعَاقِبَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِالِاطِّلَاعِ عَلَيْهَا رَبُّ الْعِزَّةِ .
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأْكِيدِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ ؛ قَالَا : { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْلِسُ بَيْنَ ظَهْرَانِيْ أَصْحَابِهِ ، فَيَجِيءُ الْغَرِيبُ فَلَا يَدْرِي أَيُّهُمْ هُوَ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ ، فَطَلَبْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَجْعَلَ لَهُ مَجْلِسًا يَعْرِفُهُ الْغَرِيبُ إذَا أَتَاهُ ، فَبَنَيْنَا لَهُ دُكَّانًا مِنْ طِينٍ ، كَانَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ ، وَكُنَّا نَجْلِسُ جَانِبَيْهِ ، فَإِنَّا لَجُلُوسٌ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِهِ إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا ، وَأَطْيَبِ النَّاسِ رِيحًا ، وَأَنْقَى النَّاسِ ثَوْبًا ، كَأَنَّ ثِيَابَهُ لَمْ يَمَسَّهَا دَنَسٌ ، إذْ وَقَفَ فِي طَرَفِ السِّمَاطِ ، فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَدْنُو ؟ قَالَ : ادْنُهْ .
فَمَا زَالَ بِهِ يَقُولُ : أَدْنُو ؟ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ : ادْنُهْ ، حَتَّى وَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَخْبِرْنِي مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ .
قَالَ : فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْت ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : صَدَقْت .
قَالَ : فَلَمَّا أَنْ سَمِعْنَا قَوْلَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ أَنْكَرْنَا ذَلِكَ .
ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَخْبِرْنِي مَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ .
قَالَ : فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْت ؟ قَالَ : نَعَمْ

.
قَالَ : صَدَقْت .
قَالَ : فَمَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك .
قَالَ : صَدَقْت .
قَالَ : فَمَتَى السَّاعَةُ ؟ قَالَ : فَنَكَّسَ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ دَعَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ ، فَحَلَفَ بِاَللَّهِ ، وَقَالَ : مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ ، وَلَكِنْ لَهَا عَلَامَاتٌ يَجِئْنَ ، إذَا رَأَيْت رِعَاءَ الْغَنَمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ ، وَرَأَيْت الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ مُلُوكَ الْأَرْضِ ، وَرَأَيْت الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبَّهَا ، هُنَّ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إلَّا اللَّهُ : { إنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } .
وَذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا ، ثُمَّ صَعِدَ إلَى السَّمَاءِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَلَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ مَا كُنْت بِأَعْلَمَ بِهِ مِنْ رَجُلٍ مِنْكُمْ ، وَإِنَّهُ لَجِبْرِيلُ نَزَلَ عَلَيْكُمْ فِي صُورَةِ دَحْيَةَ الْكَلْبِيِّ ، يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ السُّدِّيُّ : الْمُرَادُ بِهَذَا خَزَائِنُ الْغَيْبِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ ، وَقَرَأَ الْآيَاتِ الْخَمْسَ الْمُتَقَدِّمَةَ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى عِلْمِ الْغَيْبِ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ : افْتَحْ عَلَيَّ كَذَا أَيْ أَعْطِنِي ، أَوْ عَلِّمْنِي مَا أَتَوَصَّلُ [ بِهِ ] إلَيْهِ .
فَأَمَّا قَوْلُ السُّدِّيِّ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْمَفَاتِحِ الْخَزَائِنُ فَمَجَازٌ بَعِيدٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَعِلْمٌ سَدِيدٌ مِنْ فَكٍّ شَدِيدٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ الثَّالِثِ فَأَنْكَرَهُ شَيْخُنَا النَّحْوِيُّ نَزِيلُ مَكَّةَ ، وَقَالَ : أَجْمَعَتْ أَيْ الْفِرْقَةُ السَّالِفَةُ الصَّالِحَةُ مِنْ الْأُمَّةِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ أَصَحُّ وَأَوْلَى .
وَأَظُنُّهُ لَمْ يَفْهَمْ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ ، وَلَا اغْتَزَى فِيهِ الْمَغْزَى ،

وَلَقَدْ أَلْحَمَ فِيهِ الصَّوَابَ وَسَدَى ، وَإِذَا مَنَحْته نَقْدًا لَمْ تَعْدَمْ فِيهِ هُدًى ؛ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمُ الْغَيْبِ ، وَبِيَدِهِ الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إلَيْهِ ، لَا يَمْلِكُهَا إلَّا هُوَ ؛ فَمَنْ شَاءَ إطْلَاعَهُ عَلَيْهَا أَطْلَعَهُ ، وَمَنْ شَاءَ حَجْبَهُ عَنْهَا حَجَبَهُ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ إفَاضَتِهِ إلَّا عَلَى رُسُلِهِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ } .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : مَقَامَاتُ الْغَيْبِ الْخَمْسَةُ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إلَّا اللَّهُ لَا أَمَارَةَ عَلَيْهَا ، وَلَا عَلَامَةَ عَلَيْهَا ، إلَّا مَا أَخْبَرَ بِهِ الصَّادِقُ الْمُجْتَبَى لِاطِّلَاعِ الْغَيْبِ مِنْ أَمَارَاتِ السَّاعَةِ ، وَالْأَرْبَعَةُ سِوَاهَا لَا أَمَارَةَ عَلَيْهَا ؛ فَكُلُّ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَنْزِلُ الْغَيْثُ غَدًا فَهُوَ كَافِرٌ ، أَخْبَرَ عَنْهُ بِأَمَارَاتٍ ادَّعَاهَا ، أَوْ بِقَوْلٍ مُطْلَقٍ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الرَّحِمِ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ فَأَمَّا الْأَمَارَةُ عَلَى هَذَا فَتَخْتَلِفُ ؛ فَمِنْهَا كُفْرٌ ، وَمِنْهَا تَجْرِبَةٌ ، وَالتَّجْرِبَةُ مِنْهَا أَنْ يَقُولَ الطَّبِيبُ : إذَا كَانَ الثَّدْيُ الْأَيْمَنُ مُسْوَدَّ الْحَلَمَةِ فَهُوَ ذَكَرٌ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي الثَّدْيِ الْأَيْسَرِ فَهُوَ أُنْثَى ؛ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَجِدُ الْجَنْبَ الْأَيْمَنَ أَثْقَلَ فَهُوَ ذَكَرٌ ، وَإِنْ وَجَدَتْ الْجَنْبَ الْأَشْأَمَ أَثْقَلَ فَالْوَلَدُ أُنْثَى ، وَادَّعَى ذَلِكَ عَادَةً لَا وَاجِبًا فِي الْخِلْقَةِ لَمْ نُكَفِّرْهُ ، وَلَمْ نُفَسِّقْهُ .
فَأَمَّا مَنْ ادَّعَى عِلْمَ الْكَسْبِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْعُمْرِ فَهُوَ كَافِرٌ ، أَوْ أَخْبَرَ عَنْ الْكَوَائِنِ الْجُمَلِيَّةِ أَوْ الْمُفَصَّلَةِ فِيمَا يَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ، فَلَا رِيبَةَ فِي كُفْرِهِ أَيْضًا .
فَأَمَّا مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُؤَدَّبُ وَيُسْجَنُ وَلَا يُكَفَّرُ ، أَمَّا عَدَمُ تَكْفِيرِهِ فَلِأَنَّ جَمَاعَةً قَالُوا : إنَّهُ أَمْرٌ يُدْرَكُ بِالْحِسَابِ ، وَتَقْدِيرِ الْمَنَازِلِ ، حَسْبَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا : { وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } فَلِحِسَابِهِمْ لَهُ ، وَإِخْبَارِهِمْ عَنْهُ ، وَصِدْقِهِمْ فِيهِ ، تَوَقَّفَتْ عُلَمَاؤُنَا عَنْ الْحُكْمِ بِتَكْفِيرِهِمْ .
وَأَمَّا أَدَبُهُمْ فَلِأَنَّهُمْ يُدْخِلُونَ الشَّكَّ عَلَى الْعَامَّةِ فِي تَعْلِيقِ الْعِلْمِ بِالْغَيْبِ الْمُسْتَأْنَفِ وَلَا يَدْرُونَ قَدْرَ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَغَيْرِهِ ، فَتُشَوَّشُ عَقَائِدُهُمْ فِي الدِّينِ ، وَتَتَزَلْزَلُ قَوَاعِدُهُمْ فِي الْيَقِينِ

، فَأُدِّبُوا حَتَّى يُسِرُّوا ذَلِكَ إذَا عَرَفُوهُ وَلَا يُعْلِنُوا بِهِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَيْت الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ .
وَالْخَوْضُ هُوَ الْمَشْيُ فِيمَا لَا يَتَحَصَّلُ حَقِيقَةً ، مِنْ الْخَائِضِ فِي الْمَاءِ الَّذِي لَا يُدْرَى بَاطِنُهُ ، اُسْتُعِيرَ مِنْ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ عَلَى مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُشَارَكَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى رَسُولِهِ بِالْمُجَالَسَةِ ، سَوَاءٌ تَكَلَّمَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ أَوْ كَرِهَهُ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْمُنْكَرِ لَا تَحِلُّ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } قَالَ قَوْمٌ : هَذَا خِطَابٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأُمَّةُ ، وَكَأَنَّ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ ذَهَبُوا إلَى تَنْزِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النِّسْيَانِ وَهُمْ كِبَارُ الرَّافِضَةِ ، قَبَّحَهُمْ اللَّهُ ، وَإِنْ عَذَرْنَا أَصْحَابَنَا فِي قَوْلِهِمْ : إنْ قَوْله تَعَالَى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُك } ، خِطَابٌ لِلْأُمَّةِ بِاسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْإِشْرَاكِ عَلَيْهِ فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي هَذَا لِجَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ : { إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ } ، وَقَالَ وَقَدْ سَمِعَ قِرَاءَةَ رَجُلٍ يَقْرَأُ : { لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً كُنْت أُنْسِيتهَا } .
وَقَالَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ : { تَلَاحَى رَجُلَانِ فَنَسِيتهَا } .
وَقَالَ : { لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ نَسِيت آيَةَ كَذَا ، بَلْ نُسِّيتهَا } ، كَرَاهِيَةَ إضَافَةِ اللَّفْظِ إلَى الْقُرْآنِ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كَذَلِكَ أَتَتْك آيَاتُنَا فَنَسِيتهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } .
وَفَائِدَتُهُ : أَنَّ لَفْظَ " نَسِيت " يَنْطَلِقُ عَلَى تَرَكْت انْطِلَاقًا طِبْقِيًّا ، ثُمَّ نَقُولُ فِي تَقْسِيمِ وَجْهَيْ مُتَعَلِّقِهِ سَهَوْت إذَا كَانَ تَرَكَهُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، وَعَمَدْت إذَا كَانَ تَرَكَهُ عَنْ قَصْدٍ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ قَوْلَهُ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } عَامٌّ فِي وَجْهَيْ النِّسْيَانِ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ .
وَقَوْلُهُ إذَا ذَكَرَهَا : يَعْنِي أَنَّ السَّاهِيَ يَطْرَأُ عَلَيْهِ الذِّكْرُ فَيَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ ، وَأَنَّ الْعَامِدَ ذَاكِرٌ أَبَدًا فَلَا يَزَالُ الْخِطَابُ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ أَبَدًا

، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إنَّ رَبَّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ } .
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قَالَ : بِالْعِلْمِ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَضَعُهُ اللَّهُ فِي قَلْبِ مَنْ يَشَاءُ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ .
: لَيْسَ الْعِلْمُ بِكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ خَشْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى .
رَوَى الْمَنْصُورُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هِمَّةُ السُّفَهَاءِ الرِّوَايَةُ ، وَهِمَّةُ الْعُلَمَاءِ الدِّرَايَةُ } .
وَقَالَ مَالِكٌ ، لِابْنَيْ أُخْتِهِ أَبِي بَكْرٍ وَإِسْمَاعِيلَ : إنْ أَحْبَبْتُمَا أَنْ يَنْفَعَكُمَا اللَّهُ بِهَذَا الشَّأْنِ فَأَقِلَّا مِنْهُ ، وَتَفَقَّهَا فِيهِ .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ فِي الدُّنْيَا .
قَالَ الْقَاضِي : وَصَدَقَ ؛ عِلْمُ الدُّنْيَا عِنْوَانُ الْآخِرَةِ وَسَبِيلُهَا .
وَاَلَّذِي أُوتِيَهُ إبْرَاهِيمَ مِنْ الْعِلْمِ بِالْحُجَّةِ ، وَهِيَ الَّتِي تُذْكَرُ لِلْخَصْمِ عَلَى طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ كَانَ فِي الدُّنْيَا بِظُهُورِ دَلَالَةِ التَّوْحِيدِ وَبَيَانِ عِصْمَةِ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْجَهْلِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَالشَّكِّ فِيهِ ، وَالْإِخْبَارِ أَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمِهِ إنَّمَا كَانَ احْتِجَاجًا ، وَلَمْ يَكُنْ اعْتِقَادًا ، وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي الْمُشْكِلَيْنِ

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ بْنُ الْعَرَبِيِّ : هَذِهِ الْآيَةُ أُصُولِيَّةٌ فَإِنَّهَا تُفِيدُ مَسْأَلَةً مِنْ الْأُصُولِ ، وَهِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتَهُ : هَلْ تَعَبَّدُوا بِشَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُمْ أَمْ لَا ؟ وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي الْأُصُولِ ، فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ .
وَفِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْعَمَلُ بِمَا ظَهَرَ مِنْ أَفْعَالِهِمْ ، وَأَخْبَرَنَا عَنْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ ، وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ الْعَوَّامِ قَالَ سَأَلْت مُجَاهِدًا عَنْ سَجْدَةِ " ص " فَقَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ مِنْ أَيْنَ سَجَدْت ؟ فَقَالَ : أَوَمَا تَقْرَأُ : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُد وَسُلَيْمَانَ } " إلَى قَوْلِهِ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } .
وَكَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ ، فَسَجَدَهَا دَاوُد ، فَسَجَدَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَسَتَرَاهَا مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ " ص " إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { اُنْظُرُوا إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ الْيَنْعِ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الطِّيبُ وَالنُّضْجُ ؛ يُقَال : أَيْنَعَ الثَّمَرُ يَيْنَعُ وَيُونِعُ ، وَالثَّمَرُ يَانِعٌ وَمُونِعٌ ، إذَا أَدْرَكَ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ : الْيَنْعُ جَمْعُ يَانِعٍ ، وَهُوَ الْمُدْرِكُ الْبَالِغُ .
الثَّالِثُ : قَالَ الْفَرَّاءُ : " يَنَعَ " أَقَلُّ مِنْ " أَيْنَعَ " وَمَعْنَاهُ احْمَرَّ ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ الْمُلَاعَنَةِ : { إنْ وَلَدَتْهُ أَحْمَرَ مِثْلَ الْيَنَعَةِ } ، وَهِيَ : خَرَزَةٌ حَمْرَاءُ ، يُقَالُ : إنَّهُ الْعَقِيقُ ، أَوْ نَوْعٌ مِنْهُ ؛ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ يَقِفُ جَوَازُ بَيْعِ الثَّمَرِ ، وَبِهِ يَطِيبُ أَكْلُهَا ، وَيَأْمَنُ الْعَاهَةَ ، وَذَلِكَ عِنْدَ طُلُوعِ الثُّرَيَّا مَعَ الْفَجْرِ ، بِمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْعَادَةِ ، وَأَحْكَمَهُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ، وَفَصَّلَهُ مِنْ الْحُكْمِ وَالشَّرِيعَةِ ؛ وَمِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ : { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يُشَقَّحَ } قَالَ الْأَصْمَعِيُّ : إذَا تَغَيَّرَ الْبُسْرُ إلَى الْحُمْرَةِ قِيلَ : هَذِهِ شُقْحَةٌ ، وَقَدْ أَشَقَحَتْ .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ قَالَ مَالِكٌ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { إلَى ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } الْإِينَاعُ : الطِّيبُ بِغَيْرِ فَسَادٍ وَلَا نَقْشٍ .
قَالَ مَالِكٌ : وَالنَّقْشُ أَنْ تَنْقُشَ أَسْفَلَ الْبُسْرَةِ حَتَّى تَرْطُبَ ، يُرِيدُ يَثْقُبُ فِيهَا ، بِحَيْثُ يُسْرِعُ دُخُولُ الْهَوَاءِ إلَيْهِ فَيَرْطُبُ مُعَجَّلًا ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ الْيَنْعُ الْمُرَادَ فِي الْقُرْآنِ ، وَلَا هُوَ الَّذِي رَبَطَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْعَ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ مِنْ ذَاتِهِ بِغَيْرِ مُحَاوَلَةٍ ، وَفِي بَعْضِ بِلَادِ التِّينِ ، وَهِيَ الْبِلَادُ الْبَارِدَةُ ، لَا يَنْضَجُ حَتَّى يَدْخُلَ فِي فَمِهِ عَمُودٌ قَدْ دُهِنَ بِزَيْتٍ ، فَإِذَا طَابَ حَلَّ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةُ الْهَوَاءِ وَعَادَةُ

الْبِلَادِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا طَابَ فِي وَقْتِ الطِّيبِ .
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : قُلْت لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَلِكِ بْنِ الْمَاجِشُونِ وَقَدْ رَأَيْته يَأْكُلُ الرُّطَبَ يُقَصِّعُهُ ، كَيْفَ تَفْعَلُ هَذَا ، وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَقْصِيعِ الرُّطَبِ } ؟ فَقَالَ : إنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَقْصِيعِ الرُّطَبِ حَيْثُ كَانَ أَكْلُهُ : يَتَشَبَّعُ بِهِ ؛ وَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالرَّخَاءِ وَالْخَيْرِ ، وَالْمُرَادُ هَاهُنَا بِالتَّقْصِيعِ أَكْلُ الرُّطَبَةِ فِي لُقْمَةٍ ، وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الشِّبَعِ ؛ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُهَا فَأَكْلُهَا فِي لُقَمٍ أَثْبَتُ لِلشِّبَعِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : لَا تَسُبُّوا آلِهَةَ الْكُفَّارِ فَيَسُبُّوا إلَهَكُمْ وَكَذَلِكَ هُوَ ؛ فَإِنَّ السَّبَّ فِي غَيْرِ الْحُجَّةِ فِعْلُ الْأَدْنِيَاءِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الرَّجُلَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَكَيْفَ يَسُبُّ أَبَوَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَحَدًا أَنْ يَفْعَلَ فِعْلًا جَائِزًا يُؤَدِّي إلَى مَحْظُورٍ ؛ وَلِأَجْلِ هَذَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ ، وَهُوَ كُلُّ عَقْدٍ جَائِزٍ فِي الظَّاهِرِ يُؤَوَّلُ أَوْ يُمْكِنُ أَنْ يُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ ؛ وَسَتَرَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُنَّ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنَا لَنَسُبَّنَّ إلَهَكُمْ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْمُحِقِّ أَنْ يَكُفَّ عَنْ حَقٍّ [ يَكُونُ ] لَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ إلَى ضَرَرٍ يَكُونُ فِي الدِّينِ ؟ وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ ، اخْتِصَارُهُ : أَنَّ الْحَقَّ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَيَأْخُذُهُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فَفِيهِ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّ قُرَيْشًا كَلَّمَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمَّدُ ، تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ ؛ فَأْتِنَا مِنْ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَك .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ ؟ قَالُوا : تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا .
قَالَ لَهُمْ : فَإِنْ فَعَلْت تُصَدِّقُونِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ ؛ وَاَللَّهِ لَئِنْ فَعَلْت لَنَتَّبِعَنَّكَ أَجْمَعُونَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ مَا شِئْت ، إنْ شِئْت أَصْبَحَ ذَهَبًا ، وَلَئِنْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةً وَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ ، وَإِنْ شِئْت فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ } ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ : { يَجْهَلُونَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } : يَعْنِي غَايَةَ أَيْمَانِهِمْ الَّتِي بَلَغَهَا عِلْمُهُمْ ، وَانْتَهَتْ إلَيْهِ قُدْرَتُهُمْ ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْإِلَهُ الْأَعْظَمُ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ إنَّمَا يَعْبُدُونَهَا ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إلَى اللَّهِ زُلْفَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { بِاَللَّهِ } وَإِنْ كَانَ غَايَةُ أَيْمَانِ الْكُفَّارِ عَلَى اعْتِقَادِهِمْ الَّذِي قَدَّمْنَا ، فَإِنَّهُ غَايَةُ أَيْمَانِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ } .
وَهَذَا يُفِيدُ الْمَنْعَ مِنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ .
وَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى وَجْهِ التَّحْرِيمِ ، بِأَنْ يَحْلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ تَعَالَى مُعَظِّمًا لَهُ مَعَ اللَّهِ ، أَوْ مُعَظِّمًا لَهُ مِنْ دُونِهِ ؛ فَهَذَا كُفْرٌ .
الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهِيَةِ ، بِأَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ مَعْنًى مِمَّا يَلْزَمُهُ جِنْسُهُ فِي الشَّرْعِ ابْتِدَاءً بِوَجْهِ مَا إذَا رَبَطَهُ بِفِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ ، وَهُوَ مَعْنَى اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِيمَا إذَا قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ، أَوْ عَبْدِي حُرٌّ ، فَهَذِهِ يَمِينٌ مُنْعَقِدَةٌ ، وَهِيَ أَصْلٌ لِغَيْرِهَا مِنْ الْأَيْمَانِ ، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَتَرَكَّبَ عَلَيْهَا مَسْأَلَةٌ رَابِعَةٌ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ : مَا إذَا قَالَ : الْأَيْمَانُ تَلْزَمُهُ إنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا .
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ مَعْرُوفَةً بِغَيْرِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ كَانُوا يَقُولُونَ : عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَهُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ ، ثُمَّ تَكَاثَرَتْ الصُّوَرُ حَتَّى آلَتْ بَيْنَ النَّاسِ إلَى صُورَةٍ هَذِهِ أُمُّهَا .
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ يَقُولُ : يَلْزَمُهُ إطْعَامُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا إذَا حَنِثَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " الْأَيْمَانُ " جَمْعُ يَمِينٍ ، وَهُوَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينٌ ، وَحَنِثَ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ يَمِينَانِ لَلَزِمَتْهُ كَفَّارَتَانِ إذَا حَنِثَ .
وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ فَيَلْزَمُهُ فِيهَا ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ .
وَكَانَ أَهْلُ الْقَيْرَوَانِ قَدْ اخْتَلَفُوا فِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا مَرْجِعُهُ إلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ

الطَّلَاقَ فِيهَا ثَلَاثٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الطَّلَاقَ فِيهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ .
وَقَدْ جَمَعْت فِي الْمَسْأَلَةِ رِسَالَةً إبَّانَ كُنْت بِإِفْرِيقِيَّةَ ، وَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ فِيهَا عَلَيَّ ، فَاسْتَخَرْت اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مُتَوَسِّطٍ مِنْ الْأَقْوَالِ لَمْ أَخْرُجْ فِيهِ عَنْ جَادَّةِ الْأَدِلَّةِ ، وَلَا عَنْ أَصْلِ إمَامِ الْأَئِمَّةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .
أَمَّا أَصْلُ مَالِكٍ فَقَوْلُهُ فِيمَنْ قَالَ : عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي زَمَانِهِ ، وَقَبْلَ ذَلِكَ ، يَحْلِفُونَ فِي الْبَيْعَةِ وَيَتَوَثَّقُونَ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْعُهُودِ فِي الْمُحَالَفَةِ ، وَيُدْخِلُونَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ الْيَمِينَ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهِ ؛ فَلَمَّا سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ هَذِهِ النَّازِلَةِ وَأَصْحَابُهُ رَأَوْا أَنَّ الْحَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي أَنْ يَتْرُكُوا مَعَهُ أَزْوَاجَهُ مُحْتَبَسِينَ فِي النِّكَاحِ ، وَمِمَّا يَأْخُذُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الطَّلَاقُ فَتَحَرَّجُوا فِي ذَلِكَ ، وَقَالُوا : يُطَلِّقُ نِسَاءَهُ .
وَأَمَّا طَرِيقُ الْأَدِلَّةِ فَلِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لَا يَخْلُو أَنْ يُرَادَ بِهَا هَاهُنَا الْجِنْسُ أَوْ الْعَهْدُ ، فَإِنْ دَخَلَتْ لِلْعَهْدِ فَالْمَعْهُودُ قَوْلُك بِاَللَّهِ ، فَيَكُونُ مَا قَالَهُ الْفِهْرِيُّ .
وَإِنْ دَخَلَتْ لِلْجِنْسِ فَالطَّلَاقُ جِنْسٌ ، فَيَدْخُلُ فِيهَا وَلَا يُسْتَوْفَى عَدَدُهُ ؛ فَإِنَّ الَّذِي يَكْفِي أَنْ يَدْخُلَ مِنْ كُلِّ جِنْسٍ مَعْنًى وَاحِدٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ دَخَلَ فِي الْجِنْسِ الْمَعْنَى كُلُّهُ لَلَزِمَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ إذْ قَدْ تَكُونُ الصَّدَقَةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ يَمِينًا ، وَنَافِذَةً فِيمَا إذَا كَانَ الْمَالُ مُعَيَّنًا فِي دَارٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ كَبْشٍ وَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ إجْمَاعًا ؛ فَتَبَصَّرْنَا ذَلِكَ ، وَأَخَذْنَا بِالْوَسَطِ مِنْهُ ، وَقَدْ بَسَطْنَا ذَلِكَ فِي الرِّسَالَةِ الْحَاكِمَةِ عَلَى الْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ ، وَهُنَاكَ يَسْتَوْفِي النَّاظِرُ

غَرَضَهُ مِنْهَا ، وَاَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمُ ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { أَتَى أُنَاسٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنَأْكُلُ مَا نَقْتُلُ ، وَلَا نَأْكُلُ مَا قَتَلَ اللَّهُ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كُنْتُمْ } إلَى قَوْلِهِ : { لَمُشْرِكُونَ } } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } يَقْضِي بِدَلِيلِ الْخِطَابِ عَلَى رَأْيِ مَنْ قَرَأَ أَلَّا يُؤْكَلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ وَهُوَ جَوَازُ الْأَكْلِ عَلَى أَحَدِ وَصْفَيْ الشَّيْءِ ، وَهُوَ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآخَرَ بِخِلَافِهِ ، بَيْدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْحُكْمَيْنِ بِنَصَّيْنِ ، وَتَكَلَّمَ فِيهِمَا بِكَلَامَيْنِ صَرِيحَيْنِ ، فَقَالَ فِي الْمُقَابِلِ الثَّانِي : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ } .
الْمَعْنَى : مَا الْمَانِعُ لَكُمْ مِنْ أَكْلِ مَا سَمَّيْتُمْ عَلَيْهِ رَبَّكُمْ ، وَإِنْ قَتَلْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ ، وَأَوْضَحَ لَكُمْ الْمُحَلَّلَ ، فَإِنَّ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْك مَعْنًى خَاصِّيًّا أَبَاحَ مَا سِوَاهُ ، فَكَيْفَ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَتْلِ وَالتَّسْمِيَةِ عَلَيْهِ وَأَكْلِهِ ، فَكَيْفَ يُقَابَلُ ذَلِكَ مِنْ تَفْصِيلِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ وَإِيضَاحِهِ وَشَرْحِهِ بِهَوًى بَاطِلٍ وَرَأْيٍ فَاسِدٍ ، صَدَرَا عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَكَانَا بِاعْتِدَاءٍ وَإِثْمٍ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ

بِالْمُعْتَدِينَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ } .
الْمَعْنَى : قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ الْمُحَرَّمَ فَذَرُوهُ وَهُوَ الْإِثْمُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ : سِرُّهُ وَعَلَانِيَتُهُ : قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي : قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : ظَاهِرُ الْإِثْمِ نِكَاحُ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا .
الثَّالِثُ : ظَاهِرُ الْإِثْمِ أَصْحَابُ الرَّايَاتِ مِنْ الزَّوَانِي ، وَبَاطِنُهُ ذَوَاتِ الْأَخْدَانِ ؛ قَالَهُ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ .
الرَّابِعُ : ظَاهِرُ الْإِثْمِ طَوَافُ الْعُرْبَانِ ، وَبَاطِنُهُ الزِّنَا ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ ؛ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ فِي الْقَوْلِ الْخَامِسِ ظَاهِرُ الْإِثْمِ الْخَمْرُ ، وَبَاطِنُهُ الْمُثَلَّثُ وَالْمُنَصَّفُ ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَيُحْتَمَلُ وَجْهًا سَادِسًا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ الْإِثْمِ وَاضِحَ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَبَاطِنُهُ الشُّبُهَاتِ وَمِنْهَا الذَّرَائِعُ ، وَهِيَ الْمُبَاحَاتُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى الْمُحَرَّمَاتِ ؛ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } يَعْنِي : فَمُطْلَقُ سَبَبِ الْآيَةِ الْمَيْتَةُ ، وَهِيَ الَّتِي قَالُوا هُمْ فِيهَا : وَلَا نَأْكُلُ مِمَّا قَتَلَ اللَّهُ .
فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ : لَا تَأْكُلُوا مِنْهَا ؛ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : هَذَا هُوَ السَّبَبُ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ ، وَقَصْرُ اللَّفْظِ الْوَارِدِ عَلَى السَّبَبِ الْمَوْرُودِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَقِلًّا دُونَ عَطْفِهِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لُغَةً وَلَا حُكْمًا .
قُلْنَا : قَدْ آنَ أَنْ نَكْشِفَ لَكُمْ نُكْتَةً أُصُولِيَّةً وَقَعَتْ تَفَارِيقَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ تَلَقَّفْتهَا جُمْلَةً مِنْ فَكٍّ شَدِيدٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّا نَقُولُ : مَهْمَا قُلْنَا : إنَّ اللَّفْظَ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ ، هَلْ يَقْصُرُ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّا لَا نُخْرِجُ السَّبَبَ عَنْهُ ، بَلْ نُقِرُّهُ فِيهِ ، وَنَعْطِفُ بِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا نَمْتَنِعُ أَنْ يُضَافَ غَيْرُهُ إلَيْهِ إذَا احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ ، أَوْ قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ ؛ فَقَوْلُهُ : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ظَاهِرٌ فِي تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ بِعُمُومِ لَفْظِهِ ، وَكَوْنِهَا سَبَبًا لِوُرُودِهِ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ الْآلِهَةِ الْمُبْطَلَةِ وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : بِعُمُومِ أَنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَبِزِيَادَةِ ذِكْرِ غَيْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ الَّذِي يَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ هَذَا اللَّفْظَ عُمُومًا وَمَعْنَاهُ تَنْبِيهًا مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَيَقْتَضِي تَحْرِيمُهُ نَصًّا قَوْلُهُ : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } ، فَقَدْ تَوَارَدَ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ النَّصُّ وَالْعُمُومُ وَالتَّنْبِيهُ مِنْ طَرِيقِ الْأَوْلَى بِالتَّحْرِيمِ لِظَاهِرِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ أَوَّلًا .
وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ الِاسْتِنْبَاطِ فِي مَوَارِدِ الْأَدِلَّةِ الْمُمَاثَلَةِ فِي اقْتِضَاءِ الْحُكْمِ الْوَاحِدِ عَلَيْهِ ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ مَا تَرَكَ الْمُسْلِمُ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهِ عَمْدًا مِنْ الذَّبَائِحِ أَمْ لَا ؟ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ جِدًّا قَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي تَخْلِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ ، وَلَكِنَّنَا نُشِيرُ فِيهَا هَاهُنَا إلَى نُكْتَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْصُودِ ؛ فَنَقُولُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى سِتَّةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : إنْ تَرَكَهَا سَهْوًا أُكِلَتْ .
وَإِنْ تَرَكَهَا عَمْدًا لَمْ تُؤْكَلْ قَالَهُ فِي الْكِتَابِ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَعِيسَى ، وَأَصْبَغُ .
الثَّانِي : إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا تُؤْكَلُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ ، وَالشَّافِعِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا حَرُمَ أَكْلُهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ ، وَأَحْمَدُ .
الرَّابِعُ : إنْ تَرَكَهَا مُتَعَمِّدًا كُرِهَ أَكْلُهَا وَلَمْ تُحَرَّمْ ؛ قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ ، وَالشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ .
الْخَامِسُ : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : التَّسْمِيَةُ شَرْطٌ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ دُونَ السَّهْمِ فِي إحْدَى رِوَايَتَيْهِ .
السَّادِسُ : قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَجِبُ أَنْ تُعَلَّقَ هَذِهِ الْأَحْكَامُ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَالدَّلَائِلِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي أَسَّسَتْهَا الشَّرِيعَةُ .
فَأَمَّا الْقُرْآنُ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } .
{

وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } فَبَيَّنَ الْحَالَيْنِ وَأَوْضَحَ الْحُكْمَيْنِ .
وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } نَهْيٌ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ ؛ لِتَنَاوُلِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ الْحَرَامَ الْمَحْضَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَبَعَّضَ .
وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصِّحَاحِ : { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ } .
وَقَالَ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ ، وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ } .
وَقَالَ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَإِنْ وَجَدْت مَعَ كَلْبِك كَلْبًا آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ ؛ فَإِنَّك إنَّمَا سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى الْآخَرِ } .
وَهَذِهِ أَدِلَّةٌ ظَاهِرَةٌ غَالِبَةٌ عَالِيَةٌ ، وَذَلِكَ مِنْ أَظْهَرِ الْأَدِلَّةِ .
وَأَعْجَبُ لِرَأْسِ الْمُحَقِّقِينَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ يَقُولُ فِي مُعَارَضَةِ هَذَا : [ وَذِكْرُ اللَّهِ ] إنَّمَا شُرِعَ فِي الْقُرَبِ ، وَالذَّبْحُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ .
قُلْنَا : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ يُعَارِضُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ ، كَمَا قُلْنَا .
الثَّانِي : أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ مَشْرُوعٌ فِي كُلِّ حَرَكَةٍ وَسَكْنَةٍ ، حَتَّى فِي خُطْبَةِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ دَرَجَاتُهُ : بِالْوُجُوبِ وَالِاسْتِحْبَابِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الذَّبِيحَةَ قُرْبَةٌ بِدَلِيلِ افْتِقَارِهَا إلَى النِّيَّةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَك ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ } .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ بِالْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الذِّكْرَ يُضَادُّ النِّسْيَانَ ، وَمَحَلُّ النِّسْيَانِ الْقَلْبُ ، فَمَحَلُّ الذِّكْرِ الْقَلْبُ .
وَقَدْ رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ

يُسَمِّي أَوْ لَمْ يُسَمِّ } ، وَلِهَذَا تُجْزِئُهُ الذَّبِيحَةُ إذَا نَسِيَ التَّسْمِيَةَ تَعْوِيلًا عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ اسْمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ .
قُلْنَا : الذِّكْرُ يَكُونُ بِاللِّسَانِ ، وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ ، وَاَلَّذِي كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ تَسْمِيَةَ الْأَصْنَامِ وَالنُّصُبِ بِاللِّسَانِ ، فَنَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِذِكْرِ اللَّهِ فِي الْأَلْسِنَةِ ، وَاسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِي الشَّرِيعَةِ ، حَتَّى قِيلَ لِمَالِكٍ : هَلْ يُسَمِّي اللَّهَ إذَا تَوَضَّأَ ؟ فَقَالَ : أَيُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَ ؟ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَوْضِعَ التَّسْمِيَةِ وَمَوْضُوعَهَا إنَّمَا هُوَ فِي الذَّبَائِحِ لَا فِي الطَّهَارَةِ .
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي تَعَلَّقُوا بِهِ فِي قَوْلِهِ : { اسْمُ اللَّهِ عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُؤْمِنٍ } فَحَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ .
وَأَمَّا النَّاسِي لِلتَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبِيحَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } وَلَيْسَ النَّاسِي فَاسِقًا بِإِجْمَاعٍ ، فَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَذَلِكَ الْمُتَعَمِّدُ لَيْسَ بِفَاسِقٍ إنْ أَكَلَهَا إجْمَاعًا ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةُ اجْتِهَادٍ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا .
قُلْنَا : قَدْ أَجَبْنَا عَنْ هَذِهِ النُّكْتَةِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَصَرَّحْنَا فِيهِ بِالْحَقِّ مِنْ وُجُوهٍ ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّ تَارِكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ إذَا أَضْجَعَ الذَّبِيحَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : قَلْبِي مَمْلُوءٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ ، فَلَا أَفْتَقِرُ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ بِلِسَانِي : فَذَلِكَ يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ اللَّهَ وَعَظَّمَهُ .
وَإِنْ قَالَ : لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّسْمِيَةِ صَرِيحَةً ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِقُرْبَةٍ ، فَهَذَا يُجْزِيهِ لِكَوْنِهِ عَلَى مَذْهَبٍ يَصِحُّ اعْتِقَادُهُ اجْتِهَادًا لِلْمُجْتَهِدِ فِيهِ وَتَقْلِيدًا لِمَنْ قَلَّدَهُ .
وَإِنْ قَالَ : لَا أُسَمِّي ، وَأَيُّ قَدْرٍ لِلتَّسْمِيَةِ ؟ فَهَذَا مُتَهَاوِنٌ كَافِرٌ فَاسِقٌ لَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ ، فَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الْخِلَافُ فِي

الْمَسْأَلَةِ عَلَى الصُّورَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ، فَأَمَّا عَلَى الصُّورَةِ الثَّالِثَةِ فَلَا تَشْخِيصَ لَهَا .
وَاَلَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي صُورَةِ النَّاسِي أَنَّ الْخِطَابَ لَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ ، لِاسْتِحَالَةِ خِطَابِ النَّاسِي ؛ فَالشَّرْطُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ } سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مَا يَقَعُ فِي الْقُلُوبِ مِنْ إلْهَامٍ وَحْيًا ، وَهَذَا مِمَّا يُطْلِقُهُ شُيُوخُ التَّصَوُّفِ ، وَيُنْكِرُهُ جُهَّالُ الْمُتَوَسِّمِينَ بِالْعِلْمِ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ الْوَحْيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ، وَأَنَّ إطْلَاقَهُ فِي جَمِيعِهَا جَائِزٌ فِي دِينِ اللَّهِ ، أَوْ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ سَمَّى إلْهَامَ الشَّيَاطِينِ وَحْيًا ؛ وَكُلُّ مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ الْخَوَاطِرِ فَهُوَ خَلْقُ اللَّهِ ؛ فَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ الشَّرِّ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الشَّيْطَانِ ، وَمَا كَانَ مِنْ الْخَيْرِ أَضَافَهُ اللَّهُ إلَى الْمَلَكِ .
وَفِي الْحَدِيثِ : { إنَّ الْقَلْبَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ : لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ وَلَمَّةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ } .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِيُجَادِلُوكُمْ } الْمُجَادَلَةُ دَفْعُ الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ عَلَى طَرِيقِ الْحُجَّةِ بِالْقُوَّةِ مَأْخُوذٌ مِنْ " الْأَجْدَلِ " : طَائِرٌ قَوِيٌّ ، أَوْ لِقَصْدِ الْمُغَالَبَةِ ؛ كَأَنْ يَطْرَحَهُ عَلَى الْجَدَالَةِ ، وَيَكُونُ حَقًّا فِي نُصْرَةِ الْحَقِّ وَبَاطِلًا فِي نُصْرَةِ الْبَاطِلِ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } إنَّمَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ بِطَاعَةِ الْمُشْرِكِ مُشْرِكًا إذَا أَطَاعَهُ فِي اعْتِقَادِهِ : الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ؛ فَإِذَا أَطَاعَهُ فِي الْفِعْلِ وَعَقْدُهُ سَلِيمٌ مُسْتَمِرٌّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّصْدِيقِ فَهُوَ عَاصٍ .
فَافْهَمُوا ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ : وَالْعَاشِرَةُ ، وَالْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمْ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ جَهْلَ الْعَرَبِ فَلْيَقْرَأْ مَا فَوْقَ الثَّلَاثِينَ وَالْمِائَةِ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ إلَى قَوْله تَعَالَى : { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلَامٌ صَحِيحٌ ، فَإِنَّهَا تَصَرَّفَتْ بِعُقُولِهَا الْقَاصِرَةِ فِي تَنْوِيعِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ سَفَاهَةً بِغَيْرِ مَعْرِفَةٍ وَلَا عَدْلٍ ؛ وَاَلَّذِي تَصَرَّفَتْ بِالْجَهْلِ فِيهِ مِنْ اتِّخَاذِ آلِهَةٍ أَعْظَمَ جَهْلًا وَأَكْبَرَ جُرْمًا ؛ فَإِنَّ الِاعْتِدَاءَ عَلَى اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَخْلُوقِينَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَاحِدٌ فِي ذَاتِهِ ، وَاحِدٌ فِي صِفَاتِهِ ، وَاحِدٌ فِي مَخْلُوقَاتِهِ أَبْيَنُ

وَأَوْضَحُ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ هَذَا حَلَالٌ ، وَهَذَا حَرَامٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ : إنَّكُمْ عَلَى كَمَالِ عُقُولِكُمْ وَوُفُورِ أَحْلَامِكُمْ كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ الْحَجَرَ .
فَقَالَ عَمْرٌو : تِلْكَ عُقُولٌ كَادَهَا بَارِيهَا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ سَخَافَةِ الْعَرَبِ وَجَهْلِهَا أَمْرٌ أَذْهَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ ، وَأَبْطَلَهُ بِبَعْثَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مِنْ الظَّاهِرِ لَنَا أَنْ نُمِيتَهُ حَتَّى لَا يَظْهَرَ ، وَنَنْسَاهُ حَتَّى لَا يُذْكَرَ [ إلَّا ] أَنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَهُ بِنَصِّهِ ، وَأَوْرَدَهُ بِشَرْحِهِ ، كَمَا ذَكَرَ كُفْرَ الْكَافِرِينَ بِهِ .
وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ قَضَاءَهُ قَدْ سَبَقَ ، وَحُكْمَهُ قَدْ نَفَذَ ، بِأَنَّ الْكُفْرَ وَالتَّخْلِيطَ لَا يَنْقَطِعَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ أَلَّا يَصُدَّ كَافِرٌ عَنْ ذِكْرِ الْكُفْرِ ، وَلَا مُبْتَدِعٌ عَنْ تَغْيِيرِ الدِّينِ ، قَصَدَهُ بِبَيَانِ الْأَدِلَّةِ ، ثُمَّ وَفَّقَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الْخَيْرُ فَيَسَّرَ لَهُ مَعْرِفَتَهَا ، فَآمَنَ وَأَطَاعَ ، وَخَذَلَ مَنْ سَبَقَ لَهُ عِنْدَهُ الشَّرُّ فَصَدَفَهُ عَنْهَا ، فَكَفَرَ وَعَصَى { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } فَتَعَيَّنَ عَلَيْنَا أَنْ نُشِيرَ إلَى بَسْطِ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنْ الْحَرْثِ } أَيْ : أَظْهَرَ بِالْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ مِنْ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا ، وَجَمِيعُهُ لَهُ لَا شَرِيكَ مَعَهُ فِي خَلْقِهِ ، فَكَيْفَ جَعَلُوا لَهُ شَرِيكًا فِي الْقُرْبَانِ بِهِ مِنْ الْأَوْثَانِ الَّتِي نَصَبُوهَا لِلْعِبَادَةِ مَعَهُ ، وَشَرُّ الْعَبِيدِ كَمَا يَأْتِي [ بَيَانُهُ ] فِي الْأَثَرِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ سَيِّدُهُ بِنِعْمَةٍ فَجَعَلَ يَشْكُرُ غَيْرَهُ عَلَيْهَا ، وَكَانَ هَذَا النَّصِيبُ الَّذِي لِلْأَوْثَانِ جَعَلُوهُ لِلَّهِ مِنْ

الْحَرْثِ مَصْرُوفًا فِي النَّفَقَةِ عَلَيْهَا وَعَلَى خُدَّامِهَا ، وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الْأَنْعَامِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَهَا قُرْبَانًا لِلْآلِهَةِ .
وَقِيلَ : كَانَ لِلَّهِ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ وَالْوَصِيلَةُ وَالْحَامُ ، وَكَانَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ إذَا اخْتَلَطَ بِأَمْوَالِهِمْ لَمْ يَرُدُّوهُ ، وَإِذَا اخْتَلَطَ مَا لِلْأَوْثَانِ بِهَا رَدُّوهُ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ } الْآيَةَ .
وَقِيلَ : كَانَ ذَلِكَ إذَا هَلَكَ مَا جَعَلُوهُ لِلَّهِ لَمْ يَغْرَمُوهُ ، وَإِذَا هَلَكَ مَا جُعِلَ لِلْأَوْثَانِ غَرِمُوهُ .
وَقِيلَ : كَانُوا يَذْكُرُونَ اسْمَ الْأَوْثَانِ عَلَى نَصِيبِ اللَّهِ ، وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَلَى نَصِيبِ الْأَوْثَانِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنَّ تَرْكَهُمْ لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ مَذْمُومٌ مِنْهُمْ وَفِيهِمْ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَرْكِ أَكْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ اللَّهُ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : { وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } يَعْنِي : فِي الْوَأْدِ لِلْبَنَاتِ مَخَافَةَ السِّبَاءِ وَعَدَمِ الْحَاجَةِ وَمَا حُرِمْنَ مِنْ النُّصْرَةِ ، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ .
وَقِيلَ : كَمَا فَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حِينَ نَذَرَ ذَبْحَ وَلَدِهِ عَبْدَ اللَّهِ .
وَحَقِيقَةُ التَّزْيِينِ إظْهَارُ الْجَمِيلِ ، وَإِخْفَاءُ الْقَبِيحِ ، وَقَدْ يَتَغَلَّبُ بِخِذْلَانِ اللَّهِ لِلْعَبْدِ ، كَمَا يَتَحَقَّقُ بِتَوْفِيقِهِ لَهُ .
وَمِنْ الْبَاطِلِ الَّذِي ارْتَكَبُوهُ بِتَزْيِينِ الشَّيْطَانِ تَصْوِيرَهُ عِنْدَهُمْ جَوَازُ أَكْلِ الذُّكُورِ مِنْ الْقَرَابِينِ ، وَمَنْعُ الْإِنَاثِ مِنْ أَكْلِهَا ، كَالْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ ، وَكَانَ تَفْضِيلُهُمْ لِلذُّكُورِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ ، أَوْ بِمَجْمُوعِهِمَا : إمَّا لِفَضْلِ الذَّكَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى الْأُنْثَى ، وَإِمَّا لِأَنَّ الذُّكُورَ كَانُوا سَدَنَةَ بُيُوتِ الْأَصْنَامِ ؛ فَكَانُوا يَأْكُلُونَ مِمَّا جُعِلَ لَهُمْ مِنْهَا ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ تَعَدٍّ فِي الْأَفْعَالِ ، وَابْتِدَاءٌ فِي الْأَقْوَالِ ، وَعَمَلٌ بِغَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ الشَّرْعِ ؛ وَلِذَلِكَ أَنْكَرَ جُمْهُورٌ مِنْ النَّاسِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَقَالُوا : إنَّهُ يُحَرِّمُ وَيُحَلِّلُ بِالْهَوَى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَمَا كَانَ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ أَتْبَاعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَيْفَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَعُلَمَاؤُنَا مِنْ الْمَالِكِيَّةِ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ : الْقِيَامُ كَذَا فِي مَسْأَلَةٍ ، وَالِاسْتِحْسَانُ كَذَا ، وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
نُكْتَتُهُ الْمُجْزِئَةُ هَاهُنَا أَنَّ الْعُمُومَ إذَا اسْتَمَرَّ وَالْقِيَاسُ إذَا اطَّرَدَ فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنًى ، وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يَخُصَّ بِالْمَصْلَحَةِ ، وَيَسْتَحْسِنُ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ

يَخُصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنْ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ .
وَيَرَى مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ بِبَعْضِ الْعِلَّةِ ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيَّ الْعِلَّةَ الشَّرْعَ إذَا ثَبَتَ تَخْصِيصًا ، وَلَمْ يَفْهَمْ الشَّرِيعَةَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالْمَصْلَحَةِ وَلَا رَأَى تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ ، وَقَدْ رَامَ الْجُوَيْنِيُّ رَدَّ ذَلِكَ فِي كُتُبِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ الَّتِي هِيَ نُخْبَةُ عَقِيدَتِهِ وَنَخِيلَةُ فِكْرَتِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْهُ ، وَفَاوَضْت الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي ذَلِكَ وَرَاجَعْته حَتَّى وَقَفَ ، وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ فِي الْمَحْصُولِ وَالِاسْتِيفَاءُ بِمَا فِي تَحْصِيلِهِ شِفَاءٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : فَقَدْ تَاخَمْتُمْ هَذِهِ الْمَهْوَاةَ ، وَأَشْرَفْتُمْ عَلَى التَّرَدِّي فِي الْمَغْوَاةِ ؛ فَإِنَّكُمْ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْيَمِينَ يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَيَقْلِبَ الْأَوْصَافَ الشَّرْعِيَّةَ ، وَنَحْنُ بَرَاءٌ مِنْ ذَلِكَ ؟ قُلْنَا : هَيْهَاتَ ، مَا حَرَّمْنَا إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، وَلَا قُلْنَا إلَّا مَا قَالَ اللَّهُ ، أَلَمْ تَسْمَعُوا قَوْلَهُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك } ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَسَنُبَيِّنُهَا فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } .
فِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { أَنْشَأَ } : أَيْ : ابْتَدَأَ الْفِعْلَ مِنْ غَيْرِ احْتِذَاءِ مِثَالٍ ؛ وَكَانَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الِاثْنَيْنِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ ، وَأَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ أَنْشَأَ فِي كُلِّ فِعْلٍ كَانَ عَلَى مِثَالٍ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْجَنَّاتُ : هِيَ : الْبَسَاتِينُ الَّتِي يَجِنُّهَا الشَّجَرُ ، أَيْ : يَسْتُرُهَا ؛ وَمِنْهُ جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْجِنُّ ، لِاجْتِنَانِهِمْ عَنْ الْأَبْصَارِ ، وَكَذَلِكَ الْجِنَّةُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا } ؛ سُمُّوا بِذَلِكَ لِاجْتِنَانِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } يَعْنِي : رُفِعَتْ عَلَى الْأَعْوَادِ ، وَصِينَتْ عَنْ تَدَلِّي الثَّمَرِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَأُظْهِرَتْ لِلْإِدْرَاكِ ، وَسَهُلَ جَمْعُهَا دُونَ انْحِنَاءٍ .
وَالْعَرْشُ : كُلُّ مَا ارْتَفَعَ فَوْقَ غَيْرِهِ .
وَقِيلَ : تَعْرِيشُهَا حِيَاطَتُهَا بِالْجُدُرِ ، وَمَا قَامَ مَقَامَهَا ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِيهَا مَدْخَلٌ لِأَحَدٍ ؛ وَالْأَوَّلُ أَقْوَى فِي الِاشْتِقَاقِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ : { خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا } : يَعْنِي عَلَى أَعَالِيهَا ، وَلَعَلَّهُ عَلَى جُدْرَانِهَا ، وَأَشَارَ بِذَلِكَ إلَى حَدَائِقِ الْأَعْنَابِ الَّتِي هِيَ الْكُرُومُ فِي أَلْسِنَةِ الْعَرَبِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ } وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَصْلَا الْمَعَاشِ ، وَعِمَادَا الْقُوتِ ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ فِي

وِزَانٍ آخَرَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَوَصْفُهَا بِأَنَّهَا مُتَشَابِهَةٌ وَغَيْرُ مُتَشَابِهَةٍ ؛ يَعْنِي : أَنَّ مِنْهَا مَا يَتَشَابَهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَيُخَالِفُهُ فِي الْبَاطِنِ ؛ وَمِنْهَا مَا يَشْتَبِهُ فِي اللَّوْنِ ، وَيَخْتَلِفُ فِي الطَّعْمِ ؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلَانِ عَظِيمَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى الْمِنَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْنَا وَالنِّعْمَةِ الَّتِي هَيَّأَهَا لَنَا وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا إنْ خَلَقَنَا أَحْيَاءً أَلَّا يَخْلُقَ لَنَا غِذَاءً ، أَوْ إذَا خَلَقَهُ أَلَّا يَكُونَ جَمِيلَ الْمَنْظَرِ طَيِّبَ الطَّعْمِ ، أَوْ إذَا خَلَقَهُ كَذَلِكَ أَلَّا يَكُونَ سَهْلَ الْجَنْيِ ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَبِفَضْلِهِ ، كَابْتِدَاءِ خَلْقِهِ : فِي تَعْدِيدِ النِّعَمِ وَتَقْرِيرِ الْفَضْلِ وَالْكَرْمِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِالثَّوَابِ قَبْلَ الْعِقَابِ ، وَبِالْعَطَاءِ قَبْلَ الْعَمَلِ .
الدَّلِيلُ الثَّانِي عَلَى الْقُدْرَةِ فِي أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ الرُّسُوبُ يَصْعَدُ بِقُدْرَةِ الْوَاحِدِ الْقَادِرِ عَلَّامِ الْغُيُوبِ مِنْ أَسَافِلِ الشَّجَرِ إلَى أَعَالِيهَا ، وَيَتَرَقَّى مِنْ أُصُولِهَا إلَى فُرُوعِهَا ، حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى آخِرِهَا نَشَأَ فِيهَا أَوْرَاقٌ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِهَا ، وَثِمَارٌ خَارِجَةٌ عَنْ صِفَتِهَا ، فِيهَا الْجِرْمُ الْوَافِرُ ، وَاللَّوْنُ الزَّاهِرُ ، وَالْجَنْيُ الْجَدِيدُ ، وَالطَّعْمُ اللَّذِيذُ ؛ فَأَيْنَ الطَّبَائِعُ وَأَجْنَاسُهَا ؟ وَأَيْنَ الْفَلَاسِفَةُ وَأُنَاسُهَا ؟ هَلْ فِي قُدْرَةِ الطَّبِيعَةِ إذَا سَلَّمْنَا وَقُلْنَا لَهَا قُدْرَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْجَدَلِ أَنْ تُتْقِنَ هَذَا الْإِتْقَانَ الْبَدِيعَ ، أَوْ تُرَتِّبَ هَذَا التَّرْتِيبَ الْعَجِيبَ ؟ كَلًّا ، لَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْمَعْقُولِ إلَّا لِحَيٍّ عَالِمٍ قَادِرٍ مُرِيدٍ ، فَقَدْ عَلِمَ الْأَلِبَّاءُ أَنَّ أُمِّيًّا لَا يَنْظِمُ سُطُورَ الْكِتَابَةِ ، وَأَنَّ سَوَادِيًّا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَا فِي الدِّيبَاجِ مِنْ التَّزَيُّنِ وَالنِّسَاجَةِ ؛ فَسُبْحَانَ مَنْ لَهُ فِي

كُلِّ شَيْءٍ آيَةُ بِدَايَةٍ وَنِهَايَةٍ ، فَمِنْ اللَّهِ الِابْتِدَاءُ ، وَإِنَّ إلَى رَبِّك الْمُنْتَهَى ، تَقَدَّسَ وَتَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فَهَذَانِ بِنَاءَانِ جَاءَا بِصِيغَةِ أَفْعَلَ ، وَأَحَدُهُمَا مُبَاحٌ لِقَوْلِهِ : { فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } .
وَالثَّانِي : وَاجِبٌ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الشَّرِيعَةِ اقْتِرَانُ الْمُبَاحِ وَالْوَاجِبِ ؛ لِمَا يَأْتِي فِي ذَلِكَ مِنْ الْفَوَائِدِ ، وَيَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ ، فَأَمَّا الْأَكْلُ فَلِقَضَاءِ اللَّذَّةِ ، وَأَمَّا إيتَاءُ الْحَقِّ فَلِقَضَاءِ حَقِّ النِّعْمَةِ ، فَلِلَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعَبْدِ نِعْمَةٌ فِي الْبَدَنِ بِالصِّحَّةِ ، وَاسْتِقَامَةِ الْأَعْضَاءِ ، وَسَلَامَةِ الْحَوَاسِّ ، وَنِعْمَةٌ فِي الْمَالِ بِالتَّمْلِيكِ وَالِاسْتِغْنَاءِ ، وَقَضَاءِ اللَّذَّاتِ ، وَبُلُوغِ الْآمَالِ ؛ فَفَرْضُ الصَّلَاةِ كِفَاءُ نِعْمَةِ الْبَدَنِ ، وَفَرْضُ الزَّكَاةِ كِفَاءُ نِعْمَةِ الْمَالِ ، وَبَدَأَ بِذِكْرِ نِعْمَةِ الْأَكْلِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ ؛ لِيُبَيِّنَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالنِّعْمَةِ كَانَ مِنْ فَضْلِهِ قَبْلَ التَّكْلِيفِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ } اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْحَقِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهُ الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ ، وَرَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الصَّدَقَةُ غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ تَكُونُ يَوْمَ الْحَصَادِ وَعِنْدَ الصِّرَامِ ؛ وَهِيَ إطْعَامُ مَنْ حَضَرَ وَالْإِيتَاءُ لِمَنْ غَبَرَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثِ : أَنَّ هَذَا مَنْسُوخٌ بِالزَّكَاةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَقَدْ زَعَمَ قَوْمٌ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُجْمَلٌ وَلَمْ يَخْلُصُوا الْقَوْلَ فِيهِ ، وَحَقِيقَةُ الْكَلَامِ عَلَيْهِ أَنَّ قَوْلَهُ : { آتُوا } مُفَسَّرٌ ، وَقَوْلُهُ : { حَقَّهُ } مُفَسَّرٌ فِي الْمُؤْتَى ، مُجْمَلٌ فِي الْمِقْدَارِ ؛ إنَّمَا يَقَعُ النَّظَرُ فِي رَفْعِ الْإِشْكَالِ الَّذِي أَنْشَأَهُ احْتِمَالُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ

: وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ وَجْهَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَتَحْقِيقُهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ ، وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ هَذَا التَّأْلِيفِ ، وَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ هَاهُنَا الصَّدَقَةُ الْمَفْرُوضَةُ .
وَقَدْ أَفَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِيمَا سَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَأَفَادَتْ بَيَانَ مَا يَجِبُ فِيهِ مِنْ مُخْرَجَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي أَجْمَلهَا فِي قَوْلِهِ : { وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } ، وَفَسَّرَهَا هَاهُنَا ؛ فَكَانَتْ آيَةُ الْبَقَرَةِ عَامَّةً فِي الْمُخْرَجِ كُلِّهِ مُجْمَلَةً فِي الْقَدْرِ ؛ وَهَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ فِي مُخْرَجَاتِ الْأَرْضِ مُجْمَلَةٌ فِي الْقَدْرِ ، فَبَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أُمِرَ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ، فَقَالَ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ ، وَمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ } ؛ فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِمِقْدَارِ الْحَقِّ الْمُجْمَلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَالَ أَيْضًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ } .
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ، فَكَانَ هَذَا بَيَانًا لِلْمِقْدَارِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ الْحَقُّ ، وَاَلَّذِي يُسَمَّى فِي أَلْسِنَةِ الْعُلَمَاءِ نِصَابًا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا قَدِيمًا وَحَدِيثًا ؛ فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ : أَنَّ الزَّكَاةَ فِي كُلِّ مُقْتَاتٍ لَا قَوْلَ لَهُ سِوَاهُ .
وَقَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشَرَحْنَاهُ ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ فِي كُلِّ مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ وَالْخُضَرِ ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ فِي أُصُولِ الثِّمَارِ دُونَ الْبُقُولِ .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَقْوَالًا ؛ أَظْهَرُهَا أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي كُلِّ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا كَانَ يُوسَقُ ، فَأَوْجَبَهَا فِي اللَّوْزِ ؛ لِأَنَّهُ مَكِيلٌ دُونَ الْجَوْزِ

لِأَنَّهُ مَعْدُودٌ ، مُعَوِّلًا عَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ حَبٍّ صَدَقَةٌ } ؛ فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ مَحَلَّ الْوَاجِبِ هُوَ الْمُوسَقُ ، وَبَيَّنَ الْقَدْرَ الَّذِي يَجِبُ إخْرَاجُ الْحَقِّ مِنْهُ .
وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِالْقُوتِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْسِيقَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْمُقْتَاتِ غَالِبًا دَائِمًا .
وَأَمَّا الْخُضَرُ فَأَمْرُهَا نَادِرٌ .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ { فَتَعَلَّقَتْ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ خُضَرِ الْمَدِينَةِ صَدَقَةً } .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَجَعَلَ الْآيَةَ مِرْآتَهُ فَأَبْصَرَ الْحَقَّ ، وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْمَأْكُولِ قُوتًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } : وَقَدْ أَشَرْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ إلَى مَسَالِكِ النَّظَرِ فِيهَا فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ وَالتَّخْلِيصِ .
وَقَدْ آنَ تَحْدِيدُ النَّظَرِ فِيهَا كَمَا يَلْزَمُ كُلَّ مُجْتَهِدٍ .
فَاَلَّذِي لَاحَ بَعْدَ التَّرَدُّدِ فِي مَسَالِكِهِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَكَّرَ الْإِنْسَانَ بِنِعَمِهِ فِي الْمَأْكُولَاتِ الَّتِي هِيَ قِوَامُ الْأَبْدَانِ وَأَصْلُ اللَّذَّاتِ فِي الْإِنْسَانِ ، عَلَيْهَا تَنْبَنِي الْحَيَاةُ ، وَبِهَا يَتِمُّ طِيبُ الْمَعِيشَةِ عَدَّدَ أُصُولَهَا تَنْبِيهًا عَلَى تَوَابِعِهَا ، فَذَكَرَ مِنْهَا خَمْسَةً : الْكَرْمَ ، وَالنَّخْلَ ، وَالزَّرْعَ ، وَالزَّيْتُونَ ، وَالرُّمَّانَ .
فَالْكَرْمُ وَالنَّخْلُ : يُؤْكَلُ فِي حَالَيْنِ فَاكِهَةً وَقُوتًا .
وَالزَّرْعُ يُؤْكَلُ فِي نَوْعَيْنِ : فَاكِهَةً وَقُوتًا .
وَالزَّيْتُ : يُؤْكَلُ قُوتًا وَاسْتِصْبَاحًا .
وَالرُّمَّانُ : يُؤْكَلُ فَاكِهَةً مَحْضَةً .
وَمَا لَمْ يُذْكَرْ مِمَّا يُؤْكَلُ لَا يَخْرُجُ عَنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ .
فَقَالَ تَعَالَى : هَذِهِ نِعْمَتِي فَكُلُوهَا طَيِّبَةً شَرْعًا بِالْحِلِّ طَيِّبَةً حِسًّا بِاللَّذَّةِ ، وَآتُوا الْحَقَّ مِنْهَا يَوْمَ

الْحَصَادِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا لِوَقْتِ الْإِخْرَاجِ ، وَجَعَلَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ الْحَقَّ الْوَاجِبَ مُخْتَلِفًا بِكَثْرَةِ الْمُؤْنَةِ وَقِلَّتِهَا ، فَمَا كَانَ خَفِيفَ الْمُؤْنَةِ قَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سَقْيَهُ فَفِيهِ الْعُشْرُ ، وَمَا عَظُمَتْ مُؤْنَتُهُ بِالسَّقْيِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْإِتْيَانِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ .
فَأَمَّا قَوْلُ أَحْمَدَ : إنَّهُ فِيمَا يُوسَقُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ حَبٍّ أَوْ تَمْرٍ صَدَقَةٌ } ، فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي ظَاهِرَ الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ النِّصَابُ مُعْتَبَرًا فِي التَّمْرِ وَالْحَبِّ .
فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَقِّ عَمَّا عَدَاهَا فَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ .
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْقُوتِ فَدَعْوَى وَمَعْنَى لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ يَرْجِعُ إلَيْهِ ؛ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمَعَانِي مُوجِبَةً لِأَحْكَامِهَا بِأُصُولِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقِيَاسِ .
وَكَيْفَ يَذْكُرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ النِّعْمَةَ فِي الْقُوتِ وَالْفَاكِهَةِ ، وَأَوْجَبَ الْحَقَّ مِنْهَا كُلِّهَا فِيمَا تَنَوَّعَ حَالُهُ كَالْكَرْمِ وَالنَّخِيلِ ، وَفِيمَا تَنَوَّعَ جِنْسُهُ كَالزَّرْعِ ، وَفِيمَا يَنْضَافُ إلَى الْقُوتِ مِنْ الِاسْتِسْرَاجِ الَّذِي بِهِ تَمَامُ النِّعْمَةِ فِي الْمَتَاعِ بِلَذَّةِ الْبَصَرِ إلَى اسْتِيفَاءِ النِّعَمِ فِي الظُّلَمِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الْمُقْتَاتِ الَّذِي يَدُومُ ، فَأَمَّا فِي الْخُضَرِ فَلَا بَقَاءَ لَهَا ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ تُؤْخَذْ الزَّكَاةُ فِي الْأَقْوَاتِ مِنْ أَخْضَرِهَا ، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ يَابِسِهَا .
قُلْنَا : إنَّمَا تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عِنْدَ انْتِهَائِهِ ، بِالْيُبْسِ ، وَانْتِهَاءُ الْيَابِسِ وَالطَّيِّبِ انْتِهَاءُ الْأَخْضَرِ ؛ وَلِذَلِكَ إذَا كَانَ الرَّطْبُ لَا يُثْمِرُ ، وَالْعِنَبُ لَا يَتَزَبَّبُ تُؤْخَذُ الزَّكَاةُ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِمَا ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْفَاكِهَةُ الْخُضَرِيَّةُ أَصْلًا فِي اللَّذَّةِ وَرُكْنًا فِي النِّعْمَةِ مَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِهَا فِي الْجَنَّةِ .
أَلَا تَرَاهُ وَصَفَ جَمَالَهَا وَلَذَّتَهَا ،

فَقَالَ : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } فَذَكَرَ النَّخْلَ أَصْلًا فِي الْمُقْتَاتِ ، وَالرُّمَّانَ أَصْلًا فِي الْخَضْرَاوَاتِ .
أَوَلَا يَنْظُرُونَ إلَى وَجْهِ امْتِنَانِهِ عَلَى الْعُمُومِ لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ بِقَوْلِهِ : { أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } .
وَاَلَّذِي يُحْصَدُ الزَّرْعُ .
قُلْنَا : جَهِلْتُمْ ؛ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ نَبْتٍ فِي الْأَرْضِ .
وَأَصْلُ الْحَصَادِ إذْهَابُ الشَّيْءِ عَنْ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ؛ قَالَ تَعَالَى : { مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ } .
وَقَالَ : { حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ } .
وَقَالَ : { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } .
وَفِي الْحَدِيثِ : { وَهَلْ يُكِبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَجَازٌ ؛ وَأَصْلُهُ فِي الزَّرْعِ .
قُلْنَا : هَذَا كُلُّهُ حَقِيقَةٌ ؟ وَأَصْلُهَا الذَّهَابُ .
فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ يُقَالُ جِدَادُ النَّخْلِ ، وَحَصَادُ الزَّرْعِ ، جُذَاذُ الْبَقْلِ ؟ قُلْنَا : الِاسْمُ الْعَامُّ الْحَصَادُ ؛ وَهَذِهِ خَوَاصُّ الْعَامِّ عَلَى بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهِ .
وَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ ذَكَرَ الْحَصَادَ فِيمَا يُحْصَدُ دَلِيلًا عَلَى الْجِدَادِ فِيمَا يُجَدُّ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَكْفِي عَنْ الْآخَرِ ، وَلَكِنَّ النَّبَاتَ كَانَ أَصْلًا لِقَوْلِهِ : فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ [ فَجَعَلَهَا قِسْمًا ] وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، فَجَعَلَهُ قِسْمًا آخَرَ ؛ فَلَمَّا عَادَلَ الْجَمِيعَ اكْتَفَى بِذِكْرِهِ عَنْ ذِكْرِ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَخَذَ الزَّكَاةَ مِنْ خُضَرِ الْمَدِينَةِ وَلَا خَيْبَرَ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ عَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ عَدَمُ دَلِيلٍ لَا وُجُودُ دَلِيلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ أَخَذَهَا لَنُقِلَ .
قُلْنَا : وَأَيُّ

حَاجَةٍ إلَى نَقْلِهِ ، وَالْقُرْآنُ يَكْفِي عَنْهُ .
فَإِنْ قِيلَ : الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَ [ آيَةُ ] الزَّكَاةِ مَدَنِيَّةٌ .
قُلْنَا : قَدْ قَالَ مَالِكٌ : إنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ .
وَتَحْقِيقُهُ : فِي نُكْتَةٍ بَدِيعَةٍ ؛ وَهِيَ أَنَّ الْقَوْلَ فِي أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ أَوْ مَدَنِيَّةٌ يَطُولُ .
فَهَبْكُمْ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ ؛ إنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ بِهَا إيجَابًا مُجْمَلًا فَتَعَيَّنَ فَرْضُ اعْتِقَادِهَا ، وَوَقَفَ الْعَمَلُ بِهَا عَلَى بَيَانِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالْوَقْتِ ، فَلَمْ تَكُنْ بِمَكَّةَ حَتَّى تَمَهَّدَ الْإِسْلَامُ بِالْمَدِينَةِ ؛ فَوَقَعَ الْبَيَانُ ، فَتَعَيَّنَ الِامْتِثَالُ ، وَهَذَا لَا يَفْقُهُهُ إلَّا الْعُلَمَاءُ بِالْأُصُولِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ وَفِيمَا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ دَالِيَةٍ نِصْفُ الْعُشْرِ } كَلَامٌ جَاءَ لِبَيَانِ تَفْصِيلِ قَدْرِ الْوَاجِبِ بِحَالِ الْمُوجِبِ فِيهِ ، وَلَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ الْعُمُومَ حَتَّى يَقَعَ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي اسْتِعْمَامِ مَا سَقَتْ السَّمَاءُ .
قُلْنَا : هَذَا هُوَ كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَهُوَ مِنْ مُذْهَبَاتِهِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا كِتَابَ الْبُرْهَانِ ، وَظَنَّ أَنَّهَا لَمْ تُدْرَكْ فِي غَابِرِ الْأَزْمَانِ ، وَلَيْسَ لَهَا فِي الدَّلَائِلِ مَكَانٌ .
نَحْنُ نَقُولُ : إنَّ الْحَدِيثَ جَاءَ لِلْعُمُومِ فِي كُلِّ مَسْقِيٍّ ، وَلِتَفْصِيلِ قَدْرِ الْوَاجِبِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمُوجِبِ فِيهِ ، وَلَا يَتَعَارَضُ ذَلِكَ ؛ فَيَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ خَصَّصْتُمْ الْحَدِيثَ فِي الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْمُقْتَاتِ ، فَنَحْنُ نَخُصُّهُ فِي الْمَأْكُولَاتِ أَيْضًا .
قُلْنَا : نَحْنُ خَصَّصْنَاهُ فِي الْمَأْكُولَاتِ مِنْ الْمُقْتَاتِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ ، وَلَا دَلِيلَ لَكُمْ عَلَى تَخْصِيصِهِ فِي الْمُقْتَاتِ ؛ فَإِنْ أَعَادُوا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ أَعَدْنَا مَا سَبَقَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَجْوِبَةِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا

زَكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ؛ قَالَ : لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ إدَامًا ، وَأَيْضًا فَإِنَّ التِّينَ أَنْفَعُ مِنْهُ فِي الْقُوتِ وَلَا زَكَاةَ فِيهِ .
قُلْنَا لَهُ : الزَّكَاةُ تَجِبُ عِنْدَنَا فِي التِّينِ ، فَلَا قَوْلَ لَك فِي ذَلِكَ ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ التِّينِ وَالزَّبِيبِ ، وَالزَّيْتُونُ قُوتٌ يُدَّخَرُ ذَاتُهُ وَيُدَّخَرُ زَيْتُهُ ؛ فَلَا كَلَامَ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ مَالِكٌ فِي أَظْهَرِ قَوْلَيْهِ : إنَّمَا تَكُونُ الزَّكَاةُ فِيمَا يُقْتَاتُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ دُونَ مَا يُقْتَاتُ بِهِ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ، فَلَا زَكَاةَ فِي الْقَطَّانِي ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالثَّوْرِيُّ وَابْنُ الْمُبَارَكِ وَيَحْيَى بْنُ آدَمَ وَأَبُو عُبَيْدٍ ، وَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي التِّينِ ، فَكَانَ لَا يُوجِبُ فِيهِ الزَّكَاةَ ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِيهِ ، فَإِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ وَرَأَى مَوْقِعَهُ فِي بِلَادِهِ أَوْجَبَ فِيهِ الزَّكَاةَ ؛ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَهُوَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا وَرَدَ ، هَلْ يُحْمَلُ عَلَى الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ أَوْ الْغَالِبِ مِنْ الْمُتَنَاوَلِ فِيهِ ؟ وَالصَّحِيحُ حَمْلُهُ : عَلَى الْعُمُومِ الْمُطْلَقِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَقْتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ النَّبَاتِيَّةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهَا تَجِبُ وَقْتَ الْجِدَادِ ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ؛ بِقَوْلِهِ : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } .
الثَّانِي : أَنَّهَا تَجِبُ يَوْمَ الطِّيبِ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الطِّيبِ يَكُونُ عَلَفًا لَا قُوتًا وَلَا طَعَامًا ؛ فَإِذَا طَابَتْ وَكَانَ الْأَكْلُ الَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ وَجَبَ الْحَقُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ ، إذْ بِتَمَامِ النِّعْمَةِ يَجِبُ شُكْرُ النِّعْمَةِ ، وَيَكُونُ الْإِيتَاءُ يَوْمَ الْحَصَادِ لِمَا قَدْ وَجَبَ يَوْمَ الطِّيبِ .
الثَّالِثِ : أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْخَرْصِ ؛ قَالَهُ الْمُغِيرَةُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَحَقَّقُ الْوَاجِبُ فِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِوُجُوبِهَا ، أَصْلُهُ مَجِيءُ السَّاعِي فِي الْغَنَمِ .
وَلِكُلِّ قَوْلٍ وَجْهٌ كَمَا تَرَوْنَ ؛ لَكِنَّ الصَّحِيحَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ بِالطِّيبِ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الدَّلِيلِ ؛ وَإِنَّمَا خَرَصَ عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمَ قَدْرَ الْوَاجِبِ فِي ثِمَارِهِمْ .
وَالْأَصْلُ فِي الْخَرْصِ حَدِيثُ الْمُوَطَّإِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فَخَرَصَ عَلَيْهِمْ وَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذُوا وَلَهُ مَا قَالَ ، أَوْ يَنْخُلُوا وَلَهُمْ مَا قَالَ : فَقَالُوا : بِهَذَا قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ } .
وَيَا وَيْحَ الْبُخَارِيَّ يَتَخَيَّرُ عَلَى مَالِكٍ ، وَلَا يُدْخِلُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي بَابِ الْخَرْصِ ، وَيُدْخِلُ مِنْهُ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ مَرَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِحَدِيقَةٍ فَقَالَ : اُخْرُصُوا هَذِهِ فَخَرَصُوا ؛ فَلَمَّا رَجَعَ عَنْ الْغَزْوِ وَسَأَلَ الْمَرْأَةَ كَمْ جَاءَتْ حَدِيقَتُك ؟ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا جَاءَتْ كَمَا قَالَ ؟ } فَكَانَتْ إحْدَى مُعْجِزَاتِهِ فِي قَوْلٍ .
فَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الطِّيبِ فَلَا شَيْءَ فِيهَا عَلَى الْمَالِكِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : إنَّ اللَّهَ ذَهَبَ بِمَالِهِ وَمَا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ تَلِفَتْ بَعْدَ الْخَرْصِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَلَفِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَحْلِفُ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ عِنْدَهُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ ، فَلَا يُبَرِّئُهُ مِنْهَا إلَّا إيجَادُ الْبَرَاءَةِ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِي الْأَمَانَاتِ الَّتِي تَكُونُ مُسْتَحْفَظَةً عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ ذَكَرَهُ : فِي الْفُرُوعِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : تَرَكَّبَتْ عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ مَسْأَلَةٌ ؛ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْكَرْمِ وَالْفُرُوعِ وَالنَّخْلِ مُطْلَقًا ، ثُمَّ فَسَّرَ النِّصَابَ بِقَوْلِهِ : لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلَا حَبٍّ صَدَقَةٌ .
فَمَنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ ، أَوْ مِنْ زَبِيبٍ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ فِيهَا ، فَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ تَمْرٍ وَزَبِيبٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاتُهُ إجْمَاعًا فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا صِنْفَانِ مُخْتَلِفَانِ .
فَإِنْ حَصَلَ لَهُ مِنْ طَعَامٍ بُرٍّ وَشَعِيرٍ مَعًا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَكَّاهُمَا [ مَعًا ] عِنْدَ مَالِكٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يُجْمَعَانِ ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا ، وَإِنَّمَا هِيَ أَنْوَاعٌ كُلُّهَا يُعْتَبَرُ النِّصَابُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَخْتَلِفَانِ فِي الِاسْمِ الْخَاصِّ ؛ وَفِي حَالَةِ الطَّعْمِ .
وَالصَّحِيحُ ضَمُّهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قُوَّتَانِ يَتَقَارَبَانِ ، فَلَا يَضُرُّ اخْتِلَافُ الِاسْمِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الْإِسْرَافُ : هُوَ الزِّيَادَةُ ، فَقِيلَ لَهُمْ : لَا تُسْرِفُوا فِي الْأَكْلِ بِزِيَادَةِ الْحَرَامِ عَلَى مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تُسْرِفُوا فِي أَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى حَقِّكُمْ ، وَهُوَ التِّسْعَةُ الْأَعْشَارُ ، حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ ، وَأَدُّوا مَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْكُمْ بِالْخَرْصِ أَوْ بِالْجِذَاذِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنْ اُضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّك غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ الْوَحْيَ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهَا مَجِيءُ الْمَلَكِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ ؛ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمَلَكَ لَمْ يَأْتِ إلَيْهِ الْآنَ إلَّا بِهَذَا ؛ إذْ قَدْ جَاءَ إلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْمُحَرَّمَاتِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ ، نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ نَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } وَذَلِكَ يَوْمُ عَرَفَةَ ، وَلَمْ يَنْزِلْ بَعْدَهَا نَاسِخٌ ؛ فَهِيَ مُحْكَمَةٌ .
.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عَلَى طَاعِمٍ } الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مَطْعُومَاتٌ ، وَمَنْكُوحَاتٌ ، وَمَلْبُوسَاتٌ .
فَأَمَّا الْمَطْعُومَاتُ وَالْمَنْكُوحَاتُ فَقَدْ اسْتَوْفَى اللَّهُ بَيَانَهَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا ، وَمِنْهَا فِي السُّنَّةِ تَوَابِعُ .
وَأَمَّا الْمَلْبُوسَاتُ فَمِنْهَا فِي الْقُرْآنِ إشَارَاتٌ وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ ؛ وَقَالَ اللَّهُ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ } الْآيَةَ .
فَأَمَّا الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا فِي الْبَقَرَةِ وَالْمَائِدَةِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } .
وَكَانَ وُرُودُ ذِكْرِ الدَّمِ مُطْلَقًا هُنَالِكَ وَوَرَدَ هَاهُنَا مُقَيَّدًا بِالسَّفْحِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَمْلِ الْمُطْلَقِ هَاهُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ كُلَّ دَمٍ مُحَرَّمٌ إلَّا الْكَبِدَ وَالطِّحَالَ ، بِاسْتِثْنَاءِ السُّنَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ التَّحْرِيمَ يَخْتَصُّ بِالْمَسْفُوحِ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَقَتَادَةُ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لَتَتَبَّعَ النَّاسُ مَا فِي الْعُرُوقِ .
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ : الصَّحِيحُ أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ مُفْرَدًا حَرُمَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَإِنْ خَالَطَ اللَّحْمَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الدَّمُ بِالْقَصْدِ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لُحُومَ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَحَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ؛ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ كُلُّهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ لَا حَرَامَ فِيهَا إلَّا فِيمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ .
الثَّالِثِ : قَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ : هِيَ مُحْكَمَةٌ ، وَيَضُمُّ إلَيْهَا

بِالسُّنَّةِ مَا فِيهَا مِنْ مُحَرَّمٍ ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالسُّنَّةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِهَا .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُ ذَلِكَ كُلِّهِ : كَمَا فِي تَفْصِيلِ الْأُصُولِ ، لَكِنْ لَوْ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ مُحَرَّمٌ غَيْرُ هَذِهِ لَمَا كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ مُحَرَّمٍ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ أَوْ فَرْضٍ عَلَى الْمَفْرُوضَاتِ لَا يَكُونُ نَسْخًا بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، لَا سِيَّمَا وَمَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ مُخْتَلَفٌ فِي تَأْوِيلِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ كَمَا قَالُوا .
الثَّانِي : أَنَّهَا حُرِّمَتْ بِعِلَّةِ { أَنَّ جَائِيًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : فَنِيَتْ الْحُمُرُ .
فَنِيَتْ الْحُمُرُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُنَادَى بِتَحْرِيمِهَا } لِعِلَّةٍ مِنْ خَوْفِ الْفَنَاءِ عَلَيْهَا ؛ فَإِذَا كَثُرَتْ وَلَمْ يَضُرَّ فَقْدُهَا بِالْحُمُولَةِ جَازَ أَكْلُهَا ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ يَزُولُ بِزَوَالِ الْعِلَّةِ .
الثَّالِثِ : أَنَّهَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا طُبِخَتْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ .
الرَّابِعِ : أَنَّهَا حُرِّمَتْ لِأَنَّهَا كَانَتْ جَلَّالَةً خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد .
وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ جَلَّالَةِ الْبَقَرِ } .
وَهَذَا بَدِيعٌ فِي وَجْهِ الِاحْتِجَاجِ بِهَا ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ فِي كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْمُسْنَدِ الصَّحِيحِ بِقَوْلِهِ نَهَى ، وَيَحْتَمِلُ ذَلِكَ النَّهْيُ التَّحْرِيمَ ، وَيَحْتَمِلُ الْكَرَاهِيَةَ ، مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ السِّبَاعِ فِي الِافْتِرَاسِ .
أَلَا تَرَى إلَى الْكَلْبِ وَالْهِرِّ وَالضَّبُعِ فَإِنَّهَا سِبَاعٌ ، وَقَدْ وَقَعَ الْأُنْسُ بِالْهِرِّ مُطْلَقًا وَبِبَعْضِ الْكِلَابِ ، وَجَاءَ الْحَدِيثُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ ، وَفِيهَا كَبْشٌ .
وَلَسْنَا نَمْنَعُ أَنْ يُضَافَ

إلَيْهَا بِالسُّنَّةِ مَا صَحَّ سَنَدُهُ ، وَتَبَيَّنَ مَوْرِدُهُ ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : رَجُلٌ زَنَى بَعْدَ إحْصَانٍ ، أَوْ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانٍ ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ } .
وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ مَوْرِدَ الْآيَةِ مَجْهُولٌ .
فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَّا أَنَّ مَوْرِدَهَا يَوْمُ عَرَفَةَ فَلَا يَحْرُمُ إلَّا مَا فِيهَا ، وَإِلَيْهِ أَمِيلُ ، وَبِهِ أَقُولُ .
قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ : قُلْت لِجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ : إنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ } .
قَالَ : قَدْ كَانَ يَقُولُ ذَلِكَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيُّ ، وَلَكِنْ أَبَى ذَلِكَ الْحَبْرُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ ، وَقَرَأَ : { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ } الْآيَةَ ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عَائِشَةَ مِثْلُهُ .
وَقَرَأَتْ الْآيَةَ كَمَا قَرَأَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : تَقْدِيرُ الْآيَةِ : قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا مِمَّا كُنْتُمْ تَسْتَخْبِثُونَهُ وَتَجْتَنِبُونَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ [ مَيْتَةً ] الْآيَةَ .
فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَا ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ أَشْيَاءَ مِنْهَا الْمُنْخَنِقَةُ وَأَخَوَاتُهَا .
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ أَشْيَاءَ غَيْرِ ذَلِكَ ، مِنْهَا الْقَاذُورَاتُ ، وَمِنْهَا الْخَمْرُ وَالْآدَمِيُّ .
الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ : الْجَوَابُ الْأَوَّلُ : أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَدْ رَدَّ هَذَا وَأَوْضَحَ الْمُرَادَ مِنْهُ وَالْحَقَّ فِيهِ ، وَهُوَ الْحَبْرُ الْبَحْرُ التُّرْجُمَانُ .
الْجَوَابُ الثَّانِي : دَعْوَى وُرُودِ الْآيَةِ عَلَى سُؤَالٍ لَا يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ نَقْلٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ .
الْجَوَابُ الثَّالِثُ : لَوْ صَحَّ السُّؤَالُ لَمَا آثَرَ خُصُوصَ السُّؤَالِ فِي عُمُومِ الْجَوَابِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ .
وَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَيْهِ وَبَيَّنَّاهُ فِيمَا قَبْلُ .
الْجَوَابُ الرَّابِعُ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ

اللَّهَ حَرَّمَ غَيْرَ ذَلِكَ كَالْمُنْخَنِقَةِ وَأَخَوَاتِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْمَيْتَةِ إلَّا أَنَّهُ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْمَيْتَةِ وَشَرَحَ مَا يُسْتَدْرَكُ ذَكَاتُهُ مِمَّا تَفُوتُ ذَكَاتُهُ لِئَلَّا يَشْكُلَ أَمْرُهُ وَيُمْزَجَ الْحَلَالُ بِالْحَرَامِ فِي حُكْمِهَا .
الْجَوَابُ الْخَامِسُ : وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَاذُورَاتِ فَلَا قَاذُورَ مُحَرَّمٌ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ رِجْسًا فَيَدْخُلَ فِي عِلَّةِ تَحْرِيمِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ ، وَهُوَ : الْجَوَابُ السَّادِسُ : دَخَلَتْ فِي تَعْلِيلِ الرِّجْسِيَّةِ .
وَأَمَّا الْجَوَابُ السَّابِعُ : عَنْ الْآدَمِيِّ فَهَيْهَاتَ أَيُّهَا الْمُتَكَلِّمُ ، لَقَدْ حَطَطْت مُسَمَّاك إذْ أَبْعَدْت مَرْمَاك ، مَنْ أَدْخَلَ الْآدَمِيَّ فِي هَذَا ؟ وَهُوَ الْمُحَلَّلُ لَهُ الْمُحَرَّمُ ، الْمُخَاطَبُ الْمُثَابُ الْمُعَاقَبُ ، الْمُمْتَثِلُ الْمُخَالِفُ ، فَبَيْنَمَا كَانَ مُتَصَرِّفًا جَعَلْته مُصَرِّفًا ، انْصَرِفْ عَنْ الْمَقَامِ فَلَسْت فِيهِ بِإِمَامٍ ، فَإِنَّ الْإِمَامَ هَاهُنَا وَرَاءٌ ، وَالْوَرَاءُ أَمَامٌ ، وَقَدْ انْدَرَجَتْ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي هَذَا الْكَلَامِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : رَوَى مُجَاهِدٌ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَرِهَ مِنْ الشَّاءِ سَبْعًا : الدَّمَ ، وَالْمِرَارَ ، وَالْحَيَاءَ ، وَالْغُدَّةَ ، وَالذَّكَرَ ، وَالْأُنْثَيَيْنِ .
} وَهَذِهِ زِيَادَاتٌ عَلَى هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ .
قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكَرَاهِيَةَ غَيْرُ التَّحْرِيمِ ، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ كَالنَّدْبِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْوُجُوبِ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذِهِ الْكَرَاهِيَةَ إنَّمَا هِيَ عِيَافَةُ نَفْسٍ ، وَتَقَزُّزُ جِبِلَّةٍ ، وَتَقَذُّرُ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَلَّلِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ الدَّمَ .
قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا اسْتِدْلَالٌ بِالْقَرَائِنِ ، فَكَمْ مِنْ مَكْرُوهٍ قُرِنَ بِمُحَرَّمٍ ، كَقَوْلِهِ : { نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ } .
وَكَمْ مِنْ غَيْرِ وَاجِبٍ قُرِنَ

بِوَاجِبٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } .
وَقَوْلُهُ : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ الدَّمَ الْمُخَالِطَ لِلَّحْمِ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ لِلْخَلْقِ وَأَمَّا الْمِرَارُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ الْأَمَرُّ ، وَهُوَ الْمَصَارِينُ ، وَلَا أُرَاهُ أَرَادَ إلَّا الْمِرَارَ بِعَيْنِهِ ، وَنَبَّهَ بِذِكْرِهِ عَلَى عِلَّةِ كَرَاهَةِ غَيْرِهِ بِأَنَّهُ مَحَلُّ الْمُسْتَخْبَثِ ؛ فَكُرِهَ لِأَجْلِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا } فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : هَادُوا : تَابُوا .
هَادَ يَهُودُ : تَابَ .
الثَّانِي : هَادَ : إذَا سَكَنَ .
الثَّالِثُ : هَادَ : فَتَرَ .
الرَّابِعُ : هَادَ : دَخَلَ فِي الْيَهُودِيَّةِ .
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى : { كُونُوا هُودًا } أَيْ يَهُودًا .
ثُمَّ حَذَفَ الْيَاءَ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ التَّائِبُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ : { إنَّا هُدْنَا إلَيْك } أَيْ تُبْنَا ، وَكُلُّ تَائِبٍ إلَى رَبِّهِ : سَاكِنٌ إلَيْهِ فَاتِرٌ عَنْ مَعْصِيَتِهِ .
وَهَذَا مَعْنَى مُتَقَارِبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } يَعْنِي مَا لَيْسَ بِمُنْفَرِجِ الْأَصَابِعِ ، كَالْإِبِلِ وَالنَّعَامِ وَالْإِوَزِّ وَالْبَطِّ ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا يَصِيدُ بِظُفْرِهِ : مِنْ [ سِبَاعِ ] الطَّيْرِ وَالْكِلَابِ .
وَالْحَوَايَا : وَاحِدُهَا حَاوِيَاءُ أَوْ حَوِيَّةٌ ، وَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : الْمَبَاعِرُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا خَزَائِنُ اللَّبَنِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْأَمْعَاءُ الَّتِي عَلَيْهَا الشُّحُومُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ ، وَقَدْ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ بِشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَاحَ لَهُمْ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِمْ ؛ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ التَّشْدِيدِ فِي التَّكْلِيفِ لِعَظِيمِ الْحُرْمِ ، وَزَوَالِ الْحَرَجِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ وَأُمَّتِهِ ] ، وَأَلْزَمَ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ دِينَ الْإِسْلَامِ بِحِلِّهِ وَحُرْمِهِ ، وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ؛ فَإِذَا ذَبَحُوا أَنْعَامَهُمْ فَأَكَلُوا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ ، وَتَرَكُوا مَا حَرَّمَ ، فَهَلْ يَحِلُّ لَنَا ؟ فَقَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : هِيَ مُحَرَّمَةٌ [ عَلَيْهِمْ ] .
وَقَالَ فِي سَمَاعِ الْمَبْسُوطِ : هِيَ مُحَلَّلَةٌ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ نَافِعٍ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : أَكْرَهُهُ .
وَالصَّحِيحُ أَكْلُهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ رَفَعَ ذَلِكَ التَّحْرِيمَ بِالْإِسْلَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ بَقِيَ اعْتِقَادُهُمْ فِيهِ عِنْدَ الذَّكَاةِ .
قُلْنَا : هَذَا لَا يُؤَثِّرُ ؛ لِأَنَّهُ اعْتِقَادٌ فَاسِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَلَوْ ذَبَحُوا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ؛ فَقَالَ أَصْبَغُ : كُلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ فَلَا يَحِلُّ أَكْلُهُ .
وَقَالَهُ أَشْهَبُ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَجَازَهُ ابْنُ وَهْبٍ .
وَالصَّحِيحُ تَحْرِيمُهُ ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُ مِنْهُمْ لَيْسَ بِذَكَاةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ ذَنْبٍ ؛ لِأَنَّهُ ضَيِّقٌ فَلَا يُعْدَلُ عَنْ السِّعَةِ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْمَوْجِدَةِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِذَا شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاَلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ : رَضِيت بِفُلَانٍ فَإِذَا شَهِدَ أَنْكَرَهُ ، وَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ الْفُقَهَاءُ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَلْزَمُهُ ذَلِكَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَلْزَمُهُ مَا قَالَ .
وَلِلْمَالِكِيَّةِ الْقَوْلَانِ .
وَمَشْهُورٌ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ الرِّضَا بِالشَّهَادَةِ ثُمَّ الْإِنْكَارُ ؛ إنَّمَا فِيهَا طَلَبُ الدَّلِيلِ وَاسْتِدْعَاءُ الْبُرْهَانِ عَلَى الدَّعْوَى ؛ فَإِنَّ الْعَرَبَ تَحَكَّمَتْ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ، فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ : قُلْ لَهُمْ : هَاتُوا شُهَدَاءَكُمْ بِأَنَّ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، أَيْ حُجَّتَكُمْ حَتَّى نَسْمَعَهَا ، وَنَنْظُرَ فِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا فَائِدَةُ قَوْلِهِ : { فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } ؟ قُلْنَا : هَذَا تَحْذِيرٌ مِنْ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ لِتَعْلَمَ أُمَّتُهُ الْمَعْنَى .
فَإِنْ قَالَ شُهَدَاؤُهُمْ مِثْلَ مَا يَقُولُونَ فَلَا تَقُلْهُ مَعَهُمْ ؛ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا قَالَ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ حَالُ الْوَلِيِّ مَعَ الْيَتِيمِ فِي مَالِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ الْوَصِيِّ فِي مَالٍ الْيَتِيمِ إذَا كَانَ حَسَنًا حَتَّى يَبْلُغَ الْغُلَامُ أَشُدَّهُ ، زَادَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَيُونُسَ رُشْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُلُوغَ أَشُدٌّ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْأَشُدُّ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ عَامًا ، وَعَجَبًا مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ يَرَى أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا تَثْبُتُ نَظَرًا وَلَا قِيَاسًا ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ نَقْلًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ يُثْبِتُهَا بِالْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ ، وَلَكِنَّهُ سَكَنَ دَارَ الضَّرْبِ فَكَثُرَ عِنْدَهُ الْمُدَلِّسُ ، وَلَوْ سَكَنَ الْمَعْدِنُ كَمَا قَيَّضَ اللَّهُ لِمَالِكٍ لِمَا صَدَرَ عَنْهُ إلَّا إبْرِيزُ الدِّينِ وَإِكْسِيرُ الْمِلَّةِ كَمَا صَدَرَ عَنْ مَالِكٍ .

====================

ج10. كتاب : أحكام القرآن ابن العربي



الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ صَلَاتِي } الْآيَةَ : مَقَامُ التَّسْلِيمِ لِلَّهِ وَدَرَجَةُ التَّفْوِيضِ إلَى اللَّهِ بِنَاءً عَنْ مُشَاهَدَةِ تَوْحِيدٍ وَمُعَايَنَةِ يَقِينٍ وَتَحْقِيقٍ ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ مِنْ الْإِنْسَانِ لِلَّهِ أَصْلٌ وَوَصْفٌ ، وَظَاهِرٌ وَبَاطِنٌ ، وَاعْتِقَادٌ وَعَمَلٌ ، وَابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ ، وَتَوَقُّفٌ وَتَصَرُّفٌ ، وَتَقَدُّمٌ وَتَخَلُّفٌ ، لَا شَرِيكَ لَهُ فِيهِ ، لَا مِنْهُ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ يُضَاهِيهِ أَوْ يُدَانِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِهِ صَلَاتَهُ ، وَثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي اسْتِفْتَاحِهَا أَيْضًا : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك } .
وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ بِذَلِكَ ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَمْ يَرَ مَالِكٌ هَذَا الَّذِي يَقُولُ النَّاسُ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ : سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك .
وَفِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ مَالِكًا يَقُولُ : وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولُ فِي خَاصَّتِهِ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ بِهِ ؛ وَكَانَ لَا يُرِيهِ لِلنَّاسِ مَخَافَةَ أَنْ يَعْتَقِدُوا وُجُوبَهُ .
وَرَآهُ الشَّافِعِيُّ مِنْ سُنَنِ الصَّلَوَاتِ ، وَهُوَ الصَّوَابُ ؛ لِصِحَّةِ الْحَدِيثِ ؛ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا قُلْنَا إنَّهُ يَقُولُهَا فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي آخِرِهَا : وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَقُولُ : وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ؛ إذْ لَيْسَ أَحَدٌ بِأَوَّلِهِمْ إلَّا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : أَوَلَيْسَ إبْرَاهِيمُ قَبْلَهُ ؟ قُلْنَا : عَنْهُ أَجْوِبَةً ، أَظْهَرُهَا الْآنَ أَنَّ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا الْمُخَالِفِينَ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ لَا يَصِحُّ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا } .
وَعَارَضَهُمْ عُلَمَاؤُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ تَحَمُّلُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ دُونَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كَسْبَ الْإِلْزَامِ وَالِالْتِزَامِ ، لَا كَسْبَ الْمَعُونَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ ؛ فَقَدْ يَتَعَاوَنُ الْمُسْلِمُونَ وَيَتَعَامَلُونَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَالْمُرُوءَةِ وَالْمُشَارَكَةِ ؛ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ قَدْ بَاعَ لَهُ وَاشْتَرَى عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ فِي دِينَارٍ وَتَصَرَّفَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَأَجَازَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْضَاهُ ؛ نَصُّهُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ إلَى عُرْوَةَ الْبَارِقِيِّ دِينَارًا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً مِنْ الْجَلَبِ فَاشْتَرَى لَهُ بِهِ شَاتَيْنِ ، وَبَاعَ إحْدَاهُمَا بِدِينَارٍ ، وَجَاءَ بِالدِّينَارِ وَبِالشَّاةِ فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ ؛ فَكَانَ لَا يَتَّجِرُ فِي سُوقٍ إلَّا رَبِحَ فِيهَا حَتَّى لَوْ اتَّجَرَ فِي التُّرَابِ لَرَبِحَ فِيهِ } .
قَالَ : وَلَقَدْ كُنْت أَخْرُجُ إلَى الْكُنَاسَةِ بِالْكُوفَةِ فَلَا أَرْجِعُ إلَّا وَقَدْ رَبِحْت رِبْحًا عَظِيمًا .
وَقَدْ مَهَّدْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي صَرِيحِ الْحَدِيثِ وَتَلْخِيصِ الطَّرِيقَتَيْنِ ، فَانْظُرُوهُ تَجِدُوهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لِلْوِزْرِ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا : الثِّقَلُ ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا ، يُقَالُ وَزَرَهُ يَزِرُهُ إذَا حَمَلَ ثِقَلَهُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { وَوَضَعْنَا عَنْك

وِزْرَك } .
وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الذَّنْبُ ؛ قَالَ تَعَالَى : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ } يَعْنِي ذُنُوبَهُمْ { أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } أَيْ : بِئْسَ الشَّيْءُ شَيْئًا يَحْمِلُونَ .
وَالْمَعْنَى لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ مُذْنِبَةٌ عُقُوبَةَ الْأُخْرَى ؛ وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ كُلُّ نَفْسٍ مِنْهُمْ بِجَرِيرَتِهَا الَّتِي اكْتَسَبَتْهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } .
وَقَدْ وَفَدَ أَبُو رِمْثَةَ رِفَاعَةُ بْنُ يَثْرِبِيٍّ التَّمِيمِيُّ مَعَ ابْنِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَقَالَ : أَمَا إنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ .
وَهَذَا إنَّمَا بَيَّنَّهُ لَهُمْ رَدًّا عَلَى اعْتِقَادِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ مُؤَاخَذَةِ الرَّجُلِ بِابْنِهِ وَبِأَبِيهِ وَبِجَرِيرَةِ حَلِيفِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَهَذَا حُكْمٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى نَافِذٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ وَهُوَ أَلَّا يُؤْخَذَ أَحَدٌ بِجُرْمِ أَحَدٍ ، بَيْدَ أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِبَعْضِ النَّاسِ مِنْ بَعْضِ أَحْكَامٍ فِي مَصَالِحِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَحِمَايَةِ النَّفْسِ وَالْأَهْلِ عَنْ الْعَذَابِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْمَرْءَ كَمَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ بِاكْتِسَابِ الْخَيْرِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَ غَيْرَهُ بِالْأَمْرِ بِهِ وَالدُّعَاءِ إلَيْهِ وَالْحَمْلِ عَلَيْهِ ، وَهَذِهِ فَائِدَةُ الصُّحْبَةِ ، وَثَمَرَةُ الْمُعَاشَرَةِ ، وَبَرَكَةُ الْمُخَالَطَةِ ، وَحُسْنُ الْمُجَاوَرَةِ ؛ فَإِنْ [ حَسُنَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مُعَافًى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ ] قَصَّرَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَانَ مُعَاقَبًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَعَلَيْهِ أَوَّلًا إصْلَاحُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ ، ثُمَّ إصْلَاحُ خَلِيطِهِ وَجَارِهِ ، ثُمَّ سَائِرُ النَّاسِ بَعْدَهُ ، بِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَدُعَائِهِمْ وَحَمْلِهِمْ ؛ فَإِنْ فَعَلُوا ، وَإِلَّا اسْتَعَانَ

بِالْخَلِيفَةِ لِلَّهِ فِي الْأَرْضِ عَلَيْهِمْ ، فَهُوَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَسْرًا ، وَمَتَى أَغْفَلَ الْخَلْقُ هَذَا فَسَدَتْ الْمَصَالِحُ ، وَتَشَتَّتَ الْأَمْرُ ، وَاتَّسَعَ الْخَرْقُ ، وَفَاتَ التَّرْقِيعُ ، وَانْتَشَرَ التَّدْمِيرُ ؛ وَلِذَلِكَ يَرْوُونَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَفَّلَ الْمُتَّهَمِينَ عَشَائِرَهُمْ ، وَذَلِكَ بِالْتِزَامِهِمْ كَفَّهُمْ أَوْ رَفْعَهُمْ إلَيْهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيهِمْ ، وَاَللَّهُ يَتَوَلَّى التَّوْفِيقَ بِرَحْمَتِهِ .

سُورَةُ الْأَعْرَافِ فِيهَا سَبْعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { كِتَابٌ أُنْزِلَ إلَيْك فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ بَعْضُهُمْ : قَوْلُهُ : { فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ } نَهْيٌ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَكِنَّهُ لِنَفْيِ الْحَرَجِ .
وَعَجَبًا لَهُ مَعَ عَمَلٍ يَقَعُ فِي مِثْلِهِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَتُوجَدُ ، وَيَأْمُرُ بِأَشْيَاءَ فَلَا تُوجَدُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ حَالِهِ ؛ قِيلَ لِمُحَمَّدٍ : { فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ } ، وَأُعِينَ عَلَى امْتِثَالِ النَّهْيِ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ لَهُ عَلَيْهِ ؛ كَمَا فَعَلَ بِهِ فِي سَائِرِ التَّكْلِيفَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْحَرَجُ : هُوَ الضِّيقُ .
وَقِيلَ : هُوَ الشَّكُّ .
وَقِيلَ : هُوَ التَّبَرُّمُ ؛ وَإِلَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ الشَّكُّ فَقَدْ أَنَارَ اللَّهُ فُؤَادَهُ بِالْيَقِينِ ، وَإِنْ كَانَ التَّبَرُّمُ فَقَدْ حَبَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ الدِّينَ ، وَإِنْ كَانَ الضِّيقُ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالْعُلُومِ ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ بِالْمَعَارِفِ ، وَذَلِكَ مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ ، وَخَفَّفَ عَلَيْهِ ثِقَلَ الْعِبَادَةِ حَتَّى جُعِلَتْ قُرَّةَ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ يَقُولُ : { أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالٌ } .
وَمِنْ تَمَامِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَةِ النَّشَاطُ إلَيْهَا وَالْخِفَّةُ إلَى فِعْلِهَا ، وَخُصُوصًا الصُّبْحَ وَالْعِشَاءَ ؛ فَهُمَا أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ حَسْبَمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : فَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ : أَنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ أَثْقَلُ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا عَلَى الرُّكَبِ } .
وَلَيْسَ يَخْلُو أَحَدٌ عَنْ وُجُودِ الثِّقَلِ ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ تَكْلِيفًا ، بَيْدَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَحْتَمِلُهُ

وَيَخْرُجُ بِالْفِعْلِ عَنْهُ ، وَالْمُنَافِقُ يُسْقِطُهُ .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَالْعَاصِي إذَا أَسْقَطَهُ أَمُنَافِقٌ هُوَ ؟ قُلْنَا : لَا ، وَلَكِنَّهُ فَاعِلٌ فِعْلَ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ ، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ } أَيْ فَعَلَ فِعْلَ الْكُفَّارِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ :

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : مَعْنَاهُ أَحِلُّوا حَلَالَهُ وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ ، وَاسْتَبِيحُوا مُبَاحَهُ ، وَارْجُوا وَعْدَهُ ، وَخَافُوا وَعِيدَهُ ، وَاقْتَضُوا حُكْمَهُ ، وَانْشُرُوا مِنْ عِلْمِهِ عِلْمَهُ ، وَاسْتَجْسُوا خَبَايَاهُ ، وَلِجُوا زَوَايَاهُ ، وَاسْتَثِيرُوا جَاثِمَهُ ؛ وَفُضُّوا خَاتَمَهُ ، وَأَلْحِقُوا بِهِ مُلَائِمَهُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : بِاتِّبَاعِ مَا يُؤْثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ عَارَضَهُ إذَا وَضَّحَ مَسْلَكَهُ ؛ فَتَارَةً يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ ، وَأُخْرَى خَاصًّا وَمُتَمِّمًا فِي حُكْمٍ عَلَى طُرُقِ مَوَارِدِهِ الْمَعْلُومَةِ ، بِشُرُوطِهَا الْمَحْصُورَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي نُزُولِهَا : قِيلَ : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً ، أُمِرُوا بِاللِّبَاسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالزَّجَّاجُ : نَزَلَتْ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ ، وَهَذَا لَيْسَ يُدَافِعُ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانَةً فَتَقُولُ : مَنْ تُعِيرُنِي تِطْوَافًا ؟ فَتَجْعَلُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقُولُ : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ جَهْمٌ مِنْ الْجَهْمِ عَظِيمٌ ظِلُّهُ كَمْ مِنْ لَبِيبٍ عَقْلُهُ يُضِلُّهُ وَنَاظِرٍ يَنْظُرُ مَا يَمَلُّهُ فَنَزَلَتْ : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنُ قُرْطٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرَاةً ، إلَّا الْحُمْسَ : قُرَيْشٌ وَأَحْلَافُهُمْ ، فَمَنْ جَاءَ مِنْ غَيْرِهِمْ وَضَعَ ثِيَابَهُ وَطَافَ فِي ثَوْبٍ أَحْمَسِيٍّ ، فَيَحِلُّ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِيرُهُ مَا يَلْبَسُ مِنْ الْحُمْسِ فَإِنَّهُ يُلْقِي ثَوْبَهُ وَيَطُوفُ عُرْيَانًا ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ ثِيَابُهُ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ } .
فَنُودِيَ بِهَا فِي الْمَوْسِمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِذَلِكَ : إنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ رَأَتْ رَأْيًا تَكِيدُ بِهِ الْعَرَبَ ، فَقَالُوا : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؛ لَا تُعَظِّمُوا شَيْئًا مِنْ الْبُلْدَانِ كَتَعْظِيمِ حَرَمِكُمْ ، فَتَزْهَدَ الْعَرَبُ ؛ فِي حَرَمِكُمْ إذَا رَأَوْكُمْ قَدْ

عَظَّمْتُمْ مِنْ الْبُلْدَانِ غَيْرَهُ كَتَعْظِيمِهِ ، فَعَظِّمُوا أَمْرَكُمْ فِي الْعَرَبِ ؛ فَإِنَّكُمْ وُلَاةُ الْبَيْتِ وَأَهْلُهُ دُونَ النَّاسِ ؛ فَوَضَعُوا لِذَلِكَ الْأَمْرِ أَنْ قَالُوا : نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ ، فَلَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُعَظِّمَ غَيْرَهُ ، وَلَا نَخْرُجَ مِنْهُ ؛ فَكَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفَةَ ؛ لِأَنَّهَا خَارِجٌ مِنْ الْحَرَمِ ، وَكَانَتْ سُنَّةَ إبْرَاهِيمَ وَعَهْدًا مِنْ عَهْدِهِ ، ثُمَّ قَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْعَرَبِ أَنْ يَطُوفَ إلَّا فِي ثِيَابِنَا ، وَلَا يَأْكُلَ إذَا دَخَلَ أَرْضَنَا إلَّا مِنْ طَعَامِنَا ، وَلَا يَأْكُلَ الْأَقِطَ ، وَلَا يَسْتَظِلَّ بِالْأَدَمِ إلَّا الْحُمْسُ ، وَهُمْ قُرَيْشٌ ، وَمَا وَلَدَتْ مِنْ الْعَرَبِ وَمَنْ كَانَ يَلِيهَا مِنْ حُلَفَائِهَا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ؛ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ الْمَرْأَةُ يَأْتِيَانِ حَاجَّيْنِ ، حَتَّى إذَا أَتَيَا الْحَرَمَ وَضَعَا ثِيَابَهُمَا وَزَادَهُمَا ، وَحَرُمَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَدْخُلَا مَكَّةَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ : فَإِنْ كَانَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ صَدِيقٌ مِنْ الْحُمْسِ اسْتَعَارَ مِنْ ثِيَابِهِ وَطَافَ بِهَا ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ مِنْهُمْ ، وَكَانَ لَهُ يَسَارٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْحُمْسِ ثِيَابَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ وَلَا يَسَارٌ يَسْتَأْجِرُ بِهِ كَانَ بَيْنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا ، وَإِمَّا أَنْ يَتَكَرَّمَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا فَيَطُوفَ فِي ثِيَابِهِ ؛ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَنْهُ ، فَلَمْ يَمَسَّهُ ، وَلَمْ يَمَسَّهُ أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ الثَّوْبُ يُسَمَّى اللَّقَى قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ : كَفَى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأَنَّهُ لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطَّائِفِينَ حَرِيمُ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُعِيرُهَا وَلَا كَانَ لَهَا يَسَارٌ تَسْتَأْجِرُ بِهِ [ خَلَعَتْ ] ثِيَابَهَا كُلَّهَا إلَّا دِرْعًا مُفْرَدًا ، ثُمَّ طَافَتْ فِيهِ ؛ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ كَانَتْ جَمِيلَةً تَامَّةً ذَاتَ هَيْئَةٍ وَهِيَ تَطُوفُ : الْيَوْمَ يَبْدُو

بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ فَكَانُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضَّلَالَةِ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْزَلَ فِيمَنْ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
وَوَضَعَ اللَّهُ مَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي تَرْكِهِمْ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ : { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ } يَعْنِي بِذَلِكَ قُرَيْشًا وَمَنْ كَانَ عَلَى دِينِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ ، هَلْ هِيَ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ أَمْ مُسْتَحَبَّةٌ ؟ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فَقَالُوا : إنَّهَا فَرْضٌ فِيهَا .
وَأَمَّا مَالِكٌ فَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّهَا فَرْضٌ إسْلَامِيٌّ لَا تَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ ؛ وَهُوَ أَشْهَرُ أَقْوَالِنَا .
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ مِثْلَ قَوْلِ مَنْ تَقَدَّمَ ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ { أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ } ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فَرْضًا إسْلَامِيًّا فَإِنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِي الصَّلَاةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : الْعَوْرَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلِ : جَمِيعُ الْبَدَنِ ؛ فَيَجِبُ سَتْرُهُ فِي الصَّلَاةِ ؛ قَالَهُ أَبُو الْفَرَجِ عَنْهُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا مِنْ السُّرَّةِ إلَى الرُّكْبَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ ؛ إنَّمَا الْخِلَافُ وَهُوَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِي أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ هَلْ هُوَ عَوْرَةٌ مُثَقَّلَةٌ أَوْ مُخَفَّفَةٌ ؟ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْقُبُلَ وَالدُّبُرَ عَوْرَةٌ مُثَقَّلَةٌ ، وَالْفَخِذَ عَوْرَةٌ مُخَفَّفَةٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْفَخِذَ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ ؛ { لِأَنَّهَا ظَهَرَتْ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ جَرَى فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصِلُهَا بِأَفْخَاذِ أَصْحَابِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ عَوْرَةً مَا وَصَلَهَا بِهَا } .
قَالَ زَيْدٌ : { نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي } ، أَمَّا إنَّهُ يُكْرَهُ كَشْفُهَا فَإِنَّ مَالِكًا وَغَيْرَهُ قَدْ رَوَى حَدِيثَ جَرْهَدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ : { غَطِّ فَخِذَك ؛ فَإِنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ } ؛ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ " قَوْله تَعَالَى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ } وَإِنْ كَانَ وَارِدًا عَلَى طَوَافِ الْعُرْيَانِ ، فَإِنَّهُ عِنْدَنَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ ؛ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الطَّوَافَ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ .
وَاَلَّذِي يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ هُوَ الصَّلَاةُ ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ خَفِيَ عَلَيْهِ مَقَاصِدُ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً فِي الْمَسْجِدِ فَنَزَلَتْ : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } ، لِيَكُونَ الْعُمُومُ شَامِلًا لِكُلِّ مَسْجِدٍ ، وَالسَّبَبُ الَّذِي أَثَارَ ذَلِكَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي أَفْضَلِ الْمَسَاجِدِ ، وَالصَّحَابَةُ الَّذِينَ هُمْ أَرْبَابُ اللُّغَةِ وَالشَّرِيعَةِ أَخْبَرُوا بِذَلِكَ ، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِمْ نِظَامُ الْكَلَامِ ، وَلَا كَيْفَ كَانَ وُرُودُهُ ، اجتزءوا بِوُرُودِ الْآيَةِ وَمَنْحَاهَا ، فَلَا مَطْمَعَ لِعَالِمٍ فِي أَنْ يَسْبِقَ شَأْوَهُمْ فِي تَفْسِيرٍ أَوْ تَقْدِيرٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } قَالَ بَعْضُهُمْ : ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ الْوُرُودُ بِأَخْذِ الزِّينَةِ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَسْجِدِ ، تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ السَّتْرِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ ، فَزَادَ النَّاسُ ، فَقَالُوا : " هَذَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ لِلْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ بِالسَّتْرِ فِي الْمَسْجِدِ لِبَيْنِ الْمَسْجِدِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِلْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي الْمَسْجِدِ .
وَالْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِي الْمَسْجِدِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : طَوَافٍ ، وَلَا يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ وَاعْتِكَافٍ ، وَلَمْ يَشْرُفْ لِأَجْلِهِ ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّلَاةُ ؛ وَقَدْ أُلْزِمَ السَّتْرَ لَهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِيهَا .
وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ مَا زَادَ عَلَى الْعَوْرَةِ ، وَبَقِيَ مَا قَابَلَ الْعَوْرَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا مِنْ قَبْلُ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يَحْتَمِلُ أَنْ

يَكُونَ لِأَجْلِ مَا فِيهِ مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَيَجْتَمِعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ .
قُلْنَا : لَيْسَ ذَلِكَ اجْتِمَاعًا مَشْرُوعًا ؛ بَلْ يَجُوزُ تَفَرُّقُهُمْ .
وَهَا هُنَا إنْ تَفَرَّقُوا فِي الْمَسَاجِدِ كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْجَمَاعَةِ ، وَخَرْقًا لِلصُّفُوفِ ؛ إذْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ ، وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ } .
خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّ الطَّوَافَ لَا يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا قُلْنَا : إنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ فِي الصَّلَاةِ فَسَقَطَ ثَوْبُ إمَامٍ فَانْكَشَفَ دُبُرُهُ ، وَهُوَ رَاكِعٌ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ وَغَطَّاهُ أَجْزَأَهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : وَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إلَيْهِ مِنْ الْمَأْمُومِينَ أَعَادَ .
وَقَدْ رَوَى سَحْنُونٌ أَنَّهُ يُعِيدُ ، وَيُعِيدُونَ ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ ، فَإِذَا بَطَلَ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ أَصْلُهُ الطَّهَارَةُ .
فَهَذَا طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ النَّظَرِ .
وَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : إنَّ صَلَاتَهُمْ لَا تَبْطُلُ ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْقِدُوا شَرْطًا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنْ أَخَذَهُ مَكَانَهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَتَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ نَظَرَ إلَيْهِ ، فَصَحِيفَةٌ يَجِبُ مَحْوُهَا ، وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ أَوْ كَانَ إمَامًا فَلَا يُصَلِّي إلَّا بِرِدَائِهِ أَوْ شَيْءٍ يَجْعَلُهُ عَلَى مَنْكِبِهِ ، وَلَوْ طَرَفَ عِمَامَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الزِّينَةِ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ، وَكَذَلِكَ قَالَتْ طَائِفَةٌ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إنَّهُ يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ ؛ وَقَدْ رَوَى أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } قَالُوا : { صَلُّوا فِي النِّعَالِ } ، وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : هَذَا خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، إلَّا أَنَّهُمْ يَخْتَلِفُونَ فِي الْعَوْرَةِ ، فَعَوْرَةُ الرَّجُلِ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا ، وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ جَمِيعُ بَدَنِهَا إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا ، وَفِي الْمُصَنِّفِينَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُقْبَلُ صَلَاةُ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ } .
وَهَذَا فِي الْحُرَّةِ ؛ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ { أَنَّهَا سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي دِرْعٍ وَخِمَارٍ لَيْسَ عَلَيْهَا إزَارٌ ؟ قَالَ : إذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا } ، فَأَمَّا الْأَمَةُ فَإِنَّهَا تُصَلِّي كَمَا تَمْشِي حَاسِرَةَ الرَّأْسِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : تَسْتُرُ فِي الصَّلَاةِ مَا يَسْتُرُ الرَّجُلُ ، حَتَّى لَوْ انْكَشَفَ بَطْنُهَا لَمْ يَضُرَّهَا .
وَقَالَ أَصْبَغُ : إنْ انْكَشَفَتْ فَخِذُهَا أَعَادَتْ فِي الْوَقْتِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } الْإِسْرَافُ : تَعَدِّي الْحَدِّ ؛ فَنَهَاهُمْ عَنْ تَعَدِّي الْحَلَالِ إلَى الْحَرَامِ .
وَقِيلَ : أَلَّا يَزِيدُوا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقِيلَ : هُوَ حَرَامٌ .
وَقِيلَ : هُوَ مَكْرُوهٌ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ فَإِنَّ قَدْرَ الشِّبَعِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَسْنَانِ وَالطَّعْمَانِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ لِرَجُلٍ كَافِرٍ بِحِلَابِ سَبْعِ شِيَاهٍ ، فَشَرِبَهَا ثُمَّ آمَنَ ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حَلْبِ شَاةٍ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ } ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَلْبَ لَمَّا تَنَوَّرَ بِالتَّوْحِيدِ نَظَرَ إلَى الطَّعَامِ بِعَيْنِ التَّقْوَى عَلَى الطَّاعَةِ ، فَأَخَذَ مِنْهُ قَدْرَ الْحَاجَةِ ، وَحِينَ كَانَ مُظْلِمًا بِالْكُفْرِ كَانَ أَكْلُهُ كَالْبَهِيمَةِ تَرْتَعُ حَتَّى تَثْلِطَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ الصُّوفِيَّةِ : إنَّ الْأَمْعَاءَ السَّبْعَةَ كِنَايَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ سَبْعَةٍ يَأْكُلُ بِهَا النَّهِمُ : يَأْكُلُ لِلْحَاجَةِ ، وَالْخَبَرِ ، وَالنَّظَرِ ، وَالشَّمِّ ، وَاللَّمْسِ ، وَالذَّوْقِ ، وَيَزِيدُ اسْتِغْنَامًا .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { زِينَةَ اللَّهِ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلِ : سَتْرُ الْعَوْرَةِ ؛ إذْ كَانَتْ الْعَرَبُ تَطُوفُ عُرَاةً ؛ إذْ كَانَتْ لَا تَجِدُ مَنْ يُعِيرُهَا مِنْ الْحُمْسِ .
الثَّانِي : جَمَالُ الدُّنْيَا فِي ثِيَابِهَا وَحُسْنُ النَّظْرَةِ فِي مَلَابِسِهَا وَلَذَّاتِهَا .
الثَّالِثِ : جَمْعُ الثِّيَابِ عِنْدَ السِّعَةِ فِي الْحَالِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : إذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَوْسِعُوا .
جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ ، وَصَلَّى رَجُلٌ فِي إزَارٍ أَوْ رِدَاءٍ ، فِي إزَارٍ وَقَمِيصٍ ، فِي إزَارٍ وَقَبَاءٍ ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ .
وَأَحْسِبُهُ قَالَ فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ .
وَالتُّبَّانُ : ثَوْبٌ يُشْبِهُ السَّرَاوِيلَ فَسَّرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الْقَالِي كَذَلِكَ ، وَعَلَيْهِ نُقِلَ الْحَدِيثُ ؛ فَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ ، فَكَثِيرًا مَا يُفَسِّرُ الْأَعْرَابِيُّونَ مِنْ لَحْنِ الْحَدِيثِ مَا لَمْ يَجِدُوهُ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَهُوَ الَّذِي امْتَنَّ بِهِ فِي قَوْلِهِ : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا } وَهِيَ : الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَلَوْلَا وُجُوبُ سَتْرِهَا مَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ بِاللِّبَاسِ الَّذِي يُوَارِيهَا .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَقَعَ الِامْتِنَانُ فِي سَتْرِهَا لِقُبْحِ ظُهُورِهَا .
قُلْنَا : مَاذَا يُرِيدُونَ بِهَذَا الْقُبْحِ ؟ أَيُرِيدُونَ بِهِ قُبْحًا عَقْلًا ، فَنَحْنُ لَا نُقَبِّحُ بِالْعَقْلِ ، وَلَا نُحَسِّنُ ؛ وَإِنَّمَا الْقَبِيحُ عِنْدَنَا مَا قَبَّحَهُ الشَّرْعُ ، وَالْحَسَنُ ، مَا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَالطَّيِّبَاتُ مِنْ الرِّزْقِ } قِيلَ : هِيَ الْحَلَالُ .
وَقِيلَ : هِيَ اللَّذَّاتُ ، وَكُلُّ لَذَّةٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً فَإِنْ اسْتِدَامَتَهَا وَالِاسْتِرْسَالَ عَلَيْهَا مَكْرُوهٌ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } : يَعْنِي بِحَقِّهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَالتَّصْدِيقِ لَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْعِمُ وَيَرْزُقُ ؛ فَإِنْ وَحَّدَهُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ وَصَدَّقَهُ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ النِّعْمَةِ ، وَإِنْ كَفَرَ فَقَدْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ نَفْسِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا أَحَدَ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى مِنْ اللَّهِ ، يُعَاقِبُهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ يَدَّعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى " { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } يَعْنِي : أَنَّ الْكُفَّارَ يَشْرَكُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِي اسْتِعْمَالِ الطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا .
فَإِذَا كَانَ فِي الْقِيَامَةِ خَلَصَتْ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي النَّعِيمِ ، وَكَانَ لِلْكُفَّارِ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا ذِكْرَ الْفَوَاحِشِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، وَأَمَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَإِنَّ كُلَّ فَاحِشَةٍ ظَاهِرَةٍ لِلْأَعْيُنِ ، أَوْ ظَاهِرَةٍ بِالْأَدِلَّةِ ، كَمَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ أَوْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ ، أَوْ قَامَ الدَّلِيلُ الْجَلِيُّ بِهِ ، فَيَنْطَلِقُ عَلَيْهَا اسْمُ الظَّاهِرَةِ .
وَالْبَاطِنَةُ كُلُّ مَا خَفِيَ عَنْ الْأَعْيُنِ ، وَيُقْصَدُ بِهِ الِاسْتِتَارُ عَنْ الْخَلْقِ ؛ أَوْ خَفِيَ بِالدَّلِيلِ ؛ كَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَالنَّبِيذِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فِي الصِّنْفَيْنِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيذَ وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فِيهِ فَإِنَّ تَحْرِيمَهُ جَلِيٌّ فِي الدَّلِيلِ ، قَوِيٌّ فِي التَّأْوِيلِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا أَحَدَ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ } .
وَلِذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْإِثْمَ } : وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّمِّ الْوَارِدِ فِي الْفِعْلِ ، أَوْ الْوَعِيدِ الْمُتَنَاوِلِ لَهُ ؛ فَكُلُّ مَذْمُومٍ شَرْعًا أَوْ فِعْلٍ وَارِدٍ عَلَى الْوَعِيدِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ مُحَرَّمٌ وَهُوَ حَدُّ الْمُحَرَّمِ وَحَقِيقَتُهُ .
وَأَمَّا الْبَغْيُ ، وَهُوَ الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْبَغْيُ : فَهُوَ تَجَاوُزُ الْحَدِّ .
وَوَجْهُ ذِكْرِهِمَا بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي جُمْلَةِ الْفَوَاحِشِ لِلتَّأْكِيدِ لِأَمْرِهِمَا بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي الِاسْمِ الْعَامِّ قَصْدَ الزَّجْرِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } فَذَكَرَ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ بِالِاسْمِ الْخَاصِّ بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي الِاسْمِ الْعَامِّ عَلَى مَعْنَى الْحَثِّ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الْإِثْمَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } الْخَمْرَ ، حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ : شَرِبْت الْإِثْمَ حَتَّى زَالَ عَقْلِي كَذَاك الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : شَرِبْت الذَّنْبَ ، أَوْ شَرِبْت الْوِزْرَ ، لَكَانَ كَذَلِكَ ، وَلَمْ يُوجِبْ قَوْلُهُ أَنْ يَكُونَ الْوِزْرُ وَالذَّنْبُ اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ ، كَذَلِكَ هَذَا .
وَاَلَّذِي أَوْجَبَ التَّكَلُّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْجَهْلِ بِاللُّغَةِ وَبِطَرِيقِ الْأَدِلَّةِ فِي الْمَعَانِي .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ الْفَرْضِيَّةِ الْجَهْرُ ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَعْمَالِ النَّفْلِيَّةِ السِّرُّ ؛ وَذَلِكَ لِمَا يَتَطَرَّقُ إلَى النَّفْلِ مِنْ الرِّيَاءِ وَالتَّظَاهُرِ بِهَا فِي الدُّنْيَا ، وَالتَّفَاخُرِ عَلَى الْأَصْحَابِ بِالْأَعْمَالِ ، وَجُبِلَتْ قُلُوبُ الْخَلْقِ بِالْمَيْلِ إلَى أَهْلِ الطَّاعَةِ ، وَقَدْ جَعَلَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ فِي الْعِبَادَاتِ ذِكْرًا جَهْرًا وَذِكْرًا سِرًّا ، بِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ أَنْشَأَهَا بِهَا وَرَتَّبَهَا عَلَيْهَا ؛ وَذَلِكَ لِمَا عَلَيْهِ قُلُوبُ الْخَلْقِ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الذِّكْرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَانْقَسَمَ حَالُهُ إلَى سِرٍّ وَجَهْرٍ ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَمْ يُشْرَعْ مِنْهُ شَيْءٌ جَهْرًا ؛ لَا فِي حَالَةِ الْقِيَامِ وَلَا فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ ، وَلَا فِي حَالَةِ السُّجُودِ ؛ لَكِنْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ قَارِئِ الْفَاتِحَةِ : ( آمِينْ ) هَلْ يُسِرُّ بِهَا أَمْ يَجْهَرُ ؟ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اُعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : نُوحٌ أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ بِتَحْرِيمِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَسَائِرِ الْفَرَائِضِ ؛ كَذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْأَثَرِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَمَنْ قَالَ مِنْ الْمُؤَرِّخِينَ : إنَّ إدْرِيسَ كَانَ قَبْلَهُ فَقَدْ وَهِمَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ وَهْمِهِ فِي اتِّبَاعِهِ صُحُفَ الْيَهُودِ ، وَكُتُبَ الإسرائليات الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ { فِي الْإِسْرَاءِ ، حِينَ لَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آدَمَ وَإِدْرِيسَ ، فَقَالَ لَهُ آدَم : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ .
وَقَالَ لَهُ إدْرِيسُ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ } .
وَلَوْ كَانَ إدْرِيسُ أَبًا لِنُوحٍ عَلَى صُلْبِ مُحَمَّدٍ لَقَالَ لَهُ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ .
فَلَمَّا قَالَ لَهُ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ يَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي أَبِيهِمْ نُوحٍ ، وَلَا كَلَامَ لِمُنْصِفٍ بَعْدَ هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رُوِيَ أَنَّ نُوحًا سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَاحَ عَلَى قَوْمِهِ ، وَأَكْثَرُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ مَعَهُمْ ، وَالنَّوْحُ هُوَ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ ، وَكَانُوا مَوْتَى فِي أَدْيَانِهِمْ لِعَدَمِ إجَابَتِهِمْ دُعَاءَهُ لَهُمْ إلَى الْإِيمَانِ ، وَإِبَايَتِهِمْ عَنْ قَبُولِهِمْ لِلتَّوْحِيدِ ؛ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ الِاشْتِقَاقُ يُعَضِّدُهُ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَسْمَاءِ قَبْلَ إسْمَاعِيلَ لَمْ تَكُنْ عَرَبِيَّةً .
أَمَّا إنَّ ذِكْرَ الْعُلَمَاءِ لِذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَةٍ ؛ وَهِيَ جَوَازُ اشْتِقَاقِ الْأَسْمَاءِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَتَكَسَّبُونَهَا ، إذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ ، { وَهَذَا

رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَنَّى الدَّوْسِيَّ مِنْ أَصْحَابِهِ بِهِرَّةٍ كَانَ يَكْتَسِبُ لُزُومَهَا مَعَهُ ، وَدَعَاهُ لِذَلِكَ بِأَبِي هُرَيْرَةَ } ، فِي أَمْثَالٍ لِهَذَا كَثِيرَةٍ مِنْ آثَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيُّ مَدْحٍ فِي لُزُومِ الْهِرَّةِ ؟ قُلْنَا : لِأَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ يَصْغَى لَهَا الْإِنَاءُ ، وَلَا تُفْسِدُ الْمَاءَ إذَا وَلَغَتْ فِيهِ ، وَفِيهَا مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ تَكُفُّ إذَايَةَ الْفَأْرِ ، وَمَا يُؤْذِي الْإِنْسَانَ مِنْ الْحَشَرَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : الطُّوفَانُ الْمَاءُ ، وَالْجَرَادُ كَانَ يَأْكُلُ الْمَسَامِيرَ ، وَإِنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ أَتَتْ الْبَيْتَ فِي جَرَيَانِهَا فَطَافَتْ بِهِ سَبْعًا .
وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ هَذَا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْمُفَسِّرِينَ رَوَتْ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ الطُّوفَانَ هُوَ الْمَوْتُ } .
وَحَقِيقَةُ الطُّوفَانِ وَهُوَ الثَّانِي أَنَّهُ مَصْدَرٌ مِنْ طَافَ ، أَوْ جَمْعٌ ، وَاحِدَتُهُ طُوفَانَةٌ ، فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { فَطَافَ عَلَيْهَا } الْآيَةَ .
.

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْفَاحِشَةُ : قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الْمَعْصِيَةَ ، وَهِيَ إتْيَانُ الرِّجَالِ بِاسْمِ الْفَاحِشَةِ لِيُبَيِّنَ أَنَّهَا زِنًا ، كَمَا قَالَ : { وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَكَبُوا هَذِهِ الْفَاحِشَةَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ جَزَاءً عَلَى فِعْلِهِمْ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ يُعَزَّرُ ؛ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الثَّانِي : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ : يُحَدُّ حَدُّ الزَّانِي ، مُحْصَنًا بِجَزَائِهِ وَبِكْرًا بِجَزَائِهِ .
الثَّالِثُ : قَالَ مَالِكٌ : يُرْجَمُ أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصَنْ ؛ وَقَالَهُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ وَالنَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ .
أَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ يُعَزَّرُ فَتَعَلَّقَ بِأَنَّ هَذَا لَمْ يَزْنِ ، وَعُقُوبَةُ الزَّانِي مَعْلُومَةٌ ؛ فَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ غَيْرَهَا وَجَبَ أَلَّا يُشَارِكَهَا فِي حَدِّهَا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ زِنًا فَنَحْنُ الْآنَ نُثْبِتُهُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَدًّا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الَّذِي يَجْعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ ، فَيَقُولُ : قَدْ بَيَّنَّا مُسَاوَاتَهُ لِلزِّنَا فِي الِاسْمِ ، وَهِيَ الْفَاحِشَةُ ، وَهِيَ مُشَارَكَةٌ لَهُ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مُحَرَّمٌ شَرْعًا ، مُشْتَهًى طَبْعًا ؛ فَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ مَعَهُ إيلَاجٌ وَهَذَا الْفِقْهُ صَحِيحٌ .
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ لِلزَّجْرِ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمُشْتَهَى ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَامِلًا ؛ بَلْ هَذَا أُحْرَمُ وَأَفْحَشُ ؛ فَكَانَ بِالْعُقُوبَةِ أَوْلَى وَأَحْرَى .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا وَطْءٌ فِي فَرْجٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إحْلَالٌ وَلَا إحْصَانٌ ، وَلَا وُجُوبُ مَهْرٍ ، وَلَا ثُبُوتُ نَسَبٍ ؛ فَلَمْ

يَتَعَلَّقْ بِهِ حَدٌّ .
قُلْنَا : هَذَا بَيَانٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ ؛ فَإِنَّ بَقَاءَ هَذِهِ الْمَعَانِي فِيهِ لَا يُلْحِقُهُ بِوَطْءِ الْبَهِيمَةِ ، إنَّمَا يُعَظِّمُ أَمْرَهُ عَلَى الْوَطْءِ فِي الْقُبُلِ تَعْظِيمًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِيهِ ، أَحْصَنَ أَوْ لَمْ يُحْصِنْ ؛ أَلَا تَرَى إلَى عُقُوبَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ مَا أَعْظَمَهَا .
فَإِنْ قِيلَ : عُقُوبَةُ اللَّهِ لَا حُجَّةَ فِيهَا لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْمَ لُوطٍ إنَّمَا عُوقِبُوا عَلَى الْكُفْرِ .
الثَّانِي : أَنَّ صَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ دَخَلَ فِيهَا .
فَدَلَّ عَلَى خُرُوجِهَا عَنْ بَابِ الْحُدُودِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّا نَقُولُ : أَمَّا قَوْلُهُمْ إنَّ اللَّهَ عَاقَبَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ لِهَذَا غَلَطٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى مَعَاصٍ فَأَخَذَهُمْ مِنْهَا بِهَذِهِ ، أَلَا تَسْمَعُهُ يَقُولُ : { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } .
قَالُوا لَهُ : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَنَفْعَلَنَّ بِك يَا لُوطُ ، فَفَعَلَ اللَّهُ بِهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ ؛ لِسُكُوتِ الْجُمْلَةِ عَلَيْهِ وَالْجَمَاهِيرِ ؛ فَكَانَ مِنْهُمْ فَاعِلٌ ، وَكَانَ مِنْهُمْ رَاضٍ ؛ فَعُوقِبَ الْجَمِيعُ ، وَبَقِيَ الْأَمْرُ فِي الْعُقُوبَةِ عَلَى الْفَاعِلِينَ مُسْتَمِرًّا .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَغَيْرُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةُ وَغَيْرُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ وَجَدْتُمُوهُ قَدْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوا الْبَهِيمَةَ } .
قُلْنَا : هَذَا الْحَدِيثُ مَتْرُوكٌ بِالْإِجْمَاعِ ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ إذَا سَقَطَ حَدِيثٌ بِالْإِجْمَاعِ أَنْ يَسْقُطَ مَا لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهِ .

قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْبَخْسُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ النَّقْصُ بِالتَّعْيِيبِ وَالتَّزْهِيدِ ، أَوْ الْمُخَادَعَةِ عَنْ الْقِيمَةِ ، أَوْ الِاحْتِيَالِ فِي التَّزَيُّدِ فِي الْكَيْلِ أَوْ النُّقْصَانِ مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنَّمَا أَذِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْأَمْوَالِ بِالْأَكْلِ بِالْحَقِّ ، وَالتَّعَامُلِ بِالصِّدْقِ ، وَطَلَبِ التِّجَارَةِ بِذَلِكَ ، فَمَتَى خَرَجَ عَنْ يَدِ أَحَدٍ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ بِعِلْمِهِ لِأَخِيهِ فَقَدْ أَكَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُرْضِي اللَّهَ وَيَرْتَضِيهِ ؛ وَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ عَنْ يَدِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَلَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ مِمَّا لَا غِنًى عَنْهُ فِي ارْتِفَاعِ الْأَسْوَاقِ وَانْخِفَاضِهَا عَنْهُ فَإِنَّهُ حَلَالٌ جَائِزٌ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ؛ فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا جَرَى ذَلِكَ فِي بَيْعٍ كَانَ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْضَاهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَآخَرُونَ غَيْرُهُمْ : إنَّهُ لَا رَدَّ فِيهِ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ فَقَدْ ثَبَتَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ كَانَ يَخْدَعُ فِي الْبُيُوعِ : إذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ } .
وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحِ : { وَاشْتَرِطْ الْخِيَارَ ثَلَاثًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَلَك الْخِيَارُ ثَلَاثًا } .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : كَانَ هَذَا الرَّجُلُ قَدْ أَصَابَتْهُ مَأْمُومَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَثَّرَتْ فِي عَقْلِهِ ، فَكَانَ يَخْدَعُ لِأَجْلِ ذَلِكَ فِي بَيْعِهِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا قَالَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَالِ ، حَتَّى كَانَ يَقُولُ لِمَا أَصَابَهُ : { لَا خِلَابَةَ لَا خِلَابَةَ } .
فَالْجَوَابُ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ الَّذِي قَالَهُ لَهُ مِنْ حُكْمِهِ لِمَا أَصَابَهُ مِنْ عَقْلِهِ لَمَا جَوَّزَ بَيْعَهُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْتُوهِ لَا يَجُوزُ بِخِيَارٍ ، وَلَا بِغَيْرِ خِيَارٍ ، وَلَكِنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُصَرِّحَ عَنْ قَوْلِهِ ، حَتَّى يَقَعَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ .

قَوْله تَعَالَى : { لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } .
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّلْبَ وَقَطْعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ كَانَتْ عُقُوبَةً مُتَأَصِّلَةً عِنْدَ الْخَلْقِ تَلَقَّفُوهَا مِنْ شَرْعٍ مُتَقَدِّمٍ فَحَرَّفُوهَا حَتَّى أَوْضَحَهَا اللَّهُ فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَجَعَلَهَا أَعْظَمَ الْعُقُوبَاتِ لِأَعْظَمِ الْإِجْرَامِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ : { لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَدَخَلْتُمُوهُ } .
وَثَبَتَ أَنَّهُ { قَالَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ لِأَصْحَابِهِ ، وَقَدْ قَالُوا لَهُ : اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ .
فَقَالَ : هَذَا ، كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَكُمْ : { اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } ؛ } فَحَذَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتِّبَاعَ الْبِدَعِ ، وَأَمَرَ بِإِحْيَاءِ السُّنَنِ ، وَحَثَّ عَلَى الِاقْتِدَاءِ ، وَعَنْ هَذَا قُلْنَا : إنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ زَادَا فِي صِيَامِهِمْ بِعِلَّةٍ رَأَوْهَا ، وَجَعَلُوهُ أَكْثَرَ مِنْ الْعَدَدِ الْمَعْرُوفِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ بَعْدَ أَنْ حَضَرَ مَعَهُ الْمَوْسِمَ فَصَلَّى مَعَهُ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ، فَقِيلَ لَهُ : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : رَأَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ يَفْعَلُهُ ، فَكَانَ عُثْمَانُ يُتِمُّ فِي السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ مُفْسِدًا لِعَقَائِد الْعَامَّةِ ، فَرَأَى حِفْظَ ذَلِكَ بِتَرْكِ يَسِيرٍ مِنْ السُّنَّةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَأَى قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْجَفَاءِ أَنْ يَصُومُوا ثَانِيَ عِيدِ الْفِطْرِ سِتَّةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ إتْمَامًا لِرَمَضَانَ ، لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَسِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ } خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ .
وَهَذِهِ الْأَيَّامُ مَتَى صِيمَتْ مُتَّصِلَةً كَانَ احْتِذَاءً لِفِعْلِ النَّصَارَى ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ هَذَا ، إنَّمَا أَرَادَ أَنَّ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَهُوَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ ، وَمَنْ صَامَ سِتَّةَ أَيَّامٍ فَهِيَ بِشَهْرَيْنِ " وَذَلِكَ الدَّهْرُ .
وَلَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ شَوَّالٍ لَكَانَ الْحُكْمُ فِيهَا كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِكْرِ شَوَّالٍ لَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْيِينِ ؛ لِوُجُوبِ مُسَاوَاةِ غَيْرِهَا لَهَا فِي ذَلِكَ ؛ وَإِنَّمَا ذَكَرَ شَوَّالَ عَلَى مَعْنَى التَّمْثِيلِ ، وَهَذَا مِنْ بَدِيعِ النَّظَرِ فَاعْلَمُوهُ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ضَرْبُ الْأَجَلِ لِلْمَوَاعِيدِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ وَمَعْنًى قَدِيمٌ أَسَّسَهُ اللَّهُ فِي الْقَضَايَا وَحَكَمَ بِهِ لِلْأُمَمِ ، وَعَرَّفَهُمْ بِهِ مَقَادِيرَ التَّأَنِّي فِي الْأَعْمَالِ ، وَإِنَّ أَوَّلَ أَجَلٍ ضَرَبَهُ الْأَيَّامَ السِّتَّةَ الَّتِي مَدَّهَا لِجَمِيعِ الْخَلِيقَةِ فِيهَا ، وَقَدْ كَانَ قَادِرًا فِي أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فِي لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِشَيْءٍ إذَا أَرَادَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونَ ؛ بَيْدَ أَنَّهُ أَرَادَ تَعْلِيمَ الْخَلْقِ التَّأَنِّي وَتَقْسِيمَ الْأَوْقَاتِ عَلَى أَعْيَانِ الْمَخْلُوقَاتِ ؛ لِيَكُونَ لِكُلِّ عَمَلٍ وَقْتٌ .
وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْقَوْلَ فِيهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا ضَرَبَ الْأَجَلَ لِمَعْنًى يُحَاوِلُ فِيهِ تَحْصِيلَ الْمُؤَجَّلِ لِأَجَلِهِ ، فَجَاءَ الْأَجَلُ ، وَلَمْ يَتَيَسَّرْ زِيدَ فِيهِ تَبْصِرَةً وَمَعْذِرَةً ؛ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ لَهُ أَجَلًا ثَلَاثِينَ لَيْلَةً ، فَخَرَجَ لِوَعْدِ رَبِّهِ ، فَزَادَ اللَّهُ عَشْرًا تَتِمَّةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، وَأَبْطَأَ مُوسَى فِي هَذِهِ الْعَشْرِ عَلَى قَوْمِهِ ، فَمَا عَقَلُوا جَوَازَ التَّأَخُّرِ لِعُذْرٍ حَتَّى قَالُوا : إنَّ مُوسَى ضَلَّ أَوْ نَسِيَ ، وَنَكَثُوا عَهْدَهُ ، وَبَدَّلُوا بَعْدَهُ ، وَعَبَدُوا إلَهًا غَيْرَ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الزِّيَادَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ عَلَى الْأَجَلِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ ، كَمَا أَنَّ الْأَجَلَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الْمَعَانِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ ؟ مِنْ وَقْتٍ وَحَالٍ وَعَمَلٍ ، فَيَكُونُ الْأَجَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ ؛ فَإِذَا قَدَّرَ الزِّيَادَةَ بِاجْتِهَادِهِ ،

فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ تَكُونَ [ الزِّيَادَةُ ] مِثْلَ ثُلُثِ الْمُدَّةِ السَّالِفَةِ ، كَمَا أَجَّلَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي الزِّيَادَةِ ثُلُثَ مَا ضَرَبَهُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ .
وَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَجْمَعَ لَهُ الْأَصْلَ فِي الْأَجَلِ وَالزِّيَادَةِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّرَبُّصِ بَعْدَهَا لِمَا يَطْرَأُ مِنْ الْعُذْرِ عَلَى الْبَشَرِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : التَّارِيخُ إنَّمَا يَكُونُ بِاللَّيَالِيِ دُونَ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ أَوَائِلُ الشُّهُورِ ، وَبِهَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تُخْبِرُ عَنْ الْأَيَّامِ ، حَتَّى رُوِيَ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ { : صُمْنَا خَمْسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَالْعَجَمُ تُخَالِفُنَا ذَلِكَ فَتَحْسِبُ بِالْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ مُعَوَّلَهَا عَلَى الشَّمْسِ ، وَحِسَابُ الشَّمْسِ لِلْمَنَافِعِ ، وَحِسَابُ الْقَمَرِ لِلْمَنَاسِكِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اتَّفَقَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً هِيَ ذُو الْقَعْدَة وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَكَانَ كَلَامُ اللَّهِ لِمُوسَى غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ حِينَ فَدَى إسْمَاعِيلَ مِنْ الذَّبْحِ ، وَأَكْمَلَ لِمُحَمَّدٍ الْحَجَّ ، وَجَعَلَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ .
وَهَذَا إنْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقِ الْخَبَرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتٍ فَالْأَيَّامُ الْعَشْرُ ذَاتُ فَضْلٍ يُبَيَّنُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : الْوَقْتُ مَعْنًى غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَالْمِيقَاتُ : هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يُقَدَّرُ بِعَمَلٍ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَك يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى " الْقَوْلُ فِي الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ : قَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ الْحَسَنَ مَا وَافَقَ الشَّرْعَ ، وَالْقَبِيحَ مَا خَالَفَهُ ، وَفِي الشَّرْعِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ ، فَقِيلَ : كُلُّ مَا كَانَ أَرْفَقَ فَهُوَ أَحْسَنُ .
وَقِيلَ : كُلُّ مَا كَانَ أَحْوَطَ لِلْعِبَادَةِ فَهُوَ أَحْسَنُ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ أَحْسَنَ مَا فِيهَا امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ { قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ لَهُ : وَاَللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلَا أُنْقِصُ مِنْهُ فَقَالَ : أَفْلَحَ إنْ صَدَقَ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ إنْ صَدَقَ } .
.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْمُبَاحُ مِنْ جُمْلَةِ الْحَسَنِ فِي الشَّرِيعَةِ بِلَا خِلَافٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي كَوْنِهِ مِنْ الْمَأْمُورَاتِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ وَأَذِنَ فِيهِ .
وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْحَسَنِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ يُمْدَحُ فَاعِلُهُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُمْدَحُ فَاعِلُ الْمَكْرُوهِ ؛ بَلْ هُوَ دَاخِلٌ فِي السَّرَفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدْخُلُ فِي الْأَحْكَامِ إذَا قُلْنَا : إنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا ، فَأَمَّا الشَّافِعِيَّةُ الَّتِي لَا تَرَى ذَلِكَ فَلَمْ تُدْخِلْهَا فِي أَحْكَامِهَا ، وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهَا هُنَا مِنْ التَّبَسُّطِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ .
وَاَلَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُسْنِ الِاقْتِدَاءِ وَمِنْ سَيِّئِ الِاجْتِنَابِ ، وَإِذَا مَدَحَ قَوْمًا عَلَى فِعْلٍ فَهُوَ حَثٌّ عَلَيْهِ ، أَوْ ذَمَّهُمْ عَلَى آخَرَ فَهُوَ زَجْرٌ عَنْهُ ، وَكُلُّهُ يَدْخُلُ لَنَا فِي الِاهْتِدَاءِ بِالِاقْتِدَاءِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : كَانَ مُوسَى مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ غَضَبًا ؛ لَكِنَّهُ كَانَ سَرِيعَ الْفَيْئَةِ ، فَتِلْكَ بِتِلْكَ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : كَانَ مُوسَى إذَا غَضِبَ طَلَعَ الدُّخَانُ مِنْ قَلَنْسُوَتِهِ ، وَرَفَعَ شَعْرُ بَدَنِهِ جُبَّتَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تَتَوَقَّدُ فِي الْقَلْبِ ، وَلِأَجْلِهِ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ غَضِبَ أَنْ يَضْطَجِعَ ، فَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ غَضَبُهُ فَلْيَغْتَسِلْ ؟ } فَيُخْمِدُهَا اضْطِجَاعُهُ ، وَيُطْفِئُهَا اغْتِسَالُهُ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إلَى مُوسَى ، فَلَمَّا جَاءَ صَكَّهُ صَكَّةً فَفَقَأَ فِيهَا عَيْنَهُ ، فَرَجَعَ إلَى رَبِّهِ ، فَقَالَ : أَرْسَلْتنِي إلَى عَبْدٍ لَا يُرِيدُ الْمَوْتَ .
فَقَالَ : ارْجِعْ إلَيْهِ ، فَقُلْ لَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ فَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ سَنَةٌ .
قَالَ : أَيْ رَبِّ ، ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْمَوْتُ .
قَالَ : فَالْآنَ } الْحَدِيثَ .
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ غَضَبِ مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِذَلِكَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ عِنْدَ رُؤْيَةِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ ، وَمَا أَوْقَعَ الْغَضَبَ هَاهُنَا ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مَا مَعْنَى أَخْذِهِ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ ؟ قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : كَانَ ذَلِكَ فِيمَا مَضَى ثُمَّ نُسِخَ .
الثَّانِي : أَنَّهُ ضَمَّ أَخَاهُ إلَيْهِ لِيَعْلَمَ مَا لَدَيْهِ ، فَبَيَّنَ لَهُ أَخُوهُ أَنَّهُمْ

اسْتَضْعَفُوهُ ، وَكَادُوا يَقْتُلُونَهُ ؛ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِمَنْ خَشِيَ الْقَتْلَ عِنْدَ تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ أَنْ يَسْكُتَ عَنْهُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْغَضَبَ لَا يُغَيِّرُ الْأَحْكَامَ ، كَمَا زَعَمَهُ بَعْضُ النَّاسِ ؛ فَإِنَّ مُوسَى لَمْ يُغَيِّرْ غَضَبُهُ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِهِ ؛ بَلْ اطَّرَدَتْ عَلَى مَجْرَاهَا ، مِنْ إلْقَاءِ لَوْحٍ ، وَعِتَابِ أَخٍ ، وَصَكِّ مَلَكٍ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ طَائِفَةً مِنْ الْيَهُودِ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ ، طَائِفَةُ خَيْبَرَ ، وَطَائِفَةُ فَدَكَ لَمَّا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُرُوجِهِ فِي أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ ، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ ، فَأَخْلَفَهُمْ اللَّهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَقِيت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، فَسَأَلْته عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ قَالَ : أَجَلْ ؛ وَاَللَّهِ إنَّهُ لَمَوْصُوفٌ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ يَا أَيُّهَا النَّبِيَّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُك الْمُتَوَكِّلَ ، لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ ، وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ ، حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ؛ وَيَفْتَحَ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا ، وَآذَانًا صُمًّا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إدْرِيسَ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ قَالَ : { كَانَتْ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مُحَاوَرَةٌ ، فَأَغْضَبَ

أَبُو بَكْرٍ عُمَرَ ، فَانْصَرَفَ عَنْهُ عُمَرُ مُغْضَبًا ، فَاتَّبَعَهُ أَبُو بَكْرٍ لِيَسْأَلَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَغْلَقَ بَابَهُ فِي وَجْهِهِ ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : وَنَحْنُ عِنْدَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا صَاحِبُكُمْ هَذَا فَقَدْ غَامَرَ .
قَالَ : وَنَدِمَ عُمَرُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ ، فَأَقْبَلَ حَتَّى سَلَّمَ وَجَلَسَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْخَبَرَ .
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : وَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يَقُولُ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَأَنَا كُنْت أَظْلَمُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي ؟ إنِّي قُلْت : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا ، فَقُلْتُمْ : كَذَبْت .
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ } الْإِصْرُ ؛ هُوَ الثِّقَلُ ، وَكَانَ فِيمَا سَبَقَ مِنْ الشَّرَائِعِ تَكَالِيفُ كَثِيرَةٌ فِيهَا مَشَاقُّ عَظِيمَةٌ ، فَخَفَّفَ تِلْكَ الْمَشَاقَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهَا مَشَقَّتَانِ عَظِيمَتَانِ : الْأُولَى فِي الْبَوْلِ .
كَانَ إذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْغُسْلِ بِالْمَاءِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : كَانَ أَبُو مُوسَى يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ ، وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ ، وَيَقُولُ : إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ إذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ { فَقَالَ حُذَيْفَةُ : لَوَدِدْت أَنَّ صَاحِبَكُمْ لَا يُشَدِّدُ هَذَا التَّشْدِيدَ ، لَقَدْ رَأَيْتنِي أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ نَتَمَاشَى ، فَأَتَى سُبَاطَةً خَلْفَ حَائِطٍ ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ ؛ فَبَالَ ، فَانْتَبَذْت مِنْهُ ، فَأَشَارَ إلَيَّ فَجِئْت فَقُمْت عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ } .
وَمِنْ الْإِصْرِ الَّذِي وُضِعَ إحْلَالُ الْغَنَائِمِ ؛ وَكَانَتْ حَرَامًا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ .
وَمِنْهَا أَلَّا تُجَالَسَ الْحَائِضُ وَلَا تُؤَاكَلَ ، فَخَفَّفَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي دِينِهِ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِتَشُدَّ عَلَيْهَا إزَارَهَا ، ثُمَّ شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا } فِي أَعْدَادٍ لِأَمْثَالِهَا .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } .
هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الشَّرِيعَةِ ، وَفِيهَا مَسَائِلُ أُصُولُهَا تِسْعٌ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : إنَّ اللَّهَ أَمَرَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ الْيَهُودَ إخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ عَنْ الْقَرْيَةِ الْبَحْرِيَّةِ الَّتِي اعْتَدَوْا فِيهَا يَوْمَ السَّبْتِ ، فَمَسَخَهُمْ اللَّهُ بِاعْتِدَائِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ، لِيُعَرِّفَهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِتَغْيِيرِ فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ الشَّرِيعَةِ ، فَكَيْفَ بِتَغْيِيرِ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ } يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ ؛ فَعَبَّرَ بِهَا عَنْهُمْ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَقَرًّا لَهُمْ وَسَبَبَ اجْتِمَاعِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } الْآيَةَ ، وَكَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدٍ } يَعْنِي أَهْلَ الْعَرْشِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ يُرِيدُ اسْتِبْشَارَهُمْ بِهِ .
وَكَمَا قَالَ أَيْضًا فِي الْمَدِينَةِ : { هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قِيلَ : كَانَتْ هَذِهِ الْمَدِينَةُ أَيْلَةَ ، مِنْ أَعْمَالِ مِصْرَ .
وَقِيلَ : كَانَتْ طَبَرِيَّةَ مِنْ أَعْمَالِ الشَّامِ .
وَقِيلَ : مَدْيَنَ ؛ وَرَبُّك أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سَبَبِ مَسْخِهِمْ ، فَقِيلَ : إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الصَّيْدَ يَوْمَ السَّبْتِ ، ثُمَّ ابْتَلَاهُمْ بِأَنْ تَكُونَ الْحِيتَانُ تَأْتِي يَوْمَ السَّبْتِ شُرَّعًا أَيْ : رَافِعَةً رُءُوسَهَا فِي الْمَاءِ يَنْظُرُونَ إلَيْهَا ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيَّامِ طَلَبُوا مِنْهَا حُوتًا وَاحِدًا لِلصَّيْدِ فَلَمْ يَجِدُوهُ ؛ فَصَوَّرَ عِنْدَهُمْ إبْلِيسُ أَنْ يَسُدُّوا أَفْوَاهَ الْخُلْجَانِ يَوْمَ السَّبْتِ حَتَّى إذَا أَمْسَوْا ، وَأَرَادَتْ الْحِيتَانُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى النَّهْرِ الْأَعْظَمِ وَإِلَى غَمْرَةِ الْبَحْرِ لَمْ تَجِدْ مَسْلَكًا ، فَيَأْخُذُونَهَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ؛ فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَمُسِخُوا .
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْقِصَّةِ عَنْ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ ، قَالَ : كَانَتْ تَأْتِيهِمْ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَسَاءُ ذَهَبَتْ فَلَا يُرَى مِنْهَا شَيْءٌ إلَى السَّبْتِ الْآخَرِ ، فَاِتَّخَذَ لِذَلِكَ رَجُلٌ مِنْهُمْ خَيْطًا وَوَتَدًا ، فَرَبَطُوا حُوتًا مِنْهَا فِي الْمَاءِ يَوْمَ السَّبْتِ ، حَتَّى إذَا أَمْسَوْا لَيْلَةَ الْأَحَدِ أَخَذَهُ فَاشْتَوَاهُ ، فَوَجَدَ النَّاسُ رِيحَهُ ، فَأَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَجَحَدَهُمْ ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى قَالَ لَهُمْ : إنَّهُ جِلْدُ حُوتٍ وَجَدْنَاهُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّبْتِ الْآخَرِ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَلَا أَدْرِي لَعَلَّهُ قَالَ ثُمَّ رَبَطَ حُوتَيْنِ ، فَلَمَّا أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الْأَحَدِ أَخَذَهُ وَاشْتَوَاهُ ، فَوَجَدُوا رِيحَهُ ، فَجَاءُوهُ ، فَقَالَ لَهُمْ : لَوْ شِئْتُمْ صَنَعْتُمْ كَمَا أَصْنَعُ .
قَالُوا : وَمَا صَنَعْت ؟ فَأَخْبَرَهُمْ ، فَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ ، حَتَّى كَثُرَ ذَلِكَ ، وَكَانَتْ لَهُمْ مَدِينَةٌ لَهَا رَبَضٌ يُغْلِقُونَهَا عَلَيْهِمْ ، فَأَصَابَهُمْ مِنْ الْمَسْخِ مَا أَصَابَهُمْ ، فَغَدَا إلَيْهِمْ جِيرَانُهُمْ مِمَّنْ كَانَ حَوْلَهُمْ

يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ ، فَوَجَدُوا الْمَدِينَةَ مُغْلَقَةً عَلَيْهِمْ ، فَنَادَوْا فَلَمْ يُجِبْهُمْ أَحَدٌ ، فَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِمْ الْمَدِينَةَ ، فَإِذَا هُمْ قِرَدَةً ، فَجَعَلَ الْقِرْدُ مِنْهُمْ يَدْنُو فَيَتَمَسَّحُ بِمَنْ كَانَ يَعْرِفُ قَبْلَ ذَلِكَ .
قَالَ الْحَسَنُ : فَأَكَلُوا وَاَللَّهِ أَوْخَمَ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا قَوْمٌ ، وَعُوقِبُوا أَسْوَأَ عُقُوبَةٍ فِي الدُّنْيَا وَأَشَدَّهَا عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ .
ثُمَّ قَالَ الْحَسَنُ : وَاَللَّهِ لَقَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَكْلِ الْحِيتَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَمَّا فَعَلُوا هَذَا نَهَاهُمْ كُبَرَاؤُهُمْ ، وَوَعَظَهُمْ أَحْبَارُهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ ، فَاسْتَمَرُّوا عَلَى نَهْيِهِمْ لَهُمْ ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ التَّمَادِي عَلَى الْوَعْظِ وَالنَّهْيِ عَدَمُ قَبُولِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ قُبِلَ أَوْ لَمْ يُقْبَلْ ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ بَعْضُهُمْ : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } ؟ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا ، { أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } فِي الْآخِرَةِ ؟ قَالَ لَهُمْ النَّاهُونَ : مَعْذِرَةً إلَى رَبِّكُمْ ، أَيْ نَقُومُ بِفَرْضِنَا ؛ لِيَثْبُتَ عُذْرُنَا عِنْدَ رَبِّنَا .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أَيْ : تَرَكُوهُ عَنْ قَصْدٍ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النِّسْيَانَ لَفْظٌ يَنْطَلِقُ عَلَى السَّاهِي وَالْعَامِدِ رَدًّا عَلَى أَهْلِ جَهَالَةٍ زَعَمُوا أَنَّ النَّاسِيَ وَالسَّاهِيَ لِمَعْنًى وَاحِدٍ .
وَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا مَعْرِفَةَ لَهُمْ بِاللُّغَةِ ، وَقَصْدُهُمْ هَدْمُ الشَّرِيعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَحَقَّقْنَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا } .
وَقُلْنَا : مَعْنَاهُ مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ تَرَكَهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى ذَكَرَهَا .
فَالسَّاهِي لَهُ حَالَةُ ذِكْرٍ ، وَالْعَامِدُ هُوَ أَبَدًا ذَاكِرٌ ؛ وَكُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ فَرْضُ الْقَضَاءِ مَتَى حَضَرَهُ الذِّكْرُ دَائِمًا أَوْ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، وَبِهَذَا اسْتَقَامَ نِظَامُ الْكَلَامِ ، وَاسْتَقَرَّ حُكْمُ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ إثْبَاتِ الذَّرَائِعِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مَالِكٌ ، وَتَابَعَهُ عَلَيْهَا أَحْمَدُ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ ، وَخَفِيَتْ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ مَعَ تَبَحُّرِهِمَا فِي الشَّرِيعَةِ ، وَهُوَ كُلُّ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَحْظُورٍ ، كَمَا فَعَلَ الْيَهُودُ حِينَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ صَيْدَ السَّبْتِ ، فَسَكَرُوا الْأَنْهَارَ ، وَرَبَطُوا الْحِيتَانَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْأَحَدِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَدِلَّةَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ ، وَبَسَطْنَاهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً وَدَلَالَةً مِنْ الْأُصُولِ فِي الشَّرِيعَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا الَّذِي فَعَلَتْ الْيَهُودُ لَمْ يَكُنْ تَوَسُّلًا إلَى الصَّيْدِ ؛ بَلْ كَانَ نَفْسَ الصَّيْدِ .
قُلْنَا : إنَّمَا حَقِيقَةُ الصَّيْدِ إخْرَاجُ الْحُوتِ مِنْ الْمَاءِ وَتَحْصِيلُهُ عِنْدَ الصَّائِدِ ، فَأَمَّا التَّحَيُّلُ عَلَيْهِ إلَى حِينِ الصَّيْدِ فَهُوَ سَبَبُ الصَّيْدِ ، لَا نَفْسُ الصَّيْدِ ، وَسَبَبُ الشَّيْءِ غَيْرُ الشَّيْءِ ؛ إنَّمَا هُوَ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَيْهِ ، وَيُتَوَسَّلُ بِهِ فِي تَحْصِيلِهِ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي فَعَلَهُ أَصْحَابُ السَّبْتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا هَلَكُوا بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، فَقَالُوا : لَا نَصِيدُ ، بَلْ نَأْتِي بِسَبَبِ الصَّيْدِ ، وَلَيْسَ سَبَبُ الشَّيْءِ نَفْسَ الشَّيْءِ ، فَنَحْنُ لَا نَرْتَكِبُ عَيْنَ مَا نُهِينَا عَنْهُ ، فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْأَخْذِ بِالظَّاهِرِ الْمُطْلَقِ فِي الشَّرِيعَةِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمَمْسُوخِ ؛ هَلْ يَنْسِلُ أَمْ لَا ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْمَمْسُوخَ لَا يَنْسِلُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ يَنْسِلُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ حِينَ { سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ ، فَقَالَ إنَّ أُمَّةً مُسِخَتْ ، فَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ الضَّبُّ مِنْهَا } .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْفَأْرَ مُسِخَ ، أَلَا تَرَاهُ إذَا وُضِعَ لَهُ أَلْبَانُ الْإِبِلِ لَمْ يَشْرَبْهَا } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّهُ قَالَ : رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرَدَةً قَدْ رَجَمُوا قِرَدَةً .
وَنَصُّ الْحَدِيثِ : قَدْ رَأَيْت فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرَدَةً قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا قِرَدَةٌ قَدْ زَنَتْ فَرَجَمُوهَا ، فَرَجَمْتهَا مَعَهُمْ .
ثَبَتَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْبُخَارِيِّ ، وَسَقَطَ فِي بَعْضِهَا .
وَثَبَتَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ : قَدْ زَنَتْ .
وَسَقَطَ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ .
فَإِنْ قِيلَ : وَكَأَنَّ الْبَهَائِمَ بَقِيَتْ فِيهِمْ مَعَارِفُ الشَّرَائِعِ حَتَّى وَرِثُوهَا خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ إلَى زَمَانِ عُمَرَ .
وَقُلْنَا : نَعَمْ ، كَذَلِكَ كَانَ ؛ لِأَنَّ الْيَهُودَ غَيَّرُوا الرَّجْمَ ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَهُ فِي مُسُوخِهِمْ ، حَتَّى يَكُونَ إبْلَاغًا فِي الْحُجَّةِ عَلَى مَا أَنْكَرُوهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَغَيَّرُوهُ ، حَتَّى تَشْهَدَ عَلَيْهِمْ كُتُبُهُمْ وَأَحْبَارُهُمْ وَمُسُوخُهُمْ ، حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ، وَيُحْصِي مَا يُبَدِّلُونَ وَمَا يُغَيِّرُونَ ، وَيُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ، وَيَنْصُرَ نَبِيَّهُ وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ { سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ } فَقَالَ عُمَرُ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ خَلْق آدَمَ ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ ، فَقَالَ : خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ .
ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ ، فَقَالَ : خَلَقْت هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ .
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ إذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، وَإِذَا خَلَقَ الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ } وَقَدْ تُكُلِّمَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ بِكَلَامٍ [ قَدْ ] بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
وَقَدْ ثَبَتَ وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَمَّا خَلَقَ آدَم مَسَحَ ظَهْرَهُ فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَجَعَلَ بَيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ وَبِيصًا مِنْ نُورٍ ، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى آدَمَ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ ، مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : هَؤُلَاءِ ذُرِّيَّتُك .
فَرَأَى رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَعْجَبَهُ وَبِيصُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ .
فَقَالَ : يَا رَبِّ ؛ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : رَجُلٌ

مِنْ آخِرِ الْأُمَمِ مِنْ ذُرِّيَّتِك يُقَالُ لَهُ دَاوُد .
فَقَالَ : رَبِّ كَمْ جَعَلْت عُمُرَهُ ؟ قَالَ : سِتِّينَ سَنَةً .
قَالَ : أَيْ رَبِّ ، زِدْهُ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً .
فَلَمَّا انْقَضَى عُمُرُ آدَمَ جَاءَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ ، فَقَالَ : أَوَلَمْ يَبْقَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ سَنَةً ؟ قَالَ : أَوَلَمْ تُعْطِهَا ابْنَك دَاوُد ؟ قَالَ : فَجَحَدَ آدَم ، فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ ؛ وَنَسِيَ آدَم فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ ؛ وَخَطِئَ آدَم ، فَأَخْطَأَتْ ذُرِّيَّتُهُ } .
خَرَّجَهُ أَبُو عِيسَى وَصَحَّحَهُ ، وَمِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ ، { فَمِنْ حِينَئِذٍ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ } وَفِي رِوَايَةٍ : { أَنَّهُ رَأَى فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْغَنِيَّ وَالْفَقِيرَ وَالْمُبْتَلَى وَالصَّحِيحَ فَقَالَ لَهُ آدَم : يَا رَبِّ ، مَا هَذَا ؟ أَلَا سَوَّيْت بَيْنَهُمْ ؟ قَالَ : أَرَدْت أَنْ أَشْكُرَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : أَنَّهُ { أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ آدَمَ كَهَيْئَةِ الذَّرِّ ، ثُمَّ أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْمِيثَاقَ ، ثُمَّ أُعِيدُوا فِي صُلْبِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ عُمَرَ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ ، فَقَالَ : مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ .
فَقَالَ الْجَاثَلِيقُ : تَرَكَّسْت تَرَكَّسْت .
فَقَالَ الرَّاوِي : يَقُولُ مَعَاذَ اللَّهِ ، لَا يُضِلُّ اللَّهُ أَحَدًا .
فَقَالَ عُمَرُ : بَلْ اللَّهُ خَلَقَك ثُمَّ أَضَلَّك ، ثُمَّ يُمِيتُك ، ثُمَّ يُدْخِلُك النَّارَ ؛ وَاَللَّهِ لَوْلَا وَلْثٌ مِنْ عَهْدِك لَضَرَبْت عُنُقَك .
فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ نَثَرَ ذُرِّيَّةَ آدَمَ فِي كَفَّيْهِ ، فَقَالَ : هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ ، وَهَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَمَا هُمْ عَامِلُونَ ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ ، وَهَذِهِ لِهَذِهِ ؛ قَالَ : فَتَفَرَّقَ النَّاسُ .
وَمَا يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي الْقَدَرِ .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : { خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَابِضٌ عَلَى شَيْئَيْنِ فِي يَدَيْهِ ، فَفَتَحَ الْيَمِينَ ، فَقَالَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، كِتَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَعْدَادِهِمْ

وَأَعْمَالِهِمْ وَأَحْسَابِهِمْ ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ ، وَقَدْ يَسْلُكُ السُّعَدَاءُ طَرِيقَ أَهْلِ الشَّقَاءِ حَتَّى يُقَالَ : هُمْ مِنْهُمْ .
هُمْ مِنْهُمْ ، ثُمَّ تُدْرِكُ أَحَدَهُمْ سَعَادَتُهُ وَلَوْ قَبْلَ مَوْتِهِ بِفُوَاقِ نَاقَةٍ .
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْعَمَلُ بِخَوَاتِمِهِ ، الْعَمَلُ بِخَوَاتِمِهِ } وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ ، فَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ ، فَكَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ { قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ أَمْرٌ مُسْتَأْنَفٌ أَمْ أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ ؟ فَقَالَ : فَرَغَ رَبُّكُمْ .
قَالُوا : فَفِيمَ الْعَمَلُ ؟ قَالَ : اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ ؛ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ .
وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ .
ثُمَّ قَرَأَ : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } } وَثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا .
وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا } .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُعَذَّبَ الْخَلْقُ وَهُمْ لَمْ يُذْنِبُوا ، أَوْ يُعَاقِبُهُمْ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْهُمْ ، وَكَتَبَهُ عَلَيْهِمْ ، وَسَاقَهُمْ إلَيْهِ ؟ قُلْنَا : وَمِنْ أَيْنَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ ؟ أَعَقْلًا أَمْ شَرْعًا ؟ فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ الرَّحِيمَ

الْحَكِيمَ مِنَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ .
قُلْنَا : لِأَنَّ فَوْقَهُ آمِرًا يَأْمُرُهُ وَنَاهِيًا يَنْهَاهُ ، وَرَبُّنَا لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ الْخَالِقُ بِالْمَخْلُوقِ ، وَلَا تُحْمَلُ أَفْعَالُ الْإِلَهِ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ .
وَبِالْحَقِيقَةِ الْأَفْعَالُ كُلُّهَا لِلَّهِ ، وَالْخَلْقُ بِأَجْمَعِهِمْ لَهُ صَرَفَهُمْ كَيْفَ شَاءَ ، وَحَكَمَ فِيهِمْ كَيْفَ أَرَادَ ؛ وَهَذَا الَّذِي يَجِدُهُ الْآدَمِيُّ إنَّمَا تَبْعَثُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الْجِبِلَّةِ ، وَشَفَقَةُ الْجِنْسِيَّةِ ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ وَالْمَدْحِ ، لِمَا يُتَوَقَّعُ فِي ذَلِكَ مِنْ الِانْتِفَاعِ ؟ وَالْبَارِي مُتَقَدِّسٌ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ بِهِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْكُفَّارِ الْمُتَأَوِّلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَمَذْهَبُ شَيْخِ السُّنَّةِ ، وَإِلَيْهِ صَغَى الْقَاضِي فِي أَشْهَرِ قَوْلَيْهِمَا أَنَّ الْكُفْرَ يَخْتَصُّ بِالْجَاحِدِ ، وَالْمُتَأَوِّلُ لَيْسَ بِكَافِرٍ .
وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ كُفْرُ مَنْ أَنْكَرَ أُصُولَ الْإِيمَانِ ، فَمِنْ أَعْظَمِهَا مَوْقِعًا وَأَبْيَنِهَا مَنْصِفًا ، وَأَوْقَعِهَا مَوْضِعًا الْقَوْلُ بِالْقَدَرِ ، فَمَنْ أَنْكَرَهُ فَقَدْ كَفَرَ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُقْسِطِ وَالْمُشْكِلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَكْفِيرِهِمْ عَلَى قَوْلَيْنِ : فَالصَّرِيحُ مِنْ أَقْوَالِ مَالِكٍ تَكْفِيرُهُمْ ، لَقَدْ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ الْقَدَرِيَّةِ ، فَقَالَ : قَدْ قَالَ اللَّهُ : { وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ } .
وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّ ذَلِكَ أَدَبٌ لَهُمْ ، وَلَيْسُوا بِكُفَّارٍ ، أَوْ حَكَى فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَا أَوْرَدْنَاهُ مِنْ الْأَقْوَالِ ؛ فَذَلِكَ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِ بِالْأُصُولِ ، فَلَا يُنَاكَحُوا ، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ ، فَإِنْ خِيفَ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةُ دُفِنُوا كَمَا يُدْفَنُ الْكَلْبُ .
فَإِنْ قِيلَ : وَأَيْنَ يُدْفَنُونَ ؟ قُلْنَا : لَا يُؤْذَى بِجِوَارِهِمْ مُسْلِمٌ .
وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ الْإِمَامُ اسْتَتَابَهُمْ ، فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا قَتَلَهُمْ كُفْرًا .
.

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } هَذِهِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ الْآيِ الَّتِي جَمَعَتْ الْعَقَائِدَ وَالْأَعْمَالَ ، وَقَدْ كُنَّا تَكَلَّمْنَا عَلَيْهَا فِي مَجَالِسِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ أَزْمِنَةً كَثِيرَةً ، ثُمَّ أَنْعَمَ اللَّهُ بِأَنْ أَخْرَجْنَا نُكَتَهَا الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى " ، وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { الْأَسْمَاءُ } : حَقِيقَةُ الِاسْمِ كُلُّ لَفْظٍ جُعِلَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى إنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَقًّا ، فَإِنْ كَانَ مُشْتَقًّا فَلَيْسَ بِاسْمٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ ، هَذَا قَوْلُ النُّحَاةِ .
أَخْبَرَنَا الْأُسْتَاذُ الرَّئِيسُ الْأَجَلُّ الْمُعَظَّمُ فَخْرُ الرُّؤَسَاءِ أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ لَفْظًا قَالَ : سَمِعْت الْأُسْتَاذَ الْمُعَظَّمَ عَبْدَ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيَّ يَقُولُ : سَمِعْت أَبَا الْحَسَنِ ابْنَ أُخْتِ أَبِي عَلِيٍّ يَقُولُ : سَمِعْت خَالِي أَبَا عَلِيٍّ يَقُولُ : كُنْت بِمَجْلِسِ سَيْفِ الدَّوْلَةِ بِحَلَبٍ ، وَبِالْحَضْرَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِيهِمْ ابْنُ خَالَوَيْهِ إلَى أَنْ قَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ : أَحْفَظُ لِلسَّيْفِ خَمْسِينَ اسْمًا .
فَتَبَسَّمَ أَبُو عَلِيٍّ ، وَقَالَ : مَا أَحْفَظُ لَهُ إلَّا اسْمًا وَاحِدًا ، وَهُوَ السَّيْفُ .
فَقَالَ ابْنُ خَالَوَيْهِ : فَأَيْنَ الْمُهَنَّدُ ؟ وَأَيْنَ الصَّارِمُ ؟ وَأَيْنَ الرَّسُوبُ ؟ وَأَيْنَ الْمِخْذَمُ وَجَعَلَ يُعَدِّدُ .
فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ : هَذِهِ صِفَاتٌ .
وَكَأَنَّ الشَّيْخَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ .
وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ أَسَّسَهَا سِيبَوَيْهِ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا قَانُونًا مِنْ الصِّنَاعَةِ فِي التَّصْرِيفِ وَالْجَمْعِ وَالتَّصْغِيرِ ، وَالْحَذْفِ وَالزِّيَادَةِ وَالنِّسْبَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَبْوَابِ ؛ إذْ لَحَظَ ذَلِكَ فِي مَجَارِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَهُوَ أَمْرٌ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الشَّرِيعَةُ بِعَضُدٍ ، وَلَا تَرُدُّهُ بِقَصْدٍ ؛

فَلَا مَعْنَى لِإِنْكَارِهَا لِلْقَوْمِ أَوْ إقْرَارِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ سَخِيفٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَغَارِبَةِ : عَدَدْت أَسْمَاءَ اللَّهِ فَوَجَدْتهَا ثَمَانِينَ ، وَجَعَلَ يُعَدِّدُ الصِّفَاتِ النَّحْوِيَّةَ ، وَيَا لَيْتَنِي أَدْرَكْته ؛ فَلَقَدْ كَانَتْ فِيهِ حُشَاشَةٌ لَوْ تَفَاوَضْت مَعَهُ فِي الْحَقَائِقِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قَبُولِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَلَيْسَ الْعَجَبُ مِنْهُ ؛ إنَّمَا الْعَجَبُ مِنْ الطُّوسِيِّ أَنْ يَقُولَ : وَقَدْ عَدَّدَ بَعْضُ حُفَّاظِ الْمُغْرِبِ الْأَسْمَاءَ فَوَجَدَهَا ثَمَانِينَ حَسْبَمَا نَقَلَهُ إلَيْهِ طَرِيدٌ طَرِيفٌ ببورقة الْحُمَيْدِيِّ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ بِجَهْلِهِ بِالصِّنَاعَةِ ، أَمَا إنَّهُ كَانَ فَصِيحًا ذَرِبَ الْقَوْلِ ، ذَرِبَ اللِّسَانِ فِي الِاسْتِرْسَالِ عَلَى الْكَلِمَاتِ الصَّائِبَةِ ، لَكِنَّ الْقَانُونَ كَانَ عَنْهُ نَائِيًا ، وَالْعَالَمُ عِنْدَنَا اسْمٌ ، كَزَيْدٍ اسْمٌ ، وَأَحَدُهُمَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ ، وَالْآخَرُ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُودِ وَمَعْنَى مَعَهُ زَائِدٌ عَلَيْهِ ، وَاَلَّذِي يُعَضِّدُ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ وَعُلَمَاءَ الْإِسْلَامِ حِينَ عَدَّدُوا الْأَسْمَاءَ ذَكَرُوا الْمُشْتَقَّ وَالْمُضَافَ وَالْمُطْلَقَ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ إجْرَاءً عَلَى الْأَصْلِ ، وَنَبْذًا لِلْقَاعِدَةِ النَّحْوِيَّةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : " قَوْله تَعَالَى { الْحُسْنَى } وَفِي وَصْفِهَا بِذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى التَّعْظِيمِ ؛ فَكُلُّ مَعْنًى مُعَظَّمٍ يُسَمَّى بِهِ سُبْحَانَهُ .
الثَّانِي : مَا وُعِدَ عَلَيْهَا مِنْ الثَّوَابِ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ .
الثَّالِثُ : مَا مَالَتْ إلَيْهِ الْقُلُوبُ مِنْ الْكَرَمِ وَالرَّحْمَةِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ حَسْبَهَا شَرَفُ الْعِلْمِ بِهَا ، فَإِنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ ، وَالْبَارِي أَشْرَفُ الْمَعْلُومَاتِ ؛ فَالْعِلْمُ بِأَسْمَائِهِ أَشْرَفُ الْعُلُومِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ مَعْرِفَةُ الْوَاجِبِ فِي وَصْفِهِ وَالْجَائِزِ وَالْمُسْتَحِيلِ عَلَيْهِ ؛ فَيَأْتِي بِكُلِّ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ وَيُقَرِّرُهُ فِي نِصَابِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُقْسِطِ حَقِيقَةَ الْحُسْنِ وَأَقْسَامَهُ ، وَمَنْ حَصَّلَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ نَالَ الْحُسْنَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ ، وَحَصَلَ لَهُ الْقَطْعُ بِالتَّوْفِيقِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَمِعُوا الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَ " اللَّهَ " مَرَّةً ، وَ " الرَّحْمَنَ " أُخْرَى ، و " الْقَادِرَ " بَعْدَ ذَلِكَ ، فَقَالُوا : أَيَنْهَانَا مُحَمَّدٌ عَنْ الْأَصْنَامِ وَهُوَ يَدْعُوا آلِهَةً كَثِيرَةً ؟ فَنَزَلَتْ : { وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا } أَيْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ إلَهٌ وَاحِدٌ ، وَلَيْسَتْ بِآلِهَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : مَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الَّتِي أَضَافَهَا اللَّهُ ؟ : وَفِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا أَسْمَاؤُهُ كُلُّهَا الَّتِي فِيهَا التَّعْظِيمُ وَالْإِكْبَارُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْأَسْمَاءُ التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ } .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْأَسْمَاءُ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا أَدِلَّةُ الْوَحْدَانِيَّةِ ، وَهِيَ سَبْعَةٌ تَتَرَتَّبُ عَلَى الْوُجُودِ : الْعِلْمُ ، وَالْقُدْرَةُ ، وَالْإِرَادَةُ ، وَالسَّمْعُ ، وَالْبَصَرُ ، وَالْكَلَامُ ، وَالْحَيَاةُ .
تَقُولُ : الْقَادِرُ الْعَالِمُ الْمُرِيدُ الْحَيُّ الْمُتَكَلِّمُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، وَفِي تَرْتِيبِهَا تَقْرِيبٌ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَكُلُّ اسْمٍ لِلَّهِ فَإِلَى هَذِهِ الْأُصُولِ يَرْجِعُ ، لَكِنَّ الصَّحِيحَ عِنْدِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا التِّسْعَةُ وَالتِّسْعُونَ الَّتِي عَدَّدَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
فَإِنْ قِيلَ : وَهَلْ إلَى مَعْرِفَتِهَا سَبِيلٌ ؟ قُلْنَا : حَلَّقَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهَا ، وَسَارُوا إلَيْهَا فَمِنْ جَائِرٍ وَقَاصِدٍ ، وَالْقَاصِدُ فِي الْأَكْثَرِ وَاقِفٌ دُونَ الْمَرَامِ ، وَالْجَائِرُ لَيْسَ فِيهِ كَلَامٌ .
فَأَمَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى الْأَمْرِ فَمَا عَرَفْته إلَّا الْإسْفَرايِينِيّ وَالطُّوسِيُّ .
إلَّا أَنَّ الطُّوسِيَّ تَقَلْقَلَ فِيهَا فَتَزَلْزَلَ عَنْهَا ، وَأَمَّا الْإسْفَرايِينِيّ فَأَسْنَدَ طَرِيقَهُ وَوَضَّحَ تَحْقِيقَهُ .
وَاَلَّذِي أَدُلُّكُمْ عَلَيْهِ أَنْ تَطْلُبُوهَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، فَإِنَّهَا مَخْبُوءَةٌ فِيهِمَا كَمَا خُبِئَتْ سَاعَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْيَوْمِ ، وَلَيْلَةُ الْقَدْرِ فِي الشَّهْرِ رَغْبَةً ، وَالْكَبَائِرُ فِي الذُّنُوبِ رَهْبَةً ؛ لِتَعُمَّ الْعِبَادَاتُ الْيَوْمَ بِجَمِيعِهِ وَالشَّهْرَ بِكُلِّيَّتِهِ ، وَلِيَقَعَ الِاجْتِنَابُ لِجَمِيعِ الذُّنُوبِ .
وَكَذَلِكَ أُخْفِيَتْ هَذِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُتَعَدِّدَةُ فِي جُمْلَةِ الْأَسْمَاءِ الْكُلِّيَّةِ ، لِنَدْعُوَهُ بِجَمِيعِهَا ، فَنُصِيبُ الْعَدَدَ

الْمَوْعُودَ بِهِ فِيهَا ، فَأَمَّا تَعْدِيدُهَا بِالْقُرْآنِ فَقَدْ وَهَمَ فِيهِ إمَامَانِ : سُفْيَانُ ، وَابْنُ شَعْبَانَ ، وَقَدْ سُقْنَاهُ بِغَايَةِ الْبَيَانِ وَنَصُّهُ : سُورَةُ الْحَمْدِ فِيهَا خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ : اللَّهُ ، الرَّبُّ ، الرَّحْمَنُ ، الرَّحِيمُ ، مَالِكٌ .
سُورَةُ الْبَقَرَةِ فِيهَا ثَلَاثُونَ اسْمًا : مُحِيطٌ ، قَدِيرٌ ، عَلِيمٌ ، حَكِيمٌ ، ذُو الْفَضْلِ ، الْعَظِيمُ ، بَصِيرٌ ، وَاسِعٌ ، بَدِيعُ السَّمَوَاتِ ، سَمِيعٌ ، التَّوَّابُ ، الْعَزِيزُ ، رَءُوفٌ ، شَاكِرٌ ، إلَهٌ وَاحِدٌ ، غَفُورٌ ، شَدِيدُ الْعَذَابِ ، قَرِيبٌ ، شَدِيدُ الْعِقَابِ ، سَرِيعُ الْحِسَابِ ، حَلِيمٌ ، خَبِيرٌ ، حَيٌّ ، قَيُّومٌ ، عَلِيٌّ ، عَظِيمٌ ، وَلِيٌّ ، غَنِيٌّ ، حَمِيدٌ ، مَوْلَى .
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ فِيهَا عَشْرَةُ أَسْمَاءٍ : عَزِيزٌ ، ذُو انْتِقَامٍ ، وَهَّابٌ ، قَائِمٌ بِالْقِسْطِ ، جَامِعُ النَّاسِ ، مَالِكُ الْمُلْكِ ، خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، شَهِيدٌ ، خَيْرُ النَّاصِرِينَ ، وَكِيلٌ .
سُورَةُ النِّسَاءِ فِيهَا سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ : الرَّقِيبُ ، الْحَسِيبُ ، كَثِيرُ الْعَفْوِ ، النَّصِيرُ ، مُقِيتٌ ، جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا .
سُورَةُ الْمَائِدَةِ فِيهَا اسْمَانِ : عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، خَيْرُ الرَّازِقِينَ .
سُورَةُ الْأَنْعَامِ فِيهِ سَبْعَةَ عَشَرَ اسْمًا : فَاطِرٌ ، قَاهِرٌ ، شَهِيدٌ ، شَفِيعٌ ، خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ، الْحَقُّ ، أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ، الْقَادِرُ ، فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ، فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ، جَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا ، مُخْرِجُ الْحَيِّ مِنْ الْمَيِّتِ ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنْ الْحَيِّ ، سَرِيعُ الْعِقَابِ ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ، اللَّطِيفُ ، الْحَكِيمُ .
سُورَةُ الْأَعْرَافِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ : خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ، خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ، أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، خَيْرُ الْغَافِرِينَ .
سُورَةُ بَرَاءَةٌ فِيهَا اسْمٌ : مُخْزِي الْكَافِرِينَ .
سُورَةُ هُودٍ فِيهَا سَبْعَةُ أَسْمَاءٍ : أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، حَفِيظٌ ، مُجِيبٌ ، قَوِيٌّ ، مَجِيدٌ ، وَدُودٌ ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ .
سُورَةُ يُوسُفَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ : الْمُسْتَعَانُ ، الْقَاهِرُ ، الْحَافِظُ .

سُورَةُ الرَّعْدِ فِيهَا سِتَّةُ أَسْمَاءٍ : ذُو مَغْفِرَةٍ ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، الْكَبِيرُ ، الْمُتَعَالُ ، شَدِيدُ الْمِحَالِ ، الْقَائِمُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتِ .
سُورَةُ الْحِجْرِ فِيهَا اسْمَانِ : الْوَارِثُ ، الْخَلَّاقُ .
سُورَةُ النَّحْلِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : كَفِيلٌ .
سُورَةُ الْكَهْفِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ : مُقْتَدِرٌ ، ذُو الرَّحْمَةِ ، الْمَوْئِلُ .
سُورَةُ مَرْيَمَ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : وَهُوَ حَفِيٌّ .
سُورَةُ طَه فِيهَا اسْمَانِ : الْمَلِكُ ، خَيْرٌ وَأَبْقَى .
سُورَةُ اقْتَرَبَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ : الْحَاسِبُ ، خَيْرُ الْوَارِثِينَ ، الْفَاعِلُ .
سُورَةُ الْحَجِّ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : الْمُكْرِمُ .
سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا اسْمَانِ : أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ، خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ .
سُورَةُ النُّورِ فِيهَا اسْمَانِ : نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، الْمُبِينُ .
سُورَةُ الْفُرْقَانِ فِيهَا اسْمٌ : الْهَادِي .
سُورَةُ النَّمْلِ : الْكَرِيمُ .
سُورَةُ الرُّومِ : مُحْيِي الْمَوْتَى .
سُورَةُ سَبَأٍ فِيهَا : الْفَتَّاحُ .
سُورَةُ فَاطِرٍ اسْمٌ وَاحِدٌ : شَكُورٌ .
سُورَةُ ص اسْمٌ وَاحِدٌ : الْغَفَّارُ .
سُورَةُ الزُّمَرِ فِيهَا اسْمَانِ : سَالِمٌ ، كَافٍ .
سُورَةُ الْمُؤْمِنِ فِيهَا خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ : غَافِرُ الذَّنْبِ ، وَقَابِلُ التَّوْبِ ، ذُو الطَّوْلِ ، رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ، ذُو الْعَرْشِ .
سُورَةُ فُصِّلَتْ : ذُو عِقَابٍ .
سُورَةُ الزُّخْرُفِ فِيهَا : الْمُبْرِمُ .
سُورَةُ الدُّخَان فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ : الْمُنْذِرُ ، الْمُرْسِلُ ، الْمُنْتَقِمُ .
سُورَةُ قِ : أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ .
سُورَةُ وَالذَّارِيَاتِ فِيهَا خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ : الْمُوسِعُ ، الْمَاهِدُ ، الرَّزَّاقُ ، ذُو الْقُوَّةِ ، الْمَتِينُ .
سُورَةُ وَالطُّورِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : الْبَرُّ .
سُورَةُ اقْتَرَبَ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : الْمَلِيكُ الْمُقْتَدِرُ .
سُورَةُ الرَّحْمَنِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ .
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ : الْخَالِقُ ، الزَّارِعُ ، الْمُنْشِئُ .
سُورَةُ الْحَدِيدِ فِيهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ : الْأَوَّلُ ، الْآخِرُ ، الظَّاهِرُ ،

الْبَاطِنُ .
سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ فِيهَا اسْمَانِ : رَابِعُ ثَلَاثَةٍ ، سَادِسُ خَمْسَةٍ .
سُورَةُ الْحَشْرِ فِيهَا ثَمَانِيَةُ أَسْمَاءٍ : الْقُدُّوسُ ، السَّلَامُ ، الْمُؤْمِنُ ، الْمُهَيْمِنُ [ الْعَزِيزُ ] ، الْجَبَّارُ ، الْمُتَكَبِّرُ ، الْبَارِئُ ، الْمُصَوِّرُ .
سُورَةُ الْمَعَارِجِ فِيهَا : ذُو الْمَعَارِجِ .
سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ .
سُورَةُ سَبِّحْ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : الْأَعْلَى .
سُورَةُ الْقَلَمِ فِيهَا اسْمٌ وَاحِدٌ : الْأَكْرَمُ .
سُورَةُ التَّوْحِيدِ فِيهَا اسْمَانِ : أَحَدٌ ، صَمَدٌ .
وَقَدْ زَادَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا فِيهَا : شَيْءٌ ، مَوْجُودٌ ، كَائِنٌ ، ثَابِتٌ ، نَفْسٌ ، عَيْنٌ ، ذَاتٌ ، دَاعٍ ، مُسْتَجِيبٌ ، مُمْلِي ، قَائِمٌ ، مُتَكَلِّمٌ ، مُبْقٍ ، مُغْنٍ ، غَيُورٌ ، قَاضٍ ، مُقَدِّرٌ ، فَرْدٌ ، مُبْلٍ ، جَاعِلٌ ، مُوجِدٌ ، مُبْدِعٌ ، دَارِئٌ .
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَمِنْ هَذَا مَا جَاءَ عَلَى لَفْظِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ، وَمِنْهَا مَا أُخِذَ مِنْ فِعْلٍ ، وَمِنْهَا مَا جَاءَ مُضَافًا فَذَكَرَهُ مُجَرَّدًا عَنْ الْإِضَافَةِ ، وَكَذَلِكَ وَجَدْنَاهُ فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ فَهَذِهِ هِيَ الْأَسْمَاءُ الْمَعْدُودَةُ بِصِفَاتِهَا قُرْآنًا وَسُنَّةً .
وَفِي الْحَدِيثِ الْمُطْلَقِ أَسْمَاءٌ غَيْرُ ذَلِكَ ، كَقَوْلِنَا : الطَّيِّبُ ، وَالسَّيِّدُ ، وَالطَّبِيبُ ؛ وَأَعْدَادٌ سِوَاهَا .
وَمَا مِنْهَا اسْمٌ إلَّا جَمِيعُهُ مُشْتَقٌّ ، حَتَّى إنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ اتَّفَقُوا عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ مُشْتَقٌّ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأَمَدِ ، فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِمْ الْفَاسِدِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَقَدْ شَرَحْنَا مَعْنَى كُلِّ اسْمٍ فِي الْأَمَدِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ ؛ وَعَدَّدْنَاهَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَذَكَرَهُ الْأَئِمَّةُ ؛ فَانْتَهَتْ إلَى سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ .
الْأَوَّلُ : اللَّهُ ؛ وَهُوَ اسْمُهُ الْأَعْظَمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَيْهِ كُلُّ اسْمٍ ، وَيُضَافُ إلَى تَفْسِيرِهِ كُلُّ مَعْنًى ، وَحَقِيقَتُهُ الْمُنْفَرِدُ فِي

ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ عَنْ نَظِيرٍ ، فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ اللَّهُ .
الثَّانِي : الْوَاحِدُ ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ فِي صِفَاتٍ وَلَا ذَاتٍ وَلَا أَفْعَالٍ .
الثَّالِثُ : الْكَائِنُ ؛ وَهُوَ الْمَوْجُودُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ .
الرَّابِعُ : الْقَائِمُ ، إذَا ذَكَرْته مُطْلَقًا فَهُوَ الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِنْ ذَكَرْته مُضَافًا فَهُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِالْوُجُودِ فَمَا وَرَاءَهُ .
الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ وَالسَّابِعُ : الْقَيُّومُ ، وَالْقَيَّامُ ، وَالْقَيِّمُ ، وَهُوَ الدَّائِمُ الْقَائِمُ عَلَى شَيْءٍ .
الثَّامِنُ : الْكَافِي ؛ مَنْ كَفَى إذَا قَامَ بِالْأَمْرِ ، أَوْ دَفَعَ عَنْهُ مَا يَتَوَقَّعُ .
التَّاسِعُ : الْحَقُّ ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَغَيَّرُ .
الْعَاشِرُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِيَ عَشَرَ : الْمَلِكُ ، الْمَالِكُ ، الْمَلِيكُ ، وَهُوَ الْحَاكِمُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهِ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْقُدُّوسُ ، وَهُوَ الْمُطَهَّرُ عَنْ كُلِّ نُقْصَانٍ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : السَّلَامُ ؛ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ عَيْبٌ ، وَسَلِمَ الْخَلْقُ مِنْ ظُلْمِهِ وَغَبْنِهِ ، وَبِهِ زَادَ عَلَيْهِ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : الْعَزِيزُ : الَّذِي لَا يُغَالَبُ ؛ وَلَا يَكُونُ مَعَهُ غَالِبٌ .
السَّادِسَ عَشَرَ : الْجَبَّارُ : الَّذِي يَسْتَغْنِي عَنْ الْأَتْبَاعِ ، وَلَا يَحْنُو عِنْدَ التَّعْذِيبِ ، وَلَا يَحْنَقُ عِنْدَ الْغَضَبِ .
السَّابِعَ عَشَرَ : الْمُتَكَبِّرُ ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا مِقْدَارَ لِشَيْءٍ عِنْدَهُ .
الثَّامِنَ عَشَرَ : الْعَلِيُّ الَّذِي لَا مَكَانَ لَهُ .
التَّاسِعَ عَشَرَ : الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ عَلَيْهِ مِقْدَارٌ .
الْمُوفِي عِشْرِينَ : الْعَظِيمُ : الَّذِي يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ التَّحْدِيدُ .
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : الْجَلِيلُ ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحُدُوثِ .
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : الْمَجِيدُ ؛ هُوَ الَّذِي لَا يُسَاوَى فِيمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ .
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : الْجَمِيلُ ؛ هُوَ الَّذِي لَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ .
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ

: الْحَسِيبُ ؛ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَيُحْصِي كُلَّ شَيْءٍ وَيَقُومُ عَلَيْهِ .
الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : الصَّمَدُ ؛ الَّذِي لَا يَجْرِي فِي الْوَهْمِ ، وَلَا يُقْصَدُ فِي الْمَطَالِبِ غَيْرُهُ .
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : الْغَنِيُّ ؛ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى شَيْءٍ .
السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ؛ لَا يَلْحَقُ مَرْتَبَتَهُ أَحَدٌ بِحَالٍ .
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : ذُو الطَّوْلِ يُقَالُ فِيهِ الْقَادِرُ وَالْغَنِيُّ وَالْمُنْعِمُ .
التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : ذُو الْفَضْلِ ؛ وَهُوَ الْمُنْعِمُ يُؤْتِي مَنْ يَشَاءُ .
الْمُوفِي ثَلَاثِينَ : السَّيِّدُ : الْمُنْفَرِدُ بِالْكَمَالِ .
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : الْكَرِيمُ ؛ وَهُوَ الَّذِي تَعُمُّ إرَادَتُهُ .
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : الطَّيِّبُ : الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْآفَاتِ .
الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ : الْأَوَّلُ ؛ الَّذِي لَا ابْتِدَاءَ لَهُ .
الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : الْآخِرُ ؛ الَّذِي لَا انْتِهَاءَ لَهُ .
الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : الْبَاقِي ؛ هُوَ الَّذِي لَا يَفْنَى .
وَهُوَ الْوَارِثُ ، وَهُوَ الدَّائِمُ ؛ وَهُمَا السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ وَالسَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ .
الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : الظَّاهِرُ ؛ وَهُوَ الَّذِي يُدْرَكُ بِالدَّلِيلِ .
التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : الْبَاطِنُ ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ .
الْمُوفِي أَرْبَعِينَ : اللَّطِيفُ ، الْعَالِمُ بِالْخَبَايَا ، الْمُهْتَبِلُ بِالْعَطَايَا ، الْقَادِرُ ، وَالْمُقْتَدِرُ ، وَالْقَدِيرُ ، وَالْقَوِيُّ فَكَمُلَ بِهَا أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ .
الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : الْمُقِيتُ ، وَهُوَ الْقَادِرُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ ، الْمُؤْتِي لِكُلِّ شَيْءٍ قُوَّتَهُ .
السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : الْمَتِينُ ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ ضَعْفٌ .
الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ : الْمُحِيطُ ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ .
التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالْمُوفِي خَمْسِينَ : الْوَاسِعُ ، وَالْمُوسِعُ ، وَهُوَ الَّذِي عَمَّتْ قُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ وَعِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ ، وَكَذَلِكَ بَصَرُهُ

وَسَمْعُهُ وَكَلَامُهُ .
الْعَلِيمُ ، وَالْعَالِمُ ، وَالْعَلَّامُ ؛ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَخَمْسُونَ اسْمًا .
الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ ، وَالْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ : السَّمِيعُ ، وَهُوَ الَّذِي يَسْمَعُ كُلَّ مَوْجُودٍ .
وَالْبَصِيرُ ، وَهُوَ الَّذِي يَرَى كُلَّ مَوْجُودٍ ، وَيَعْلَمُ الْمَعْدُومَ وَالْمَوْجُودَ .
السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ : الشَّهِيدُ ؛ الْحَاضِرُ مَعَ كُلِّ مَوْجُودٍ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ .
السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : الْخَبِيرُ : الْعَالِمُ بِالْخَبَايَا .
الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ : الطَّبِيبُ ؛ وَهُوَ الْعَالِمُ بِالْمَنَافِعِ .
التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ : الْمُحْصِي ، وَهُوَ الَّذِي ضَبَطَ عِلْمُهُ وَقُدْرَتُهُ وَإِرَادَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ .
الْمُوفِي سِتِّينَ : الْمُقَدِّرُ ، وَهُوَ الَّذِي رَتَّبَ مَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ بِحِكْمَةٍ مُتَنَاسِبَةٍ .
الْحَادِي وَالسِّتُّونَ : الرَّقِيبُ : الَّذِي لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ .
الثَّانِي وَالسِّتُّونَ : الْقَرِيبُ بِالْعِلْمِ الَّذِي لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ .
الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ : الْحَيُّ .
الرَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : الْمُرِيدُ .
الْخَامِسُ وَالسِّتُّونَ : الْحَكَمُ ، وَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِي الدُّعَاءِ فِعْلًا ، تَقُولُ : يَا مَنْ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، صَرِّفْنِي بِطَاعَتِك ، وَاحْكُمْ بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ يُخَاصِمُنِي فِيك .
السَّادِسُ وَالسِّتُّونَ وَالسَّابِعُ وَالسِّتُّونَ : الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ : الَّذِي يُرِيدُ الْخَيْرَ لِعِبَادِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ .
الثَّامِنُ وَالسِّتُّونَ : الْمُحِبُّ ، وَيَتَصَرَّفُ فِعْلًا قَالَ تَعَالَى : { يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } .
وَكَذَلِكَ الْمُبْغِضُ ، فَاَلَّذِي يَرْجِعَانِ إلَيْهِ إرَادَةُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَهُوَ التَّاسِعُ وَالسِّتُّونَ .
الْمُوفِي سَبْعِينَ : الرِّضَا ؛ يَتَصَرَّفُ فِعْلًا ، وَهُوَ إرَادَةُ مَا يَكُونُ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ .
الْحَادِي وَالسَّبْعُونَ : السَّخَطُ ، يَتَصَرَّفُ فِعْلًا .
وَهُوَ إرَادَةُ خِلَافِ الرِّضَا ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْكَرَاهِيَةِ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الثَّانِي وَالسَّبْعُونَ : الْوَدُودُ ، وَهُوَ الَّذِي يَفْعَلُ

الْخَيْرَ مَعَ مَنْ يَسْتَحِقُّهُ وَمَعَ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّهُ .
الثَّالِثُ وَالسَّبْعُونَ : الْعَفُوُّ ؛ وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ تَسْهِيلَ الْأُمُورِ .
الرَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : الرَّءُوفُ ؛ وَهُوَ الْكَثِيرُ الرَّحْمَةِ .
الْخَامِسُ وَالسَّبْعُونَ : عَدُوُّ الْكَافِرِينَ ، وَهُوَ الْبَعِيدُ بِالْعِقَابِ .
السَّادِسُ وَالسَّبْعُونَ : الْوَلِيُّ ، وَهُوَ الْقَرِيبُ بِالثَّوَابِ وَالنِّعَمِ .
السَّابِعُ وَالسَّبْعُونَ : الصَّبُورُ : الَّذِي يُرِيدُ تَأْخِيرَ الْعِقَابِ .
الثَّامِنُ وَالسَّبْعُونَ : الْحَلِيمُ ، الَّذِي يُرِيدُ إسْقَاطَ الْعِقَابِ .
التَّاسِعُ وَالسَّبْعُونَ : الْمُعِزُّ ، وَهُوَ الَّذِي يُعِزُّ أَوْلِيَاءَهُ .
الْمُوفِي ثَمَانِينَ : الْحَفِيُّ ، وَهُوَ غَايَةُ الْبِرِّ .
الْحَادِي وَالثَّمَانُونَ : الْوَلِيُّ ، وَهُوَ الْمُحِبُّ لِأَوْلِيَائِهِ .
الثَّانِي وَالثَّمَانُونَ : خَيْرُ الْفَاصِلِينَ : الَّذِينَ يُمَيِّزُ الْمُخْتَلِفَاتِ بِقَوْلِهِ .
الثَّالِثُ وَالثَّمَانُونَ : الْمُبِينُ ، وَهُوَ الَّذِي يَعْرِفُ عِبَادُهُ بِكَلَامِهِ مُرَادَهُ ؛ وَذَلِكَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ خَاصَّةً .
الرَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ : الصَّادِقُ : مَنْ لَا يُوجَدُ خَبَرُهُ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ .
الْخَامِسُ وَالثَّمَانُونَ : الْهَادِي ؛ وَهُوَ الَّذِي يُعَرِّفُ الْمَرَاشِدَ ، وَيُوَفِّقُ لَهَا .
السَّادِسُ وَالثَّمَانُونَ : الرَّشِيدُ بِمَعْنَى الْمُرْشِدِ ، وَيَرْجِعُ إلَى الْهَادِي .
السَّابِعُ وَالثَّمَانُونَ : نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَيَرْجِعُ إلَى الْهُدَى .
الثَّامِنُ وَالثَّمَانُونَ : الْمُؤْمِنُ ، يُصَدِّقُ نَفْسَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ وَيُخَلِّصُهُمْ مِنْ الْعِقَابِ .
التَّاسِعُ وَالثَّمَانُونَ : الْمُهَيْمِنُ ، فِيهِ كَلَامٌ كَثِيرٌ يَرْجِعُ إلَى الرَّقِيبِ .
الْمُوفِي تِسْعِينَ : الْحَمِيدُ ، يُثْنِي عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَيُثْنُونَ عَلَيْهِ .
الْحَادِي وَالتِّسْعُونَ : الشَّكُورُ ، وَهُوَ الَّذِي يُمْدَحُ عَلَى الْفِعْلِ خَاصَّةً .
الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ : غَيُورٌ ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُحَرِّمُ سِوَاهُ .
الثَّالِثُ وَالتِّسْعُونَ : الْحَكِيمُ ، مُحْكِمُ الْأَشْيَاءِ بِخَلْقِهَا عَلَى نِظَامٍ وَتَدْبِيرٍ .
الرَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ : التَّوَّابُ ،

الَّذِي يَرْجِعُ بِالْعَبْدِ مِنْ حَالِ الْمَعْصِيَةِ إلَى حَالِ الطَّاعَةِ .
الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ : الْفَتَّاحُ ، يَفْتَحُ غَلْقَ الْعُدْمِ بِالْوُجُودِ ، وَغَلْقَ الْجَهْلِ بِالْعِلْمِ ، وَغَلْقَ الرِّزْقِ بِالْعَطَاءِ ؛ وَذَلِكَ كَثِيرٌ .
وَمِثْلُهُ الْحَكَمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } وَهُوَ الْخَامِسُ وَالتِّسْعُونَ .
السَّادِسُ وَالتِّسْعُونَ : الْقَاضِي ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يُرَدُّ حُكْمُهُ .
السَّابِعُ وَالتِّسْعُونَ : الْكَفِيلُ ، الْمُلْتَزِمُ لِثَوَابِ عِبَادِهِ وَرِزْقِهِمْ .
الثَّامِنُ وَالتِّسْعُونَ : الْمُبْرِمُ ، هُوَ الَّذِي إذَا عَقَدَ لَمْ يَحِلَّ عَقْدَهُ .
التَّاسِعُ وَالتِّسْعُونَ : الْمُنْذِرُ ، هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ بِكَلَامِهِ عِبَادُهُ وَعِيدَهُ .
الْمُوفِي مِائَةً : الْمُدَبِّرُ ، وَهُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الِانْتِهَاءَ قَبْلَ الِابْتِدَاءِ ، فَيَرُدُّهُ عَلَيْهِ .
الْمُمْتَحِنُ ، الْبَالِي ، الْمُبْلِي ، الْمُبْتَلِي ، هُوَ الَّذِي يُكَلِّفُ عِبَادَهُ الْوَظَائِفَ ؛ لِيَعْلَمَ مِنْ حَالِهِمْ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ مُشَاهَدَةَ مَا عَلِمَ غَيْبًا ، وَبِهَا تَمَّتْ مِائَةٌ وَأَرْبَعَةٌ .
الْخَامِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْفَاتِنُ ، وَهُوَ الْمُبْتَلِي ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الِاخْتِبَارِ .
السَّادِسُ بَعْدَ الْمِائَةِ : الرَّبُّ ، وَهُوَ الَّذِي يَنْقُلُ الْأَشْيَاءَ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ، وَيُبَدِّلُهُمْ بِصِفَةٍ بَعْدَ صِفَةٍ فِي طَرِيقِ النُّمُوِّ وَالْإِنْشَاءِ .
السَّابِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْعَدْلُ ، وَهُوَ الَّذِي تَأْتِي أَفْعَالُهُ عَلَى مُقْتَضَى إرَادَتِهِ .
الثَّامِنُ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْخَالِقُ ، وَهُوَ الَّذِي يُوجِدُ بَعْدَ الْعُدْمِ ، وَيُقَدِّرُ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْأَحْوَالِ .
التَّاسِعُ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْبَارِئُ ؛ مُنْشِئُ الْبَرِيَّةِ مِنْ الْبَرَى ، وَهُوَ التُّرَابُ .
الْعَاشِرُ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمُصَوِّرُ ، وَهُوَ الَّذِي يُرَتِّبُ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى صِفَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَهَيْئَاتٍ مُتَغَايِرَاتٍ .
الْحَادِيَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمُبْدِئُ : وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِأَوَائِلِ الْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ .
الثَّانِي عَشَرَ بَعْدَ

الْمِائَةِ : الْمُعِيدُ ، وَهُوَ الَّذِي يَرُدُّهَا ، بَعْدَ الْفَنَاءِ ، كَمَا كَانَتْ وُجُودًا وَصِفَةً وَوَقْتًا .
الثَّالِثَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ : فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، الَّذِي أَنْشَأَهَا مِنْ غَيْرِ مِثَالٍ وَقَبْلَ كُلِّ مُنْشِئٍ .
الرَّابِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمُحْيِي ، وَيُقَابِلُهُ الْمُمِيتُ ، وَهُوَ الْخَامِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ ، يُحْيِي الْخَلْقَ بِالْوُجُودِ وَالْحَرَكَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْهُدَى ، وَيُمِيتُهُمْ بِذَلِكَ إلَى سَائِرِ مُتَعَلِّقَاتِ الْإِحْيَاءِ ، حَسْبَمَا رَتَّبْنَاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى .
السَّادِسَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْجَامِعُ ، وَهُوَ تَأْلِيفُ الْمُفْتَرِقِ .
السَّابِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمُعِزُّ ، وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمُذِلُّ ، وَهُوَ الَّذِي يَرْفَعُ مِقْدَارَ أَوْلِيَائِهِ ، وَيَحُطُّ مِقْدَارَ أَعْدَائِهِ .
الثَّامِنَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ : مُخْزِي الْكَافِرِينَ ؛ وَالْخِزْيُ هُوَ فِعْلُ مَا يُسْتَحْيَا مِنْهُ .
التَّاسِعَ عَشَرَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْعَفُوُّ ؛ وَهُوَ الَّذِي يُسْقِطُ حَقَّهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ .
الْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْقَهَّارُ ؛ وَهُوَ الَّذِي يَغْلِبُ الْعِبَادَ .
الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْوَهَّابُ ؛ وَهُوَ الَّذِي يُعْطِي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّعِ عِوَضٍ .
الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الرَّزَّاقُ ؛ وَهُوَ الَّذِي يَهَبُ الْغِذَاءَ وَالِاكْتِسَاءَ مِنْ رِيَاشٍ وَمَعَاشٍ .
الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : جَوَّادٌ ، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْعَطَاءِ .
الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ وَالْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْخَافِضُ ، الرَّافِعُ ؛ وَهُوَ الَّذِي يَحُطُّ دَرَجَةَ أَعْدَائِهِ ، وَيُعْلِي مَنَازِلَ أَوْلِيَائِهِ وَمَقَادِيرَهُمْ دُنْيَا وَآخِرَةً ؛ جَاهًا وَمَالًا ، عَمَلًا وَاعْتِقَادًا .
السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ وَالسَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْقَابِضُ ، الْبَاسِطُ ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَصَرَّفُ عَبْدُهُ وَلَا يَنْبَسِطُ إلَّا بِقُدْرَتِهِ ، وَفِي حَيِّزِ مَشِيئَتِهِ ؛ فَإِنْ خَلَقَ لَهُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْعُمُومِ تَبَسَّطَتْ

عَلَى مَا خُلِقَتْ لَهُ ، وَإِنْ خَلَقَهَا عَلَى الْخُصُوصِ تَعَلَّقَتْ بِمَا خُلِقَتْ لَهُ وَقُدِّرَتْ بِهِ .
الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ وَالتَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمُقَدِّمُ ، وَالْمُؤَخِّرُ ؛ وَذَلِكَ مَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْأَوْقَاتِ ، يَخْلُقُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ ، بِحَسَبِ مَا عَلِمَهُ وَقَضَاهُ وَقَدَّرَهُ ؛ لَيْسَ لِأَحَدٍ ذَلِكَ إلَّا لَهُ .
الثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمُقْسِطُ : وَهُوَ الَّذِي تَجْرِي أَحْكَامُهُ عَلَى مُقْتَضَى إرَادَتِهِ .
الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : النَّصِيرُ ؛ وَهُوَ الَّذِي يُتَابِعُ آلَاءَهُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ، وَيَكُفُّ عَنْهُمْ عَادِيَةَ أَعْدَائِهِ .
الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الشَّافِي ؛ وَهُوَ الَّذِي يَهَبُ الصِّحَّةَ بَعْدَ الْمَرَضِ .
الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ ؛ وَهُوَ اسْمٌ عَظِيمٌ ، مَعْنَاهُ مُصَرِّفُهَا أَسْرَعَ مِنْ مَرِّ الرِّيحِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي الْقَبُولِ وَالرَّدِّ وَالْيَقِينِ وَالشَّكِّ ، وَالْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهِيَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ .
الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ وَالْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الضَّارُّ ، النَّافِعُ ؛ وَهُوَ خَالِقُ الْأَلَمِ الَّذِي يَقَعُ بِهِ مُوَازَنَةٌ .
وَالنَّفْعُ هُوَ كُلُّ مَا لَا أَلَمَ فِيهِ ؛ وَهُوَ نَعِيمُ الْجَنَّةِ ، فَأَمَّا الدُّنْيَا فَلَا تَخْلُو مِنْهُمَا عَنْ الِاشْتِرَاكِ .
السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : ذُو الْمَعَارِجِ يَعْنِي الَّذِي يُؤْتِي الْمَنَازِلَ ، وَيُصَرِّفُ الْأُمُورَ عَلَى الْمَرَاتِبِ ، وَيُنَزِّلُ الْمَأْمُورِينَ عَلَى الْمَقَادِيرِ .
السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ؛ الْمَنَازِلُ لِلَّهِ يُؤْتِيهَا مَحْمُودَةً لِمَنْ يُحِبُّ ، وَمَذْمُومَةً لِمَنْ يُبْغِضُ .
الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ، هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ .
التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : مُتِمُّ نُورِهِ ؛ أَيْ يَدُومُ وَلَا يَنْقَطِعُ ، وَيَظْهَرُ وَلَا يَخْفَى ، فِي قُلُوبِ أَوْلِيَائِهِ بِالْإِيمَانِ ؛ وَبَيْنَ

أَيْدِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ ، وَفِي الْجَنَّةِ بِالنَّعِيمِ الدَّائِمِ .
الْمُوفِي أَرْبَعِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْوَكِيلُ ؛ وَهُوَ الَّذِي يُلْقِي إلَيْهِ الْخَلْقُ مَقَالِيدَهُمْ ، فَلَا يَقُومُ بِهَا أَحَدٌ غَيْرُهُ .
الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمُسْتَعَانُ ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَطْلُبُ الْعَوْنَ وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ إلَّا مِنْهُ .
الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمَعْبُودُ ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُتَذَلَّلُ إلَّا لَهُ .
الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ : الْمَذْكُورُ ؛ وَهُوَ الَّذِي لَا يَجْرِي لِسَانٌ إلَّا بِهِ ، وَلَا يَعْمُرُ خَاطِرٌ إلَّا بِذِكْرِهِ ، وَلَا يُرَى شَيْءٌ إلَّا وَهُوَ فِيهِ بِأَدِلَّتِهِ وَآثَارِ صَنْعَتِهِ .
الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَالسَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ وَمِائَةٌ : أَهْلُ التَّقْوَى ، وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ؛ الَّذِي لَا يُتَّقَى سِوَاهُ ، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرُهُ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : هَذَا مُنْتَهَى مَا حَضَرَ مِنْ ذِكْرِ الْأَسْمَاءِ لِلتَّضَرُّعِ وَالِابْتِهَالِ ؛ وَقَدْ بَقِيَ نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثِينَ اسْمًا ضَمَّنَّاهَا كِتَابِ الْأَمَدِ " ، هَذِهِ أُصُولُهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { فَادْعُوهُ بِهَا } فَهَذَا هُوَ قِسْمُ الْعَمَلِ .
وَالدُّعَاءُ فِي اللُّغَةِ وَالْحَقِيقَةِ هُوَ الطَّلَبُ ؛ أَيْ اُطْلُبُوا مِنْهُ بِأَسْمَائِهِ ، فَيُطْلَبُ بِكُلِّ اسْمٍ مَا يَلِيقُ بِهِ ، تَقُولُ : يَا رَحِيمُ ارْحَمْنِي ، يَا حَكِيمُ اُحْكُمْ لِي ، يَا رَزَّاقُ اُرْزُقْنِي ، يَا هَادِي اهْدِنِي .
وَإِنْ دَعَوْت بِاسْمٍ عَامٍّ قُلْت : يَا مَالِكُ ارْحَمْنِي ، يَا عَزِيزُ اُحْكُمْ لِي ، يَا لَطِيفُ اُرْزُقْنِي .
وَإِنْ دَعَوْت بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قُلْت : يَا اللَّهُ ، فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ لِكُلِّ اسْمٍ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ ، وَلَا تَقُلْ يَا رَزَّاقُ اهْدِنِي إلَّا أَنْ تُرِيدَ يَا رَازِقُ اُرْزُقْنِي الْهُدَى ، وَهَكَذَا رَتِّبْ دُعَاءَك عَلَى اعْتِقَادِك تَكُنْ مِنْ الْمُحْسِنِينَ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } يُقَالُ : أَلْحَدَ وَلَحَدَ : إذَا مَالَ .
وَالْإِلْحَادُ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ : بِالزِّيَادَةِ فِيهَا ، وَالنُّقْصَانِ مِنْهَا ، كَمَا يَفْعَلهُ الْجُهَّالُ الَّذِينَ يَخْتَرِعُونَ أَدْعِيَةً يُسَمُّونَ فِيهَا الْبَارِي بِغَيْرِ أَسْمَائِهِ وَيَذْكُرُونَهُ بِمَا لَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ أَفْعَالِهِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ ، مِمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ ؛ فَحَذَارِ مِنْهَا ، وَلَا يَدْعُوَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إلَّا بِمَا فِي الْكُتُبِ الْخَمْسَةِ ؛ وَهِيَ كِتَابُ الْبُخَارِيِّ ، وَمُسْلِمٍ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَأَبِي دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ ؛ فَهَذِهِ الْكُتُبُ هِيَ بَدْءُ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ دَخَلَ فِيهَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ التَّصَانِيفِ ؛ وَذَرُوا سِوَاهَا ، وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدٌ : أَخْتَارُ دُعَاءَ كَذَا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ اخْتَارَ لَهُ ، وَأَرْسَلَ بِذَلِكَ إلَى الْخَلْقِ رَسُولَهُ .
.

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي آيَاتِهِ ، وَالِاعْتِبَارِ بِمَخْلُوقَاتِهِ فِي أَعْدَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ ، أَرَادَ بِذَلِكَ زِيَادَةً فِي الْيَقِينِ ، وَقَوْلًا فِي الْإِيمَانِ ، وَتَثْبِيتًا لِلْقُلُوبِ عَلَى التَّوْحِيدِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ؛ قَالَ : قِيلَ لِأُمِّ الدَّرْدَاءِ : مَا كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِ أَبِي الدَّرْدَاءِ ؟ قَالَتْ : كَانَ أَكْثَرُ شَأْنِهِ التَّفَكُّرَ .
قِيلَ لَهُ : أَفَتَرَى الْفِكْرَ عَمَلًا مِنْ الْأَعْمَالِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
هُوَ الْيَقِينُ .
وَقِيلَ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ فِي الصَّلَاةِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ .
فَقَالَ : لَيْسَتْ هَذِهِ عِبَادَةً ؛ إنَّمَا الْعِبَادَةُ الْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَالْفِكْرُ فِي أَمْرِ اللَّهِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ .
.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : [ حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ ] : حَقِيقَةُ التَّفَكُّرِ هُنَا تَرْدِيدُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ بِالْخَبَرِ عَنْهُ .
وَالْكَلَامُ حَقِيقَةً هُوَ مَا يَجْرِي فِي النَّفْسِ ، وَالْحُرُوفُ وَالْأَصْوَاتُ عِبَارَةٌ عَنْهُ ، وَأَقَلُّ مَا يَحْضُرُ فِي الْقَلْبِ مِنْ الْعِلْمِ عِلْمَانِ اثْنَانِ : أَحَدُهُمَا نَسَقُ الْآخَرِ ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْجَنَّةَ مَطْلُوبَةٌ ، وَأَنَّ الْمُوَصِّلَ إلَيْهَا آكَدُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ، فَحِينَئِذٍ يَجْتَهِدُ فِي الْعَمَلِ ؛ وَآكَدُ مِنْ هَذَا أَنْ تَعْلَمَ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ، وَمَلَكُوتِهِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ ؛ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالنَّظَرِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ ، وَهِيَ لَا تُحْصَى كَثْرَةً ؛ وَأُمَّهَاتُهَا السَّمَوَاتُ ، فَتَرَى كَيْفَ بُنِيَتْ وَزُيِّنَتْ مِنْ غَيْرِ فُطُورٍ وَرُفِعَتْ بِغَيْرِ عَمَدٍ ، وَخُولِفَ مِقْدَارُ كَوَاكِبِهَا ، وَنُصِبَتْ سَائِرَةً شَارِقَةً وَغَارِبَةً نَيِّرَةً ، وَمَمْحُوَّةً ؛ كُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ .
وَالْأَرْضَ فَانْظُرْ إلَيْهَا كَيْفَ وُضِعَتْ فِرَاشًا ، وَوُطِئَتْ مِهَادًا ، وَجُعِلَتْ كِفَاتًا ، وَأَنْبَتَتْ مَعَاشًا ، وَأُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ ، وَزُيِّنَتْ بِالنَّبَاتِ ، وَكُرِّمَتْ بِالْأَقْوَاتِ ، وَأُرْصِدَتْ لِتَصَرُّفِ الْحَيَوَانَاتِ وَمَعَاشِهَا ؛ وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةٌ تَسْتَغْرِقُ الْفِكْرَةَ : وَالْحَيَوَانُ أَحَدُ قِسْمَيْ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَالثَّانِي الْجَمَادَاتُ ؛ فَانْظُرْ فِي أَصْنَافِهَا ، وَاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَجْنَاسِهَا ، وَانْقِيَادِهَا وَشَرَسِهَا ، وَتَسْخِيرِهَا فِي الِانْتِفَاعِ بِهَا ، زِينَةً وَقُوتًا ، وَتَقَلُّبًا فِي الْأَرْضِ .
وَالْبِحَارُ أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ عِبْرَةً ، وَأَدَلُّهَا عَلَى سَعَةِ الْقُدْرَةِ فِي سَعَتِهَا ، وَاخْتِلَافِ خَلْقِهَا ، وَتَسْيِيرِ الْفُلْكِ فِيهَا ، وَخُرُوجِ الرِّزْقِ مِنْهَا ، وَالِانْتِفَاعِ فِي الِانْتِقَالِ إلَى الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ بِالْأَثْقَالِ الْوَئِيدَةِ بِهَا .
وَالْهَوَاءُ فَإِنَّهُ خَلْقٌ مَحْسُوسٌ بِهِ قِوَامُ الرُّوحِ فِي الْآدَمِيِّ وَحَيَوَانِ الْبَرِّ ،

كَمَا أَنَّ الْمَاءَ قِوَامٌ لِرُوحِ حَيَوَانِ الْبَحْرِ ، فَإِذَا فَارَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِوَامَهُ هَلَكَ ، وَانْظُرْ إلَى رُكُودِهِ ثُمَّ اضْطِرَابِهِ ، وَهُوَ بِالرِّيحِ .
وَالْإِنْسَانُ أَقْرَبُهَا إلَيْهَا نَظَرًا ، وَأَكْثَرُهَا إنْ بَحَثَ عِبْرًا ، فَلْيَنْظُرْ إلَى نَفْسِهِ مِنْ حِينِ كَوْنِهَا مَاءً دَافِقًا إلَى كَوْنِهِ خَلْقًا سَوِيًّا ، يُعَانُ بِالْأَغْذِيَةِ ، وَيُرَبَّى بِالرِّفْقِ ، وَيُحْفَظُ بِاللَّبَنِ حَتَّى يَكْتَسِبَ الْقُوَى ، وَيَبْلُغَ الْأَشُدَّ ؛ فَإِذَا بِهِ قَدْ قَالَ أَنَا وَأَنَا ، وَنَسِيَ حِينَ أَتَى عَلَيْهِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ، وَسَيَعُودُ مَقْبُورًا .
وَهَذَا زَمَانٌ وَسَطٌ بَيْنَهُمَا ، فَيَا وَيْحَه إنْ كَانَ مَحْسُورًا فَيَنْظُرُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ عَبْدٌ مَرْبُوبٌ ، مُكَلَّفٌ مَخُوفٌ بِالْعَذَابِ إنْ قَصَّرَ ، مُرْجًى بِالثَّوَابِ إنْ ائْتَمَرَ ، فَيُقْبِلُ عَلَى عِبَادَةِ مَوْلَاهُ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَرَاهُ يَرَاهُ ، وَلَا يَخْشَى النَّاسَ فَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَخْشَاهُ ، وَلَا يَتَكَبَّرُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَإِنَّهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ أَقْذَارٍ ، مَشْحُونٌ مِنْ أَوْضَارٍ ، صَائِرٌ إلَى جَنَّةٍ إنْ أَطَاعَ ، أَوْ إلَى نَارٍ .
وَلِذَلِكَ كَانَ شُيُوخُنَا يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يَنْظُرَ الْمَرْءُ فِي الْأَبْيَاتِ الْحِكَمِيَّةِ الَّتِي جَمَعَتْ هَذِهِ الْأَوْصَافَ الْعِلْمِيَّةَ : كَيْفَ يُزْهَى مَنْ رَجِيعُهُ أَبَدَ الدَّهْرِ ضَجِيعُهُ فَهُوَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ وَأَخُوهُ وَرَضِيعُهُ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْحَشِّ بِصُغْرٍ فَيُطِيعُهُ

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَيُّ الْعَمَلَيْنِ أَفْضَلُ : التَّفَكُّرُ أَمْ الصَّلَاةُ ؟ : اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ النَّاسُ ، فَصَغْوُ أَيْ مَيْلُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ الْفِكْرَةَ أَفْضَلُ ، فَإِنَّهَا تُثْمِرُ الْمَعْرِفَةَ ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْمَقَامَاتِ الشَّرْعِيَّةِ .
وَصَغْوُ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ وَالذِّكْرَ أَفْضَلُ ؛ لِمَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَثِّ وَالدُّعَاءِ إلَيْهَا ، وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا ، وَالْإِيعَازِ بِمَنَازِلِهَا وَثَوَابِهَا .
وَاَلَّذِي عِنْدِي فِيهِ أَنَّ النَّاسَ مُخْتَلِفُونَ فَمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْفِكْرِ ، قَوِيَّ النَّظَرِ ، مُسْتَمِرَّ الْمِرَرِ ، قَادِرًا عَلَى الْأَدِلَّةِ ، مُتَبَحِّرًا فِي الْمَعَارِفِ ، فَالْفِكْرُ لَهُ أَفْضَلُ ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَالْأَعْمَالُ أَقْوَى لِنَفْسِهِ ، وَأَثْبَتُ لِعُودِهِ .
ثَبَتَ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ بَاتَ عِنْدَ زَوْجِهِ مَيْمُونَةَ ، وَبَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَهُ فِي لَيْلَةٍ لَمْ تَكُنْ مَيْمُونَةُ تُصَلِّي فِيهَا ، فَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَوْجُهُ فِي طُولِ الْوِسَادَةِ ، وَاضْطَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي عَرْضِهَا ؛ فَلَمَّا انْتَصَفَ اللَّيْلُ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ ، أَوْ بَعْدَهُ ، قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الْآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ : { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } حَتَّى خَتَمَ السُّورَةَ ؛ ثُمَّ قَامَ إلَى شَنٍّ مُعَلَّقٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهُ وُضُوءًا خَفِيفًا ، ثُمَّ صَلَّى خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً .
} فَانْظُرُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ إلَى جَمْعِهِ بَيْنَ الْفِكْرَةِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ لِتَأْكِيدِ الْمَعْرِفَةِ وَتَحْدِيدِهَا حَتَّى تَجَدَّدَتْ لَهُ حَيَاةٌ بِالْهَبِّ مِنْ النَّوْمِ ، ثُمَّ إقْبَالِهِ عَلَى الصَّلَاةِ بَعْدَهَا ؛ فَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الَّتِي تَعْتَمِدُونَ عَلَيْهَا .
فَأَمَّا طَرِيقَةُ الصُّوفِيَّةِ فَأَنْ يَكُونَ الشَّيْخُ مِنْهُمْ يَبْقَى

يَوْمًا وَلَيْلَةً أَوْ شَهْرًا مُفَكِّرًا لَا يَفْتُرُ فَطَرِيقَةٌ بَعِيدَةٌ عَنْ الصَّوَابِ غَيْرُ لَائِقَةٍ بِالشَّرْعِ وَلَا مُسْتَمِرَّةٍ عَلَى السُّنَنِ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمَعْنِيِّ بِهَا : وَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ { حَوَّاءُ الْأُمُّ الْأُولَى ، حَمَلَتْ بِوَلَدِهَا ، فَلَمْ تَجِدْ لَهُ ثِقَلًا ، وَلَا قَطَعَ بِهَا عَنْ عَمَلٍ ، فَكُلَّمَا اسْتَمَرَّ بِهَا ثَقُلَ عَلَيْهَا ، فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ وَقَالَ لَهَا : إنْ كُنْت تَعْلَمِينَ أَنَّ هَذَا الَّذِي يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِك مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ جِسْمِك ؛ إنَّهُ لَيَخْرُجُ مِنْ أَنْفِك ، أَوْ مِنْ عَيْنِك ، أَوْ مِنْ فَمِك ، وَرُبَّمَا كَانَ بَهِيمَةً ؛ فَإِنْ خَرَجَ سَلِيمًا يُشْبِهُك تُطِيعِينَنِي فِيهِ ؟ قَالَتْ لَهُ : نَعَمْ .
فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِآدَمَ ، فَقَالَ لَهَا : هُوَ صَاحِبُك الَّذِي أَخْرَجَك مِنْ الْجَنَّةِ .
فَلَمَّا وَلَدَتْ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ سَمَّتْهُ عَبْدَ الْحَارِثِ بِإِشَارَةِ إبْلِيسَ بِذَلِكَ عَلَيْهَا ، وَكَانَ اسْمُهُ فِي الْمَلَائِكَةِ الْحَارِثَ ، فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } .
} وَذَلِكَ مَذْكُورٌ وَنَحْوُهُ فِي ضَعِيفِ الْحَدِيثِ فِي التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ .
وَفِي الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ كَثِيرٌ لَيْسَ لَهَا ثَبَاتٌ ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا مَنْ لَهُ قَلْبٌ ؛ فَإِنَّ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِنْ كَانَ غَرَّهُمَا بِاَللَّهِ الْغَرُورُ فَلَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرَّتَيْنِ ، وَمَا كَانَا بَعْدَ ذَلِكَ لِيَقْبَلَا لَهُ نُصْحًا وَلَا يَسْمَعَا مِنْهُ قَوْلًا .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا جِنْسُ الْآدَمِيِّينَ ؛ فَإِنَّ حَالَهُمْ فِي الْحَمْلِ وَخِفَّتِهِ وَثِقَلِهِ إلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَإِذَا خَفَّ عَلَيْهِمْ الْحَمْلُ اسْتَمَرُّوا بِهِ ؛ فَإِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِمْ

نَذَرُوا كُلَّ نَذْرٍ فِيهِ ، فَإِذَا وُلِدَ لَهُمْ ذَلِكَ الْوَلَدُ جَعَلُوا فِيهِ لِغَيْرِ اللَّهِ شُرَكَاءَ فِي تَسْمِيَتِهِ وَعَمَلِهِ ، حَتَّى إنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَنْسُبُهُ إلَى الْأَصْنَامِ ، وَيَجْعَلُهُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ أَشْبَهُ بِالْحَقِّ ، وَأَقْرَبُ إلَى الصِّدْقِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ وَعُمُومُهَا الَّذِي يَشْمَلُ جَمِيعَ مُتَنَاوَلَاتِهَا ، وَيَسْلَمُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ عَنْ النَّقْصِ الَّذِي لَا يَلِيقُ بِجُهَّالِ الْبَشَرِ ، فَكَيْفَ بِسَادَتِهِمْ وَأَنْبِيَائِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : أَوَّلُ الْحَمْلِ بِشْرٌ وَسُرُورٌ ، وَآخِرُهُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا } .
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ إنَّهُ مَرَضٌ مِنْ الْأَمْرَاضِ يُعْطِيهِ ظَاهِرُ قَوْلِهِ : فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا وَلَا يَدْعُو الْمَرْءُ هَذَا الدُّعَاءَ إلَّا إذَا نَزَلَتْ بِهِ شِدَّةٌ .
وَهَذِهِ الْحَالُ مُشَاهَدَةٌ فِي الْحَوَامِلِ ، وَلِأَجْلِ عِظَمِ الْأَمْرِ وَشِدَّةِ الْخَطْبِ جُعِلَ مَوْتُهَا شَهَادَةً ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الشُّهَدَاءُ سَبْعَةٌ سَوَاءٌ : الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَذَكَرَ : الْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجَمْعٍ شَهِيدٌ .
}

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ فَحَالُ الْحَامِلِ حَالُ الْمَرِيضِ فِي أَفْعَالِهَا ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ أَنَّ فِعْلَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَهَبُ أَوْ يُحَابِي فِي ثُلُثِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا يَكُونُ حَالُ الطَّلْقِ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا ؛ وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَمْلَ عَادَةٌ وَأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ السَّلَامَةُ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ أَكْثَرُ الْمَرَضِ الْغَالِبُ عَلَيْهِ السَّلَامَةُ ، وَقَدْ يَمُوتُ مَنْ لَمْ يَمْرَضْ ، وَلَكِنْ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ إنْكَارَ مَرَضِ الْحَامِلِ عِنَادٌ ظَاهِرٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ حَمَلَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ الْمَحْبُوسَ فِي قَوَدٍ أَوْ قِصَاصٍ ، وَحَاضِرَ الزَّحْفِ .
وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامَانِ الْمَذْكُورَانِ وَغَيْرُهُمَا ، فَإِذَا اسْتَوْعَبْت النَّظَرَ لِمَ تَرَتَّبَ فِي أَنَّ الْمَحْبُوسَ عَلَى الْقَتْلِ أَشَدُّ حَالًا مِنْ الْمَرِيضِ ، وَإِنْكَارُ ذَلِكَ غَفْلَةٌ فِي النَّظَرِ ؛ فَإِنَّ سَبَبَ الْمَوْتِ مَوْجُودٌ عِنْدَهُمَا ، كَمَا أَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } وَهِيَ : الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ السُّورَةِ ، وَذُكِرَتْ هَاهُنَا لِاقْتِضَاءِ الْقَوْلِ إيَّاهَا ، وَإِنَّمَا رَأَوْا أَسْبَابَهُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ رُوَيْشِدُ الطَّائِيُّ : يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالْعُذْرِ وَالْتَمِسُوا قَوْلًا يُبَرِّئْكُمْ إنِّي أَنَا الْمَوْتُ وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ، وَهِيَ : الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ السُّورَةِ اقْتَضَاهَا الْقَوْلُ هَاهُنَا : { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاَللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ

الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } فَكَيْفَ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْحَالَةَ الشَّدِيدَةَ إنَّمَا هِيَ الْمُبَارَزَةُ ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ مُنَازَلَةِ الْعَدُوِّ ، وَتَدَانِي الْفَرِيقَيْنِ بِهَذِهِ الْحَالَةِ الْعُظْمَى مِنْ بُلُوغِ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ ، وَمِنْ سُوءِ الظُّنُونِ بِاَللَّهِ ، وَمِنْ زَلْزَلَةِ الْقُلُوبِ وَاضْطِرَابِهَا ، هَلْ هَذِهِ الْحَالُ تُرَى عَلَى الْمَرِيضِ أَمْ لَا ؟ فَهَذَا كُلُّهُ لَا يَشُكُّ فِيهِ مُنْصِفٌ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا لِمَنْ ثَبَتَ فِي اعْتِقَادِهِ ، وَجَاهَدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَشَاهَدَ الرَّسُولَ وَآيَاتِهِ ، فَكَيْفَ بِنَا ؟ وَإِنَّمَا هُوَ عِنْدَنَا خَبَرٌ مِنْ الْأَخْبَارِ لَمْ يَعْرِفْهُ إلَّا الْأَحْبَارُ ، وَلَا قَدَّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ إلَّا الْأَخْيَارُ ، وَهَذَا كُلُّهُ يُعَرِّفُكُمْ قَدْرَ مَالِكٍ عَلَى سَائِرِ الْعُلَمَاءِ فِي النَّظَرِ ، وَيُبَصِّرُكُمْ اسْتِدَادَهُ عَلَى سَوَاءِ الْفِكَرِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا ثَبَتَ هَذَا فَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي رَاكِبِ الْبَحْرِ ؛ هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ أَوْ الْحَامِلِ ؟ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : حُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحِيحِ .
وَقَالَ أَشْهَبُ : حُكْمُهُ حُكْمُ الْحَامِلِ إذَا بَلَغَتْ سِتَّةَ أَشْهُرٍ .
وَابْنُ الْقَاسِمِ لَمْ يَرْكَبْ الْبَحْرَ ، وَلَا رَأَى أَنَّهُمْ دُودٌ عَلَى عُودٍ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُوقِنَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَاعِلُ وَحْدَهُ لَا فَاعِلَ مَعَهُ ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ ضَعِيفَةٌ لَا تَعَلُّقَ لِمُوقِنٍ بِهَا ، وَيَتَحَقَّقُ التَّوَكُّلُ وَالتَّفْوِيضُ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ ، وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ سَبْعِينَ مِنْ الدَّهْرِ ، وَتَطْلُعُ لَهُ الشَّمْسُ فِي الْمَاءِ وَتَغْرُبُ فِيهِ ، وَيَتْبَعُهَا الْقَمَرُ كَذَلِكَ ، وَلَا يَسْمَعُ لِلْأَرْضِ خَبَرًا ، وَلَا تَصْفُو سَاعَةٌ مِنْ كَدَرٍ ، وَيَعْطَبُ فِي آخِرِ الْحَالِ ، كَانَ رَأْيُهُ كَرَأْيِ أَشْهَبَ ، وَاَللَّهُ يُوَفِّقُ الْمَقَالَ وَيُسَدِّدُ بِعِزَّتِهِ الْمَذْهَبَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا مَرِيضَةٌ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي فِطْرِهَا وَفِدْيَتِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .

: الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْعَفْوِ : قَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي الْإِطْلَاقِ وَالِاشْتِقَاقِ ، وَاخْتَلَفَ إيرَادُ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْفَضْلُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ ، نَسَخَتْهُ الزَّكَاةُ ؛ قَالَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الزَّكَاةُ ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ .
وَسَمَّاهَا عَفْوًا ؛ لِأَنَّهُ فَضْلُ الْمَالِ وَجُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ أَمْرٌ بِالِاحْتِمَالِ وَتَرْكِ الْغِلْظَةِ ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِآيَةِ الْقِتَالِ .
الرَّابِعُ : خُذْ الْعَفْوَ مِنْ أَخْلَاقِ النَّاسِ ؛ قَالَهُ ابْنَا الزُّبَيْرِ مَعًا ، وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُمَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ جِبْرِيلُ : لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ الْعَالِمَ ، فَذَهَبَ فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك ، وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك ، وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَك } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } : فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْعُرْفُ : الْمَعْرُوفُ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ .
الثَّانِي : قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
الثَّالِثُ : مَا يُعْرَفُ أَنَّهُ مِنْ الدِّينِ .
الرَّابِعُ : مَا لَا يُنْكِرُهُ النَّاسُ مِنْ الْمَحَاسِنِ الَّتِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { أَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مُحْكَمٌ ، أُمِرَ بِاللِّينِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رَوَى { جَابِرُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ : رَكِبْت قَعُودِي ثُمَّ أَتَيْت إلَى مَكَّةَ ، فَطَلَبْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنَخْت قَعُودِي بِبَابِ الْمَسْجِدِ ، فَدَلُّونِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ بُرْدٌ مِنْ صُوفٍ فِيهِ طَرَائِقُ حُمْرٌ ، فَقُلْت : السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : وَعَلَيْك السَّلَامُ .
فَقُلْت : إنَّا مَعْشَرَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَوْمٌ فِينَا الْجَفَاءُ فَعَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا .
قَالَ : اُدْنُ مِنَّا .
فَدَنَوْت ، فَقَالَ : أَعِدْ عَلَيَّ .
فَأَعَدْت .
فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ ، وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا ، وَأَنْ تَلْقَى أَخَاك بِوَجْهٍ مُنْبَسِطٍ ، وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِك فِي إنَاءِ أَخِيك ، وَإِنْ أَحَدٌ سَبَّك بِمَا يَعْلَمُ مِنْك فَلَا تَسُبَّهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَك أَجْرًا وَعَلَيْهِ وِزْرًا ، وَلَا تَسُبَّنَّ شَيْئًا مِمَّا خَوَّلَك اللَّهُ .
فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا سَبَبْت بَعْدَهُ لَا شَاةً وَلَا بَعِيرًا .
} الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ ، وَكَانَ مِنْ النَّفَرِ الَّذِي يُدْنِيهِمْ عُمَرُ ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ : يَا بْنَ أَخِي ؛ لَك وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ قَالَ : سَأَسْتَأْذِنُ لَك .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَاسْتَأْذَنَ الْجَدُّ لِعُيَيْنَةَ ، فَأَذِنَ عُمَرُ ، فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ : هِيهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، فَوَاَللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ ، وَلَا تَحْكُمُ فِينَا بِالْعَدْلِ .
فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ ، فَقَالَ لَهُ :

الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ : { خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ ، وَاَللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا الْعَفْوُ فَإِنَّهُ عَامٌّ فِي مُتَنَاوَلَاتِهِ ، وَيَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ خُذْ مَا خَفَّ وَسَهُلَ مِمَّا تُعْطَى ، فَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ التَّمْرَةَ وَالْقَبْضَةَ وَالْحَبَّةَ وَالدِّرْهَمَ وَالسَّمَلَ ، وَلَا يَلْمِزُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَعِيبُهُ } : وَلَقَدْ كَانَ يُسْقِطُ مِنْ الْحُقُوقِ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ حَتَّى قَالَتْ عَائِشَةُ فِي الصَّحِيحِ : { مَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللَّهِ لِنَفْسِهِ قَطُّ } .
وَأَمَّا الِاحْتِمَالُ : فَقَدْ { كَانَ يَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى ، وَيَحْتَمِلُ الْجَفَاءَ ، حَتَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى ، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ } .
وَأَمَّا مُخَالَفَةُ النَّاسِ : فَهُوَ كَانَ أَقْدَرَ الْخَلْقِ عَلَيْهَا وَأَوْلَاهُمْ بِهَا ، فَإِنَّهُ كَانَ يَلْقَى كُلَّ أَحَدٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شَيْخٍ وَعَجُوزٍ ، وَصَغِيرٍ وَكَبِيرٍ ، وَبِدَوِيٍّ وَحَضَرِيٍّ ، وَعَالِمٍ وَجَاهِلٍ ، وَلَقَدْ { كَانَتْ الْمَرْأَةُ تُوقِفُهُ فِي السِّكَّةِ مِنْ سِكَكِ الْمَدِينَةِ ، وَلَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِأَخٍ لِأَنَسٍ صَغِيرٍ : يَا أَبَا عُمَيْرٍ ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ } .
وَلَقَدْ { كَانَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بِلُغَاتِهِمْ ، فَيَقُولُ لِمَنْ سَأَلَهُ أَمِنَ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ ؟ فَيَقُولُ لَهُ : لَيْسَ مِنْ امْبِرِّ امْصِيَامُ فِي امْسَفَرِ }

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ بِالْعُرْفِ : أَمَّا الْعُرْفُ : فَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا الْمَعْرُوفُ مِنْ الدِّينِ الْمَعْلُومُ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ ، وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ ، الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ الَّتِي أُمَّهَاتُهَا وَأُصُولُهَا الثَّلَاثُ الَّتِي يُقَالُ إنَّ جِبْرِيلَ نَزَلَ بِهَا : أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَك ، فَلَا شَيْءَ أَفْضَلَ مِنْ صِلَةِ الْقَاطِعِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى كَرَمِ النَّفْسِ ، وَشَرَفِ الْحِلْمِ ، وَخُلُقِ الصَّبْرِ الَّذِي هُوَ مِفْتَاحُ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
وَفِي الْأَثَرِ : { لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ ، وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا } .
وَقَالَ : { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ الصَّدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ } .
وَاَلَّذِي يُبَيِّنُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ ، فَغَضِبَ ، فَقَالَ : أَلَيْسَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُطِيعُونِي ؟ قَالُوا : بَلَى .
قَالَ : فَاجْمَعُوا حَطَبًا .
فَجَمَعُوا .
فَقَالَ : أَوْقِدُوا لِي نَارًا .
فَأَوْقَدُوهَا .
فَقَالَ : اُدْخُلُوهَا .
فَهَمُّوا ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يُمْسِكُ بَعْضًا وَيَقُولُونَ : فَرَرْنَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّارِ .
فَمَا زَالُوا حَتَّى خَمَدَتْ النَّارُ ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ ، فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا ، إنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ } ، يُرِيدُ الَّذِي يَجُوزُ فِي الدِّينِ مَوْقِعُهُ وَيَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُهُ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ : وَأَمَّا الْإِعْرَاضُ عَنْ الْجَاهِلِينَ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ ، عَامٌّ فِي كُلِّ الَّذِي يَبْقَى بَعْدَهُمْ .
وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ } .
وَقَالَتْ { أَسْمَاءُ : إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً وَهِيَ مُشْرِكَةٌ أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، صِلِي أُمَّك } .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ ، قَدْ تَضَمَّنَتْ قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ حَسَنَةٌ إلَّا أَوْضَحَتْهَا ، وَلَا فَضِيلَةٌ إلَّا شَرَحَتْهَا ، وَلَا أُكْرُومَةٌ إلَّا افْتَتَحَتْهَا ، وَأَخَذَتْ الْكَلِمَاتُ الثَّلَاثُ أَقْسَامَ الْإِسْلَامِ الثَّلَاثَةَ .
فَقَوْلُهُ : { خُذْ الْعَفْوَ } تَوَلَّى بِالْبَيَانِ جَانِبَ اللِّينِ ، وَنَفْيَ الْحَرَجِ فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ وَالتَّكْلِيفِ .
وَقَوْلُهُ : { وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ } تَنَاوَلَ جَمِيعَ الْمَأْمُورَاتِ وَالْمَنْهِيَّاتِ ؛ وَإِنَّهُمَا مَا عُرِفَ حُكْمُهُ ، وَاسْتَقَرَّ فِي الشَّرِيعَةِ مَوْضِعُهُ ، وَاتَّفَقَتْ الْقُلُوبُ عَلَى عِلْمِهِ .
وَقَوْلُهُ : { وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ } تَنَاوَلَ جَانِبَ الصَّفْحِ بِالصَّبْرِ الَّذِي بِهِ يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ كُلُّ مُرَادٍ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَلَوْ شَرَحْنَا ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ لَكَانَ أَسْفَارًا .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ ، فَقَرَأَ أُنَاسٌ مِنْ خَلْفِهِ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ } ؛ فَسَكَتَ النَّاسُ خَلْفَهُ ، وَقَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ .
} الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ : مَالِكٌ ، وَأَبُو دَاوُد ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جُهِرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ ، فَقَالَ : هَلْ قَرَأَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مَعِي آنِفًا ؟ فَقَالَ رَجُلٌ ، نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ : إنِّي أَقُولُ : مَا لِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ ؟ قَالَ : فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ بِالْقِرَاءَةِ ، حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
} وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَا صَلَاةَ الظُّهْرِ أَوْ الْعَصْرِ ، فَقَالَ : وَأَيُّكُمْ قَرَأَ خَلْفِي بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : أَنَا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : { صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : إنِّي لَا أَرَاكُمْ تَقْرَءُونَ وَرَاءَ إمَامِكُمْ .
قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إي وَاَللَّهِ .
قَالَ : فَلَا تَفْعَلُوا إلَّا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا } .
وَقَدْ رَوَى النَّاسُ فِي قِرَاءَةِ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَحَادِيثَ كَثِيرَةً ، أَعْظَمُهُمْ فِي ذَلِكَ اهْتِبَالًا

الدَّارَقُطْنِيُّ .
وَقَدْ جَمَعَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ جُزْءًا ، وَكَانَ رَأْيُهُ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ ، وَهِيَ إحْدَى رِوَايَاتِ مَالِكٍ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ صَلَّى صَلَاةً لَمْ يَقْرَأْ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ ، فَهِيَ خِدَاجٌ ، فَهِيَ خِدَاجٌ ، غَيْرُ تَمَامٍ .
فَقُلْت : يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؛ إنِّي أَحْيَانًا أَكُونُ وَرَاءَ الْإِمَامِ ، فَغَمَزَ ذِرَاعِي ، وَقَالَ : اقْرَأْ بِهَا يَا فَارِسِيُّ فِي نَفْسِك ، فَإِنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : قَالَ اللَّهُ : قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ، فَنِصْفُهَا لِي ، وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : اقْرَءُوا ، يَقُولُ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَقُولُ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي .
يَقُولُ الْعَبْدُ : الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
يَقُولُ اللَّهُ : أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي .
يَقُولُ الْعَبْدُ : مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ .
يَقُولُ اللَّهُ : مَجَّدَنِي عَبْدِي .
يَقُولُ الْعَبْدُ : إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، فَهَذِهِ الْآيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ .
يَقُولُ الْعَبْدُ : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ .
فَهَؤُلَاءِ لِعَبْدِي ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ } .
وَقَدْ اخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ الْآثَارُ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ اخْتِلَافًا مُتَبَايِنًا فَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ .
} وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ فَقَرَأَ قَوْمٌ خَلْفَهُ ، فَقَالَ : مَا لَكُمْ لَا تَعْقِلُونَ ؟ { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } .
وَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ :

نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي الصَّلَاةِ .
وَقِيلَ : كَانُوا يَتَكَلَّمُونَ فِي الصَّلَاةِ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ .
وَرُوِيَ أَنَّ فَتًى كَانَ يَقْرَأُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَرَأَ فِيهِ النَّبِيُّ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ فِيهِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : نَزَلَتْ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ ؛ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِيهَا قَلِيلٌ ، وَالْإِنْصَاتُ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ قَرَأَ بِهَا ، وَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا .
وَأَصَحُّ مِنْهُ قَوْلُ جَابِرٍ : لَا يُقْرَأُ بِهَا خَلْفَ الْإِمَامِ خَرَّجَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ .
وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا ، وَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا ، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا } ؛ وَهَذَا نَصٌّ لَا مَطْعَنَ فِيهِ ، يُعَضِّدُهُ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ ، وَقَدْ غَمَزَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِمَا لَا يَقْدَحُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ قَدْ أَشَرْنَا إلَى بَعْضِهَا ، وَذَكَرْنَا نُبَذًا مِنْهَا ، وَالتَّرْجِيحُ أَوْلَى مَا اُتُّبِعَ فِيهَا .
وَاَلَّذِي نُرَجِّحُهُ وُجُوبَ الْقِرَاءَةِ فِي الْإِسْرَارِ لِعُمُومِ الْأَخْبَارِ .
وَأَمَّا الْجَهْرُ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقِرَاءَةِ فِيهِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ حُكْمُ الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } .
وَقَدْ عَضَّدَتْهُ السُّنَّةُ بِحَدِيثَيْنِ : أَحَدُهُمَا : حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ : { قَدْ عَلِمْت أَنَّ بَعْضَكُمْ خَالَجَنِيهَا } .
الثَّانِي : قَوْلُهُ : " وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا " .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ : فِي التَّرْجِيحِ : إنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ جَهْرِ الْإِمَامِ لَا سَبِيلَ إلَيْهَا فَمَتَى يَقْرَأُ ؟ فَإِنْ قِيلَ : يَقْرَأُ فِي سَكْتَةِ الْإِمَامِ .
قُلْنَا : السُّكُوتُ لَا يَلْزَمُ الْإِمَامَ فَكَيْفَ يُرَكَّبُ فَرْضٌ

عَلَى مَا لَيْسَ بِفَرْضٍ ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ وَجَدْنَا وَجْهًا لِلْقِرَاءَةِ مَعَ الْجَهْرِ ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْقَلْبِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ ، وَهَذَا نِظَامُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ، وَحِفْظُ الْعِبَادَةِ ، وَمُرَاعَاةُ السُّنَّةِ ، وَعَمَلٌ بِالتَّرْجِيحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ رَبَّك فِي نَفْسِك تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ } .
وَهِيَ : الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ فَقَوْلُهُ : { فِي نَفْسِك } يَعْنِي صَلَاةَ الْجَهْرِ .
وَقَوْلُهُ : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ } يَعْنِي صَلَاةَ السِّرِّ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ فِيهِ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه قَلِيلًا بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ : إنَّمَا خَرَجَتْ الْآيَةُ عَلَى سَبَبٍ ؛ وَهُوَ أَنَّ قَوْمًا كَانُوا يُكْثِرُونَ اللَّغَطَ فِي قِرَاءَةِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَيَمْنَعُونَ مِنْ اسْتِمَاعِ الْأَحْدَاثِ لَهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } ، فَأَمَرَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِنْصَاتِ حَالَةَ أَدَاءِ الْوَحْيِ ، لِيَكُونَ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْكُفَّارِ .
قُلْنَا : عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ ؛ فَلَا يَنْفَعُ مُعْتَمَدُهُ .
الثَّانِي : أَنَّ سَبَبَ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ إذَا كَانَ خَاصًّا لَا يَمْنَعُ مِنْ التَّعَلُّقِ بِظَاهِرِهِ إذَا كَانَ عَامًّا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَيْسَ لِلْبُخَارِيِّ وَلَا لِلشَّافِعِيَّةِ كَلَامٌ يَنْفَعُ بَعْدَمَا رَجَّحْنَا بِهِ وَاحْتَجَجْنَا بِمَنْصُوصِهِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ تَمْهِيدًا يُسَكِّنُ كُلَّ جَأْشٍ نَافِرٍ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِمَا قَبْلَهَا وَمُنْتَظِمَةٌ مَعَ مَا سَبَقَهَا ؛ وَهِيَ إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّهُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا دَائِمُونَ ، وَعَلَيْهَا قَائِمُونَ ، وَبِهَا عَامِلُونَ ؛ فَلَا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ فِيمَا أُمِرْت بِهِ وَكُلِّفْته .
وَهَذَا خِطَابُهُ ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ أَوَّلُ سُجُودِ الْقُرْآنِ ، وَفِيهِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً : الْأُولَى : هَذِهِ ، خَاتِمَةُ الْأَعْرَافِ .
الثَّانِيَةُ : فِي الرَّعْدِ : { وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } .
الثَّالِثَةُ : فِي النَّحْلِ : { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } .
الرَّابِعَةُ : فِي بَنِي إسْرَائِيلَ : { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } .
الْخَامِسَةُ : فِي مَرْيَمَ : { خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } .
السَّادِسَةُ : فِي أَوَّلِ الْحَجِّ : { يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } .
السَّابِعَةُ : فِي آخِرِ الْحَجِّ : { تُفْلِحُونَ } .
الثَّامِنَةُ : فِي الْفُرْقَانِ : { نُفُورًا } .
التَّاسِعَةُ : فِي النَّمْلِ : { رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } .
الْعَاشِرَةُ : فِي تَنْزِيلُ : { وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } .
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : فِي ص : { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } .
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِي حم : { إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } .
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : آخِرُ النَّجْمِ : { وَاعْبُدُوا } .
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي الِانْشِقَاقِ قَوْلُهُ : { لَا يَسْجُدُونَ } .
الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : خَاتِمَةُ الْقَلَمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ وَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي ، فَيَقُولُ : يَا وَيْلَهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ ، وَأُمِرْت بِالسُّجُودِ فَأَبَيْت فَلِيَ

النَّارُ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَقْرَأُ سُورَةً فِيهَا سَجْدَةٌ ، فَيَسْجُدُ .
وَنَسْجُدُ مَعَهُ ، حَتَّى مَا يَجِدَ أَحَدُنَا مَكَانًا لِجَبْهَتِهِ لِيَسْجُدَ فِيهِ } .
وَرَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَامَ الْحَجِّ سَجْدَةً ، فَسَجَدَ النَّاسُ كُلُّهُمْ ، مِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَالسَّاجِدُ فِي الْأَرْضِ ، حَتَّى إنَّ الرَّاكِبَ يَسْجُدُ عَلَى ثَوْبِهِ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ ؛ فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَيْسَ بِوَاجِبٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : هُوَ وَاجِبٌ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مُشْكِلَةٌ عَوَّلَ فِيهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ عَلَى الْوُجُوبِ .
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ } وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُحَافِظُ عَلَيْهَا إذَا قَرَأَهَا .
وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ الثَّابِتِ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ سَجْدَةً وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَنَزَلَ فَسَجَدَ فَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ .
ثُمَّ قَرَأَ بِهَا فِي الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى ، فَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ ، فَقَالَ : عَلَى رِسْلِكُمْ ، إنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا ، إلَّا أَنْ نَشَاءَ .
وَذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، فَثَبَتَ الْإِجْمَاعُ بِهِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا حَمَلْنَا جَمِيعَ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ عَلَى النَّدْبِ وَالتَّرْغِيبِ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ ، فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ } .
إخْبَارٌ عَنْ السُّجُودِ الْوَاجِبِ ؛ وَمُوَاظَبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدُلُّ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ .
وَقَدْ اسْتَوْعَبْنَا الْقَوْلَ فِيهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ الطَّهَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ ، فَوَجَبَتْ فِيهَا الطَّهَارَةُ ، كَسُجُودِ الصَّلَاةِ .
وَكَذَلِكَ التَّكْبِيرُ مِثْلُهُ ؛ فَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا سَجَدَ كَبَّرَ ، وَكَذَلِكَ إذَا رَفَعَ كَبَّرَ } وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا هَلْ فِيهَا تَحْلِيلٌ بِالسَّلَامِ أَمْ لَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّ فِيهَا تَحْلِيلًا بِالسَّلَامِ ] لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَهَا تَكْبِيرٌ ، فَكَانَ فِيهَا سَلَامٌ ، كَصَلَاةِ

الْجِنَازَةِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ قَوْلٌ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي صَلَاتِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا ؛ فَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّهَا تُصَلَّى فِيهَا ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
الثَّانِيَةُ : لَا تُصَلَّى ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
مُتَعَلَّقُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ عُمُومُ الْأَمْرِ بِالسُّجُودِ ، وَمُتَعَلَّقُ الْقَوْلِ الثَّانِي عُمُومُ النَّهْيِ عَنْ الصَّلَوَاتِ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّجُودِ عَامٌّ فِي الْأَوْقَاتِ ، وَالنَّهْيَ خَاصٌّ فِي الْأَوْقَاتِ ، وَالْخَاصُّ يَقْضِي عَلَى الْعَامِّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ ؛ وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ عِنْدِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : سَجْدَةُ الْحَجِّ الثَّانِيَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ وَغَيْرُهُمَا : هِيَ عَزِيمَةٌ .
وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا : إنَّهَا لَيْسَتْ سُجُودَ عَزِيمَةٍ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ رُكُوعِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِهَا ؛ وَدَلِيلُنَا أَنَّ عُمَرَ سَجَدَ فِيهَا وَهُوَ يَفْهَمُ الْأَمْرَ أَقْعَدَ ، وَبَيْنَ قَوْمٍ كَانُوا أَفْهَمَ وَأَسَدَّ ؛ فَبِهِمْ فَاقْتَدِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : يُسْجَدُ فِي النَّمْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ : { وَمَا يُعْلِنُونَ } عِنْدَ تَمَامِ الْآيَةِ الَّتِي فِيهَا الْأَمْرُ .
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يُسْجَدُ عِنْدَ قَوْلِهِ : { الْعَلِيمُ } .
الَّذِي فِيهِ تَمَامُ الْكَلَامِ ، وَهُوَ أَقْوَى .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : سَجْدَةُ " ص " : عِنْدَ الشَّافِعِيِّ سَجْدَةُ شُكْرٍ ، وَلَيْسَتْ بِعَزِيمَةٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَخَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : سَجْدَةُ ص لَيْسَتْ مِنْ عَزَائِمِ السُّجُودِ ، وَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَهَا .
} وَقَالَ مَالِكٌ : هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَهِيَ عَزِيمَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ لَهُ : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } ، وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ : ص ، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ نَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ مَعَهُ ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمٌ آخَرُ قَرَأَهَا ، فَلَمَّا بَلَغَ السَّجْدَةَ تَشَزَّنَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّمَا هِيَ تَوْبَةُ نَبِيٍّ وَلَكِنِّي رَأَيْتُكُمْ تَشَزَّنْتُمْ لِلسُّجُودِ وَنَزَلَ فَسَجَدَ وَسَجَدُوا } الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : السُّجُودُ فِيهَا عِنْدَ تَمَامِ قَوْلِهِ : { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ } لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ ، وَمَوْضِعُ الْخُضُوعِ وَالْإِنَابَةِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ : { وَحُسْنَ مَآبٍ } لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ التَّوْبَةِ وَحُسْنِ الْمَآبَةِ .
وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ ؛ رَجَاءَ الِاهْتِدَاءِ فِي الِاقْتِدَاءِ وَالْمَغْفِرَةِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ ، كَمَا غُفِرَ لِمَنْ سَبَقَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : السُّجُودُ فِي فُصِّلَتْ : عِنْدَ قَوْلِهِ : { إنْ كُنْتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُونَ } لِأَنَّهُ انْتِهَاءُ الْأَمْرِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : { وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ } لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ امْتِثَالِ مَنْ أُمِرَ عِنْدَ ذِكْرِ مَنْ اسْتَكْبَرَ ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُمْ .
وَالْأَوَّلُ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَثِلُ الْأَمْرَ وَيَخْرُجُ عَمَّنْ اسْتَكْبَرَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : أَمَّا سَجْدَةُ " النَّجْمِ " : فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَرَأَ وَالنَّجْمِ فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا } .
وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى الْعُلَمَاءُ الْأَئِمَّةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ وَالنَّجْمِ ، فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ كَانَ مَعَهُ ، فَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ ، فَرَفَعَهُ إلَى وَجْهِهِ ، وَقَالَ : يَكْفِينِي هَذَا .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَلَقَدْ رَأَيْته بَعْدُ قُتِلَ كَافِرًا } .
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ } ، فَكَيْفَ يَتَأَخَّرُ أَحَدٌ عَنْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ { أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَرَأَ لَهُمْ : { إذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ } فَسَجَدَ فِيهَا ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَجَدَ فِيهَا وَفِي : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك } } .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْجُدْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُفَصَّلِ مُنْذُ تَحَوَّلَ إلَى الْمَدِينَةِ } .
قُلْنَا : هَذَا خَبَرٌ لَمْ يَصِحَّ إسْنَادُهُ ، وَلَوْ صَحَّ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ قَرَأَهُ وَلَمْ يَسْجُدْ فِيهِ ، فَلَعَلَّهُ لَمْ يَقْرَأْ بِهِ فِي صَلَاةِ جَمَاعَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ : { الم تَنْزِيلُ } السَّجْدَةَ ، وَهَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } .

سُورَةُ الْأَنْفَالِ فِيهَا خَمْسٌ وَعِشْرُونَ آيَةً .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ : نَزَلَتْ فِي ثَلَاثُ آيَاتٍ : النَّفَلُ ، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، وَالثُّلُثُ .
وَرَوَى مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : { إذَا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ جِئْت بِسَيْفٍ ؛ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ اللَّهَ قَدْ شَفَى صَدْرِي مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، أَوْ نَحْوَ هَذَا ، هَبْ لِي هَذَا السَّيْفَ .
فَقَالَ : هَذَا لَيْسَ لَك وَلَا لِي فَقُلْت : عَسَى أَنْ يُعْطَى هَذَا مَنْ لَا يُبْلِي بَلَائِي ، فَجَاءَنِي الرَّسُولُ فَقَالَ : إنَّك سَأَلْتنِي وَلَيْسَ لِي ، وَلَقَدْ صَارَ لِي وَهُوَ لَك } فَنَزَلَتْ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ } قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هُوَ صَحِيحٌ .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ { سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ خَرَجَا يَتَنَفَّلَانِ نَفْلًا ، فَوَجَدَا سَيْفًا مُلْقًى يُقَالُ كَانَ لِأَبِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، فَخَرَّا عَلَيْهِ جَمِيعًا ، فَقَالَ سَعْدٌ : هُوَ لِي .
وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : هُوَ لِي ، فَتَنَازَعَا فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : يَكُونُ بَيْنِي وَبَيْنَك ، رَأَيْنَاهُ جَمِيعًا وَخَرَرْنَا عَلَيْهِ جَمِيعًا .
فَقَالَ : لَا أُسَلِّمُهُ إلَيْك حَتَّى نَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ ، فَلَمَّا عَرَضَا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ قَالَ : لَيْسَ لَك يَا سَعْدُ وَلَا لِلْأَنْصَارِيِّ ، وَلَكِنَّهُ لِي ، فَنَزَلَتْ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ } فَاتَّقِ اللَّهَ يَا سَعْدُ وَالْأَنْصَارِيُّ ، وَأَصْلِحَا ذَاتَ بَيْنِكُمَا ، وَأَطِيعَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } .
يَقُولُ أَسْلَمَ السَّيْفَ إلَيْهِ ، ثُمَّ نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : النَّفَلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الزِّيَادَةُ ، وَمِنْهَا نَفْلُ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى فَرْضِهَا ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ نَافِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى الْوَلَدِ ، وَالْغَنِيمَةُ نَافِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ فِيمَا أُحِلَّ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ مِمَّا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى غَيْرِهَا ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ } .
وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ [ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] قَالَ : { فُضِّلْت عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ : أُعْطِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَنُصِرْت بِالرُّعْبِ ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا ، وَأُرْسِلْت إلَى الْخَلْقِ كَافَّةً ، وَخُتِمَ بِي النَّبِيُّونَ } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ : لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا ، وَلَا أَحَدٌ بَنَى بُيُوتًا وَلَمْ يَرْفَعْ سُقُوفَهَا ، وَلَا أَحَدٌ اشْتَرَى غَنَمًا أَوْ خَلِفَاتٍ وَهُوَ يَنْتَظِرُ وِلَادَهَا ، فَغَزَا فَدَنَا مِنْ الْقَرْيَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ لِلشَّمْسِ : إنَّك مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ ، اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا ، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ بِجَمْعِ الْغَنَائِمِ ، فَجَاءَتْ النَّارُ لِتَأْكُلَهَا ، فَلَمْ تَطْعَمْهَا .
فَقَالَ : إنْ فِيكُمْ غُلُولًا قَبَلِيًّا فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ ، فَقَالَ : فِيكُمْ الْغُلُولُ فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُك ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ بِيَدِهِ ، فَقَالَ : فِيكُمْ الْغُلُولُ ، فَجَاءُوا بِرَأْسٍ مِثْلِ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ الذَّهَبِ ، فَوَضَعُوهَا فَجَاءَتْ النَّارُ فَأَكَلَتْهَا ، ثُمَّ أَحَلَّ اللَّهُ لَنَا الْغَنَائِمَ ، وَرَأَى ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا فَأَحَلَّهَا لَنَا }

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : كَانَتْ بَدْرٌ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ عَامٍ وَنِصْفٍ مِنْ الْهِجْرَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ بِشَهْرَيْنِ .
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ عِدَّةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ فَقَالَ : كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ .
وَرَوَى أَيْضًا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : { سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عِدَّةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ : كَمْ يَطْعَمُونَ كُلَّ يَوْمٍ ؟ فَقِيلَ لَهُ : يَوْمًا عَشْرًا وَيَوْمًا تِسْعَ جَزَائِرَ .
فَقَالَ : الْقَوْمُ مَا بَيْنَ الْأَلْفِ إلَى التِّسْعِمِائَةِ } وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : { لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَشِيرُوا عَلَيَّ .
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَتَكَلَّمَ ، ثُمَّ قَعَدَ .
ثُمَّ قَالَ : أَشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ عُمَرُ فَتَكَلَّمَ ، ثُمَّ قَعَدَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَشِيرُوا عَلَيَّ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ : كَأَنَّك إيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا نَقُولُ لَك كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لِمُوسَى : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمْ مُتَّبِعُونَ .
لَوْ أَتَيْت الْيَمَنَ لَسَلَلْنَا سُيُوفَنَا وَاتَّبَعْنَاك .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا مَصَافَّكُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَسْمَاءٍ : الْأَنْفَالُ ، الْغَنَائِمُ ، الْفَيْءُ .
فَالنَّفَلُ : الزِّيَادَةُ كَمَا بَيَّنَّا ، وَتَدْخُلُ فِيهِ الْغَنِيمَةُ فَإِنَّهَا زِيَادَةُ الْحَلَالِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ .
وَالْغَنِيمَةُ : مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِقِتَالٍ .
وَالْفَيْءُ : مَا أُخِذَ بِغَيْرِ قِتَالٍ ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ

، وَهُوَ انْتِفَاعُ الْمُؤْمِنِ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي مَحَلِّ الْأَنْفَالِ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَحَلُّهَا الْخُمُسُ .
الثَّانِي : مَحَلُّهَا مَا عَادَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَوْ أُخِذَ بِغَيْرِ حَرْبٍ .
الثَّالِثُ : رَأْسُ الْغَنِيمَةِ حَسْبَمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ .
قَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قَالَ : لَا آمُرُك وَلَا أَنْهَاك .
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ : وَاَللَّهِ مَا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا إلَّا مُحَلِّلًا وَمُحَرِّمًا .
قَالَ الْقَاسِمُ : فَسُلِّطَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْ النَّفَلِ ؛ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : الْفَرَسُ مِنْ النَّفَلِ ، وَالسِّلَاحُ مِنْ النَّفَلِ .
وَأَعَادَ عَلَيْهِ الرَّجُلُ ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى أَغْضَبَهُ .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَتَدْرُونَ مَا مِثْلُ هَذَا ؟ مِثْلُ صَنِيعِ الَّذِي ضَرَبَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ حَتَّى سَالَتْ الدِّمَاءُ عَلَى عَقِبَيْهِ أَوْ عَلَى رِجْلَيْهِ ، س فَقَالَ الرَّجُلُ : أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ انْتَقَمَ اللَّهُ مِنْك لِابْنِ عُمَرَ .
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعَطَاءٌ : هِيَ مَا شَذَّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ .
وَعَنْ مُجَاهِدٍ : { سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخُمُسِ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ ؛ فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : لِمَنْ يُدْفَعُ هَذَا الْخُمُسُ ؟ لَمْ يَخْرُجْ مِنَّا .
فَنَزَلَتْ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ } وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ الْخُمُسِ ، } كَمَا رُوِيَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي مِنْهُ مَا شَاءَ مِنْ سَلَبٍ أَوْ غَيْرِهِ ؛ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ .
فَأَمَّا هَذَا السُّؤَالُ هَاهُنَا فَإِنَّمَا هُوَ عَنْ أَصْلِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي نَفْلٌ عَلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَنَا مِنْ الْحَلَالِ عَلَى الْأُمَمِ .
الْمَعْنَى : يَسْأَلُك أَصْحَابُك يَا مُحَمَّدٌ عَنْ هَذِهِ الْغَنِيمَةِ الَّتِي نَفَّلْتُكهَا .
قُلْ لَهُمْ : هِيَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَخْتَلِفُوا ، وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ، لِئَلَّا يُرْفَعَ تَحْلِيلُهَا عَنْكُمْ

بِاخْتِلَافِكُمْ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ { ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ : مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا .
فَتَسَارَعَ إلَى ذَلِكَ الشُّبَّانُ ، وَثَبَتَ الشُّيُوخُ تَحْتَ الرَّايَاتِ ، فَلَمَّا فُتِحَ عَلَيْهِمْ جَاءُوا يَطْلُبُونَ شَرْطَهُمْ ، فَقَالَ الشُّيُوخُ : لَا تَسْتَأْثِرُوا بِهِ عَلَيْنَا ، كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ ، لَوْ انْهَزَمْتُمْ لَانْحَزْتُمْ إلَيْنَا ، فَأَبَى الشُّبَّانُ وَقَالُوا : جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ لَنَا ، فَتَنَازَعُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ ؛ فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ لَنَا ، حَرَسْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ لَنَا ، اتَّبَعْنَا أَعْدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ .
وَقَالَتْ أُخْرَى : نَحْنُ أَوْلَى بِهَا ، أَخَذْنَاهَا ، فَنَزَلَتْ : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَنْفَالِ } } وَرَوَى { أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ قَالَ : سَأَلْت عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنْ الْأَنْفَالِ ، فَقَالَ : فِينَا أَصْحَابَ بَدْرٍ نَزَلَتْ ، حِينَ اخْتَلَفْنَا فِي النَّفَلِ ، وَسَاءَتْ فِيهِ أَخْلَاقُنَا ، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا ، فَجَعَلَهُ إلَى رَسُولِهِ ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَوَاءٍ ؛ أَيْ عَلَى السَّوَاءِ .
} الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : { فَسَلَّمُوا لِرَسُولِ اللَّهِ الْأَمْرَ فِيهَا ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } .
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ } .
فَلَمْ يُمْكِنْ بَعْدَ هَذَا أَنْ يَكُونَ النَّفَلُ مِنْ حَقِّ أَحَدٍ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ .
وَهُوَ الْخُمُسُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ : خَرَجْنَا فِي سَرِيَّةٍ قِبَلَ نَجْدٍ ، فَأَصَبْنَا إبِلًا ، فَقَسَّمْنَاهَا ،

فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا أَحَدَ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَنُفِّلْنَا بَعِيرًا بَعِيرًا .

فَأَمَّا : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : وَهِيَ سَلَبُ الْقَتِيلِ : فَإِنَّهُ مِنْ الْخُمُسِ عِنْدَنَا ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا رَأَى ذَلِكَ الْإِمَامُ لِغَنَاءٍ فِي الْمُعْطَى : أَوْ مَنْفَعَةٍ تُجْلَبُ ، أَوْ ائْتِلَافٍ يُرْغَبُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هُوَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْمَالِكِينَ .
فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فِي ذَلِكَ فَمُتَعَارِضَةٌ ، رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِسَلَبِ أَبِي جَهْلٍ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ } .
وَقَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ ، فَأَعْطَى السَّلَبَ لِأَبِي قَتَادَةَ بِمَا أَقَامَ مِنْ الشَّهَادَةِ ، وَقَضَى بِالسَّلَبِ أَجْمَعَ لِسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ يَوْمَ ذِي قَرَدٍ } .
قُلْنَا : هَذِهِ الْأَخْبَارُ لَيْسَ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ إعْطَاءِ السَّلَبِ لِلْقَاتِلِ .
وَهَلْ إعْطَاءُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ رَأْسِ مَالِ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ حَقِّ النَّبِيِّ وَهُوَ الْخُمُسُ ؟ ذَلِكَ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ .
وَقَدْ قَسَّمَ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ قِسْمَةَ حَقٍّ عَلَى الْأَخْمَاسِ ، فَجَعَلَ خُمُسَهَا لِرَسُولِهِ ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِهَا لِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا وَقُتِلُوا ، فَهُمْ فِيهَا شَرْعٌ سَوَاءٌ ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي السَّبَبِ الَّذِي اسْتَحَقُّوهَا بِهِ ؛ وَالِاشْتِرَاكُ فِي السَّبَبِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ فِي الْمُسَبَّبِ ، وَيَمْنَعُ مِنْ التَّفَاضُلِ فِي الْمُسَبِّبِ مَعَ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّبَبِ ؛ هَذِهِ حِكْمَةُ الشَّرْعِ وَحُكْمُهُ ، وَقَضَاءُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ ، وَعِلْمُهُ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِمْ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا رَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ : قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلًا مِنْ الْعَدُوِّ ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ ، فَمَنَعَهُ خَالِدٌ ، وَكَانَ وَالِيًا عَلَيْهِمْ ؛ فَأَخْبَرَ عَوْفٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِخَالِدٍ : مَا مَنَعَك أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ ؟ قَالَ : اسْتَكْثَرْته يَا

رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : ادْفَعْهُ إلَيْهِ .
فَلَقِيَ عَوْفٌ خَالِدًا فَجَرَّهُ بِرِدَائِهِ ، وَقَالَ : هَلْ أَنْجَزْت مَا ذَكَرْت لَك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتُغْضِبَ ، فَقَالَ : لَا تُعْطِهِ يَا خَالِدٌ .
هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي إمْرَتِي } .
وَلَوْ كَانَ السَّلَبُ حَقًّا لَهُ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ لَمَا رَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ فِي الْأَمْوَالِ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيِّبِ قَالَ : مَا كَانَ النَّاسُ يُنَفِّلُونِ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا نَفَلَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ .
وَلَمْ يَصِحَّ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : النَّفَلُ عَلَى قِسْمَيْنِ : جَائِزٌ وَمَكْرُوهٌ ، فَالْجَائِزُ بَعْدَ الْقِتَالِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُهُ } .
وَالْمَكْرُوهُ أَنْ يُقَالَ قَبْلَ الْقَتْلِ : " مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا " .
وَإِنَّمَا كُرِهَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْقِتَالُ فِيهِ لِلْغَنِيمَةِ .
{ وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الرَّجُلُ يُقَاتِلُ لِلْمَغْنَمِ ، وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ ، مَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، وَيَحِقُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَإِنْ نَوَى فِي ذَلِكَ الْغَنِيمَةَ ؛ وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ مَقْصِدُهُ الْمَغْنَمَ خَاصَّةً .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : قَوْله تَعَالَى : { قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } قَوْلُهُ : { لِلَّهِ } اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ ، وَابْتِدَاءٌ بِالْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ وَرَاءَهُ مَرْمَى ، الْكُلُّ لِلَّهِ ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ : ( وَالرَّسُولِ ) قِيلَ : أَرَادَ بِهِ مِلْكًا .
وَقِيلَ : أَرَادَ بِهِ وِلَايَةَ قَسَمٍ وَبَيَانَ حُكْمٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ } وَلَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُمَلِّكَهُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ تَشْرِيفًا وَتَقْدِيمًا بِالْحَقِيقَةِ ، وَيَرُدُّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَضُّلًا عَلَى الْخَلِيقَةِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى { ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمَّا أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ مُقْبِلٌ مِنْ الشَّامِ نَدَبَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ ، وَقَالَ : هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا الْأَمْوَالُ ، فَاخْرُجُوا إلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُنَفِّلَكُمُوهَا فَانْتُدِبَ النَّاسُ ، فَخَفَّ بَعْضُهُمْ ، وَثَقُلَ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَظُنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَلْقَى حَرْبًا ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ دَنَا مِنْ الْحِجَازِ يَتَجَسَّسُ الْأَخْبَارَ ، وَيَسْأَلُ مَنْ لَقِيَ مِنْ الرُّكْبَانِ ؛ تَخَوُّفًا عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ حَتَّى أَصَابَ خَبَرًا مِنْ بَعْضِ الرُّكْبَانِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ اسْتَنْفَرَ لَك ، فَحَذِرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَاسْتَأْجَرَ ضَمْضَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ ، وَبَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ قُرَيْشًا يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى أَمْوَالِهِمْ ، وَيُخْبِرُهُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ عَرَضَ لَهَا فِي أَصْحَابِهِ .
فَمَضَى ضَمْضَمٌ ، وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ وَأَتَاهُ الْخَبَرُ عَنْ قُرَيْشٍ بِخُرُوجِهِمْ لِيَمْنَعُوا عِيرَهُمْ ، فَاسْتَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ ، وَأَخْبَرَهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ فَأَحْسَنَ ، وَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ فَأَحْسَنَ ، ثُمَّ قَامَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ امْضِ لِمَا أَمَرَك اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَك ، وَاَللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ : اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، وَلَكِنْ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلَا إنَّا مَعَكُمْ مُقَاتِلُونَ ، وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَوْ سِرْت إلَى بِرْكِ الْغِمَادِ يَعْنِي مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ لَجَالَدْنَا مَعَك مِنْ دُونِهِ .

ثُمَّ قَالَ الْأَنْصَارُ بَعْدُ : أَنْ امْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أُمِرْت ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَوْ اسْتَعْرَضْت بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْته لَخُضْنَاهُ مَعَك .
فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى الْتَقَى بِالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرٍ ، فَمَنَعُوا الْمَاءَ ، وَالْتَقَوْا ، وَنَصَرَ اللَّهُ النَّبِيَّ وَأَصْحَابَهُ ، فَقَتَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ سَبْعِينَ وَأَسَرَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مَا كَانَ مَعَهُمْ .
} الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى عِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : { قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ : عَلَيْك بِالْعِيرِ لَيْسَ دُونَهَا شَيْءٌ .
فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الْأَسْرَى : لَا يَصْلُحُ هَذَا .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِمَ ؟ قَالَ : لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَك إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَقَدْ أَعْطَاك مَا وَعَدَك .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقْت .
وَعَلِمَ ذَلِكَ الْعَبَّاسُ مِنْ تَحَدُّثِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ بَدْرٍ ، فَسَمِعَ ذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ .
}

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : خُرُوجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَلَقَّى الْعِيرَ بِالْأَمْوَالِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النَّفْرِ لِلْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبٌ حَلَالٌ ، وَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { إنَّ مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دُونَ مَنْ يُقَاتِلُ لِلْغَنِيمَةِ } يُرَادُ بِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ قَصْدَهُ وَحْدَهُ ، لَيْسَ لِلدِّينِ فِيهِ حَظٌّ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } ، فَقَالَ مَالِكٌ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ قَلِيبِ بَدْرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ : قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّهُمْ أَمْوَاتٌ ، أَفَيَسْمَعُونَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ قَالَ قَتَادَةُ : أَحْيَاهُمْ اللَّهُ لَهُ } .
وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْمَوْتَ لَيْسَ بِعَدَمٍ مَحْضٍ ، وَلَا فَنَاءَ صِرْفٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَبَدُّلُ حَالٍ ، وَانْتِقَالٌ مِنْ دَارٍ إلَى دَارٍ ، وَالرُّوحُ إنْ كَانَ جِسْمًا فَيَنْفَصِلُ بِذَاتِهِ عَنْ الْجَسَدِ ، وَإِنْ كَانَ عَرَضًا فَلَا بُدَّ مِنْ جُزْءٍ مِنْ الْجَسَدِ يَقُومُ بِهِ يُفَارِقُ الْجَسَدَ مَعَهُ ، وَلَعَلَّهُ عَجْبُ الذَّنَبِ الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ كُلَّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ إلَّا عَجْبَ الذَّنَبِ ، مِنْهُ خُلِقَ ، وَفِيهِ يُرَكَّبُ } .
وَالرُّوحُ هِيَ السَّامِعَةُ الْوَاعِيَةُ الْعَالِمَةُ الْقَابِلَةُ ، إلَّا أَنَّ الْبَارِيَ لَا يَخْلُقُ الْإِدْرَاكَ إلَّا كَمَا يَشَاءُ ، فَلَا يَخْلُقُ إدْرَاكَ الْآخِرَةِ لِأَهْلِ الدُّنْيَا ، وَلَا يَخْلُقُ إدْرَاكَ الدُّنْيَا لِأَهْلِ الْآخِرَةِ ، فَإِذَا أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَسْمَعَ أَهْلَ الْآخِرَةِ حَالَ أَهْلِ الدُّنْيَا .
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ : { أَنَّ الْمَيِّتَ إذَا انْصَرَفَ عَنْهُ أَهْلُهُ ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ ، إذْ أَتَاهُ مَلَكَانِ } الْحَدِيثَ .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ فِي أَهْلِ بَدْرٍ : أَتُكَلِّمُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا ؟ فَقَالَ : مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ فِي الْجَوَابِ }

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي { أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ أَهْلُ بَدْرٍ فِيكُمْ ؟ قَالَ : خِيَارُنَا .
فَقَالَ جِبْرِيلُ : إنَّهُمْ كَذَلِكَ فِينَا } .
وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ أَنَّ شَرَفَ الْمَخْلُوقَاتِ لَيْسَ بِالذَّوَاتِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالْأَفْعَالِ ؛ وَلِلْمَلَائِكَةِ أَفْعَالُهَا الشَّرِيفَةُ مِنْ الْمُوَاظَبَةِ عَلَى التَّسْبِيحِ الدَّائِمِ ، وَلَنَا نَحْنُ أَفْعَالُنَا بِلَا إخْلَاصٍ فِي الطَّاعَةِ .
وَتَتَفَاضَلُ الطَّاعَاتُ بِتَفْضِيلِ الشَّرْعِ لَهَا ، وَأَفْضَلُهَا الْجِهَادُ ، وَأَفْضَلُهَا الْجِهَادُ يَوْمَ بَدْرٍ ؛ فَأَنْجَزَ اللَّهُ لِرَسُولِ وَعْدَهُ ، وَأَعَزَّ جُنْدَهُ ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، وَصَرَعَ صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ ، وَانْتَقَمَ مِنْهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَشَفَى صَدْرَ رَسُولِهِ وَصُدُورَهُمْ مِنْ غَيْظِهِمْ ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ حَسَّانُ : عَرَفْت دِيَارَ زَيْنَبَ بِالْكَثِيبِ كَخَطِّ الْوَحْيِ فِي الْوَرَقِ الْقَشِيبِ تَدَاوَلَهَا الرِّيَاحُ وَكُلُّ جَوْنٍ مِنْ الْوَسْمِيِّ مُنْهَمِرٍ سَكُوبِ فَأَمْسَى رَبْعُهَا خَلِقًا وَأَمْسَتْ يَبَابًا بَعْدَ سَاكِنِهَا الْحَبِيبِ فَدَعْ عَنْك التَّذَكُّرَ كُلَّ يَوْمٍ وَرَوِّ حَرَارَةَ الصَّدْرِ الْكَئِيبِ وَخَبِّرْ بِاَلَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ بِصِدْقٍ غَيْرَ أَخْبَارِ الْكَذُوبِ بِمَا صَنَعَ الْمَلِيكُ غَدَاةَ بَدْرٍ لَنَا فِي الْمُشْرِكِينَ مِنْ النَّصِيبِ غَدَاةَ كَأَنَّ جَمْعَهُمْ حِرَاءٌ بَدَتْ أَرْكَانُهُ جُنْحَ الْغُرُوبِ فَلَاقَيْنَاهُمْ مِنَّا بِجَمْعٍ كَأُسْدِ الْغَابِ مُرْدَانٍ وَشِيبِ أَمَامَ مُحَمَّدٍ قَدْ وَازَرُوهُ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي لَفْحِ الْحُرُوبِ بِأَيْدِيهِمْ صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٌ وَكُلُّ مُجَرَّبٍ خَاظِي الْكُعُوبِ بَنُو الْأَوْسِ الْغَطَارِفُ وَازَرَتْهَا بَنُو النَّجَّارِ فِي الدِّينِ الصَّلِيبِ فَغَادَرْنَا أَبَا جَهْلٍ صَرِيعًا وَعُتْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا بِالْجَبُوبِ وَشَيْبَةَ قَدْ تَرَكْنَا فِي رِجَالٍ ذَوِي حَسَبٍ إذَا نُسِبُوا حَسِيبِ يُنَادِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ لَمَّا قَذَفْنَاهُمْ كَبَاكِبَ فِي الْقَلِيبِ أَلَمْ تَجِدُوا كَلَامِي كَانَ حَقًّا

وَأَمْرُ اللَّهِ يَأْخُذُ بِالْقُلُوبِ فَمَا نَطَقُوا ، وَلَوْ نَطَقُوا لَقَالُوا صَدَقْت ، وَكُنْت ذَا رَأْيٍ مُصِيبِ

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { زَحْفًا } : يَعْنِي مُتَدَانِينَ ، وَالتَّزَاحُفُ هُوَ التَّدَانِي وَالتَّقَارُبُ ، يَقُول : إذَا تَدَانَيْتُمْ وَتَعَايَنْتُمْ فَلَا تَفِرُّوا عَنْهُمْ ، وَلَا تُعْطُوهُمْ أَدْبَارَكُمْ ، حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حِينَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ الْجِهَادَ ، وَقَتْلَ الْكُفَّارِ ؛ لِعِنَادِهِمْ لِدِينِ اللَّهِ ، وَإِبَايَتِهِمْ عَنْ قَوْلِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ .
فَأَمَّا الْمِقْدَارُ الَّذِي يَكُونُ هَذَا مَعَهُ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ : هَلْ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَمْ عَامٌّ فِي الزُّحُوفِ كُلِّهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِئَةٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ ؛ وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَقَتَادَةُ ، وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، وَالضَّحَّاكُ .
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا شَذَّ مَنْ شَذَّ بِخُصُوصِ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّ ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى يَوْمِ بَدْرٍ ، وَلَيْسَ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا ذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى يَوْمِ الزَّحْفِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْقِتَالِ وَانْقِضَاءِ الْحَرْبِ ، وَذَهَابِ الْيَوْمِ بِمَا فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسْبَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْكَبَائِرَ كَذَا .
وَعِنْدَ الْفِرَارِ يَوْمَ الزَّحْفِ .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ يَرْفَعُ الْخِلَافَ ، وَيُبَيِّنُ الْحُكْمَ ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى النُّكْتَةِ الَّتِي وَقَعَ الْإِشْكَالُ فِيهَا لِمَنْ وَقَعَ بِاخْتِصَاصِهِ بِيَوْمِ بَدْرٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا يَوْمُ بَدْرٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَنْ يَفِرُّوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا يُسْلِمُوهُ لِأَعْدَائِهِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ عَلَى الْأَرْضِ عَيْنٌ تُطْرَفُ .
وَأَمَّا سَائِرُ الْجُيُوشِ وَأَيَّامُ الْقِتَالِ فَلَهَا أَحْكَامٌ تُسْتَقْصَى فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْت إذْ رَمَيْت وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
هِيَ مِنْ تَوَابِعِ مَا تَقَدَّمَ وَرَوَابِطِهِ ؛ فَإِنَّ السُّورَةَ هِيَ سُورَةُ بَدْرٍ كُلِّهَا ، وَكُلُّهَا مَدَنِيَّةٌ إلَّا سَبْعَ آيَاتٍ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِك الَّذِينَ كَفَرُوا } إلَى آخِرِ الْآيَاتِ السَّبْعِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ قَالَ : أَخْبَرَنِي مَالِكٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا رَمَيْت إذْ رَمَيْت وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } ، هَذَا فِي حَصْبِ رَسُولِ اللَّهِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ .
قَالَ مَالِكٌ ، وَلَمْ يَبْقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدٌ إلَّا وَقَدْ أَصَابَهُ ذَلِكَ ، وَذَكَرَ مَا قَالَتْ لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ .
وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا ، وَقَدْ رَوَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ لَمَّا اسْتَوَتْ الصُّفُوفُ وَنَزَلَ جِبْرِيلُ آخِذًا بِعِنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ .
{ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثْيَةً مِنْ الْحَصْبَاءِ ، فَاسْتَقْبَلَ بِهَا قُرَيْشًا ، فَقَالَ : شَاهَتْ الْوُجُوهُ .
ثُمَّ نَفَخَهُمْ بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ : شُدُّوا } فَكَانَتْ الْهَزِيمَةُ ، وَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ ، وَأَسَرَ مَنْ أَسَرَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ : كَانَ هَذَا يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ رَمَى أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ الْحَرْبَةَ ، فَكَسَرَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ ، فَرَجَعَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ إلَى أَصْحَابِهِ ثَقِيلًا ، فَحَفَظُوهُ حِينَ وَلَّوْا قَافِلِينَ يَقُولُونَ : لَا بَأْسَ .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ كَانَتْ بِالنَّاسِ لَقَتَلَتْهُمْ ، أَلَمْ يُقَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ .
وَقَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَصَحُّ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ بَدْرِيَّةٌ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ } .
هَذِهِ الْآيَةُ بَيَانٌ شَافٍ وَإِيضَاحٌ كَافٍ فِي أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْعَمَلِ ، وَأَنَّهُ لَا مَعْنَى لِقَوْلِ الْمُؤْمِنِ : سَمِعْت وَأَطَعْت ، مَا لَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ قَوْلِهِ بِامْتِثَالِ فِعْلِهِ ؛ فَأَمَّا إذَا قَصَّرَ فِي الْأَوَامِرِ فَلَمْ يَأْتِهَا ، وَاعْتَمَدَ النَّوَاهِيَ بِاقْتِحَامِهَا فَأَيُّ سَمْعٍ عِنْدَهُ ؟ أَوْ أَيُّ طَاعَةٍ لَهُ ؟ وَإِنَّمَا يَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُنَافِقِ الَّذِي يُظْهِرُ الْإِيمَانَ ، وَيُسِرُّ الْكُفْرَ ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّذِينَ } الْآيَةَ يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُنَافِقِينَ ، فَالْخِبْرَةُ تَكْشِفُ التَّلْبِيسَ ، وَالْفِعْلُ يُظْهِرُ كَمَائِنَ النُّفُوسِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الِاسْتِجَابَةُ : هِيَ الْإِجَابَةُ ، وَقَدْ يَكُونُ اسْتَفْعَلَ بِمَعْنَى أَفْعَلَ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَقَدْ قَالَ شَاعِرُ الْعَرَبِ : وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } لَيْسَ يُرِيدُ بِهِ حَيَاةَ الْمُشَاهَدَةِ وَالْأَجْسَامِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ حَيَاةَ الْمَعَانِي وَالْقُلُوبِ بِالْإِفْهَامِ بِدُعَائِهِ إيَّاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ ، وَالْحَقِّ وَالْجِهَادِ ، وَالطَّاعَةِ وَالْأُلْفَةِ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ لِمَا يُحْيِيكُمْ فِي الْآخِرَةِ الْحَيَاةَ الدَّائِمَةَ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا أُبَيًّا وَهُوَ يُصَلِّي ، فَلَمْ يُجِبْهُ أُبَيٌّ فَخَفَّفَ الصَّلَاةَ ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا مَنَعَك إذْ دَعَوْتُك أَنْ تُجِيبَنِي ؟ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كُنْت أُصَلِّي .
قَالَ لَهُ : أَفَلَمْ تَجِدْ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ : { اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَا أَعُودُ } .
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلْفَرْضِ أَوْ الْقَوْلَ الْفَرْضَ إذَا أُتِيَ بِهِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ لِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيٍّ بِالْإِجَابَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إجَابَةِ النَّبِيِّ وَتَقْدِيمِهَا عَلَى الصَّلَاةِ ، وَهَلْ تَبْقَى الصَّلَاةُ مَعَهَا أُمّ تَبْطُلُ ؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى .
وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَأْوِيلِ الْفِتْنَةِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْفِتْنَةُ : الْمَنَاكِيرُ ؛ نَهَى النَّاسَ أَنْ يُقِرُّوهَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَيَعُمَّهُمْ الْعَذَابُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا فِتْنَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ، كَمَا قَالَ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ .
وَقَدْ رَوَى حُذَيْفَةُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ الْفِتْنَةِ ، فَقَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ : { فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي جَارِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ يُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ } .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا الْبَلَاءُ الَّذِي يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا : أَنَّهَا فِتْنَةُ الْمَنَاكِيرِ بِالسُّكُوتِ عَلَيْهَا أَوْ التَّرَاضِي بِهَا ، وَكُلُّ ذَلِكَ مُهْلِكٌ ، وَهُوَ كَانَ دَاءَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكِرٍ فَعَلُوهُ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ } .
أَنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ .
وَثَبَتَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنُهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، إذَا كَثُرَ الْخُبْثُ } .
وَقَالَ عُمَرُ : إنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ الْعَامَّةَ بِذَنْبِ الْخَاصَّةِ ، وَلَكِنْ إذَا عَمِلَ الْمُنْكَرَ جِهَارًا اسْتَحَلُّوا الْعُقُوبَةَ كُلُّهُمْ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ قَالَ : { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا

اكْتَسَبَتْ } .
وَقَالَ : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فَقَدْ أَخْبَرَنَا رَبُّنَا أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبْتِ رَهِينَةٌ ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِذَنْبِ أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ كُلُّ عُقُوبَةٍ بِصَاحِبِ الذَّنْبِ ، بَيْدَ أَنَّ النَّاسَ إذَا تَظَاهَرُوا بِالْمُنْكَرِ فَمِنْ الْفَرْضِ عَلَى كُلِّ مَنْ رَآهُ أَنْ يُغَيِّرَهُ ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ فَكُلُّهُمْ عَاصٍ ، هَذَا بِفِعْلِهِ ، وَهَذَا بِرِضَاهُ بِهِ .
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ فِي حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ الرَّاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ ؛ فَانْتَظَمَ الذَّنْبُ بِالْعُقُوبَةِ ، وَلَمْ يَتَعَدَّ مَوْضِعَهُ ، وَهَذَا نَفِيسٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فَمَا مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ ؟ قُلْنَا : هِيَ آيَةٌ بَدِيعَةٌ ، وَمَعْنَاهَا عَلَى النَّاسِ مُرْتَبِكٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ ، وَفِي " مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " .
لُبَابُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : ( اتَّقُوا ) أَمْرٌ .
وَقَوْلُهُ : { لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا } نَهْيٌ ، وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ جَوَابَ الْأَمْرِ ، فَيَبْقَى الْأَمْرُ بِغَيْرِ جَوَابٍ ، فَيُشْكِلُ الْخِطَابُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ : { لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا } نَهْيٌ دُخُولُ النُّونِ الثَّقِيلَةِ فِيهِ ، وَهِيَ لَا تَدْخُلُ إلَّا عَلَى فِعْلِ النَّهْيِ ، أَوْ جَوَابِ الْقَسَمِ .
وَلَا تَظُنُّوا أَنَّ إشْكَالَ هَذِهِ الْآيَةِ حَدَثَ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ ؛ بَلْ هُوَ أَمْرٌ سَالِفٌ عِنْدَ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَلِذَلِكَ قَرَأَهَا قَوْمٌ : وَاتَّقُوا فِتْنَةً أَنْ تُصِيبَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً .
وَقَرَأَهَا آخَرُونَ : وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَتُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً .
وَهَكَذَا يُرْوَى فِيهَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَكَانَ يَقُولُ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا قَرَأَهَا : مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ فِتْنَةٌ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ .
وَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقُولُ : كُنَّا نَظُنُّهَا لِغَيْرِنَا فَإِذَا بِهَا قَدْ أَصَابَتْنَا .
وَكَذَلِكَ كَانَ يَرَى ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَأَمَّا

فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ فَلَا تَتَعَدَّاهُ ، وَلَا تَأْخُذُ بِالْعُقُوبَةِ سِوَاهُ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
فَأَمَّا اعْتِرَاضُهُمْ بِالْإِعْرَابِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي الرِّسَالَةِ الْمُلْجِئَةِ وَقُلْنَا : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ أَمْرٌ ثُمَّ نَهْيٌ ، كُلُّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ ، كَمَا تَقُولُ : قُمْ غَدًا .
لَا تَتَكَلَّمْ الْيَوْمَ .
الثَّانِي : الْإِعْرَابُ اتَّقُوا فِتْنَةً إنْ لَمْ تَتَّقُوهَا أَصَابَتْكُمْ .
فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ : ( اتَّقُوا فِتْنَةً ) لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ ، فَيَصِحُّ أَنْ يَتَرَكَّبَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي ، وَهُوَ جَوَابُ الطَّبَرِيِّ ، فَلَا يُشْبِهُ مَنْزِلَتَهُ فِي الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ مَجَازَهُ : لَا تُصِيبُ الَّذِينَ ظَلَمُوا ، وَلَمْ يُرِدْ كَذَلِكَ .
الثَّالِثُ : قَالَ لَنَا شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّحْوِيُّ : هَذَا نَهْيٌ فِيهِ مَعْنَى جَوَابِ الْأَمْرِ ، كَمَا يُقَالُ : لَا تَزُلْ مِنْ الدَّابَّةِ لَا تَطْرَحَنَّكَ ، وَقَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ : { اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ } .
وَهَذَا مُنْتَهَى الِاخْتِصَارِ وَقَدْ طَوَّلْنَاهُ فِي مَكَانِهِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاَللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ } وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي التَّقْوَى وَحَقِيقَتِهَا وَأَنَّهَا فَعْلَى ، مِنْ وَقَى يَقِي وِقَايَةً وَوَاقِيَةً ، أُبْدِلَتْ الْوَاوُ تَاءً لُغَةً ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَمَعْصِيَتِهِ وِقَايَةً وَحِجَابًا ، وَلَهَا فِيهِ مَحَالُّ : الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ : الْعَيْنُ : فَإِنَّهَا رَائِدُ الْقَلْبِ وَرَبِيئَتُهُ ، فَمَا تَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَرْسَلَتْهُ إلَيْهِ ، فَهُوَ يَفْصِلُ مِنْهُ الْجَائِزَ مِمَّا لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا جَلَّلْتهَا بِحِجَابِ التَّقْوَى لَمْ تُرْسِلْ إلَى الْقَلْبِ إلَّا مَا يَجُوزُ ، فَيَسْتَرِيحُ مِنْ شَغَبِ ذَلِكَ الْإِلْقَاءِ ؛ وَرُبَّمَا أَصَابَتْ هَذَا الْمَعْنَى الشُّعَرَاءُ كَقَوْلِهِمْ : وَأَنْتَ إذَا أَرْسَلْتَ طَرَفَكَ رَائِدًا لِقَلْبِك يَوْمًا أَسْلَمَتْك الْمَنَاظِرُ رَأَيْت الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ وَهَذَا وَإِنْ كَانَ أَخَذَ طَرَفًا مِنْ الْمَعْنَى ، فَإِنَّ شَيْخَنَا عَطَاءً الْمَقْدِسِيَّ شَيْخَ الْفُقَهَاءِ وَالصُّوفِيَّةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ اسْتَوْفَى الْمَعْنَى فِي بَيْتَيْنِ أَنْشَدَنَاهُمَا : إذَا لُمْت عَيْنَيَّ اللَّتَيْنِ أَضَرَّتَا بِجِسْمِي وَقَلْبِي قَالَتَا لُمْ الْقَلْبَا فَإِنْ لُمْت قَلْبِي قَالَ عَيْنَاك جَرَّتَا عَلَيَّ الرَّزَايَا ثُمَّ لِي تَجْعَلُ الذَّنْبَا وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا .
أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ؛ فَالْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ } .
الْمَحَلُّ الثَّانِي : الْأُذُنُ : وَهِيَ رَائِدٌ عَظِيمٌ فِي قَبِيلِ الْأَصْوَاتِ يُلْقِي إلَى الْقَلْبِ مِنْهَا مَا يُغَبِّيهِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْبَوَاطِلُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الْحَقَائِقِ ،

فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْخَوْضِ فِي الْبَاطِلِ أَوَّلًا ، وَيُنَزِّهَ نَفْسَهُ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِهِ ؛ وَإِذَا سَمِعَ الْقَوْلَ اتَّبَعَ أَحْسَنَهُ ، وَوَعَى أَسْلَمَهُ ، وَصَانَ عَنْ غَيْرِهِ أُذُنَهُ ، أَوْ قَذَفَهُ عَنْ قَلْبِهِ إنْ وَصَلَ إلَيْهِ .
الْمَحَلُّ الثَّالِثُ : اللِّسَانُ : وَفِيهِ نَيِّفٌ عَلَى عِشْرِينَ آفَةً وَخُصْلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ الصِّدْقُ ، وَبِهَا يَنْتَفِي عَنْهُ جَمِيعُ الْخِصَالِ الذَّمِيمَةِ ، وَعَنْ بَدَنِهِ جَمِيعُ الْأَفْعَالِ الْقَبِيحَةِ ، فَإِذَا حَجَبَهُ بِالصِّدْقِ فَقَدْ كَمُلَتْ لَهُ التَّقْوَى ، وَنَالَ الْمَرْتَبَةَ الْقُصْوَى .
الْمَحَلُّ الرَّابِعُ : الْيَدُ : وَهِيَ لِلْبَطْشِ وَالتَّنَاوُلِ ، وَفِيهَا مَعَاصٍ مِنْهَا : الْغَصْبُ ، وَالسَّرِقَةُ ، وَمُحَاوَلَةُ الزِّنَا ، وَالْإِذَايَةُ لِلْحَيَوَانِ وَالنَّاسِ ، وَحِجَابُهَا الْكَفُّ إلَّا عَمَّا أَرَادَ اللَّهُ .
الْمَحَلُّ الْخَامِسُ : الرِّجْلُ : وَهِيَ لِلْمَشْيِ إلَى مَا يَحِلُّ ، وَإِلَى مَا يَجِبُ ، وَحِجَابُهَا الْكَفُّ عَمَّا لَا يَجُوزُ .
الْمَحَلُّ السَّادِسُ : الْقَلْبُ : وَهُوَ الْبَحْرُ الْخِضَمُّ ، وَفِي الْقَلْبِ الْفَوَائِدُ الدِّينِيَّةُ ، وَالْآفَاتُ الْمُهْلِكَةُ ، وَالتَّقْوَى ، فِيهِ حِجَابٌ يَسْلُخُ الْآفَاتِ عَنْهُ ، وَشَحْنُهُ بِالنِّيَّةِ الْخَالِصَةِ ؛ وَشَرْحُهُ بِالتَّوْحِيدِ ، وَخَلْعِ الْكِبْرِ وَالْعَجَبِ بِمَعْرِفَتِهِ بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ، وَالتَّبَرِّي مِنْ الْحَسَدِ ، وَالتَّحَفُّظِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ ، بِمُرَاعَاةِ غَيْرِ اللَّهِ فِي الْأَعْمَالِ ، وَالرُّكُونِ إلَى الدُّنْيَا بِالْغَفْلَةِ عَنْ الْمَالِ .
فَإِذَا انْتَهَى الْعَبْدُ إلَى هَذَا الْمَقَامِ مَهَّدَ لَهُ قَبُولَهُ مَكَانًا ، وَرَزَقَهُ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْخَيْرِ إمْكَانًا ، وَجَعَلَ لَهُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ فُرْقَانًا ، وَهِيَ :

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي قِسْمِ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ : أَنْ يَمْتَثِلَ مَا أُمِرَ ، وَيَجْتَنِبَ كَيْفَ اسْتَطَاعَ مَا عَنْهُ نُهِيَ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ } .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ : { يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } قَالَ : مَخْرَجًا .
ثُمَّ قَرَأَ : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } إلَى : { فَهُوَ حَسْبُهُ } .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْ قَوْلِهِ : { إنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } قَالَ : يَعْنِي مَخْرَجًا .
وَقَالَ أَشْهَبُ : سَأَلْت مَالِكًا عَنْهَا فَذَكَرَ مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : يَجْعَلْ لَكُمْ فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا أَبْوَابُ الْعَمَلِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبَدَانِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِك الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك أَوْ يَقْتُلُوك أَوْ يُخْرِجُوك وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ .
وَسَبَبَ نُزُولِهَا ، وَالْمُرَادَ بِهَا مَا رُوِيَ أَنَّ قُرَيْشًا اجْتَمَعَتْ فِي دَارِ النَّدْوَةِ وَقَالَتْ : إنَّ أَمْرَ مُحَمَّدٍ قَدْ طَالَ عَلَيْنَا ، فَمَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَأَخَذُوا فِي كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْقَوْلِ ، فَقَالَ قَائِلٌ : نَرَى أَنْ يُقَيَّدَ وَيُحْبَسَ .
وَقَالَ آخَرُ : نَرَى أَنْ يُنْفَى وَيُخْرَجَ .
وَقَالَ آخَرُ : نَرَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ سَيْفًا فَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً ، فَلَا يَقْدِرُ بَنُو هَاشِمٍ عَلَى مُطَالَبَةِ الْقَبَائِلِ .
وَكَانَ الْقَائِلُ هَذَا أَبَا جَهْلٍ .
فَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ ، وَأَذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ بِأَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَيَتَسَجَّى بِبُرْدِهِ الْحَضْرَمِيِّ .
وَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ عَلَيْهِمْ ] حَتَّى وَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا بِهِ ، وَأَخَذَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ إلَى الْغَارِ ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا نَظَرُوا إلَى عَلِيٍّ فِي مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ فَاتَهُمْ ، وَوَجَدُوا التُّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، وَلَمْ يَعْلَمُوا ، تَحْتَ خِزْيٍ وَذِلَّةٍ ، فَامْتَنَّ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ بِذَلِكَ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ وَسَلَامَتِهِ مِنْ مَكْرِهِمْ بِمَا أَظْهَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ نَوْمِ عَلِيٍّ عَلَى السَّرِيرِ كَأَنَّهُ النَّبِيُّ ، وَمِنْ وَضْعِ التُّرَابِ عَلَى رُءُوسِهِمْ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَكْرٌ مِنْ فِعْلِهِ جَزَاءً عَلَى مَكْرِهِمْ ، وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَامَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِدَاءً لَهُ ، وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَ النَّبِيِّ مُؤْنِسًا لَهُ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ

لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْكَ } .
وَهَذَا تَأْمِينُ يَقِينٍ ، وَيَجِبُ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ أَنْ يَقُوا بِأَنْفُسِهِمْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنْ يَهْلِكُوا أَجْمَعِينَ فِي نَجَاتِهِ ، فَلَنْ يُؤْمِنَ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَالْخَلْقِ أَجْمَعِينَ .
وَمَنْ وَقَى مُسْلِمًا بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ .
وَذَلِكَ جَائِزٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ مُدَافَعَةِ الْمُطَالِبِ وَالصَّائِلِ عَلَى أَخِيك الْمُسْلِمِ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : ثَبَتَ عَنْ { ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ قَالَ : حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ ، فَبَكَى طَوِيلًا ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إلَى الْجِدَارِ ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ : مَا يَبْكِيك يَا أَبَتَاهُ ؟ أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَذَا أَمَا بَشَّرَك رَسُولُ اللَّهِ بِكَذَا ؟ قَالَ : فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ ، فَقَالَ : إنَّ أَفْضَلَ مَا بَعْدَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَنِّي كُنْت عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلَاثٍ : لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدُّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللَّهِ مِنِّي ، وَلَا أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَمْكَنْت مِنْهُ فَقَتَلْته ، فَلَوْ مِتُّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْت مِنْ أَهْلِ النَّارِ .
فَلَمَّا جَعَلَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْت النَّبِيَّ فَقُلْت : اُبْسُطْ يَمِينَك لِأُبَايِعَك ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ .
قَالَ : فَقَبَضْت يَدِي .
قَالَ : مَا لَك يَا عَمْرُو ؟ قَالَ : قُلْت : أَرَدْت أَنْ أَشْتَرِطَ .
قَالَ : تَشْتَرِطُ مَاذَا ؟ قُلْت : أَنْ يُغْفَرَ لِي .
قَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ، وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنَيَّ مِنْهُ ، وَمَا كُنْت أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إجْلَالًا لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْت أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْت ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ ، وَلَوْ مِتُّ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ لَرَجَوْت أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ وُلِّينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا ؛ فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ ، وَلَا نَارٌ ؛ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا التَّفِل عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا ، ثُمَّ أُقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ ،

وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ لَطِيفَةٌ مِنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مَنَّ بِهَا عَلَى الْخَلِيقَةِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقْتَحِمُونَ الْكُفْرَ وَالْجَرَائِمَ ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَعَاصِيَ ، وَيَرْتَكِبُونَ الْمَآثِمَ ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ يُوجِبُ مُؤَاخَذَتَهُمْ لَمَا اسْتَدْرَكُوا أَبَدًا تَوْبَةً ، وَلَا نَالَتْهُمْ مَغْفِرَةٌ ؛ فَيَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَبُولَ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْإِنَابَةِ ، وَبَذَلَ الْمَغْفِرَةَ بِالْإِسْلَامِ ، وَهَدَمَ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى دُخُولِهِمْ فِي الدِّينِ ، وَأَدْعَى إلَى قَبُولِهِمْ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ ، وَتَأْلِيفًا عَلَى الْمِلَّةِ ، وَتَرْغِيبًا فِي الشَّرِيعَةِ ؛ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ لَمَا أَنَابُوا وَلَا أَسْلَمُوا .
فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ { أَنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا ، سَأَلَ : هَلْ لَهُ تَوْبَةٌ ؟ فَجَاءَ عَالِمًا فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : لَا تَوْبَةَ لَك ، فَقَتَلَهُ وَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً .
ثُمَّ جَاءَ عَالِمًا آخَرَ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : وَمَنْ يَسُدُّ عَلَيْك بَابَ التَّوْبَةِ ؟ ائْتِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ .
فَمَشَى إلَيْهَا ، فَحَضَرَهُ الْأَجَلُ فِي الطَّرِيقِ ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ ؛ فَأَوْحَى اللَّهُ أَنْ قِيسُوا إلَى أَيِّ الْأَرْضَيْنِ هُوَ أَقْرَبُ ، أَرْضُهُ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَمْ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ ؟ فَأَلْفَوْهُ أَقْرَبَ إلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بِشِبْرٍ ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : فَقَاسَمُوهُ فَوَجَدُوهُ قَدْ دَنَا بِصَدْرِهِ .
} .
فَانْظُرُوا إلَى قَوْلِ الْعَالِمِ لَهُ : لَا تَوْبَةَ لَهُ .
فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ أَيْأَسَهُ قَتَلَهُ ؟ فِعْلُ الْيَائِسِ مِنْ الرَّحْمَةِ ؛ وَالتَّنْفِيرُ مَفْسَدَةٌ لِلْخَلِيقَةِ ، وَالتَّيْسِيرُ مَصْلَحَةٌ لَهُمْ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا جَاءَ إلَيْهِ رَجُلٌ لَمْ يَقْتُلْ فَسَأَلَهُ : هَلْ لِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ ؟ فَيَقُولُ لَهُ : لَا تَوْبَةَ لَهُ ؛ تَخْوِيفًا وَتَحْذِيرًا .
فَإِذَا

جَاءَهُ مَنْ قَتَلَ فَسَأَلَهُ : هَلْ لِقَاتِلٍ مِنْ تَوْبَةٍ ؟ قَالَ لَهُ : لَك تَوْبَةٌ ؛ تَيْسِيرًا وَتَأْلِيفًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : مَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاقَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَلَفَ فَأَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَذَلِكَ مَغْفُورٌ لَهُ .
فَأَمَّا مَنْ افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ، أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِلْفِرْيَةِ وَالسَّرِقَةِ ، وَلَوْ زَنَى وَأَسْلَمَ أَوْ اغْتَصَبَ مُسْلِمَةً ثُمَّ أَسْلَمَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ .
وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : إنَّمَا يَعْنِي عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ شَيْءٍ .
وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ : { إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } ، وَقَوْلِهِ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } .
وَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي التَّيْسِيرِ وَعَدَمِ التَّنْفِيرِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ ، وَقَدْ فَاتَتْهُ صَلَوَاتٌ ، وَأَصَابَ جِنَايَاتٍ ، وَأَتْلَفَ أَمْوَالًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ : يَلْزَمُهُ كُلُّ حَقٍّ لِلَّهِ وَلِلْآدَمِيِّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَا كَانَ لِلَّهِ يَسْقُطُ ، وَمَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ يَلْزَمُهُ ؛ وَقَالَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا .
وَدَلِيلُهُمْ عُمُومُ قَوْلِهِ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } .
وَقَوْلُ النَّبِيِّ : { الْإِسْلَامُ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ } .
وَهَذَا عَامٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِاَللَّهِ كُلِّهَا .
فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْكُفْرُ الْأَصْلِيُّ ، بِدَلِيلِ أَنَّ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ تَلْزَمُ الْمُرْتَدَّ ؛ فَوَجَبَ أَنْ تَلْزَمَهُ حُقُوقُ اللَّهِ .
فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ بِحُقُوقِ اللَّهِ ، وَلَا حُقُوقِ اللَّهِ بِحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فِي الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ يُسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَحَقَّ الْآدَمِيِّ يُفْتَقَرُ إلَيْهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ لَا تَجِبُ عَلَى الصَّبِيِّ ، وَتَلْزَمُهُ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ ، وَفِي ذَلِكَ تَمْهِيدٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي تَخْلِيصِ التَّلْخِيصِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .

قَوْله تَعَالَى : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدَّيْنُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْلَمُونَ بَصِيرٌ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ } .
يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ ، وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ كُفْرٌ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا يُفْتَنَ أَحَدٌ عَنْ دِينِهِ .
وَكِلَاهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِنُزُولِ عِيسَى .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : خَرَجَ عَلَيْنَا ابْنُ عُمَرَ فَرَجَوْنَا أَنْ يُحَدِّثَنَا حَدِيثًا حَسَنًا .
قَالَ : فَبَادَرَنَا إلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، حَدِّثْنَا عَنْ الْقِتَالِ فِي الْفِتْنَةِ ، وَاَللَّهُ يَقُولُ : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } .
فَقَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا الْفِتْنَةُ ؟ ثَكِلَتْك أُمُّك ، إنَّمَا كَانَ مُحَمَّدٌ يُقَاتِلُ الْمُشْرِكِينَ ، وَكَانَ الدُّخُولُ فِي دِينِهِمْ فِتْنَةً ، وَلَيْسَ بِقِتَالِكُمْ عَلَى الْمُلْكِ .

قَوْله تَعَالَى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاَللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } قَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ .
فَأَمَّا الْأَحْكَامِيُّونَ ، فَقَالُوا : إنَّ الْغَنِيمَةَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمَنْقُولَةِ ، وَالْفَيْءُ : الْأَرْضُونَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَقِيلَ : إنَّ الْغَنِيمَةَ مَا أُخِذَ عَنْوَةً .
وَالْفَيْءُ مَا أُخِذَ عَلَى صُلْحٍ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَقِيلَ : إنَّ الْفَيْءَ وَالْغَنِيمَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَصَارَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ الْفَيْءَ فِي الْقُرَى ، وَذَكَرَ الْغَنِيمَةَ مُطْلَقًا ، فَفَصَّلَ الْفَرْقَ هَكَذَا .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فَبَنَاهُ عَلَى الْعُرْفِ ، وَأَنَّ الْغَنِيمَةَ تَنْطَلِقُ فِي الْعُرْفِ عَلَى الْأَمْوَالِ الْقَهْرِيَّةِ ، وَيَنْطَلِقُ الْفَيْءُ عُرْفًا عَلَى مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ قَهْرٍ .
وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، بَلْ الْفَيْءُ عِبَارَةٌ عَنْ كُلِّ مَا صَارَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَمْوَالِ بِقَهْرٍ وَبِغَيْرِ قَهْرٍ .
وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ ، وَجَعَلَ الْأَمْوَالَ لَهُمْ لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى مَا يُرْضِيهِ ، وَرُبَّمَا صَارَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْبَاطِلِ ، فَإِذَا صَارَتْ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْحَقِّ فَقَدْ صَرَفَهَا عَنْ طَرِيقِ الْإِرَادَةِ إلَى طَرِيقِ الْأَمْرِ وَالْعِبَادَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا عَرَفْتُمْ أَنَّ الْغَنِيمَةَ هِيَ مَا أُخِذَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ فِيهَا بِحُكْمِهِ ، وَأَنْفَذَ فِيهَا سَابِقَ عِلْمِهِ ، فَجَعَلَ خُمُسَهَا لِلْخَمْسَةِ الْأَسْمَاءِ ، وَأَبْقَى سَائِرَهَا لِمَنْ غَنِمَهَا ؛ وَنَحْنُ نُسَمِّيهَا ، ثُمَّ نَعْطِفُ عَلَى الْوَاجِبِ فِيهَا فَنَقُولُ : أَمَّا سَهْمُ اللَّهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ وَسَهْمَ الرَّسُولِ وَاحِدٌ ، وَقَوْلُهُ : { لِلَّهِ } اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ ، فَلِلَّهِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَالْخَلْقُ أَجْمَعُ .
الثَّانِي : رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ الرِّيَاحِيِّ قَالَ : { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤْتَى بِالْغَنِيمَةِ فَيَقْسِمُهَا عَلَى خَمْسَةٍ ، يَكُونُ أَرْبَعُ أَخْمَاسِهَا لِمَنْ شَهِدَهَا ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْخُمُسَ فَيَضْرِبُ بِيَدِهِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ الَّذِي قَبَضَ كَفَّهُ فَيَجْعَلُهُ لِلْكَعْبَةِ ، وَهُوَ سَهْمُ اللَّهِ ثُمَّ يُقَسِّمُ مَا بَقِيَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ } .
وَأَمَّا سَهْمُ الرَّسُولِ فَقِيلَ : هُوَ اسْتِفْتَاحُ كَلَامٍ ، مِثْلُ قَوْلِهِ : لِلَّهِ ، لَيْسَ لِلَّهِ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا لِلرَّسُولِ ، وَيُقَسِّمُ الْخُمُسَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِبَنِي هَاشِمٍ ، وَلِبَنِي الْمُطَّلِبِ سَهْمٌ ، وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ ، وَالْمَسَاكِينِ سَهْمٌ [ وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ ] ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَقِيلَ : هُوَ لِلرَّسُولِ ، فَفِي كَيْفِيَّةِ كَوْنِهِ لَهُ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : فَقِيلَ : لِقَرَابَتِهِ إرْثًا ، وَقِيلَ : لِلْخَلِيفَةِ بَعْدَهُ ، وَقِيلَ : هُوَ يَلْحَقُ بِالْأَسْهُمِ الْأَرْبَعِ ، وَقِيلَ : هُوَ مَصْرُوفٌ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ، وَقِيلَ : إنَّهُ مَصْرُوفٌ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
وَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقِيلَ : هُمْ قُرَيْشٌ ، وَقِيلَ : بَنُو هَاشِمٍ [ وَقِيلَ بَنُو هَاشِمٍ ] وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ .
وَقِيلَ : ذَهَبَ ذَلِكَ بِمَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَكُونُ لِقَرَابَةِ الْإِمَامِ بَعْدَهُ .
وَقِيلَ : هُوَ لِلْإِمَامِ يَضَعُهُ

حَيْثُ يَشَاءُ .
وَأَمَّا سَهْمُ الْيَتَامَى فَإِنَّ الْيَتِيمَ مَنْ فِيهِ ثَلَاثَةٌ أَوْصَافٍ : مَوْتُ الْأَبِ ، وَعَدَمُ الْبُلُوغِ ، وَوُجُودُ الْإِسْلَامِ أَصْلًا فِيهِ أَوْ تَبَعًا لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ ، وَحَاجَتُهُ إلَى الرَّفْدِ .
وَأَمَّا الْمِسْكِينُ فَهُوَ الْمُحْتَاجُ .
وَأَمَّا ابْنُ السَّبِيلِ فَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُهُ الطَّرِيقُ مُحْتَاجًا ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : أَمَّا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ فَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ فِي الْمَرْتَبَةِ الْعَالِيَةِ ؛ فَإِنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا لِلَّهِ مِلْكًا وَخَلْقًا ، وَهِيَ لِعِبَادِهِ رِزْقًا وَقِسْمًا .
وَأَمَّا الرَّسُولُ فَهُوَ مِمَّنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ وَمَلَّكَهُ .
وَلَكِنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ } .
وَهَذَا يُعَضِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَرْجِعُ فِي مَصَالِحِ الْعَامَّةِ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَرْجِعُ لِقَرَابَتِهِ إرْثًا فَإِنَّهُ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، فَإِنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَرْسَلَتْ تَطْلُبُ مِيرَاثَهَا مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ لَهَا : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { نَحْنُ لَا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ ، وَسَائِرُ الْأَقْوَالِ دَعَاوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا .
أَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَأَصَحُّهَا أَنَّهُمْ بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطَّلِبِ ، وَسَائِرُ الْأَقْسَامِ صَحِيحَةٌ فِي الْأَقْوَالِ وَالتَّوْجِيهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبَ ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْفَيْءَ وَالْخُمُسَ يُجْعَلَانِ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَيُعْطِي الْإِمَامُ قَرَابَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمَا .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : أَنَّ الْفَيْءَ وَالْخُمُسَ وَاحِدٌ .

وَرَوَى دَاوُد بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّ الْقَرَابَةَ لَا لِلسَّلْمِ مِنْهُ إلَّا بِالْفَقْرِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ مَالِكٌ : وَبِهِ أَقُولُ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُعْطِي الْقَرَابَةَ إلَّا أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ : فَزَادَ الْفَقْرَ عَلَى النَّصِّ ، وَالزِّيَادَةُ عِنْدَهُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ، وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ .
فَأَمَّا مَالِكٌ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ ذَلِكَ جُعِلَ لَهُمْ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَوْلُهُ : { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ كُلُّهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً قِبَلَ نَجْدٍ ، فَأَصَابُوا فِي سُهْمَانِهِمْ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا ، وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا } .
وَثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ : { لَوْ كَانَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا وَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ } .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ سَبْيَ هَوَازِنَ وَفِيهِ الْخُمُسُ .
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : { آثَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أُنَاسًا فِي الْغَنِيمَةِ ، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ ، فَقَالَ رَجُلٌ : وَاَللَّهِ إنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا ، أَوْ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ .
فَقُلْت : وَاَللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَخْبَرْته ، فَقَالَ : يَرْحَمُ اللَّهُ أَخِي مُوسَى ، لَقَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ } .
وَفِي الصَّحِيحِ : { إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ ، بُعِثْت أَنْ أَقْسِمَ بَيْنَكُمْ فَاَللَّهُ حَاكِمٌ ، وَالنَّبِيُّ قَاسِمٌ ، وَالْحَقُّ لِلْخَلْقِ } .

وَصَحَّ عَنْ { عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ لِي شَارِفٌ مِنْ نَصِيبِي يَوْمَ بَدْرٍ ، وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ شَارِفًا مِنْ الْخُمُسِ } .
وَرَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ ، عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ : { اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَا : وَاَللَّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْنِ فَقَالَا لِي ، وَلِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ : اذْهَبَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ فَكَلِّمَاهُ يُؤَمِّنْكُمَا عَلَى هَذِهِ الصَّدَقَةِ ، فَأَدِّيَا مَا يُؤَدِّي النَّاسُ ، بِشِرَاءٍ مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ ، فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ إذْ دَخَلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا ، فَذَكَرَا ذَلِكَ لَهُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ : لَا تَفْعَلَا ، فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ .
فَابْتَدَأَهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا هَذَا إلَّا نَفَاسَةٌ مِنْك عَلَيْنَا ، فَوَاَللَّهِ لَقَدْ نِلْت صِهْرَ رَسُولِ اللَّهِ فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْك .
فَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَبُو حَسَنِ الْقَوْمِ أَرْسِلُوهُمَا ، فَانْطَلَقَا ، وَاضْطَجَعَ عَلِيٌّ ، فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ سَبَقْنَاهُ إلَى الْحُجْرَةِ ، فَقُمْنَا عِنْدَهَا حَتَّى جَاءَ ، فَأَخَذَ بِآذَانِنَا ، ثُمَّ قَالَ : أَخْرِجَا مَا تُصَرِّرَانِ ثُمَّ دَخَلَ ، وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ قَالَ : فَتَزَايَلْنَا الْكَلَامَ ، ثُمَّ تَكَلَّمَ أَحَدُنَا ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَنْتَ أَبَرُّ النَّاسِ بِشِرَاءِ النَّاسِ ، وَقَدْ بَلَغْنَا النِّكَاحَ ، فَجِئْنَاك لِتُؤَمِّرَنَا عَلَى بَعْضِ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ ، فَنُؤَدِّيَ إلَيْك مَا يُؤَدِّي النَّاسُ ، وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ .
قَالَ : فَسَكَتَ طَوِيلًا حَتَّى أَرَدْنَا أَنْ نُكَلِّمَهُ .
قَالَ : وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ يُزَالُ إلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَلَّا تَكَلَّمَاهُ .
ثُمَّ قَالَ : إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ ؛ إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ، اُدْعُوَا لِي مَحْمِيَّةَ وَكَانَ عَلَى الْخُمُسِ ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
قَالَ :

فَجَاءَاهُ .
فَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ : أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ ابْنَتَك لِلْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي لِي ، فَأَنْكَحَهُ .
وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ : أَنْكِحْ هَذَا الْغُلَامَ بِنْتَك يَعْنِي لِي ، فَأَنْكَحَنِي .
وَقَالَ لِمَحْمِيَّةَ : أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنْ مَالِ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا .
} وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُمَا : { إنَّ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ، وَلَكِنْ اُنْظُرُوا إذَا أَخَذْت بِحَلْقَةِ الْجَنَّةِ ، هَلْ أُوثِرُ عَلَيْكُمْ أَحَدًا ؟ } وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : خُمُسُ الْخُمُسِ لِلرَّسُولِ ، وَالْأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ مِنْ الْخُمُسِ لِلْأَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ الْمُسَمَّيْنَ مَعَهُ ، وَلَهُ سَهْمٌ كَسَائِرِ سِهَامِ الْغَانِمِينَ إذَا حَضَرَ الْغَنِيمَةَ ، وَلَهُ سَهْمُ الصَّفِيِّ يَصْطَفِي سَيْفًا أَوْ خَادِمًا أَوْ دَابَّةً .
فَأَمَّا سَهْمُ الْقِتَالِ فَبِكَوْنِهِ أَشْرَفَ الْمُقَاتِلِينَ ، وَأَمَّا سَهْمُ الصَّفِيِّ فَمَنْصُوصٌ لَهُ فِي السِّيَرِ ، مِنْهُ ذُو الْفُقَّارِ ، وَصَفِيَّةُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ .
وَأَمَّا خُمُسُ الْخُمُسِ فَبِحَقِّ التَّقْسِيمِ فِي الْآيَةِ .
قَالَ الْإِمَامُ الْفَاضِلُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ بَيَّنَّا الرَّدَّ عَلَيْهِ ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا ذَكَرَ نَفْسَهُ تَشْرِيفًا لِهَذَا الْمُكْتَسَبِ ، وَأَمَّا رَسُولُهُ فَقَدْ قَالَ : { إنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ ، وَاَللَّهُ الْمُعْطِي } .
وَقَالَ : { مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ } وَقَدْ أَعْطَى جَمِيعَهُ وَبَعْضَهُ ، وَأَعْطَى مِنْهُ لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، وَلَيْسُوا مِمَّنْ ذَكَرَ اللَّهُ فِي التَّقْسِيمِ ، وَرَدَّهُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ بِأَعْيَانِهِمْ تَارَةً أُخْرَى ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ هَذِهِ الْأَقْسَامِ بَيَانُ مَصْرِفٍ وَمَحَلٍّ ، لَا بَيَانُ اسْتِحْقَاقٍ وَمِلْكٍ ؛ وَهَذَا مَا لَا جَوَابَ عَنْهُ لِمُنْصِفٍ .
وَأَمَّا الصَّفِيُّ فَحَقٌّ فِي حَيَاتِهِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ ، فَإِنَّهُ رَآهُ بَاقِيًا لِلْإِمَامِ ، فَجَعَلَهُ مَجْعَلَ سَهْمِ النَّبِيِّ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛

وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَرَوْنَ لِلرَّئِيسِ فِي الْغَنِيمَةِ مَا قَالَ الشَّاعِرُ : لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا وَحُكْمُك وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُضُولُ فَكَانَ يَأْخُذُ بِغَيْرِ شَرْعٍ وَلَا دِينٍ الرُّبُعَ مِنْ الْغَنِيمَةِ ؛ وَيَصْطَفِي مِنْهَا ، ثُمَّ يَتَحَكَّمُ بَعْدَ الصَّفِيِّ فِي أَيِّ شَيْءٍ أَرَادَ ، وَكَانَ مَا شَذَّ مِنْهَا لَهُ ، وَمَا فَضَلَ مِنْ خُرْثِيٍّ وَمَتَاعٍ ؛ فَأَحْكَمَ اللَّهُ الدَّيْنَ بِقَوْلِهِ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } وَأَبْقَى سَهْمَ الصَّفِيِّ لِرَسُولِهِ ، وَأَسْقَطَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا أَوْ أَوْسَعُ مِنْهُ عِلْمًا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : ادَّعَى الْمُقَصِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ خُمُسَ الْخُمُسِ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهُ : فِي كِفَايَةِ أَوْلَادِهِ وَنِسَائِهِ ، وَيَدَّخِرُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَ سَنَتِهِ ، وَيَصْرِفُ الْبَاقِيَ إلَى الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ؛ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَى أَنَّ الْخُمُسَ كُلَّهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ } .
الثَّانِي : مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيح عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ : قَالَ : بَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عِنْدَ عُمَرَ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ ، فَقَالَ : هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرِ ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ يَسْتَأْذِنُونَ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
فَأَذِنَ لَهُمْ ، فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا ، ثُمَّ جَلَسَ يَرْفَأُ يَسِيرًا ، ثُمَّ قَالَ : هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلَا فَسَلَّمَا وَجَلَسَا ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا ، وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِيمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ .
فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ : يَا أَمِيرَ =

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق