الجمعة، 5 مايو 2023

ج17.وج18.كتاب : أحكام القرآن المؤلف:ابن العربي

ج17.وج18.
أولا /ج17. كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي

يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لَطِيفٍ يُؤَرِّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ } : الْعَوْرَةُ كُلُّ شَيْءٍ لَا مَانِعَ دُونَهُ .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أَيْ سَهْلَةُ الْمَدْخَلِ ، لَا مَانِعَ دُونَهَا ، فَبَيَّنَ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْإِذْنِ ، وَهِيَ الْخَلْوَةُ فِي حَالِ الْعَوْرَةِ ، فَتَعَيَّنَ امْتِثَالُهُ ، وَتَعَذَّرَ نَسْخُهُ ، ثُمَّ رُفِعَ الْجُنَاحُ بَعْدَهُنَّ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ الْمَيْلُ بِالْعِتَابِ أَوْ الْعِقَابِ عَلَى الْفَاعِلِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الْأَصْلِيَّةَ وَالْحَالَةَ الْأَهْلِيَّةَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ } : أَيْ مُتَرَدِّدُونَ عَلَيْكُمْ فِي الْخِدْمَةِ ، وَمَا لَا غِنَى بِكُمْ عَنْهُ مِنْهُمْ ؛ فَسَقَطَ الْحَرَجُ عَنْ ذَلِكَ ، وَزَالَ الْمَانِعُ ، { كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ حِينَ أَصْغَى لَهَا الْإِنَاءَ : إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ أَوْ الطَّوَّافَاتِ } .
وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِحُكْمِ سُؤْرِهَا فِي مُبَاشَرَتِهَا النَّجَاسَةَ وَحَمْلِهَا أَبَدًا عَلَى الطَّهَارَةِ ، إلَّا أَنْ يَرَى فِي فَمِهَا أَذًى .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَقَوْلُهُ : { بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ } يُرِيدُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْمُخَالَطَةِ وَالْمُلَابَسَةِ ؛ فَلِذَلِكَ سَقَطَ الِاسْتِئْذَانُ لَهُمْ عَلَيْكُمْ ، وَلَكُمْ عَلَيْهِمْ ، كَمَا ارْتَفَعَ الْجُنَاحُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ ، مِنْهُمْ لَكُمْ ، وَمِنْكُمْ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ } الْمَعْنَى يُبَيِّنُ اللَّهُ الْآيَاتِ الدَّالَّهَ عَلَى الْمُعْجِزَةِ وَالتَّوْحِيدِ ، كَمَا يُبَيِّنُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْأَحْكَامِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ مَا يَدُلُّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ بِأَوْضَحِ بَيَانٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : لَا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ الرَّجُلُ مَعَ أَهْلِهِ وَفَخِذُهُ مُنْكَشِفَةٌ وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ { وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَنَّهُ قَالَ : جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَنَا وَفَخِذِي مُنْكَشِفَةٌ ، فَقَالَ : خَمِّرْ عَلَيْك ، أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ ، وَقَدْ غَطَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دُخُولِ عُثْمَانَ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُنْكَشِفَةً مِنْ جِهَتِهِ الَّتِي جَلَسَ مِنْهَا } .
وَمِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : { إذَا زَوَّجَ أَحَدُكُمْ عَبْدَهُ أَوْ أَجِيرَهُ فَلَا يَنْظُرْ إلَى مَا دُونَ السُّرَّةِ وَفَوْقَ الرُّكْبَةِ فَإِنَّهُ عَوْرَةٌ } .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : إنَّمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَرْهَدًا لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَرِيضًا ، وَلَيْسَ الْفَخِذُ عَوْرَةً .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ قَوْلَهُ : { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } ، فَكَانَ الطِّفْلُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ الْحُجْبَةِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى إذَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَوْرَةِ ؛ ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ الطِّفْلَ إذَا ظَهَرَ عَلَى الْعَوْرَةِ ، وَهُوَ بِالْبُلُوغِ ، يَسْتَأْذِنُ ، وَقَدْ كَانَ قَوْلُهُ : { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ } كَافِيًا لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى طِفْلٌ بِصِفَتِهِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ ، وَيَبْقَى غَيْرُهُ عَلَى الْحَجْرِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ زِيَادَةَ بَيَانٍ ؛ لِإِبَانَةِ اللَّهِ فِي أَحْكَامِهِ وَإِيضَاحِ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { الْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ } : جَمْعُ قَاعِدٍ بِغَيْرِ هَاءٍ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَاعِدَةِ مِنْ الْجُلُوسِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ .
وَهُنَّ اللَّوَاتِي قَعَدْنَ عَنْ الْحَيْضِ وَعَنْ الْوَلَدِ ، فَلَيْسَ فِيهِنَّ رَغْبَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِنَّ الْقَلْبُ فِي نِكَاحٍ ، وَيَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِنَّ بِخِلَافِ الشَّبَابِ مِنْهُنَّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : جِلْبَابَهُنَّ ؛ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ يَعْنِي بِهِ الرِّدَاءَ أَوْ الْمِقْنَعَةَ الَّتِي فَوْقَ الْخِمَارِ تَضَعُهُ عَنْهَا إذَا سَتَرَهَا مَا بَعْدَهُ مِنْ الثِّيَابِ .
وَالثَّانِي : تَضَعُ خِمَارَهَا ، وَذَلِكَ فِي بَيْتِهَا ، وَمِنْ وَرَاءِ سِتْرِهَا مِنْ ثَوْبِ أَوْ جِدَارٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ يَعْنِي وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : غَيْرُ مُظْهِرَاتٍ لِمَا يُتَطَلَّعُ إلَيْهِ مِنْهُنَّ ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ بِالتَّزْيِينِ لِلنَّظَرِ إلَيْهِنَّ ، وَإِنْ كُنَّ لَيْسَ بِمَحَلِّ ذَلِكَ مِنْهُنَّ ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْقَوَاعِدَ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِنَّ لِانْصِرَافِ النُّفُوسِ عَنْهُنَّ ، وَلَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ بِالتَّسَتُّرِ الْكَامِلِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ الْمُبَاحِ لَهُنَّ مِنْ وَضْعِ الثِّيَابِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مِنْ التَّبَرُّجِ أَنْ تَلْبَسَ الْمَرْأَةُ ثَوْبًا رَقِيقًا يَصِفُهَا ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { رُبَّ نِسَاءٍ كَاسِيَاتٍ عَارِيَّاتٍ ، مَائِلَاتٍ مُمِيلَاتٍ ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ ، وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا } .
وَإِنَّمَا جَعَلَهُنَّ كَاسِيَاتٍ ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ عَلَيْهِنَّ ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُنَّ بِعَارِيَّاتٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ إذَا رَقَّ يَكْشِفُهُنَّ ؛ وَذَلِكَ حَرَامٌ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ إذَا دُعُوا إلَى طَعَامٍ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ هَؤُلَاءِ مِنْ طَعَامٍ وَاحِدٍ ، وَيَقُولُونَ : الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ طَيِّبَ الطَّعَامِ ، وَالْأَعْرَجُ لَا يَسْتَطِيعُ الزِّحَامَ عِنْدَ الطَّعَامِ ، وَالْمَرِيضُ يَضْعُفُ عَنْ مُشَارَكَةِ الصَّحِيحِ فِي الطَّعَامِ ، وَكَانُوا يَعْزِلُونَ طَعَامَهُمْ مُفْرَدًا ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ أَفْضَلُ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ ، وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ فِي مُؤَاكَلَتِهِمْ ؛ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّ أَهْلَ الزَّمَانَةِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ عَلَيْهِمْ حَرَجٌ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ بَعْدَ هَذَا مِنْ أَهَالِيِهِمْ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أُنَاسٍ كَانُوا إذَا خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنُونَ فِي الْجِهَادِ وَضَعُوا مَفَاتِيحَ بُيُوتِهِمْ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلَّةِ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : عِنْدَ الْأَعْمَى ، وَالْأَعْرَجِ ، وَالْمَرِيضِ ، وَعِنْدَ أَقَارِبِهِمْ ، وَكَانُوا يَأْمُرُونَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ

بُيُوتِهِمْ إذَا احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ ، فَكَانُوا يَتَّقُونَهُ وَيَقُولُونَ : نَخْشَى أَلَّا تَكُونَ نُفُوسُهُمْ بِذَلِكَ طَيِّبَةً ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ يَحِلُّهُ لَهُمْ .
الرَّابِعُ : أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَلْحَةَ رَوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ } .
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : إنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ ، وَالطَّعَامُ هُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَمْوَالِ ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ ، فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ إلَى قَوْلِهِ { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ .
الْخَامِسُ : مَنْ دُعِيَ إلَى وَلِيمَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الزَّمْنَى فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ قَائِدُهُ .
السَّادِسُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ حِينَ كَانَتْ الْبُيُوتُ لَا أَبْوَابَ لَهَا وَالسُّتُورُ مُرْخَاةٌ ، وَالْبَيْتُ يُدْخَلُ ، فَرُبَّمَا لَمْ يُوجَدْ فِيهِ أَحَدٌ ، وَالْبُيُوتُ الْيَوْمَ فِيهَا أَهْلُهَا ، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوهَا .
السَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي جَوَازِ مُبَايَعَةِ الزَّمْنَى ، وَمُعَامَلَتِهِمْ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ .
الثَّامِنُ : قَالَ الْحَسَنُ : قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ } : نَفْيٌ لِوُجُوبِ الْجِهَادِ عَلَيْهِمْ .
وقَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ خُوطِبَ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } يَعْنِي وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ ، وَلَكِنْ لَمَّا اجْتَمَعَ مُخَاطَبٌ وَغَيْرُ مُخَاطَبٍ غَلَبَ الْمُخَاطَبُ لِيَنْتَظِمَ الْكَلَامُ .
وَكَانَ الْمَعْنَى يُرَادُ بِهِ جَمِيعُ مَنْ ذُكِرَ : مِنْ الْأَعْمَى ، وَالْأَعْرَجِ ، وَالْمَرِيضِ ، وَأَصْحَابِ الْبُيُوتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ بُيُوتِكُمْ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ : الْأَوَّلُ : يَعْنِي مِنْ أَمْوَالِ عِيَالِكُمْ وَأَزْوَاجِكُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي بَيْتِهِ .
الثَّانِي : مِنْ بُيُوتِ أَوْلَادِكُمْ ، وَنُسِبَتْ أَوْلَادُهُمْ إلَيْهِمْ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
وَلِذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ بُيُوتَ الْأَبْنَاءِ حِينَ ذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ وَالْأَقَارِبِ ، لِدُخُولِهِمْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَنْفُسِ ، كَمَا قَرَّرْنَاهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبُيُوتُ الَّتِي أَهْلُوهَا وَسَاكِنُوهَا خَدَمَةٌ لِأَصْحَابِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ } فَأَبَاحَ الْأَكْلَ لِهَؤُلَاءِ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فِي الْأَكْلِ إذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا .
فَإِنْ كَانَ مُحْرَزًا دُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَخْذُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجَاوِزُوا إلَى الِادِّخَارِ ، وَلَا إلَى مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ عَنْهُمْ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ ، وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ عَنَى بِهِ وَكِيلَ الرَّجُلِ عَلَى ضَيْعَتِهِ ، وَخَازِنَهُ عَلَى مَالِهِ ؛ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا هُوَ قَيِّمٌ عَلَيْهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَنْزِلَ الرَّجُلِ نَفْسِهِ ، يَأْكُلُ مِمَّا ادَّخَرَهُ فِيهِ ، وَهَذَا

قَوْلُ قَتَادَةَ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَنَى بِهِ أَكْلَ السَّيِّدِ مِنْ مَنْزِلِ عَبْدِهِ وَمَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ ؛ حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بَيْتِ صَدِيقِهِ فِي وَلِيمَةٍ أَوْ غَيْرِهَا إذَا كَانَ الطَّعَامُ حَاضِرًا غَيْرَ مُحْرَزٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
وَالْأَصْدِقَاءُ أَكْثَرُ مِنْ الْآبَاءِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَنَّمِيِّينَ لَمْ يَسْتَغِيثُوا بِالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَإِنَّمَا قَالُوا : { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَنْقِيحِ مَعَانِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَسَائِلِ السَّبْعَةِ : وَذَلِكَ يَكُونُ بِنَظْمِ التَّأْوِيلِ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى سَرْدٍ ، فَيَتَبَيَّنُ الْمَعْنَى الْمُسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِهِ .
أَمَّا إنْ قُلْنَا بِقَوْلِ الْحَسَنِ مِنْ أَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ الزَّمْنَى مَقْطُوعٌ عَمَّا قَبْلَهُ ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ : إنَّ الْأَنْصَارَ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا مَعَهُمْ ، فَلَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَكَانَ الْمَعْنَى : لَيْسَ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَعَ هَؤُلَاءِ حَرَجٌ ، فَأَمَّا أَنْ يَتَحَرَّجَ غَيْرُهُمْ مِنْهُمْ ، وَيَنْفِي الْحَرَجَ عَنْهُمْ فَهُوَ قَلْبٌ لِلْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ قُلْ وَلَا رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ فِي نَقْلٍ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَنْتَظِمُ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ الْحَرَجِ عَنْ أَصْحَابِ الزَّمَانَةِ وَعَمَّنْ سِوَاهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ سَمَّى اللَّهُ فَهُوَ كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ ، وَلَكِنْ بَقِيَ وَجْهُ الْفَائِدَةِ فِي تَخْصِيصِ أَهْلِ الزَّمَانَةِ بِالذِّكْرِ ، مَعَ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا } يَكْفِي فِي تَخْصِيصِهِمْ ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ أَنَّهُ بَدَأَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّهُمْ بِضَرَارَتِهِمْ أَحَقُّ مِنْ الْأَصِحَّاءِ بِالْمُوَاسَاةِ وَالْمُشَارَكَةِ .

وَأَمَّا رِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَهُوَ أَيْضًا كَلَامٌ مُنْتَظِمٌ ، لِأَجْلِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْهُمْ فِي الْجِهَادِ ، وَبَقَاءِ أَمْوَالِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ ، لَكِنْ قَوْلُهُ : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ } قَدْ اقْتَضَاهُ وَأَفَادَهُ ، فَأَيُّ مَعْنَى لِتَكْرَارِهِ ، فَكَأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ بَعِيدٌ جِدًّا .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } فَيَنْتَظِمُ مَعْنًى ، لَكِنْ ذِكْرُ الزَّمَانَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِهِ وَلَا مُنْتَظِمٍ مَعَهُ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْخَامِسُ فِي أَكْلِ الْأَصِحَّاءِ مَعَ الزَّمْنَى فَذَلِكَ مَدْخُولٌ بِمَا دَخَلَ بِهِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ ، مِنْ أَنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ فِي نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ النَّاسِ فِي الزَّمْنَى عَنْ الزَّمْنَى فِيهِمْ .
وَأَمَّا السَّادِسُ فَحَسَنٌ جِدًّا ، وَكَذَلِكَ السَّابِعُ مِثْلُهُ لَوْ عَضَّدَتْهُ صِحَّةُ النَّقْلِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فِي الْمُخْتَارِ : وَذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ الْبَصَرُ ، وَعَنْ الْأَعْرَجِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ بِهِ الْمَشْيُ ، وَمَا يَتَعَذَّرُ مِنْ الْأَفْعَالِ مَعَ وُجُودِ الْحَرَجِ ، وَعَنْ الْمَرِيضِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُؤَثِّرُ الْمَرَضُ فِي إسْقَاطِهِ كَالصَّوْمِ ، وَشُرُوطِ الصَّلَاةِ ، وَأَرْكَانِهَا ، وَالْجِهَادِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ مُبَيِّنًا : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ فَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ ، وَتَفْسِيرٌ مُفِيدٌ ، لَا يُفْتَقَرُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ إلَى نَقْلٍ ، وَيُعَضِّدُهُ الشَّرْعُ وَالْعَقْلُ ؛ فَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ مَالِ الْأَزْوَاجِ فَذَلِكَ جَائِزٌ لِلزَّوْجَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَحْجُوبٍ عَنْهَا ، وَلَا مُحْرَزٍ مِنْهَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا أَنْفَقَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ ، وَلِلزَّوْجِ مِثْلُ ذَلِكَ } .
وَأَمَّا مَا كَانَ مُحْرَزًا

عَنْهَا فَلَا سَبِيلَ لَهَا إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ زَوْجِهِ غَيْرَ مُفْسِدٍ ، لَكِنْ الزَّوْجَةُ أَبْسَطُ ، لِمَا لَهَا مِنْ حَقِّ النَّفَقَةِ ، وَلِمَا يَلْزَمُهَا مِنْ خِدْمَةِ الْمَنْفَعَةِ .
وَأَمَّا بَيْتُ الِابْنِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ كَبَيْتِ الْمَرْءِ نَفْسِهِ ، لَكِنْ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا كَانَ غَيْرَ مُحْرَزٍ ، فَلَا يَتَبَسَّطُ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ فِي هَتْكِ حِرْزٍ وَأَخْذِ مَالٍ ؛ وَإِنَّمَا يَأْكُلُهُ مُسْتَرْسِلًا فِيمَا لَمْ يَقَعْ فِيهِ حِيَازَةٌ ، وَلَكِنْ بِالْمَعْرُوفِ دُونَ فَسَادٍ وَلَا اسْتِغْنَامٍ وَأَمَّا بَيْتُ الْأَبِ لِلِابْنِ فَمِثْلُهُ ، وَلَكِنْ تَبَسُّطُ الِابْنِ أَقَلُّ مِنْ تَبَسُّطِ الْأَبِ ، كَمَا كَانَ تَبَسُّطُ الزَّوْجِ أَقَلَّ مِنْ تَبَسُّطِ الزَّوْجَةِ .
وَأَمَّا بُيُوتُ سَائِرِ الْقَرَابَةِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْآيَةِ فَلَا يَلْحَقُ بِذَلِكَ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ .
وَأَمَّا بَيْتٌ مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ فَهُوَ الْوَكِيلُ قَالَ النَّبِيُّ : { الْخَازِنُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبَةً بِهِ نَفْسُهُ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقِينَ } .
وَلَا بُدَّ لِلْخَازِنِ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِمَّا يَخْزُنُ إجْمَاعًا ، وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ أُجْرَةٌ ، فَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى الْخَزْنِ حَرُمَ الْأَكْلُ .
وَأَمَّا مَالُ الْعَبْدِ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ : ( بُيُوتِكُمْ ) لِأَنَّ الْعَبْدَ وَمَالَهُ مِلْكٌ لِلسَّيِّدِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ مَنْزِلُ الرَّجُلِ نَفْسِهِ فَخَطَأٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ : ( بُيُوتِكُمْ ) ، كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ بَيْتَ الِابْنِ يَدْخُلُ فِيهِ ؛ فَبَيْتُ الْعَبْدِ أَوْلَى وَأَحْرَى بِإِجْمَاعٍ .
وَأَمَّا بَيْتُ الصَّدِيقِ ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحْكَمَتْ الْأُخُوَّةُ جَرَى التَّبَسُّطُ عَادَةً ، وَفِي الْمَثَلِ : أَيُّهُمْ أَحَبُّ إلَيْك أَخُوكَ أَمْ صَدِيقُكَ ؟ قَالَ : أَخِي إذَا كَانَ صَدِيقِي .
قَالَ لَنَا الْإِمَامُ الْعَادِلُ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ طَوْقٍ قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ إمَامُ الصُّوفِيَّةِ فِي وَقْتِهِ : عَزِيزٌ مِنْ يَصْدُقُ فِي الصَّدَاقَةِ ،

فَيَكُونُ فِي الْبَاطِنِ كَمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهِ كَالْمِرْآةِ وَمِنْ وَرَائِك كَالْمِقْرَاضِ ، وَفِي مَعْنَاهُ مَا قُلْت : مَنْ لِي بِمَنْ يَثِقُ الْفُؤَادُ بِوُدِّهِ وَإِذَا تَرَحَّلَ لَمْ يَزِغْ عَنْ عَهْدِهِ يَا بُؤْسَ نَفْسِي مِنْ أَخٍ لِي بَاذِلٍ حُسْنَ الْوَفَاءِ بِقُرْبِهِ لَا بُعْدِهِ يُولِي الصَّفَاءَ بِنُطْقِهِ لَا خُلْقِهِ وَيَدُسُّ صَابًا فِي حَلَاوَةِ شَهْدِهِ فَلِسَانُهُ يُبْدِي جَوَاهِرَ عِقْدِهِ وَجَنَانُهُ تُغْلِي مَرَاجِلَ حِقْدِهِ لَاهُمَّ إنِّي لَا أُطِيقُ فِرَاسَةً بِك أَسْتَعِيذُ مِنْ الْحَسُودِ وَكَيْدِهِ

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فِي تَمَامِ الْمَعْنَى فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي بَنِي كِنَانَةَ ؛ كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ ، حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيُقِيمُ عَلَى الْجُوعِ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ ، وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ مَوْرُوثَةً [ عِنْدَهُمْ ] عَنْ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَأْكُلُ إلَّا مَعَ غَيْرِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ كَانُوا إذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا عَنْ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ حَتَّى يَأْكُلُوا مَعَهُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ : آكُلُ وَحْدِي .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُسَافِرِينَ يَخْلِطُونَ أَزْوِدَتَهُمْ ، فَلَا يَأْكُلُ حَتَّى يَأْتِيَ الْآخَرُ ، فَأُبِيحَ ذَلِكَ لَهُمْ .
وَهَذَا الْقَوْلُ تَضَمَّنَ جَمِيعَ ذَلِكَ ، فَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مَعَ الْآخَرِ ، وَلِلْجَمَاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْلُهُمْ لَا يَنْضَبِطُ ، فَقَدْ يَأْكُلُ الرَّجُلُ قَلِيلًا وَالْآخَرُ كَثِيرًا ، وَقَدْ يَأْكُلُ الْبَصِيرُ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْكُلُ الْأَعْمَى ، فَنَفَى اللَّهُ الْحَرَجَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَبَاحَ لِلْجَمِيعِ الِاشْتِرَاكَ فِي الْأَكْلِ عَلَى الْمَعْهُودِ ، مَا لَمْ يَكُنْ قَصْدًا إلَى الزِّيَادَةِ ، عَلَى مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ إلَّا أَنْ يَسْتَأْذِنَ الرَّجُلُ أَخَاهُ } .
وَهَذَا هُوَ النِّهْدُ الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْقَوْمُ ، وَسَوَاءٌ كَانَ مُشْتَرًى مِنْهُمْ ، أَوْ كَانَ بِخَلْطِهِمْ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ طَعَامَ ضِيَافَةٍ أَوْ وَلِيمَةٍ فَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَأْكُلُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ ؛ لَا سِيَّمَا وَنَحْنُ نَقُولُ : إنَّ طَعَامَ الضِّيَافَةِ وَالْوَلِيمَةِ يَأْكُلُهُ الْحَاضِرُونَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ

عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ التَّغْدِيَةُ وَالتَّعْشِيَةُ عِنْدَنَا فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي النِّهْدِ حَدِيثَ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي جَمْعِ الْأَزْوَادِ ، وَكَانَ يُغَدِّيهِمْ كُلَّ يَوْمٍ تَمْرَةً تَمْرَةً .
وَحَدِيثَ عُمَرَ فِي نَحْرِ الْإِبِلِ وَمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَجَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَادَ الْجَيْشِ ، وَبَرَّكَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ احْتَثَى كُلُّ أَحَدٍ فِي مِزْوَدِهِ وَوِعَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْوِيَةٍ ، حَتَّى فَرَغُوا ، وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْخُرُوجِ ، يُقَالُ : نَهَدَ ثَدْيُ الْمَرْأَةِ ، وَنَهَدَ الْقَوْمُ لِغَزْوِهِمْ ، وَنَهَدَ الْجَمَاعَةُ : إذَا أَخْرَجُوا طَعَامًا أَوْ مَالًا ، ثُمَّ جَمَعُوهُ ، وَأَكَلُوا أَوْ أَنْفَقُوا مِنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } فِي الْبُيُوتِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا الْبُيُوتُ كُلُّهَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ ، لِعُمُومِ الْقَوْلِ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ .

فَأَمَّا قَوْلُهُ : { فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : سَلِّمُوا عَلَى أَهَالِيكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَ غَيْرِكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
[ الثَّالِثُ : إذَا دَخَلْتُمْ الْمَسَاجِدَ فَسَلِّمُوا عَلَى مَا فِيهَا مِنْ ضَيْفِكُمْ ] .
الرَّابِعُ : إذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَارِغَةً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، قُولُوا : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : فِي الْمُخْتَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا } فَنَصَّ عَلَى بُيُوتِ الْغَيْرِ ، ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أَيْ لِيُسَلِّمَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَأَطْلَقَ الْقَوْلَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ الْحُكْمَ فِي بُيُوتِ الْغَيْرِ ، لِيَدْخُلَ تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ كُلُّ بَيْتٍ ، كَانَ لِلْغَيْرِ أَوْ لِنَفْسِهِ ، وَقَالَ : { عَلَى أَنْفُسِكُمْ } لِيَتَنَاوَلَ اللَّفْظُ سَلَامَ الْمَرْءِ عَلَى عَيْنِهِ ، وَلِيَأْخُذَ الْمَعْنَى سَلَامَ النَّاسِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، فَإِذَا دَخَلَ بَيْتًا لِغَيْرِهِ اسْتَأْذَنَ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا لِنَفْسِهِ سَلَّمَ ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ .
وَهَذَا إذَا كَانَ فَارِغًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ أَهْلُهُ وَعِيَالُهُ وَخَدَمُهُ فَلْيَقُلْ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " فَإِنَّهُمْ أَهْلٌ لِلتَّحِيَّةِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فَلْيَقُلْ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : { السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ } .
وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ عُمَرَ الْبَيْتَ الْفَارِغَ .
وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ إذَا كَانَ الْبَيْتُ فَارِغًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ السَّلَامُ

فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَلَكَ فَالْمَلَائِكَةُ لَا تُفَارِقُ الْعَبْدَ بِحَالٍ ، أَمَّا إنَّهُ إذَا دَخَلْت بَيْتَكَ يُسْتَحَبُّ لَك ذِكْرُ اللَّهِ بِمَا قَدْ شَرَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ بِأَنْ يَقُولَ : { مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ كَيْفِيَّةَ السَّلَامِ الَّذِي شَرَعَ اللَّهُ لِعِبَادِهِ ، وَأَوْضَحْنَا مَجْرَاهُ ، وَمِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ أَنَّ سَلَامَ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَمَاعَةِ يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ وَالرَّدِّ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : كَانَ النِّسَاءُ يُسَلِّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ ، وَلَا يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ .
وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّهَا خُلْطَةٌ وَتَعَرُّضٌ إلَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً مُتَجَالَّةً ؛ إذْ الْخُلْطَةُ لَا تَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ؛ وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمُنْتَهَى .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَك أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ : وَالْمُرَادُ بِمَا فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ الْأَمْرَ الْجَامِعَ الْجُمُعَةُ ، وَالْعِيدَانِ ، وَالِاسْتِسْقَاءُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَكُونُ فِيهِ الْخُلْطَةُ ؛ قَالَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ كُلُّ طَاعَةٍ لِلَّهِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْجِهَادُ ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ .
وَقَدْ رَوَى أَشْهَبُ ، وَيَحْيَى بْنُ بُكَيْر ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ إنَّمَا كَانَتْ فِي حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ .
وَاَلَّذِي بَيَّنَ ذَلِكَ أَمْرَانِ صَحِيحَانِ : أَمَّا أَحَدُهُمَا : فَهُوَ قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا } وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَتَلَوَّذُونَ ، وَيَخْرُجُونَ عَنْ الْجَمَاعَةِ ، وَيَتْرُكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ اللَّهُ جَمِيعَهُمْ بِأَلَّا يَخْرُجَ [ أَحَدٌ ] حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ يَتَبَيَّنُ إيمَانُهُ .
وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } فَأَيُّ إذْنٍ فِي الْحَدَثِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ خِيَارٌ فِي مَنْعِهِ وَلَا إبْقَائِهِ ، وَقَدْ قَالَ : { فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ } فَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْحَرْبِ الَّتِي يُؤْثَرُ فِيهَا التَّفَرُّقُ أَمَّا إنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ

بِقُوَّةِ مَعْنَاهَا عَلَى أَنَّ مَنْ حَضَرَ جَمَاعَةً لَا يَخْرُجُ إلَّا لِعُذْرٍ بَيِّنٍ أَوْ بِإِذْنٍ قَائِمٍ مِنْ مَالِكِ الْجَمَاعَةِ وَمُقَدِّمِهَا ؛ وَبِذَلِكَ أَنَّ الِاجْتِمَاعَ كَانَ لِغَرَضٍ ، فَمَا لَمْ يَتِمَّ الْغَرَضُ لَمْ يَكُنْ لِلتَّفَرُّقِ أَصْلٌ ، وَإِذَا كَمُلَ الْغَرَضُ جَازَ التَّفَرُّقُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْت مِنْهُمْ } فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَذِنَ لَهُ إذَا رَأَى ذَلِكَ ضَرُورَةً لِلْمُسْتَأْذِنِ ، وَلَمْ يَرَ فِيهِ مَضَرَّةً عَلَى الْجَمَاعَةِ ، أَذِنَ بِنَظَرٍ ، أَوْ مَنَعَ بِنَظَرٍ .
وَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ أَنَّ الرَّجُلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذَا رَعَفَ أَوْ أَحْدَثَ يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ ، وَيُشِيرُ إلَى الْإِمَامِ فَيُشِيرُ لَهُ الْإِمَامُ بِيَدِهِ أَنْ اُخْرُجْ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ الْإِمَامَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ ، فَلَمَّا كَثُرَ ذَلِكَ قَالَ زِيَادٌ : مَنْ جَعَلَ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ فَلْيَخْرُجْ دُونَ إذْنٍ .
وَقَدْ كَانَ هَذَا بِالْمَدِينَةِ ، حَتَّى إنَّ سُهَيْلَ بْنَ أَبِي صَالِحٍ رَعَفَ يَوْمًا فِي الْجُمُعَةِ فَاسْتَأْذَنَ الْإِمَامَ ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، إذْ لَا إذْنَ فِيهِ ، وَلَا خِيرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ تَتَعَلَّقُ بِهِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ صَاحِبُهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَيْهِ ، فَيَخْرُجُ إذَا شَاءَ ، وَيَجْلِسُ إذَا شَاءَ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ } فِيهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَفْعُولِ ، كَمَا يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ ، تَقُولُ : أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ عَمْرُو ، عَلَى الْأَوَّلِ ، كَمَا تَقُولُ : كَرِهْت ضَرْبَ زَيْدٍ عَمْرًا ، عَلَى الثَّانِي .
وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ هَذَا الْمِقْدَارَ ، فَعَقَدَ فَصْلًا فِي تَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ فِيهِ : فَاهْتَبِلُوا بِالدُّعَاءِ ، وَابْتَهِلُوا بِرَفْعِ أَيْدِيكُمْ إلَى السَّمَاءِ ، وَتَضَرَّعُوا إلَى مَالِكِ أَزِمَّةِ الْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ } وَأَرَادَ لَوْلَا سُؤَالُكُمْ إيَّاهُ ، وَطَلَبُكُمْ مِنْهُ ، وَرَأَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى فَاعِلٍ .
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى الْمَفْعُولِ .
وَالْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ : مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ إلَيْكُمْ ، وَتَبْيِينِ الْأَدِلَّةِ لَكُمْ ، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ عَذَابُكُمْ لِزَامًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ : إنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضَافَةِ هَاهُنَا إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ ، وَيَكُونُ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ : أَحَدُهَا : لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ بَيْنَكُمْ ، فَإِنَّ إجَابَتَهُ وَاجِبَةٌ ، وَلَيْسَتْ إجَابَتُكُمْ وَاجِبَةً .
يَعْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إجَابَةُ الْخَلْقِ بِقَرَائِنَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الدَّاعِي .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُوبِ إجَابَةِ دُعَاءِ الرَّسُولِ فِي

سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ احْذَرُوا أَنْ تَتَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَدْعُوَ عَلَيْكُمْ ، وَلَيْسَ دُعَاؤُهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنِّي عَاهَدْت رَبِّي عَهْدًا ، قُلْت : اللَّهُمَّ إنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَيْهِ وَرَحْمَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
الْمَعْنَى الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُسَوُّوا بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَكُمْ فِي الدَّعْوَةِ ، كُلُّ أَحَدٍ يُدْعَى بِاسْمِهِ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُدْعَى بِخُطَّتِهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ غَفِيرًا : إنَّ الْخَلِيفَةَ يُدْعَى بِهَا ، وَالْأَمِيرَ وَالْمُعَلِّمَ ، وَيُوَفَّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حَظُّهُ مِنْ الْخُطَّةِ ، فَيُدْعَى بِهَا قَصْدَ الْكَرَامَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } بِهَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَمْرَ صَرِيحٌ فِي الِاقْتِضَاءِ ، وَالْوُجُوبُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَوَجُّهِ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ ، فَالْأَمْرُ مُقْتَضٍ ، وَاللَّوْمُ وَالذَّمُّ خَاتَمٌ ، وَذِكْرُ الْعِقَابِ بِالثَّأْرِ مُكَبَّرٌ ، يُعَدُّ بِهِ الْفِعْلُ فِي جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ ، فَلْيُنْظَرْ تَحْقِيقُهُ هُنَالِكَ .
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ : إنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَيَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمُخَالَفَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِعْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ حَرَامًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالْفِعْلُ نَدْبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةً ، وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَدِلَّةِ ، وَيَنْسَاقُ بِمُقْتَضَى الْأَحْوَالِ وَالْأَسْبَابِ الْقَاضِيَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي قَوْلِهِ : { أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْكُفْرُ .
الثَّانِي : الْعُقُوبَةُ .
الثَّالِثُ : بَلِيَّةٌ يَظْهَرُ بِهَا مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَحِيحَةٌ كُلُّهَا ، وَلَكِنَّ مُتَعَلِّقَاتِهَا مُخْتَلِفَةٌ ، فَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ ، وَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ هِيَ مَعْصِيَةٌ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْمُلْحِدِينَ ، وَرَتَّبْنَا مَنَازِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَمَسَاقَهُ وَمُتَعَلَّقَهُ بِدَلِيلِهِ .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَزْدِيُّ ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَتِيقِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَيْوَةَ ، حَدَّثَنَا جُرْهُمِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ : سَمِعْت الزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ يَقُولُ : سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ : سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ ؟ قَالَ : مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
فَقَالَ : لَا تَفْعَلْ .
قَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ .
قَالَ : لَا تَفْعَلْ ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك الْفِتْنَةَ .
قَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا ؟ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا .
قَالَ : وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ : { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {

افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهَا فِي النَّارِ ، إلَّا وَاحِدَةً .
قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي } .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْعِصْمَةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمُتَابَعَةِ فِي الْأُلْفَةِ ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

سُورَةُ الْفُرْقَانِ فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : عَيَّرَ الْمُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَكْلِهِ الطَّعَامَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مَلَكًا ، وَعَيَّرُوهُ بِالْمَشْيِ فِي السُّوقِ ، فَأَجَابَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إلَّا إنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } ، فَلَا تَرْتَبْ بِذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ بِهِ ، فَإِنَّهَا شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْك عَارُهَا ، وَحُجَّةٌ قَاهِرٌ لَك خَارُهَا .
وَهَذَا إنَّمَا أَوْقَعَهُمْ فِيهِ عِنَادُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ الْمُعْجِزَةُ ، وَوَضَحَتْ فِي صِدْقِهِ الدَّلَالَةُ لَمْ يُقْنِعْهُمْ ذَلِكَ ، حَتَّى سَأَلُوهُ آيَاتٍ أُخَرَ سِوَاهَا وَأَلْفُ آيَةٍ كَآيَةٍ عِنْدَ الْمُكَذِّبِ بِهَا ، وَأَوْقَعَهُمْ أَيْضًا فِي ذَلِكَ جَهْلُهُمْ حِينَ رَأَوْا الْأَكَاسِرَةَ وَالْقَيَاصِرَةَ وَالْمُلُوكَ الْجَبَابِرَةَ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ الْأَسْوَاقِ أَنْكَرُوا عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ، وَاعْتَقَدُوهُ مَلِكًا يَتَصَرَّفُ بِالْقَهْرِ وَالْجَبْرِ ، وَجَهِلُوا أَنَّهُ نَبِيٌّ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ وَالْأَمْرِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَهُ فِي سُوقِ عُكَاظٍ وَمَجَنَّةِ الْعَامَّةِ ، وَكَانَ أَيْضًا يَدْخُلُ الْخَلَصَةَ بِمَكَّةَ ، فَلَمَّا أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ قَالُوا : هَذَا مَلِكٌ يَطْلُبُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْنَا ، فَمَا لَهُ يُخَالِفُ سِيرَةَ الْمُلُوكِ فِي دُخُولِ الْأَسْوَاقِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَدْخُلُهَا لِحَاجَتِهِ ، أَوْ لِتَذْكِرَةِ الْخَلْقِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَدَعْوَتِهِ ، وَيَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ فِي مُجْتَمَعِهِمْ ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُرْجِعَ إلَى الْحَقِّ بِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَمَّا كَثُرَ الْبَاطِلُ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَظَهَرَتْ فِيهَا الْمَنَاكِرُ ، كَرِهَ عُلَمَاؤُنَا دُخُولَهَا لِأَرْبَابِ الْفَضْلِ ، وَالْمُهْتَدَى بِهِمْ فِي الدِّينِ ، تَنْزِيهًا لَهُمْ عَنْ الْبِقَاعِ الَّتِي يُعْصَى اللَّهُ فِيهَا .
وَفِي الْآثَارِ : { مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، لَهُ الْمُلْكُ ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ } إنْبَاءً بِأَنَّهُ وَحْدَهُ عِنْدَ صَخَبِ الْخَلْقِ وَرَغْبِهِمْ فِي الْمَالِ ، أَقْبَلَ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ ، لَمْ يَقْصِدْ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ سِوَاهُ ، لِيَعْمُرَهَا بِالطَّاعَةِ إنْ غُمِرَتْ بِالْمَعْصِيَةِ ، وَلِيُحَلِّيَهَا بِالذِّكْرِ إنْ عُطِّلَتْ بِالْغَفْلَةِ ، وَلِيُعَلِّمَ الْجَهَلَةَ ، وَيُذَكِّرَ النَّاسِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا أَكْلُ الطَّعَامِ فَضَرُورَةُ الْخَلْقِ ، لَا عَارَ وَلَا دَرَكَ فِيهَا .
وَأَمَّا الْأَسْوَاقُ فَسَمِعْت مَشْيَخَةَ الْعِلْمِ يَقُولُونَ : لَا يَدْخُلُ إلَّا سُوقَ الْكُتُبِ وَالسِّلَاحِ .
وَعِنْدِي أَنَّهُ يَدْخُلُ كُلَّ سُوقٍ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَلَا يَأْكُلُ فِيهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلْمُرُوءَةِ وَهَدْمٌ لِلْحِشْمَةِ .
وَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْأَكْلُ فِي السُّوقِ دَنَاءَةٌ } .
وَهُوَ حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ ، لَكِنْ رَوَيْنَاهُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ ، وَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ وَلَا وَصْفَ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا } .
يَعْنِي سَتْرًا لِلْخَلْقِ ، يَقُومُ مَقَامَ اللِّبَاسِ فِي سَتْرِ الْبَدَنِ ، وَيُرْبَى عَلَيْهِ بِعُمُومِهِ وَسَعَتِهِ .
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْغَفَلَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عُرْيَانًا فِي الظَّلَّامِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ لِبَاسٌ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا فِي بَيْتِهِ إذَا أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ .
وَالسِّتْرُ فِي الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ تَخْتَصُّ بِهَا ، لَيْسَتْ لِأَجْلِ نَظَرِ النَّاسِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِطْنَابِ فِي هَذَا .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا قَوْلَهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً } فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ { مَاءً طَهُورًا } فَوَصَفَ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى وَصْفِهِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى مُطَهِّرٌ لِغَيْرِهِ ؟ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ ، وَخَلْقٌ كَثِيرٌ سِوَاهُمَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ بِمَعْنَى طَاهِرٍ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَتَعَلَّقَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } يَعْنِي طَاهِرًا ، إذَا لَا تَكْلِيفَ فِي الْجَنَّةِ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : خَلِيلَيَّ هَلْ فِي نَظْرَةٍ بَعْدَ تَوْبَةٍ أُدَاوِي بِهَا قَلْبِي عَلَيَّ فُجُورُ إلَى رَجَحِ الْأَكْفَالِ هِيفٍ خُصُورُهَا عِذَابِ الثَّنَايَا رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَاهِرٌ ، وَلَيْسَ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُطَهِّرُ .
وَتَقُولُ الْعَرَبُ : رَجُلٌ نَئُومٌ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُنِيمٌ لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } .
وَقَالَ : { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } ، فَبَيَّنَ أَنَّ وَصْفَ { طَهُورًا } يُفِيدُ التَّطْهِيرَ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } .
وَأَرَادُوا مُطَهَّرَةً بِالتَّيَمُّمِ ، وَلَمْ يُرِدْ طَاهِرَةً بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ طَاهِرَةً .
وَقَالَ فِي مَاءِ الْبَحْرِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ } ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْنَى الطَّهُورِ الْمُطَهَّرَ لَمَا كَانَ جَوَابًا لِسُؤَالِهِمْ .
وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ لُغَةً وَشَرِيعَةً عَلَى أَنَّ وَصْفَ " طَهُورٍ " مُخْتَصٌّ بِالْمَاءِ ، وَلَا يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْمَائِعَاتِ ، وَهِيَ

طَاهِرَةٌ ، فَكَانَ اقْتِصَارُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمَاءِ أَدَلَّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الطَّهُورَ هُوَ الْمُطَهَّرُ .
فَأَمَّا تَعَلُّقُهُمْ بِوَصْفِ اللَّهِ لِشَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ، وَالْجَنَّةُ لَا تَكْلِيفَ فِيهَا ، فَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصِّفَةِ ، وَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ وَصْفَ شَرَابِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفِيدُ التَّطْهِيرَ عَنْ أَوْضَارِ الذُّنُوبِ ، وَعَنْ خَسَائِسِ الصِّفَاتِ ، كَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ ، فَإِذَا شَرِبُوا هَذَا الشَّرَابَ طَهَّرَهُمْ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَحْضِ الذُّنُوبِ ، وَأَوْضَارِ الِاعْتِقَادَاتِ الذَّمِيمَةِ ، فَجَاءُوا اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ، وَدَخَلُوا الْجَنَّةَ بِصِفَةِ التَّسْلِيمِ .
وَقِيلَ لَهُمْ حِينَئِذٍ : { سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } ، كَمَا حَكَمَ فِي الدُّنْيَا بِزَوَالِ حُكْمِ الْحَدَثِ بِجَرَيَانِ الْمَاءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ ، وَهَذِهِ حِكْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَتِلْكَ حِكْمَتُهُ وَرَحْمَتُهُ فِي الْأُخْرَى .
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّاعِرِ : رِيقُهُنَّ طَهُورُ فَوَصَفَ الرِّيقَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ، وَهُوَ لَا يُطَهِّرُ ، فَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِ الرِّيقِ بِالطَّهُورِيَّةِ ، أَرَادَ أَنَّهُ لِعُذُوبَتِهِ ، وَتَعَلُّقِهِ بِالْقُلُوبِ ، وَطِيبِهِ فِي النُّفُوسِ ، وَسُكُونِ غَلِيلِ الْحُبِّ بِرَشْفِهِ ، كَأَنَّهُ الْمَاءُ الطَّهُورُ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَثْبُتُ بِالْمَجَازَاتِ الشِّعْرِيَّةِ ، فَإِنَّ الشُّعَرَاءَ يَتَجَاوَزُونَ فِي الِاسْتِغْرَاقِ حَدَّ الصِّدْقِ إلَى الْكَذِبِ ، وَيَسْتَرْسِلُونَ فِي الْقَوْلِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ ذَلِكَ إلَى الْبِدْعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَرُبَّمَا وَقَعُوا فِي الْكُفْرِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ : لَوْ لَمْ تُلَامِسْ صَفْحَةُ الْأَرْضِ رِجْلَهَا لَمَا كُنْت أَدْرِي عِلَّةً لِلتَّيَمُّمِ وَهَذَا كُفْرٌ صُرَاحٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ

اللَّهُ : هَذَا مُنْتَهَى لُبَابِ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ بَالِغٌ فِي فَنِّهِ ، إلَّا أَنِّي تَأَمَّلْتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْعَرَبِيَّةِ فَوَجَدْتُ فِيهَا مَطْلَعًا شَرِيفًا ، وَهُوَ أَنَّ بِنَاءَ " فَعُولٍ " لِلْمُبَالَغَةِ ، إلَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ قَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْمُتَعَدِّي كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا وَقَدْ تَكُونُ فِي الْفِعْلِ الْقَاصِرِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : نَئُومُ الضُّحَى لَمْ تَنْتَطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ فَوَصَفَهُ الْأَوَّلُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الضَّرْبِ ، وَهُوَ فِعْلٌ يَتَعَدَّى ، وَوَصَفَهَا الثَّانِي بِالْمُبَالَغَةِ فِي النَّوْمِ ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَعَدَّى ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ طَهُورِيَّةُ الْمَاءِ لِغَيْرِهِ مِنْ الْحُسْنِ نَظَافَةً ، وَمِنْ الشَّرْعِ طَهَارَةً ، كَقَوْلِهِ : { لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طَهُورٍ } .
وَقَدْ يَأْتِي بِنَاءُ " فَعُولٍ " لِوَجْهٍ آخَرَ ، لَيْسَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ ، وَهُوَ الْعِبَارَةُ بِهِ عَنْ آلَةِ الْفِعْلِ لَا عَنْ الْفِعْلِ ، كَقَوْلِنَا : وَقُودٌ وَسَحُورٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ " فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْحَطَبِ وَعَنْ الطَّعَامِ الْمُتَسَحَّرِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ وَصْفُ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يَكُونُ بِفَتْحِ الطَّاءِ أَيْضًا خَبَرًا عَنْ الْآلَةِ الَّتِي يُتَطَهَّرُ بِهَا .
فَإِذْ ضَمَمْت الْفَاءَ فِي الْوُقُودِ وَالسُّحُورِ وَالطُّهُورِ عَادَ إلَى الْفِعْلِ ، وَكَانَ خَبَرًا عَنْهُ ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ اسْمَ الْفَعُولِ بِفَتْحِ الْفَاءِ يَكُونُ بِنَاءً لِلْمُبَالَغَةِ ، وَيَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْآلَةِ ، وَهَذَا الَّذِي خَطَرَ بِبَالِ الْحَنَفِيَّةِ ، وَلَكِنْ قَصُرَتْ أَشْدَاقُهَا عَنْ لَوْكِهِ ، وَبَعْدَ هَذَا يَقِفُ الْبَيَانُ بِهِ عَنْ الْمُبَالَغَةِ ، أَوْ عَنْ الْآلَةِ عَلَى الدَّلِيلِ ، مِثَالُهُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } .
وَيُحْتَمَلُ الْعِبَارَةُ بِهِ عَنْ الْآلَةِ ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِعُلَمَائِنَا .

لَكِنْ يَبْقَى قَوْلُهُ { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } نَصًّا فِي أَنَّ فِعْلَهُ مُتَعَدٍّ إلَى غَيْرِهِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنَّمَا أَوْجَبَ الْخِلَافَ فِيهَا مَا صَارَ إلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : حِينَ قَالُوا : إنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَا يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ الَّذِي كَانَ فِي الْأَعْضَاءِ انْتَقَلَ إلَى الْمَاءِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا حِينَئِذٍ : إنَّ وَصْفَ الْمَاءِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ عَلَى رَسْمِ بِنَاءِ الْمُبَالَغَةِ ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَإِنَّمَا تَنْبَنِي مَسْأَلَةُ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ الْآلَةَ إذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضٌ ، هَلْ يُؤَدَّى بِهَا فَرْضٌ آخَرُ أَمْ لَا ؟ فَمَنَعَ ذَلِكَ الْمُخَالِفَ قِيَاسًا عَلَى الرَّقَبَةِ ، إنَّهُ إذَا أُدِّيَ بِهَا فَرْضُ عِتْقٍ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَتَكَرَّرَ فِي أَدَاءِ فَرْضٍ آخَرَ ، وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ الْقَوْلِ ، فَإِنَّ الْعِتْقَ إذَا أَتَى عَلَى الرِّقِّ أَتْلَفَهُ ، فَلَا يَبْقَى مَحَلٌّ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ بِعِتْقٍ آخَرَ .
وَنَظِيرُهُ مِنْ الْمَاءِ مَا تَلِفَ عَلَى الْأَعْضَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُؤَدَّى بِهِ فَرْضٌ آخَرُ لِتَلَفِ عَيْنِهِ حِسًّا ، كَمَا تَلِفَ الرِّقُّ فِي الرَّقَبَةِ بِالْعِتْقِ الْأَوَّلِ حُكْمًا ، وَهَذَا نَفِيسٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ { : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِلُ ، فَتَوَضَّأَ فَصَبَّ عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِهِ ، فَأَفَقْت } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْفَاضِلَ عَنْ الْوُضُوءِ وَالْجَنَابَةِ طَاهِرٌ ، لَا عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، كَمَا تَوَهَّمَهُ عُلَمَاؤُنَا ، وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ فَتَأَمَّلُوهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } وَكَانَ الْمَاءُ مَعْلُومًا بِصِفَةِ طَعْمِهِ وَرِيحِهِ وَلَوْنِهِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ فِي طَهُورِيَّتِهِ ، فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ إلَى غَيْرِهِ بِتَغَيُّرِ وَصْفٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ وَصْفُ الطَّهُورِيَّةِ .
وَالْمُخَالِطُ لِلْمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ : ضَرْبٌ يُوَافِقُهُ فِي صِفَتَيْهِ جَمِيعًا : وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ لَمْ يَسْلُبْهُ وَصْفًا مِنْهُمَا ، لِمُوَافَقَتِهِ لَهُ فِيهِمَا ، وَهُوَ التُّرَابُ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي يُوَافِقُ الْمَاءَ فِي إحْدَى صِفَتَيْهِ ، وَهِيَ الطَّهَارَةُ ، وَلَا يُوَافِقُهُ فِي صِفَتِهِ الْأُخْرَى ، وَهِيَ التَّطْهِيرُ ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ سَلَبَهُ مَا خَالَفَهُ فِيهِ ، وَهُوَ التَّطْهِيرُ ، دُونَ مَا وَافَقَهُ ، وَهِيَ الطَّهَارَةُ ، كَمَاءِ الْوَرْدِ وَسَائِرِ الطِّهَارَاتِ .
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ مُخَالَفَتُهُ فِي الصِّفَتَيْنِ جَمِيعًا : وَهِيَ الطَّهَارَةُ وَالتَّطْهِيرُ ، فَإِذَا خَالَطَهُ فَغَيْرُهُ سَلَبَهُ الصِّفَتَيْنِ جَمِيعًا ، لِمُخَالَفَتِهِ لَهُ فِيهِمَا ، وَهُوَ النَّجَسُ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَكُتُبِ الْفُرُوعِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا وَقَعَتْ نَجَاسَةٌ فِي مَاءٍ أَفْسَدَتْهُ كُلَّهُ ، كَثِيرًا كَانَ أَوْ قَلِيلًا ، إذَا تَحَقَّقَتْ عُمُومُ النَّجَاسَةِ فِيهِ .
وَوَجْهُ تَحَقُّقِهَا عِنْدَهُ أَنْ تَقَعَ مَثَلًا نُقْطَةُ بَوْلٍ فِي بِرْكَةِ مَاءٍ ، فَإِنْ كَانَتْ الْبِرْكَةُ يَتَحَرَّكُ طَرَفَاهَا بِتَحْرِيكِ أَحَدِهِمَا فَالْكُلُّ نَجِسٌ ، وَإِنْ كَانَتْ حَرَكَةُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ لَا تُحَرِّكُ الْآخَرَ لَمْ يُنَجَّسْ وَالْمِصْرِيُّونَ ، كَابْنِ الْقَاسِمِ وَغَيْرِهِ ، يَقُولُونَ : إنَّ قَلِيلَ الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ .
وَفِي الْمَجْمُوعَةِ نَحْوُهُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ ، وَرَوَاهُ عَنْ الْوَلِيدِ

بْنِ كَثِيرٍ ، حُسْنَ ظَنٍّ بِهِ ، وَهُوَ مَطْعُونٌ فِيهِ .
وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ .
وَقَدْ رَامَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَلَى إمَامَتِهِ أَنْ يُصَحِّحَ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ ، وَاغْتَصَّ بِجُرَيْعَةِ الذَّقَنِ فِيهَا ، فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ ، حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
كَمَا تَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا أَيْضًا فِي مَذْهَبِهِمْ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بِئْرِ بُضَاعَةَ الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ : { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَمَا يُطْرَحُ فِيهَا مِنْ الْجِيَفِ وَالنَّتِنِ ، وَمَا يُنْجِي النَّاسُ ، فَقَالَ : الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ } .
وَهَذَا أَيْضًا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا قَدَمَ لَهُ فِي الصِّحَّةِ ، فَلَا تَعْوِيلَ عَلَيْهِ .
وَقَدْ فَاوَضْت الطُّوسِيَّ الْأَكْبَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِرَارًا ، فَقَالَ : إنَّ أَخْلَصَ الْمَذَاهِبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، فَإِنَّ الْمَاءَ طَهُورٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ ، إذْ لَا حَدِيثَ فِي الْبَابِ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } ، وَهُوَ مَا دَامَ بِصِفَاتِهِ ، فَإِذَا تَغَيَّرَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا خَرَجَ عَنْ الِاسْمِ بِخُرُوجِهِ عَنْ الصِّفَةِ " وَلِذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ الْبُخَارِيُّ إمَامُ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِي الْبَابِ خَبَرًا صَحِيحًا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ قَالَ : " بَابُ إذَا تَغَيَّرَ وَصْفُ الْمَاءِ " وَأَدْخَلَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ : { مَا مِنْ أَحَدٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ ، إلَّا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا ، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ ، وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ } .
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الدَّمَ بِحَالِهِ ، وَعَلَيْهِ رَائِحَةُ الْمِسْكِ ، وَلَمْ تُخْرِجْهُ الرَّائِحَةُ عَنْ صِفَةِ الدَّمَوِيَّةِ .
وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا

تَغَيَّرَ الْمَاءُ بِرِيحِ جِيفَةٍ عَلَى طَرَفَيْهِ وَسَاحِلِهِ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ ، وَلَوْ تَغَيَّرَ بِهَا وَقَدْ وَقَعَتْ فِيهِ لَكَانَ ذَلِكَ تَنْجِيسَهُ لَهُ لِلْمُخَالَطَةِ ، وَالْأُولَى مُجَاوَرَةٌ لَا تَعْوِيلَ عَلَيْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : ثُمَّ تَرَكَّبَ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ ، وَهِيَ الْمَاءُ إذَا تَغَيَّرَ بِقَرَارِهِ كَزِرْنِيخٍ أَوْ جِيرٍ يَجْرِي عَلَيْهِ ، أَوْ تَغَيَّرَ بِطُحْلُبٍ أَوْ بِوَرَقِ شَجَرٍ يَنْبُتُ عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، فَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْوُضُوءِ بِهِ ، لِعَدَمِ الِاحْتِرَازِ مِنْهُ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى مِنْهُ يَعْنِي إذَا وَجَدَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ اسْتَعْمَلَهُ ؛ لِأَنَّ مَا يُغْلَبُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّوَقِّي مِنْهُ ، فَإِنَّهُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا .
وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُوعَ عَنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ ، وَلَا يُمْكِنُ بَشَرًا الِاحْتِرَازُ مِنْهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي عَدَالَتِهِ ، وَلَمَّا كَانَتْ الْكَبَائِرُ يُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْهَا وَالِاحْتِرَازُ عَنْهَا قَدَحَتْ فِي الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الْكَثِيرُ فِي الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ مُمْكِنًا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِهِ ، وَلَمَّا كَانَ الْعَمَلُ الْيَسِيرُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ كَالِالْتِفَاتِ بِالرَّأْسِ وَحْدَهُ وَالْمُرَاوَحَةِ بَيْنَ الْأَقْدَامِ ، وَتَحْرِيكِ الْأَجْفَانِ ، وَتَقْلِيبِ الْيَدِ ، لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ .
وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ فِي بَابِ التَّكْلِيفِ كُلِّهِ ، فَعَلَيْهِ خَرَجَ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَنْ تَغَيُّرِهِ بِمَا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ الْمَاءَ بِأَنَّهُ طَهُورٌ ، وَامْتَنَّ بِإِنْزَالِهِ مِنْ السَّمَاءِ لِيُطَهِّرَنَا بِهِ دَلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فِي دَمِ الْحَيْضِ يُصِيبُ الثَّوْبَ : { حُتِّيهِ ثُمَّ اُقْرُصِيهِ ، ثُمَّ اغْسِلِيهِ بِالْمَاءِ } ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْحَقْ غَيْرُ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا فِي ذَلِكَ مِنْ إبْطَالِ فَائِدَةِ الِامْتِنَانِ .
وَالثَّانِي : لِأَنَّ غَيْرَ الْمَاءِ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ وَالْجَنَابَةَ ، فَلَا يُزِيلُ النَّجَسَ .
وَقَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ : إنَّ كُلَّ مَائِعٍ طَاهِرٍ يُزِيلُ النَّجَاسَةَ ، وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَدْفَعُهَا عَنْ غَيْرِهِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ النَّجَاسَةَ الْقَلِيلَةَ إذَا وَقَعَتْ فِي الزَّيْتِ الْكَثِيرِ لَمْ يُنَجَّسْ إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ .
وَهَذِهِ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا " لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّحِيحِ { سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ ، فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ } .
وَقَوْلُهُ : { إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُفْسِدُ الْمَائِعَ ؛ لِأَنَّهُ عُمُومٌ سُئِلَ عَنْهُ ، فَخَصَّ أَحَدَ صِنْفَيْهِ بِالْجَوَازِ ، وَبَقِيَ الْآخَرُ عَلَى الْمَنْعِ .
وَلَيْسَ هَذَا بِدَلِيلِ الْخِطَابِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
وَهَذِهِ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ تَفْهَمُونَهَا ، فَهِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ كِتَابٍ ، وَلَيْسَتْ النَّجَاسَةُ مَعْنًى مَحْسُوسًا ، حَتَّى يُقَالَ : كُلَّمَا أَزَالَهَا فَقَدْ قَامَ بِهِ الْفَرْضُ ، وَإِنَّمَا النَّجَاسَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ الْمَاءَ ، فَلَا يَلْحَقُ بِهِ غَيْرُهُ ، إذْ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِهِ لَأَسْقَطَهُ ، وَالْفَرْعُ إذَا عَادَ إلْحَاقُهُ بِالْأَصْلِ

بِالْإِسْقَاطِ سَقَطَ فِي نَفْسِهِ .
وَقَدْ كَانَ تَاجُ السُّنَّةِ ذُو الْعِزِّ بْنُ الْمُرْتَضَى الدَّبُوسِيُّ يُسَمِّيهِ فَرْخَ زِنَا .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : تَوَهَّمَ قَوْمٌ أَنَّ الْمَاءَ إذَا فَضَلَتْ لِلْجُنُبِ مِنْهُ فَضْلَةٌ أَنَّهُ لَا يَتَوَضَّأُ بِهَا ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ { مَيْمُونَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : أَجْنَبْت أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاغْتَسَلْت مِنْ جَفْنَةٍ ، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا .
فَقُلْت : إنِّي قَدْ اغْتَسَلْت مِنْهُ .
فَقَالَ : إنَّ الْمَاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ } أَوْ : { إنَّ الْمَاءَ لَا يُجْنِبُ } .
وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : إذَا كَانَ الْمَاءُ طَاهِرًا مُطَهَّرًا عَلَى أَصْلِهِ فَوَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ فَسَدَ عِنْدَ جُمْهُورِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ } .
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْحَدِيثُ ، وَلَا أَدْرِي مَا حَقِيقَتُهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ حَقِيقَتَهُ ، وَأَنَّ الْإِنَاءَ يُغْسَلُ عِبَادَةً ، لَا لِنَجَاسَةٍ بِدَلِيلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْغَسْلَ مَعْدُودٌ بِسَبْعٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ جَعَلَ لِلتُّرَابِ فِيهَا مَدْخَلًا ، وَلَوْ كَانَ لِنَجَاسَةٍ لَمَا كَانَ لِلتُّرَابِ فِيهَا مَدْخَلٌ ، كَالْبَوْلِ ، عَكْسُهُ الْوُضُوءُ لَمَّا كَانَ عِبَادَةً دَخَلَ التُّرَابُ مَعَ الْمَاءِ .
وَرَأَى مَالِكٌ طَرْحَ الْمَاءِ تَقَذُّرًا لَا تَنَجُّسًا ، أَوْ حَسْمًا لِمَادَّةِ الْخِلَافِ ؛ أَوْ لِأَنَّهُ حَيَوَانٌ يَأْكُلُ الْأَقْذَارَ ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَيَكُونُ مِنْ الطَّوَّافِينَ أَوْ الطَّوَّافَاتِ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي الْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إذَا وَلَغَتْ السِّبَاعُ فِي الْمَاءِ : كُلُّ حَيَوَانٍ عِنْدَ مَالِكٍ طَاهِرُ الْعَيْنِ حَتَّى الْخِنْزِيرِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَلَكِنْ تَحَرَّرَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّ أَسْآرَ السِّبَاعِ مَكْرُوهَةٌ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسْأَلَةِ الْكَلْبِ ، مِنْ أَنَّهَا تُصِيبُ النَّجَاسَاتِ ، وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّوَّافِينَ وَلَا مِنْ الطَّوَّافَاتِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : أَسْآرُ السِّبَاعِ نَجِسَةٌ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حِيَاضٍ تَكُونُ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ تَرِدُهَا السِّبَاعُ وَفِي رِوَايَةٍ : وَالْكِلَابُ فَقَالَ : لَهَا مَا حَمَلَتْ فِي بُطُونِهَا ، وَلَنَا مَا بَقِيَ غَيْرَ شَرَابٍ وَطَهُورٍ } .
وَفِي الْمُوَطَّأِ أَنَّ عُمَرَ وَعَمْرًا وَقَفَا عَلَى حَوْضٍ ، فَقَالَ عَمْرٌو : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ ، هَلْ تَرِدُ حَوْضَك السِّبَاعُ ؟ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : يَا صَاحِبَ الْحَوْضِ ، لَا تُخْبِرْنَا ، فَإِنَّا نَرِدُ عَلَى السِّبَاعِ ، وَتَرِدُ عَلَيْنَا .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ كَانَ كَثِيرًا ، وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا لَكَانَ لِلْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ قَدَّمْنَاهُ قَبْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَعَ نِسْوَةٍ ، فَقَالَ : لَوْ أَنِّي سَقَيْتُكُنَّ مِنْ بِئْرِ بُضَاعَةَ لَكَرِهْتُنَّ ذَلِكَ .
وَقَدْ وَاَللَّهِ سَقَيْت مِنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ .
وَهَذَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَاءَهَا كَانَ كَثِيرًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَحَائِضُ النِّسَاءِ ، وَعَذِرَاتُ النَّاسِ ، وَلُحُومُ الْكِلَابِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو دَاوُد : سَمِعْت قُتَيْبَةَ بْنَ سَعِيدٍ قَالَ : سَأَلْت قَيِّمَ بِئْرِ بُضَاعَةَ عَنْ عُمْقِهَا ، قُلْت : مَا أَكْثَرُ مَا يَكُونُ الْمَاءُ فِيهَا ؟ قَالَ : إلَى الْعَانَةِ .
قُلْت : فَإِذَا نَقَصَ مَاؤُهَا ؟ قَالَ : إلَى الْعَوْرَةِ قَالَ أَبُو دَاوُد : فَقَدَّرْتهَا بِرِدَائِي مَدَدْتُهُ عَلَيْهَا ثُمَّ ذَرَعْتُهُ فَإِذَا عَرْضُهَا سِتَّةُ أَذْرُعٍ .
وَسَأَلْت الَّذِي فَتَحَ لِي بَابَ الْبُسْتَانِ فَأَدْخَلَنِي إلَيْهَا : هَلْ

غُيِّرَ بِنَاؤُهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ : لَا .
قَالَ أَبُو دَاوُد : وَرَأَيْت مَاءَهَا مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ جِدًّا .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَغَيَّرَ مَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي وَسَطِ السَّبَخَةِ ، فَمَاؤُهَا يَكُونُ قَرَارَهَا .
وَبُضَاعَةُ دُورُ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَلَهَا يَقُولُ أَبُو أُسَيْدَ مَالِكُ بْنُ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيُّ : نَحْنُ حَمَيْنَا عَنْ بُضَاعَةَ كُلِّهَا وَنَحْنُ بَنَيْنَا مَعْرِضًا هُوَ مُشْرِفُ فَأَصْبَحَ مَعْمُورًا طَوِيلًا قَذَالُهُ وَتَخْرَبُ آطَامٌ بِهَا وَتَقَصَّفُ

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ فِي أَحْكَامِ الْمِيَاهِ أَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ لَيْسَ كَوُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ } .
فَمَنَعَ مِنْ وُرُودِ الْيَدِ عَلَى الْمَاءِ ، وَأَمَرَ بِإِيرَادِ الْمَاءِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ فِي الْبَابِ ، وَلَوْلَا وُرُودُهُ عَلَى النَّجَاسَةِ قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا لَمَا طَهُرَتْ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ فِي بَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ فِي الْمَسْجِدِ : { صُبُّوا عَلَيْهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ } .
رُوِيَ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ ، فَبَايَعَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَامَ فَفَشَجَ يَعْنِي فَرَّجَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ ، فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَعَجَّلَ النَّاسُ إلَيْهِ ؟ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُزْرِمُوهُ ثُمَّ دَعَا بِهِ ، فَقَالَ أَلَسْت بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ ؟ قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَمَا حَمَلَك عَلَى أَنْ بُلْت فِي مَسْجِدِنَا ؟ قَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا ظَنَنْت إلَّا أَنَّهُ صَعِيدٌ مِنْ الصُّعُدَاتِ ، فَبُلْت فِيهِ ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَى بَوْلِهِ } .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ وَغَيْرِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِحَفْرِ مَوْضِعِ بَوْلِهِ ، وَطَرْحِهِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ } .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : رَأَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدَّلْوَ يَكْفِي لِبَوْلِ الرَّجُلِ فِي إزَالَةِ عَيْنِهِ وَطَهَارَةِ مَوْضِعِهِ ، وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ ؛ لِأَنَّ الدَّلْوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مُقَدَّرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ تَعَلَّقَ بِحَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ ، وَجَعَلَهُ تَقْدِيرًا ، وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْحَدِيثَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ سَاقِطٌ ، إذْ لَوْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمَ لَعَلَّقَهُ عَلَى مَعْلُومٍ ، كَمَا عُلِمَ الصَّاعُ وَالْوَسْقُ ، حَتَّى كَانَ الْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ شَرْعًا ، الْمُقَدَّرُ بِهِ صَحِيحًا .
وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ ، حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا زَالَتْ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : لَمَّا قَالَ اللَّهُ : { وَأَنْزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا } تَوَقَّفَ جَمَاعَةٌ فِي مَاءِ الْبَحْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُنَزَّلٍ مِنْ السَّمَاءِ ، حَتَّى رَوَوْا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَمْرٍو مَعًا أَنَّهُ لَا يُتَوَضَّأُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَاءُ نَارٍ ، وَلِأَنَّهُ طَبَقُ جَهَنَّمَ .
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ حُكْمَهُ حِينَ قَالَ لِمَنْ سَأَلَهُ عَنْ جَوَازِ الْوُضُوءِ بِهِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا يُنْسَبُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُمَا قَالَا : لَا يُتَوَضَّأُ بِمَاءِ الْبَحْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ عَلَى نَارٍ ، وَالنَّارَ عَلَى مَاءٍ ، وَالْمَاءَ عَلَى نَارٍ حَتَّى عَدَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ ، وَسَبْعَةَ أَنْوَارٍ .
وَأَبُو هُرَيْرَةَ هُوَ رَاوِي حَدِيثِ : { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } .
وَقَدْ رَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ قَالَ فِي الْبَحْرِ : " هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ " .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ الْوُضُوءِ بِمَاءِ الْبَحْرِ ، فَقَالَ : إنَّمَا هُمَا بَحْرَانِ ، فَلَا يَضُرُّك بِأَيِّهِمَا بَدَأْت .
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ سَعِيدٍ الْجَارِمِيِّ قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ الْحِيتَانِ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَعَنْ مَاءِ الْبَحْرِ ، فَلَمْ يَرَيَا بِذَلِكَ بَأْسًا .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّك قَدِيرًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي النَّسَبِ : وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَرْجِ الْمَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى عَلَى وَجْهِ الشَّرْعِ .
فَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ كَانَ خَلْقًا مُطْلَقًا ، وَلَمْ يَكُنْ نَسَبًا مُحَقَّقًا ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ قَوْلِ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } بِنْتُهُ مِنْ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِبِنْتٍ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لِعُلَمَائِنَا ، وَأَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الدِّينِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَصِهْرًا } أَمَّا النَّسَبُ فَهُوَ مَا بَيْنَ الْوَطْأَيْنِ مَوْجُودًا ، وَأَمَّا الصِّهْرُ فَهُوَ مَا بَيْنَ وَشَائِجِ الْوَاطِئَيْنِ مَعًا ، الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، وَهُمْ الْأَحْمَاءُ وَالْأَخْتَانُ .
وَالصِّهْرُ يَجْمَعُهُمَا لَفْظًا وَاشْتِقَاقًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَسَبٌ شَرْعًا فَلَا صِهْرَ شَرْعًا ، فَلَا يُحَرِّمُ الزِّنَا بِبِنْتٍ أُمًّا ، وَلَا بِأُمٍّ بِنْتًا ، وَمَا يُحَرَّمُ مِنْ الْحَلَالِ لَا يُحَرَّمُ مِنْ الْحَرَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ امْتَنَّ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ عَلَى عِبَادِهِ ، وَرَفَعَ قَدْرَهُمَا ، وَعَلَّقَ الْأَحْكَامَ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ عَلَيْهِمَا ، فَلَا يَلْحَقُ الْبَاطِلُ بِهِمَا وَلَا يُسَاوِيهِمَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الزِّنَا يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ ، وَهَذَا كِتَابُهُ الْمُوَطَّأُ الَّذِي كَتَبَهُ بِخَطِّهِ ، وَأَمْلَاهُ عَلَى طَلَبَتِهِ ، وَقَرَأَهُ مِنْ صَبْوَتِهِ إلَى مَشْيَخَتِهِ لَمْ يُغَيِّرْ فِيهِ ذَلِكَ ، وَلَا قَالَ فِيهِ قَوْلًا آخَرَ .
وَاكْتُبُوا عَنِّي هَكَذَا .
وَابْنُ الْقَاسِمِ الَّذِي يُحَرِّمُ الْمُصَاهَرَةَ بِالزِّنَا قُرِئَ ضِدُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي الْمُوَطَّأِ ، فَلَا يُتْرَكُ الظَّاهِرُ لِلْبَاطِنِ ، وَلَا الْقَوْلُ الْمَرْوِيُّ مِنْ أَلْفٍ لِلْمَرْوِيِّ مِنْ وَاحِدٍ ، وَآحَادٍ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي التَّوَكُّلِ : وَهُوَ تَفَعُّلٌ مِنْ الْوَكَالَةِ ، أَيْ اتَّخِذْهُ وَكِيلًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْأَمَدِ ، وَهُوَ إظْهَارُ الْعَجْزِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْغَيْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَصْلُ هَذَا عِلْمُ الْعَبْدِ بِأَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ كُلَّهَا مِنْ اللَّهِ ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى الْإِيجَادِ سِوَاهُ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مُرَادٌ ، وَعَلِمَ أَنَّهُ بِيَدِ الَّذِي لَا يَكُونُ إلَّا مَا أَرَادَ ، جَعَلَ لَهُ أَصْلَ التَّوَكُّلِ ، وَهَذَا فَرْضُ عَيْنٍ ، وَبِهِ يَصِحُّ الْإِيمَانُ الَّذِي هُوَ شَرْطُ التَّوَكُّلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يَتَرَكَّبُ عَلَى هَذَا مِنْ سُكُونِ الْقَلْبِ ، وَزَوَالِ الِانْزِعَاجِ وَالِاضْطِرَابِ ، أَحْوَالٌ تَلْحَقُ بِالتَّوَكُّلِ فِي كَمَالِهِ ، وَلِهَذِهِ الْأَحْوَالِ أَقْسَامٌ ، وَلِكُلِّ قِسْمٍ اسْمٌ : الْحَالَةُ الْأُولَى : أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَا فِي يَدِهِ ، لَا يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ ، وَاسْمُهُ الْقَنَاعَةُ .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكْتَسِبَ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي يَدِهِ ، وَلَا يَنْفِي ذَلِكَ التَّوَكُّلَ عِنْدَنَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ ، كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ ، تَغْدُو خِمَاصًا ، وَتَرُوحُ بِطَانًا } .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا حُجَّةٌ عَلَيْك ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ لَا تَزِيدُ عَلَى مَا فِي الْيَدِ وَلَا تَدَّخِرُ لِغَدٍ .
قُلْنَا : إنَّمَا الِاحْتِجَاجُ بِالْغُدُوِّ ، وَالرَّوَاحُ الِاعْتِمَالُ فِي الطَّلَبِ .
فَإِنْ قِيلَ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : تَغْدُو فِي الطَّاعَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُك رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُك وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } .
قُلْنَا : إنَّمَا أَرَادَ بِالْغُدُوِّ الِاغْتِدَاءَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ ،

فَأَمَّا الْإِقْبَالُ عَلَى الْعِبَادَةِ وَهِيَ الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ ، وَهُوَ أَنْ يُقْبِلَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَيَتْرُكَ طَلَبَ الْعَادَةِ فَإِنَّ اللَّهَ يَفْتَحُ لَهُ .
وَعَلَى هَذَا كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ ، وَهَذَا حَالَةٌ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَكْثَرُ الْخَلْقِ ، وَبَعْدَ هَذَا مَقَامَاتٌ فِي التَّفْوِيضِ وَالِاسْتِسْلَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ الْخِلْفَةِ : وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ جَعَلَ أَحَدَهُمَا مُخَالِفًا لِلْآخَرِ ، يَتَضَادَّانِ ، وَيَتَعَارَضَانِ وَضْعًا وَوَقْتًا ، وَبِذَلِكَ نُمَيِّزُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا مَضَى وَاحِدٌ جَاءَ آخَرُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : بِهَا الْعِيسُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً وَأَطْلَاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمٍ الثَّالِثُ : مَعْنَى خِلْفَةٍ : مَا فَاتَ فِي هَذَا خَلَفَهُ فِي هَذَا .
فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا مِنْ امْرِئٍ تَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِلَيْلٍ ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ ، فَيُصَلِّي مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ ، وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ } .
سَمِعْت ذَا الشَّهِيدَ الْأَكْبَرَ يَقُولُ : إنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْعَبْدَ حَيًّا ، وَبِذَلِكَ كَمَالُهُ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِ آفَةَ النَّوْمِ ، وَضَرُورَةَ الْحَدَثِ ، وَنُقْصَانَ الْخِلْقَةِ ، إذْ الْكَمَالُ لِلْأَوَّلِ الْخَالِقِ ، فَمَا أَمْكَنَ الرَّجُلُ مِنْ دَفْعِ النَّوْمِ بِقِلَّةِ الْأَكْلِ وَالسَّهَرِ فِي الطَّاعَةِ فَلْيَفْعَلْ .
وَمِنْ الْغَبْنِ الْعَظِيمِ أَنْ يَعِيشَ الرَّجُلُ سِتِّينَ سَنَةً يَنَامُ لَيْلَهَا ، فَيَذْهَبُ النِّصْفُ مِنْ عُمْرِهِ لَغْوًا ، وَيَنَامُ نَحْوَ سُدُسِ النَّهَارِ رَاحَةً ، فَيَذْهَبُ ثُلُثَاهُ ، وَيَبْقَى لَهُ مِنْ الْعُمْرِ عِشْرُونَ سَنَةً .
وَمِنْ الْجَهَالَةِ وَالسَّفَاهَةِ أَنْ يُتْلِفَ الرَّجُلُ ثُلُثَيْ عُمْرِهِ فِي لَذَّةٍ فَانِيَةٍ ، وَلَا يُتْلِفُ عُمْرَهُ بِسَهَرِهِ فِي لَذَّةٍ بَاقِيَةٍ عِنْدَ الْغَنِيِّ الْوَفِيِّ الَّذِي لَيْسَ بِعَدِيمٍ وَلَا ظَلُومٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا } : فَيَعْمَلُ وَيَشْكُرُ قَدْرَ النِّعْمَةِ فِي دَلَالَةِ التَّضَادِّ عَلَى الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ ، وَفِي دَلَالَةِ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الَّذِي يُعْدَمُ فَيَعْقُبُهُ غَيْرُهُ ، وَعَلَى الْفُسْحَةِ فِي قَضَاءِ الْفَائِتِ مِنْ الْعَمَلِ لِتَحْصِيلِ الْمَوْعُودِ مِنْ الثَّوَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ إنَّ الْأَشْيَاءَ لَا تَتَفَاضَلُ بِأَنْفُسِهَا ، فَإِنَّ الْجَوَاهِرَ وَالْأَعْرَاضَ مِنْ حَيْثُ الْوُجُودِ مُتَمَاثِلَةٌ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّفَاضُلُ بِالصِّفَاتِ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيُّ الْوَقْتَيْنِ أَفْضَلُ ، اللَّيْلُ أَمْ النَّهَارُ ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ أَنْوَارِ الْفَجْرِ فَضِيلَةَ النَّهَارِ عَلَيْهِ ، وَفِي الصَّوْمِ غُنْيَةً فِي الدَّلَالَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { هَوْنًا } الْهَوْنُ : هُوَ الرِّفْقُ وَالسُّكُونُ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْعِلْمِ وَالْحِلْمِ وَالتَّوَاضُعِ ، لَا بِالْمَرِحِ وَالْكِبْرِ ، وَالرِّيَاءِ وَالْمَكْرِ ، وَفِي مَعْنَاهُ قُلْت : تَوَاضَعْت فِي الْعَلْيَاءِ وَالْأَصْلُ كَابِرٌ وَحُزْت نِصَابَ السَّبْقِ بِالْهَوْنِ فِي الْأَمْرِ سُكُونٌ فَلَا خُبْثَ السَّرِيرَةِ أَصْلُهُ وَجُلُّ سُكُونِ النَّاسِ مِنْ عِظَمِ الْمَكْرِ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّهَا النَّاسُ ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِي الْإِيضَاعِ } .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُسْرِعُ جِبِلَّةً لَا تَكَلُّفًا .
وَالْقَصْدُ وَالتُّؤَدَةُ وَحُسْنُ الصَّمْتِ مِنْ أَخْلَاقِ النُّبُوَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي قَبَسِ الْمُوَطَّأِ .
وَقَدْ قِيلَ : مَعْنَاهُ يَمْشُونَ رِفْقًا مِنْ ضَعْفِ الْبَدَنِ ، قَدْ بَرَاهُمْ الْخَوْفُ ، وَأَنْحَلَتْهُمْ الْخَشْيَةُ ، حَتَّى صَارُوا كَأَنَّهُمْ الْفِرَاخُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } اُخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِينَ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ الْكُفَّارُ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ السُّفَهَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { سَلَامًا } فِيهِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِمَعْنَى حَسَنٍ وَسَدَادٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ قَوْلُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ .
قَالَ سِيبَوَيْهِ : لَمْ يُؤْمَرْ الْمُسْلِمُونَ يَوْمئِذٍ أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِمْ : [ تَسَلُّمُنَا مِنْكُمْ ] وَلَا خَيْرَ بَيْنَنَا وَلَا شَرَّ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا نُهُوا عَنْ ذَلِكَ ، بَلْ أُمِرُوا بِالصَّفْحِ وَالْهَجْرِ الْجَمِيلِ ، وَقَدْ كَانَ مَنْ سَلَفَ مِنْ الْأُمَمِ فِي دِينِهِمْ التَّسْلِيمُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ .
وَفِي الإسرائليات : إنَّ عِيسَى مَرَّ بِهِ خِنْزِيرٌ فَقَالَ

لَهُ : اذْهَبْ بِسَلَامٍ حِينَ لَمْ يَقُلْ وَهُوَ لَا يَعْقِلُ السَّلَامُ .
فَأَمَّا الْكُفَّارُ فَكَانُوا يَفْعَلُونَهُ وَتَلِينُ جَوَانِبُهُمْ بِهِ ؟ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقِفُ عَلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَيُحَيِّيهِمْ وَيُدَانِيهِمْ وَلَا يُدَاهِنُهُمْ .
فَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ : { قَالُوا سَلَامًا } الْمَصْدَرَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحِيَّةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ كُلَّهُ فِي سُورَةِ هُودٍ .
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ إذَا جَفَاك يَجُوزُ أَنْ تَقُولَ لَهُ سَلَامٌ عَلَيْك .
وَهَلْ وُضِعَ السَّلَامُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إلَّا عَلَى مَعْنَى السَّلَامَةِ وَالتَّوَادِّ ؟ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُ : سَلِمْت مِنِّي ، فَأَسْلَمُ مِنْك .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ : { لَمْ يُسْرِفُوا } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَمْ يُنْفِقُوا فِي مَعْصِيَةٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : لَمْ يُنْفِقُوا كَثِيرًا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ .
الثَّالِثُ : لَمْ يَتَمَتَّعُوا لِلنَّعِيمِ ، إذَا أَكَلُوا لِلْقُوَّةِ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَلَبِسُوا لِلسُّتْرَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ صِحَاحٌ ، فَالنَّفَقَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ حَرَامٌ ، فَالْأَكْلُ وَاللُّبْسُ لِلَّذَّةِ جَائِزٌ ، وَلِلتَّقْوَى وَالسَّتْرِ أَفْضَلُ ، فَمَدَحَ اللَّهُ مَنْ أَتَى الْأَفْضَلَ ، وَإِنْ كَانَ مَا تَحْتَهُ مُبَاحًا .
وَإِذَا أَكْثَرَ رُبَّمَا افْتَقَرَ ، فَالتَّمَسُّكُ بِبَعْضِ الْمَالِ أَوْلَى ، كَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي لُبَابَةَ وَلِكَعْبٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَمْ يَقْتُرُوا } فِيهِ قَوْلَانِ : الْأَوَّلُ : لَمْ يَمْنَعُوا وَاجِبًا .
الثَّانِي : لَمْ يَمْنَعُوا عَنْ طَاعَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قَوَامًا } يَعْنِي عَدْلًا ؛ وَهُوَ أَنْ يُنْفِقَ الْوَاجِبَ ، وَيَتَّسِعَ فِي الْحَلَالِ فِي غَيْرِ دَوَامٍ عَلَى اسْتِيفَاءِ اللَّذَّاتِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يَشْهَدُونَ الزُّورَ } فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الشِّرْكُ .
الثَّانِي : الْكَذِبُ .
الثَّالِثُ : أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ .
الرَّابِعُ : الْغِنَاءُ .
الْخَامِسُ : لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى بِالزُّورِ ؛ قَالَ عِكْرِمَةُ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ الْمَجْلِسُ الَّذِي يُشْتَمُ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ مَجْلِسٌ يُشْتَمُ فِيهِ النَّبِيُّ فَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَنَّهُ الشِّرْكُ ؛ لِأَنَّ شَتْمَ النَّبِيِّ شِرْكٌ ، وَالْجُلُوسُ مَعَ مَنْ يَشْتُمُهُ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرٍ وَلَا قَتْلٍ لَهُ شِرْكٌ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْكَذِبُ فَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إلَى الْكَذِبِ يَرْجِعُ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ أَعْيَادُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ فِصْحَ النَّصَارَى وَسَبْتَ الْيَهُودِ يُذْكَرُ فِيهِ الْكُفْرُ ؛ فَمُشَاهَدَتُهُ كُفْرٌ ، إلَّا لِمَا يَقْتَضِي ذَلِكَ مِنْ الْمَعَانِي الدِّينِيَّةِ ، أَوْ عَلَى جَهْلٍ مِنْ الْمُشَاهِدِ لَهُ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ الْغِنَاءُ فَلَيْسَ يَنْتَهِي إلَى هَذَا الْحَدِّ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَمْرَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَقُلْنَا : إنَّ مِنْهُ مُبَاحًا وَمِنْهُ مَحْظُورًا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ لَعِبٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ فِيهِ قِمَارٌ أَوْ جَهَالَةٌ أَوْ أَمْرٌ يَعُودُ إلَى الْكُفْرِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } قَدْ بَيَّنَّا اللَّغْوَ ، وَأَنَّهُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَضَرَّةٌ فِي دِينٍ أَوْ دُنْيَا فَقَدْ تَأَكَّدَ أَمْرُهُ فِي التَّحْرِيمِ ؛ وَذَلِكَ بِحَسْبِ تِلْكَ الْمَضَرَّةِ فِي اعْتِقَادٍ أَوْ فِعْلٍ ، وَيَتَرَكَّبُ اللَّغْوُ عَلَى الزُّورِ ؛ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعْنَى زَائِدٌ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { وَاَلَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } فَهَذَا مُحَرَّمٌ بِلَا كَلَامٍ .
ثُمَّ قَالَ : { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ } يَعْنِي الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَكَرَّمُوا عَنْهُ ، حَتَّى قَالَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ : إنَّهُ ذِكْرُ الرَّفَثِ ، وَيَكُونُ لَغْوًا مُجَرَّدًا إذَا كَانَ فِي الْحَلَالِ ، وَيَكُونُ زُورًا مُحَرَّمًا إذَا كَانَ فِي الْحَرَامِ ، وَإِنْ احْتَاجَ أَحَدٌ إلَى ذِكْرِ الْفَرْجِ أَوْ النِّكَاحِ لِأَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ جَازَ ذَلِكَ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلَّذِي اعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِالزِّنَا : { نِكْتَهَا } ؟ لَا تَكْنِي ، لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ فِي تَقْدِيرِ الْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحَدُّ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَعْنِي الَّذِينَ إذَا قَرَءُوا الْقُرْآنَ قَرَءُوهُ بِقُلُوبِهِمْ قِرَاءَةَ فَهْمٍ وَتَثَبُّتٍ ، وَلَمْ يَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقَلِ ؛ فَإِنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ فَهْمٍ وَلَا تَثَبُّتٍ صَمَمٌ وَعَمًى عَنْ مُعَايَنَةِ وَعِيدِهِ وَوَعْدِهِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّ مَنْ سَمِعَ رَجُلًا وَهُوَ يُصَلِّي يَقْرَأُ سَجْدَةً فَسَجَدَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ سَمِعَ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ إلَّا لِلْقَارِئِ وَحْدَهُ ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَكَرَهَا مَالِكٌ ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَلَا الْقُرْآنَ ، وَقَرَأَ السَّجْدَةَ ؛ فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَلَسَ مَعَهُ جَلَسَ إلَيْهِ لِيَسْمَعَهُ فَلْيَسْجُدْ مَعَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ السَّمَاعَ مَعَهُ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ .
وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ إذَا كَانَ فِي صَلَاةٍ فَقَرَأَ السَّجْدَةَ أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ الَّذِي لَا يُصَلِّي مَعَهُ .
وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْهُ .
وَقِيلَ : مَعْنَى الْآيَةِ فِي الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ اعْتِبَارَ الْإِيمَانِ ، وَلَا يُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ ، وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ ، إلَّا أَنَّهُ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُهُمْ بِحَسْبِ اخْتِلَافِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { قُرَّةَ أَعْيُنٍ } مَعْنَاهُ أَنَّ النُّفُوسَ تَتَمَنَّى ، وَالْعُيُونَ تَمْتَدُّ إلَى مَا تَرَى مِنْ الْأَزْوَاجِ وَالذُّرِّيَّةِ ، حَتَّى إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ زَوْجَةٌ اجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيُّهُ مِنْ جَمَالٍ وَعِفَّةٍ وَنَظَرٍ وَحَوْطَةٍ ، أَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ ذُرِّيَّتُهُ مُحَافِظِينَ عَلَى الطَّاعَةِ ، مُعَاوِنِينَ لَهُ عَلَى وَظَائِفِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى زَوْجِ أَحَدٍ ، وَلَا إلَى وَلَدِهِ ، فَتَسْكُنُ عَيْنُهُ عَنْ الْمُلَاحَظَةِ ، وَتَزُولُ نَفْسُهُ عَنْ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِهَا ؛ فَذَلِكَ حِينَ قُرَّةِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ النَّفْسِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ { وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إمَامًا } مَعْنَاهُ قُدْوَةٌ .
كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ " .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " إنَّكُمْ أَيُّهَا الرَّهْطُ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِكُمْ " .
وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ اقْتَدُوا بِمَنْ قَبْلَهُمْ فَاقْتَدَى بِهِمْ مَنْ بَعْدَهُمْ .
وَكَانَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ شَيْخُ الصُّوفِيَّةِ يَقُولُ : الْإِمَامَةُ بِالدُّعَاءِ ، لَا بِالدَّعْوَى يَعْنِي بِتَوْفِيقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَيْسِيرِهِ وَهِبَتِهِ ، لَا بِمَا يَدَّعِيهِ كُلُّ أَحَدٍ لِنَفْسِهِ ، وَيَرَى فِيهَا مَا لَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ .

سُورَةُ الشُّعَرَاءِ فِيهَا سِتُّ آيَاتٍ : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فَأَوْحَيْنَا إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ مَالِكٌ : خَرَجَ مَعَ مُوسَى رَجُلَانِ مِنْ التُّجَّارِ إلَى الْبَحْرِ ، فَلَمَّا أَتَيَا إلَيْهِ قَالَا لَهُ : بِمَ أَمَرَك اللَّهُ ؟ قَالَ : أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَايَ هَذِهِ فَيَجِفُّ .
فَقَالَا لَهُ : افْعَلْ مَا أَمَرَك بِهِ رَبُّك ، فَلَنْ يُخْلِفَك .
ثُمَّ أَلْقَيَا أَنْفُسَهُمَا فِي الْبَحْرِ تَصْدِيقًا لَهُ ، فَمَا زَالَ كَذَلِكَ الْبَحْرُ حَتَّى دَخَلَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ مَعَهُ ، ثُمَّ ارْتَدَّ كَمَا كَانَ .
وَفِي رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ أَنَّ مُوسَى قَالَ لِلْبَحْرِ : انْفَلِقْ .
قَالَ : لَقَدْ اسْتَكْبَرْت يَا مُوسَى ، مَا انْفَرَقْت لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ آدَم ، فَأَنْفَلِقَ لَك .
فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاك الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ .
فَصَارَ لِمُوسَى وَأَصْحَابِهِ الْبَحْرُ طَرِيقًا يَابِسًا .
فَلَمَّا خَرَجَ أَصْحَابُ مُوسَى ، وَتَكَامَلَ آخِرُ أَصْحَابِ فِرْعَوْنَ ، انْصَبَّ عَلَيْهِمْ الْبَحْرُ ، وَغَرِقَ فِرْعَوْنُ .
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ مُوسَى : مَا غَرِقَ فِرْعَوْنُ .
فَنُبِذَ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ ، حَتَّى نَظَرُوا إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ مَالِكٌ : دَعَا مُوسَى فِرْعَوْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً إلَى الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّ السَّحَرَةَ آمَنُوا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالِكًا كَانَ يَذْكُرُ مِنْ أَخْبَارِ الإسرائليات مَا وَافَقَ الْقُرْآنَ ، أَوْ وَافَقَ السُّنَّةَ أَوْ الْحِكْمَةَ ، أَوْ قَامَتْ بِهِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي لَمْ تَخْتَلِفْ فِيهَا الشَّرَائِعُ ؛ وَعَلَى هَذِهِ النُّكْتَةِ عَوَّلَ فِي جَامِعِ الْمُوَطَّأِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } : قَالَ مَالِكٌ : لَا بَأْسَ أَنْ يُحِبَّ الرَّجُلُ أَنْ يُثْنَى عَلَيْهِ صَالِحًا ؛ وَيُرَى فِي عَمَلِ الصَّالِحِينَ ، إذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ وَهُوَ الثَّنَاءُ الصَّالِحُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : { وَأَلْقَيْت عَلَيْك مَحَبَّةً مِنِّي } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } يَعْنِي أَنْ يَجْعَلَ مِنْ وَلَدِهِ مَنْ يَقُومُ بِالْحَقِّ مِنْ بَعْدِهِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ ؛ فَقُبِلَتْ الدَّعْوَةُ وَلَمْ تَزَلْ النُّبُوَّةُ فِيهِمْ إلَى مُحَمَّدٍ ، ثُمَّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
وَقِيلَ : إنَّ الْمَطْلُوبَ اتِّفَاقُ الْمِلَلِ كُلِّهَا عَلَيْهِ [ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ] ، فَلَا أُمَّةٌ إلَّا تَقُولُ بِهِ وَتُعَظِّمُهُ ، وَتَدَّعِيهِ ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ قَطَعَ وِلَايَةَ الْأُمَمِ كُلِّهَا إلَّا وِلَايَتَنَا ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : { إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَاَللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ شُيُوخِ الزُّهْدِ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يُكْسِبُ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ : صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، أَوْ عِلْمٌ عَلَّمَهُ ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : إنَّهُ كَذَلِكَ فِي الْغَرْسِ وَالزَّرْعِ ، وَكَذَلِكَ فِيمَنْ مَاتَ مُرَابِطًا يُكْتَبُ لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْخَمْسَةُ صَحِيحٌ أَثَرُهَا ؛ وَمَسْأَلَةُ الرِّبَاطِ حَسَنٌ سَنَدُهَا .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ الشِّرْكِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ سَلِيمٌ مِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ : يَا بَنِيَّ ؛ لَا تَكُونُوا لَعَّانِينَ ، فَإِنَّ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَلْعَنْ شَيْئًا قَطُّ .
قَالَ اللَّهُ : { إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } وَقَالَ قَوْمٌ : مَعْنَاهُ لَدِيغٌ ، أَحْرَقَتْهُ الْمَخَاوِفُ ، وَلَدَغَتْهُ الْخَشْيَةُ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : إنَّ مَعْنَاهُ إلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ مِنْ الشِّرْكِ ؛ فَأَمَّا الذُّنُوبُ فَلَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْهَا .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ الْقَلْبُ سَلِيمًا إذَا كَانَ حَقُودًا حَسُودًا ، مُعْجَبًا مُتَكَبِّرًا ، وَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ بِرَحْمَتِهِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ : فِي نُزُولِهَا خَبَرٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْأُمَمِ ، وَوَعْظٌ مِنْ اللَّهِ لَنَا فِي مُجَانَبَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي ذَمَّهُمْ بِهِ ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : قَالَ نَافِعٌ : قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } قَالَ : يَعْنِي بِهِ السَّوْطَ وَقَالَ غَيْرُهُ بِالْقَتْلِ ؛ وَيُؤَيِّدُ مَا قَالَ مَالِكٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنْ مُوسَى : { فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِاَلَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْت نَفْسًا بِالْأَمْسِ إنْ تُرِيدُ إلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ } .
وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى لَمْ يَسُلَّ عَلَيْهِ سَيْفًا ، وَلَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ ؛ وَإِنَّمَا وَكَزَهُ ، فَكَانَتْ مَيْتَتُهُ فِي وَكْزَتِهِ .
وَالْبَطْشُ يَكُونُ بِالْيَدِ ، وَأَقَلُّهُ الْوَكْزُ وَالدَّفْعُ ، وَيَلِيهِ السَّوْطُ وَالْعَصَا ، وَيَلِيهِ الْحَدِيدُ ؛ وَالْكُلُّ مَذْمُومٌ إلَّا بِحَقٍّ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي نُزُولِهَا : وَذَاكَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَحَرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعِدَ الصَّفَا ، ثُمَّ نَادَى : يَا صَبَاحَاهُ وَكَانَتْ دَعْوَةَ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا دَعَاهَا الرَّجُلُ اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ عَشِيرَتُهُ ، فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهَا ، فَعَمَّ وَخَصَّ ، فَقَالَ : { أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصْبِحُكُمْ ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ ؟ قَالُوا : مَا جَرَّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا .
قَالَ : فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } .
قَالَ : { يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ : يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ لُؤَيٍّ : يَا آلَ قُصَيٍّ ، يَا آلَ عَبْدِ شَمْسٍ ؛ يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ ، يَا آلَ هَاشِمٍ ؛ يَا آلَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، يَا صَفِيَّةُ أُمَّ الزُّبَيْرِ ؛ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ؛ إنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا .
يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، يَا صَفِيَّةُ ، يَا فَاطِمَةُ ؛ سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَوْلِيَائِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُتَّقُونَ ، فَإِنْ تَكُونُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَرَابَتِكُمْ فَذَلِكَ ، وَإِيَّايَ لَا يَأْتِي النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ ، وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى أَعْنَاقِكُمْ ؛ فَأَصُدُّ بِوَجْهِي عَنْكُمْ ، فَتَقُولُونَ : يَا مُحَمَّدُ ، فَأَقُولُ : هَكَذَا وَصَرَفَ وَجْهَهُ إلَى الشِّقِّ الْآخَرِ ؛ غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا } .
فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ : أَلِهَذَا جَمَعْتنَا ، تَبًّا لَك سَائِرَ الْيَوْمِ .
فَنَزَلَتْ : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ الْمَسَدُ : ] .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ آلَ أَبِي طَالِبٍ لَيْسُوا إلَيَّ بِأَوْلِيَاءٍ ، وَإِنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } .
قَالَ الْبُخَارِيُّ : حَدَّثَنَا

مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ ، قَالَ : وَكَانَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ يَعْنِي بَعْدَ قَوْلِهِ " إلَيَّ " وَقَدْ بَيَّنَهُ أَبُو دَاوُد فِي جَمْعِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ شُعْبَةَ بِالسَّنَدِ الصَّحِيحِ ، فَقَالَ : { آلُ أَبِي طَالِبٍ لَيْسُوا إلَيَّ بِأَوْلِيَاءٍ ، إنَّمَا وَلِيِّي اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ : { لَا يَتَّكِلُ النَّاسُ عَلَيَّ بِشَيْءٍ ؛ لَا أَحِلُّ إلَّا مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَلَا أُحَرِّمُ إلَّا مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ ، اعْمَلَا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ ، فَإِنِّي لَا أُغْنِي عَنْكُمَا مِنْ اللَّهِ شَيْئًا } .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ } فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { وَالشُّعَرَاءُ } الشِّعْرُ نَوْعٌ مِنْ الْكَلَامِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِهِ يَعْنِي أَنَّ الشِّعْرَ لَيْسَ يُكْرَهُ لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لِمُتَضَمَّنَاتِهِ .
وَقَدْ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ عَظِيمَ الْمَوْقِعِ حَتَّى قَالَ الْأَوَّلُ مِنْهُمْ : وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشِّعْرِ الَّذِي كَانَ يُرَدُّ بِهِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ : { إنَّهُ لَأَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ النَّبْلِ } .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، أَنْبَأَنَا الْبَرْمَكِيُّ وَالْقَزْوِينِيُّ الزَّاهِدُ ، أَنْبَأَنَا ابْنُ حَيْوَةَ ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ السُّكَّرِيُّ ، أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَمْرٍو الْغَنَوِيُّ ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زَحْرِ بْنِ حِصْنٍ عَنْ جَدِّهِ حُمَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ قَالَ : { سَمِعْت جَدِّي خُرَيْمَ بْنَ أَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ يَقُولُ : هَاجَرْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ مُنْصَرَفِهِ مِنْ تَبُوكَ ، فَسَمِعْت الْعَبَّاسَ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْتَدِحَك .
فَقَالَ : قُلْ ، لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك .
فَقَالَ الْعَبَّاسُ مُمْتَدِحًا : مِنْ قَبْلِهَا طِبْت فِي الظِّلَالِ وَفِي مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الْوَرَقُ ثُمَّ هَبَطْت الْبِلَادَ لَا بَشَرٌ أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الْغَرَقُ تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إلَى رَحِمٍ إذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ حَتَّى اسْتَوَى

بَيْنَك الْمُهَيْمِنُ مِنْ خِنْدِفٍ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطْقُ وَأَنْتَ لَمَّا بُعِثْت أَشْرَقَتْ الْأَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِك الْأُفُقُ فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّيَاءِ وَفِي النُّورِ وَسُبُلِ الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَفْضُضُ اللَّهُ فَاك } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ } : يَعْنِي الْجَاهِلُونَ ، مِنْ الْغَيِّ ، وَقَدْ يَكُونُ الْجَهْلُ فِي الْعَقِيدَةِ ، فَيَكُونُ شِرْكًا ، وَيُرَادُ بِهِ الْكُفَّارُ وَالشَّيَاطِينُ .
وَقَدْ يَكُونُ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ سَفَاهَةً .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } : يَعْنِي يَمْشُونَ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَلَا تَحْصِيلٍ ، وَضَرَبَ الْأَوْدِيَةَ فِي السَّيْرِ مَثَلًا لِصُنُوفِ الْكَلَامِ فِي الشِّعْرِ ، لِجَرَيَانِ تِلْكَ سَيْلًا ، وَسَيْرِ هَؤُلَاءِ قَوْلًا ، وَأَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ : فَسَارَ مَسِيرَ الشَّمْسِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ وَهَبَّ هُبُوبَ الرِّيحِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } : يَعْنِي مَا يَذْكُرُونَهُ فِي شِعْرِهِمْ مِنْ الْكَذِبِ فِي الْمَدْحِ وَالتَّفَاخُرِ ، وَالْغَزَلِ وَالشَّجَاعَةِ ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ فِي صِفَةِ السَّيْفِ : تَظَلُّ تَحْفِرُ عَنْهُ إنْ ضَرَبْت بِهِ بَعْدَ الذِّرَاعَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْهَادِي فَهَذَا تَجَاوُزُ بَارِدٍ وَتَحَامُقُ جَاهِلٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : رُوِيَ أَنَّ { عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ ، وَكَعْبَ بْنَ مَالِكٍ ، وَحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَ : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ } وَقَالُوا : هَلَكْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { إلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا } يَعْنِي ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا فِي كَلَامِهِمْ ، وَانْتَصَرُوا فِي رَدِّ الْمُشْرِكِينَ عَنْ هِجَائِهِمْ ، } .
كَقَوْلِ حَسَّانَ فِي أَبِي سُفْيَانَ : وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُك الْعَبْدُ وَمَا وَلَدَتْ أَفْنَاءُ زُهْرَةَ مِنْكُمْ كَرِيمًا وَلَا يَقْرُبْ عَجَائِزَك الْمَجْدُ وَلَسْت كَعَبَّاسٍ وَلَا كَابْنِ أُمِّهِ وَلَكِنْ هَجِينٌ لَيْسَ يُورَى لَهُ زَنْدٌ وَإِنَّ امْرَأً كَانَتْ سُمَيَّةُ أُمَّهُ وَسَمْرَاءُ مَغْلُوبٌ إذَا بَلَغَ الْجَهْدُ وَأَنْتَ امْرُؤٌ قَدْ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَنَسٍ .
{ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ : خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ مَقِيلِهِ وَيُذْهِلُ الْخَلِيلَ عَنْ خَلِيلِهِ فَقَالَ عُمَرُ : يَا بْنَ رَوَاحَةَ ؛ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقُولُ الشِّعْرَ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خَلِّ عَنْهُ يَا عُمَرُ ، فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِيهِمْ مِنْ نَضْحِ النَّبْلِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : نَحْنُ ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ كَمَا ضَرَبْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مِنْ الْمَذْمُومِ فِي الشِّعْرِ التَّكَلُّمُ مِنْ الْبَاطِلِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ الْمَرْءُ ؛ رَغْبَةً فِي تَسْلِيَةِ النَّفْسِ ، وَتَحْسِينِ الْقَوْلِ .
رُوِيَ أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ عَلِيِّ بْنِ نَضْلَةَ

كَانَ عَامِلًا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، فَقَالَ : أَلَا هَلْ أَتَى الْحَسْنَاءَ أَنَّ خَلِيلَهَا بِمَيْسَانَ يُسْقَى فِي زُجَاجٍ وَحَنْتَمِ إذَا شِئْت غَنَّتْنِي دَهَاقِينُ قَرْيَةٍ وَرَقَّاصَةٌ تَجْذُو عَلَى كُلِّ مَنْسِمِ فَإِنْ كُنْت نَدْمَانِي فَبِالْأَكْبَرِ اسْقِنِي وَلَا تَسْقِنِي بِالْأَصْغَرِ الْمُتَثَلِّمِ لَعَلَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَسُوءُهُ تَنَادُمُنَا بِالْجَوْسَقِ الْمُتَهَدِّمِ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : إنِّي وَاَللَّهِ يَسُوءُنِي ذَلِكَ .
فَقَالَ لَهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ مَا فَعَلْت شَيْئًا مِمَّا قُلْت ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فَضْلَةً مِنْ الْقَوْلِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : أَمَّا عُذْرُك فَقَدْ دَرَأَ عَنْك الْحَدَّ ، وَلَكِنْ لَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا أَبَدًا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : وَقَدْ كَشَفَ الْخَلِيفَةُ الْعَدْلُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَقِيقَةَ أَحْوَالِ الشُّعَرَاءِ ، وَكَشَفَ سَرَائِرَهُمْ ، وَانْتَحَى مَعَايِبَهُمْ فِي أَشْعَارِهِمْ ، فَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا اُسْتُخْلِفَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفَدَتْ إلَيْهِ الشُّعَرَاءُ ، كَمَا كَانَتْ تَفِدُ إلَى الْخُلَفَاءِ قَبْلَهُ ، فَأَقَامُوا بِبَابِهِ أَيَّامًا لَا يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ ، حَتَّى قَدِمَ عُدَيُّ بْنُ أَرْطَاةَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، وَكَانَتْ لَهُ مَكَانَةٌ فَتَعَرَّضَ لَهُ جَرِيرٌ ، فَقَالَ : يَأَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ هَذَا زَمَانُك إنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي أَبْلِغْ خَلِيفَتَنَا إنْ كُنْت لَاقِيَهُ أَنِّي لَدَى الْبَابِ كَالْمَصْفُودِ فِي قَرَنِ وَحْشُ الْمَكَانَةِ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَلَدِي نَائِي الْمَحَلَّةِ عَنْ دَارِي وَعَنْ وَطَنِي فَقَالَ : نَعَمْ ، أَبَا حَزْرَةَ وَنُعْمَى عَيْنٍ .
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى عُمَرَ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ إنَّ الشُّعَرَاءَ بِبَابِك ، وَأَقْوَالُهُمْ بَاقِيَةٌ ، وَسِهَامُهُمْ مَسْمُومَةٌ .
فَقَالَ عُمَرُ : مَا لِي

وَلِلشُّعَرَاءِ ، قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مُدِحَ وَأَعْطَى ، وَفِيهِ أُسْوَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ .
قَالَ : وَمَنْ مَدَحَهُ ؟ قَالَ : عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ فَكَسَاهُ حُلَّةً قَطَعَ بِهَا لِسَانَهُ .
قَالَ : نَعَمْ ، فَأَنْشَدَهُ : رَأَيْتُك يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ كُلِّهَا نَشَرْت كِتَابًا جَاءَ بِالْحَقِّ مُعْلِمَا سَنَنْت لَنَا فِيهِ الْهُدَى بَعْدَ جَوْرِنَا عَنْ الْحَقِّ لَمَّا أَصْبَحَ الْحَقُّ مُظْلِمَا فَمَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي النَّبِيَّ مُحَمَّدًا وَكُلُّ امْرِئٍ يُجْزَى بِمَا قَدْ تَكَلَّمَا تَعَالَى عُلُوًّا فَوْقَ عَرْشِ إلَهِنَا وَكَانَ مَكَانُ اللَّهِ أَعْلَى وَأَعْظَمَا قَالَ : صَدَقْت ، فَمَنْ بِالْبَابِ مِنْهُمْ ؟ قَالَ : ابْنُ عَمِّك عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْقُرَشِيُّ .
قَالَ : لَا قَرَّبَ اللَّهُ قَرَابَتَهُ ، وَلَا حَيَّا وَجْهَهُ ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلُ : أَلَا لَيْتَ أَنِّي يَوْمَ بَانُوا بِمَيْتَتِي شَمَمْت الَّذِي مَا بَيْنَ عَيْنَيْك وَالْفَمِ وَلَيْتَ طَهُورِي كَانَ رِيقَك كُلَّهُ وَلَيْتَ حَنُوطِي مِنْ مُشَاشِك وَالدَّمِ وَيَا لَيْتَ سَلْمَى فِي الْقُبُورِ ضَجِيعَتِي هُنَالِكَ أَوْ فِي جَنَّةٍ أَوْ جَهَنَّمِ فَلَيْتَ عَدُوَّ اللَّهِ تَمَنَّى لِقَاءَهَا فِي الدُّنْيَا ، ثُمَّ يَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحًا ؛ وَاَللَّهِ لَا دَخَلَ عَلَيَّ أَبَدًا .
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْعُذْرِيُّ .
قَالَ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ : أَلَا لَيْتَنَا نَحْيَا جَمِيعًا وَإِنْ نَمُتْ يُوَافِي لَدَى الْمَوْتَى ضَرِيحِي ضَرِيحُهَا فَمَا أَنَا فِي طُولِ الْحَيَاةِ بِرَاغِبٍ إذَا قِيلَ قَدْ سَوِّي عَلَيْهَا صَفِيحُهَا أَظَلُّ نَهَارِي لَا أَرَاهَا وَيَلْتَقِي مَعَ اللَّيْلِ رُوحِي فِي الْمَنَامِ وَرُوحُهَا اُعْزُبْ بِهِ ، فَلَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا .
فَمَنْ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : كُثَيِّرُ عَزَّةَ .
قَالَ : هُوَ الَّذِي يَقُولُ : رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَاَلَّذِينَ عَهِدْتهمْ يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ الْعَذَابِ قُعُودَا لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْت كَلَامَهَا خَرُّوا لِعَزَّةِ رُكَّعًا وَسُجُودَا اُعْزُبْ بِهِ .
فَمَنْ

بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : الْأَحْوَصُ الْأَنْصَارِيُّ .
قَالَ : أَبْعَدَهُ اللَّهُ وَأَسْحَقَهُ ، أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ وَقَدْ أَفْسَدَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ جَارِيَةً لَهُ حَتَّى هَرَبَتْ مِنْهُ قَالَ : اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ سَيِّدِهَا يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وَأَتَّبِعُ اُعْزُبْ بِهِ .
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قَالَ : هَمَّامُ بْنُ غَالِبٍ الْفَرَزْدَقُ .
قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ يَفْخَرُ بِالزِّنَا : هُمَا دَلَّيَانِي مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً كَمَا انْقَضَّ بَازٍ أَقْتَمُ الرِّيشِ كَاسِرُهْ فَلَمَّا اسْتَوَتْ رِجْلَايَ فِي الْأَرْضِ قَالَتَا أَحَيٌّ يُرَجَّى أَمْ قَتِيلٌ نُحَاذِرُهْ فَقُلْت ارْفَعُوا الْأَمْرَاسَ لَا يَشْعُرُوا بِنَا وَوَلَّيْت فِي أَعْقَابِ لَيْلٍ أُبَادِرُهْ اُعْزُبْ بِهِ .
فَوَاَللَّهِ لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَبَدًا .
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قُلْت : الْأَخْطَلُ التَّغْلِبِيُّ .
قَالَ : هُوَ الْقَائِلُ : فَلَسْت بِصَائِمٍ رَمَضَانَ عُمْرِي وَلَسْت بِآكِلٍ لَحْمَ الْأَضَاحِيّ وَلَسْت بِزَاجِرٍ عِيسًا رَكُوبًا إلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ لِلنَّجَاحِ وَلَسْت بِقَائِمٍ كَالْعِيرِ يَدْعُو قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ وَلَكِنِّي سَأَشْرَبُهَا شَمُولًا وَأَسْجُدُ عِنْدَ مُنْبَلَجِ الصَّبَاحِ اُعْزُبْ بِهِ ، فَوَاَللَّهِ لَا وَطِئَ بِسَاطِي .
فَمَنْ بِالْبَابِ غَيْرُ مَنْ ذَكَرْت ؟ قُلْت : جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ الْخَطَفِيُّ قَالَ : أَلَيْسَ هُوَ الْقَائِلَ : لَوْلَا مُرَاقَبَةُ الْعُيُونِ أَرَيْتنَا مُقَلَ الْمَهَا وَسَوَالِفَ الْآرَامِ ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ طَرَقَتْك صَائِدَةُ الْقُلُوبِ وَلَيْسَ ذَا حِينَ الزِّيَارَةِ فَارْجِعِي بِسَلَامِ فَإِنْ كَانَ وَلَا بُدَّ فَهَذَا ، فَأْذَنْ لَهُ فَخَرَجْت إلَيْهِ ، فَقُلْت : اُدْخُلْ أَبَا حَزْرَةَ ، فَدَخَلَ وَهُوَ يَقُولُ : إنَّ الَّذِي بَعَثَ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا جَعَلَ الْخِلَافَةَ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ وَسِعَ الْبَرِيَّةَ عَدْلُهُ وَوَفَاؤُهُ حَتَّى ارْعَوى وَأَقَامَ مَيْلَ الْمَائِلِ إنِّي لَأَرْجُو مِنْك خَيْرًا عَاجِلًا وَالنَّفْسُ مُولَعَةٌ بِحُبِّ

الْعَاجِلِ فَلَمَّا مَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ يَا جَرِيرُ ، وَلَا تَقُلْ إلَّا حَقًّا ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ : كَمْ بِالْيَمَامَةِ مِنْ شَعْثَاءَ أَرْمَلَةٍ وَمِنْ يَتِيمٍ ضَعِيفِ الصَّوْتِ وَالنَّظَرِ مِمَّنْ يَعُدُّك تَكْفِي فَقْدَ وَالِدِهِ كَالْفَرْخِ فِي الْعُشِّ لَمْ يَدْرُجْ وَلَمْ يَطِرْ إنَّا لَنَرْجُو إذَا مَا الْغَيْثُ أَخْلَفَنَا مِنْ الْخَلِيفَةِ مَا نَرْجُو مِنْ الْمَطَرِ أَتَى الْخِلَافَةَ إذْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ النَّطْرُونِيُّ الْأَرَامِلُ قَدْ قَضَّيْت حَاجَتَهَا فَمَنْ لِحَاجَةِ هَذَا الْأَرْمَلِ الذَّكَرِ فَقَالَ : يَا جَرِيرُ لَقَدْ وُلِّيت هَذَا الْأَمْرَ ، وَمَا أَمْلِكُ إلَّا ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَمِائَةٌ أَخَذَهَا عَبْدُ اللَّهِ ، وَمِائَةٌ أَخَذَتْهَا أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ ، يَا غُلَامُ ، أَعْطِهِ الْمِائَةَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ : وَاَللَّهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إنَّهَا لَأَحَبُّ مَالٍ كَسَبْتُهُ إلَيَّ .
ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ لَهُ الشُّعَرَاءُ : مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ : مَا يَسُوءُكُمْ ، خَرَجْت مِنْ عِنْدِ أَمِيرٍ يُعْطِي الْفُقَرَاءَ ، وَيَمْنَعُ الشُّعَرَاءَ ، وَإِنِّي عَنْهُ لَرَاضٍ ، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ : رَأَيْت رُقَى الشَّيْطَانِ لَا تَسْتَفِزُّهُ وَقَدْ كَانَ شَيْطَانِي مِنْ الْجِنِّ رَاقِيَا وَلَمَّا وَلِيَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَفَدَ إلَيْهِ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، ثُمَّ أَنْشَدَهُ : حَكَيْت لَنَا الْفَارُوقَ لَمَّا وَلِيتَنَا وَعُثْمَانَ وَالصِّدِّيقَ فَارْتَاحَ مُعْدِمُ وَسَوَّيْت بَيْنَ النَّاسِ فِي الْحَقِّ فَاسْتَوَوْا فَعَادَ صَبَاحًا حَالِكُ اللَّوْنِ مُظْلِمُ أَتَاك أَبُو لَيْلَى يَجُوبُ بِهِ الدُّجَى دُجَى اللَّيْلِ جَوَّابُ الْفَلَاةِ عَثَمْثَمُ لِتَجْبُرَ مِنَّا جَانِبًا دَعْدَعَتْ بِهِ صُرُوفُ اللَّيَالِيِ وَالزَّمَانُ الْمُصَمِّمُ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ : هَوِّنْ عَلَيْك أَبَا لَيْلَى ، فَالشِّعْرُ أَدْنَى وَسَائِلُكَ عِنْدَنَا ، أَمَّا صَفْوَةُ مَالِنَا فَلِآلِ الزُّبَيْرِ ، وَأَمَّا عَفْوَتُهُ فَإِنَّ بَنِي أَسَدٍ وَتَمِيمًا شَغَلَاهَا عَنْك ، وَلَكِنْ لَك فِي مَالِ اللَّهِ سَهْمَانِ

: سَهْمٌ بِرُؤْيَتِك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَهْمٌ بِشَرِكَتِك أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي فَيْئِهِمْ ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ ، وَدَخَلَ دَارَ الْمَغْنَمِ فَأَعْطَاهُ قَلَائِصَ سَبْعًا ، وَجَمَلًا رَحِيلًا ، وَأَوْقَرَ لَهُ الرِّكَابَ بُرًّا وَتَمْرًا ، فَجَعَلَ النَّابِغَةُ يَسْتَعْجِلُ ، وَيَأْكُلُ الْحَبَّ صِرْفًا .
فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ : وَيْحَ أَبِي لَيْلَى ، لَقَدْ بَلَغَ بِهِ الْجَهْدُ ، فَقَالَ النَّابِغَةُ : أَشْهَدُ ، لَسَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { : مَا وَلِيَتْ ؟ ؟ قُرَيْشٌ فَعَدَلَتْ ، وَلَا اُسْتُرْحِمَتْ فَرُحِمَتْ ، وَحَدَّثَتْ فَصَدَقَتْ ، وَوَعَدَتْ فَأَنْجَزَتْ ، فَأَنَا وَالنَّبِيُّونَ فُرَّاطُ الْقَاصِفِينَ } .
قَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ : فَكَأَنَّ الْفَارِطَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ إلَى الْمَاءِ يُصْلِحُ الرِّشَاءَ وَالدِّلَاءَ .
وَالْقَاصِفُ : الَّذِي يَتَقَدَّمُ لِشِرَاءِ الطَّعَامِ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ فِيهِ : أَمَّا الِاسْتِعَارَاتُ وَالتَّشْبِيهَاتُ فَمَأْذُونٌ فِيهَا وَإِنْ اسْتَغْرَقَتْ الْحَدَّ ، وَتَجَاوَزَتْ الْمُعْتَادَ ، فَبِذَلِكَ يَضْرِبُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالرُّؤْيَا الْمَثَلَ ، وَقَدْ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ مُتَيَّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا إلَّا أَغَنُّ غَضِيضُ الطَّرْفِ مَكْحُولُ تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ فَجَاءَ فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مِنْ الِاسْتِعَارَاتِ وَالتَّشْبِيهَاتِ بِكُلِّ بَدِيعٍ .
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمَعُ وَلَا يُنْكِرُ ، حَتَّى فِي تَشْبِيهِ رِيقَهَا بِالرَّاحِ .
وَقَدْ كَانَتْ حَرُمَتْ قَبْلَ إنْشَادِهِ لِهَذِهِ الْقَصِيدَةِ ، وَلَكِنَّ تَحْرِيمَهَا لَمْ يَمْنَعْ عِنْدَهُمْ طِيبَهَا ؛ بَلْ تَرَكُوهَا عَلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا وَالِاسْتِحْسَانِ لَهَا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأُجُورِهِمْ ، وَمِنْ النَّاسِ قَلِيلٌ مَنْ يَتْرُكُهَا اسْتِقْذَارًا لَهَا ، وَإِنَّهَا

لَأَهْلٌ لِذَلِكَ عِنْدِي ، وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ النَّاسِ فِي تَلَذُّذِهِمْ بِهَا وَاسْتِطَابَتِهِمْ لَهَا ، و وَاَللَّهِ مَا هِيَ إلَّا قَذِرَةٌ بَشِعَةٌ كَرِيهَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَاَللَّهُ يَعْصِمُ مِنْ الْمَعَاصِي بِعِزَّتِهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْغَالِبُ عَلَى الْعَبْدِ الشِّعْرُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ قَوْلَهُ وَزَمَانَهُ ، فَذَلِكَ مَذْمُومٌ شَرْعًا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا حَتَّى يَرِيَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ وَلَا مَعْبُودَ إلَّا إيَّاهُ .

سُورَةُ النَّمْلِ فِيهَا سِتَّ عَشْرَةَ آيَةً : الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد وَقَالَ يَأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } .
وَأَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا ، إنَّمَا وَرَّثُوا عِلْمًا } .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد } قُلْنَا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَرَادَ بِالْإِرْثِ هَاهُنَا نُزُولَهُ مَنْزِلَتَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ ، وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعَةَ عَشَرَ وَلَدًا ذَكَرًا وَأُنْثَى ، فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالذِّكْرِ ، وَلَوْ كَانَتْ وِرَاثَةَ مَالٍ لَانْقَسَمَتْ عَلَى الْعَدَدِ ، فَخَصَّهُ بِمَا كَانَ لِدَاوُدَ ، وَزَادَهُ مِنْ فَضْلِهِ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ } : فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي مَنْطِقِ الطَّيْرِ ، وَهُوَ صَوْتٌ تَتَفَاهَمُ بِهِ فِي مَعَانِيهَا عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ ، بِخِلَافِ مَنْطِقِنَا ، فَإِنَّهُ عَلَى صِيَغٍ مُخْتَلِفَةٍ ، نَفْهَمُ بِهِ مَعَانِيَهَا .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَفِي الْمُوَاضَعَاتِ غَرَائِبُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْتَ الْبُوقِ تُفْهَمُ مِنْهُ أَفْعَالٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ حَلٍّ وَتَرْحَالٍ ، وَنُزُولٍ وَانْتِقَالٍ ، وَبَسْطٍ وَرَبْطٍ ، وَتَفْرِيقٍ وَجَمْعٍ ، وَإِقْبَالٍ وَإِدْبَارٍ ، بِحَسْبِ الْمُوَاضَعَةِ وَالِاصْطِلَاحِ .
وَقَدْ كَانَ صَاحِبُنَا مُمَوَّسٌ الدُّرَيْدِيُّ يَقْرَأُ مَعَنَا بِبَغْدَادَ ، وَكَانَ مِنْ قَوْمٍ كَلَامُهُمْ حُرُوفُ الشَّفَتَيْنِ ، لَيْسَ لِحُرُوفِ الْحَلْقِ عِنْدَهُمْ أَصْلٌ .
فَجَعَلَ اللَّهُ لِسُلَيْمَانَ مُعْجِزَةَ فَهْمِ كَلَامِ الطَّيْرِ وَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ ؛ وَإِنَّمَا خَصَّ الطَّيْرَ لِأَجْلِ سَوْقِ قِصَّةِ الْهُدْهُدِ بَعْدَهَا .
أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَرَ قِصَّةَ النَّمْلِ مَعَهَا ، وَلَيْسَتْ مِنْ الطَّيْرِ .
وَلَا خِلَافَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّ الْحَيَوَانَاتِ كُلَّهَا لَهَا أَفْهَامٌ وَعُقُولٌ .
وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْحَمَامُ أَعْقَلُ الطَّيْرِ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِيِّينَ : اُنْظُرُوا إلَى النَّمْلَةِ كَيْفَ تُقَسِّمُ كُلَّ حَبَّةٍ تَدَّخِرُهَا نِصْفَيْنِ لِئَلَّا يَنْبُتَ الْحَبُّ ، إلَّا حَبَّ الْكُزْبَرَةِ فَإِنَّهَا تُقَسِّمُ الْحَبَّةَ مِنْهُ عَلَى أَرْبَعٍ ؛ لِأَنَّهَا إذَا قُسِّمَتْ بِنِصْفَيْنِ تَنْبُتُ ، وَإِذَا قُسِّمَتْ بِأَرْبَعَةِ أَنْصَافٍ لَمْ تَنْبُتْ .
وَهَذِهِ مِنْ غَوَامِضِ الْعُلُومِ عِنْدَنَا ، وَأَدْرَكَتْهَا النَّمْلُ بِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ لَهَا .
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْمُظَفَّرِ شَاهْ نُورٍ الْإسْفَرايِينِيّ : وَلَا يَبْعُدُ أَنْ تُدْرِكَ الْبَهَائِمُ حُدُوثَ الْعَالَمِ ، وَخَلْقَ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَوَحْدَانِيَّةَ الْإِلَهِ ، وَلَكِنَّا لَا نَفْهَمُ عَنْهُمْ ، وَلَا تَفْهَمُ عَنَّا ، أَمَّا أَنَّا نَطْلُبُهَا وَهِيَ تَفِرُّ مِنَّا فَبِحُكْمِ الْجِنْسِيَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ

الثَّانِيَةُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ سُلَيْمَانَ النَّبِيَّ مَرَّ عَلَى قَصْرٍ بِالْعِرَاقِ ، فَإِذَا فِيهِ كِتَابٌ : خَرَجْنَا مِنْ قُرَى إصْطَخْرِ إلَى الْقَصْرِ فَقُلْنَاهُ فَمَنْ سَالَ عَنْ الْقَصْرِ فَمَبْنِيًّا وَجَدْنَاهُ وَعَلَى الْقَصْرِ نَسْرٌ ، فَنَادَاهُ سُلَيْمَانُ ، فَأَقْبَلَ إلَيْهِ ، فَقَالَ : مُذْ كَمْ أَنْتَ هَاهُنَا ؟ قَالَ : مُذْ تِسْعِمِائَةِ سَنَةٍ .
وَوَجَدْت الْقَصْرَ عَلَى هَيْئَتِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : قَرَأْت بِمَدِينَةِ السَّلَامِ عَلَى أَبِي بَكْرِ النَّجِيبِ بْنِ الْأَسْعَدِ قَالَ : أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فَتُّوحٍ الرُّصَافِيُّ ، أَنْبَأَنَا الْخَطِيبُ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرِّفَاعِيُّ ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِأَصْبَهَانَ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ أُسَيْدَ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَّابِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ يَحْيَى الْإِفْرِيقِيُّ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَعَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ : كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد يَرْكَبُ الرِّيحَ مِنْ إصْطَخْرَ فَيَتَغَدَّى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَتَعَشَّى بِإِصْطَخْرِ .
فَقَالَ : إنَّ ابْنَ حَبِيبٍ أَدْرَكَ مَالِكًا ، وَمَا أَرَاهُ وَلَا هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا مَقْطُوعًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَرَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { نَزَلَ نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ ، فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا ، ثُمَّ أَمَرَ بِبَيْتِهَا فَأُحْرِقَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ فَهَلَّا نَمْلَةً وَاحِدَةً } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { يُوزَعُونَ } يَعْنِي يَمْنَعُونَ وَيَدْفَعُونَ ، وَيَرُدُّ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى يُلْهَمُونَ مِنْ قَوْلِهِ : { أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك } أَيْ أَلْهِمْنِي .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْأُولَى ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ رُدَّنِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَشْهَبُ قَالَ : قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : قَالَ عُثْمَانُ : مَا يَزَعُ النَّاسَ السُّلْطَانُ أَكْثَرَ مِمَّا يَزَعُهُمْ الْقُرْآنُ .
قَالَ مَالِكٌ : يَعْنِي يَكُفُّهُمْ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ مِثْلُهُ ، وَزَادَ ثُمَّ تَلَا مَالِكٌ : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أَيْ يُكَفُّونَ .
وَقَدْ جَهِلَ قَوْمٌ الْمُرَادَ بِهَذَا الْكَلَامِ ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ السُّلْطَانِ تَرْدَعُ النَّاسَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْدَعُهُمْ حُدُودُ الْقُرْآنِ .
وَهَذَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَوَضْعِهِ لِخَلْقِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا وَضَعَ الْحُدُودَ إلَّا مَصْلَحَةً عَامَّةً كَافَّةً قَائِمَةً بِقِوَامِ الْحَقِّ ، لَا زِيَادَةَ عَلَيْهَا وَلَا نُقْصَانَ مَعَهَا ، وَلَا يَصْلُحُ سِوَاهَا ، وَلَكِنَّ الظَّلَمَةَ خَاسُوا بِهَا ، وَقَصَّرُوا عَنْهَا ، وَأَتَوْا مَا أَتَوْا بِغَيْرِ نِيَّةٍ مِنْهَا ، وَلَمْ يَقْصِدُوا وَجْهَ اللَّهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَا ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرْتَدِعْ الْخَلْقُ بِهَا .
وَلَوْ حَكَمُوا بِالْعَدْلِ ؛ وَأَخْلِصُوا النِّيَّةَ ، لَاسْتَقَامَتْ الْأُمُورُ ، وَصَلُحَ الْجُمْهُورُ ؛ وَقَدْ شَاهَدْتُمْ مِنَّا إقَامَةَ الْعَدْلِ وَالْقَضَاءَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ بِالْحَقِّ ، وَالْكَفَّ لِلنَّاسِ بِالْقِسْطِ ، وَانْتَشَرَتْ الْأَمَنَةُ ، وَعَظُمَتْ الْمَنَعَةُ ، وَاتَّصَلَتْ فِي الْبَيْضَةِ الْهُدْنَةُ ، حَتَّى غَلَبَ قَضَاءُ اللَّهِ بِفَسَادِ الْحَسَدَةِ ، وَاسْتِيلَاءِ الظَّلَمَةِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى { حَتَّى إذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ اُدْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَأَيْت بَعْضَ الْبَصْرِيِّينَ قَدْ قَالَ : إنَّ النَّمْلَةَ كَانَ لَهَا جَنَاحَانِ ، فَصَارَتْ فِي جُمْلَةِ الطَّيْرِ ، وَلِذَلِكَ فَهِمَ مَنْطِقَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا مَنْطِقَ الطَّيْرِ ؛ وَهَذَا نُقْصَانٌ عَظِيمٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ فِي ذِكْرِ الطَّيْرِ خُصُوصًا دُونَ سَائِرِ الْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ ، وَمَا لَا يَعْقِلُ .
وَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَفْهَمُ كَلَامَ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ ، وَيُخْلَقُ لَهُ فِيهِ الْقَوْلُ مِنْ النَّبَاتِ ؛ فَكَانَ كُلُّ نَبَاتٍ يَقُولُ لَهُ : أَنَا شَجَرَةُ كَذَا ، أَنْفَعُ مِنْ كَذَا ، وَأَضُرُّ مِنْ كَذَا ، وَفَائِدَتِي كَذَا ، فَمَا ظَنُّك بِالْحَيَوَانِ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ } فَانْظُرْ إلَى فَهْمِهَا بِأَنَّ جُنْدَ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُؤْذِي نَمْلَةً مَعَ الْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ ، وَالْعِلْمِ بِهِ ، تَقِيَّةً لِسُلَيْمَانَ ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ التَّقِيَّ وَالْفَاجِرَ ، وَالْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ ؛ إذْ كَانَ فِيهِمْ الشَّيَاطِينُ .
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ جَيْشِ مُحَمَّدٍ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ : { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } .
وَهَذَا مِنْ فَضَائِلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ ، وَفِي مُعْجِزَاتِ النَّبِيِّ مِنْ كِتَابِ " أَنْوَارِ الْفَجْرِ " .
وَقَدْ انْتَهَى الْجَهْلُ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ يَقُولُوا : إنَّ مَعْنَاهُ : وَالنَّمْلُ لَا يَشْعُرُونَ ، فَخَرَجَ مِنْ خِطَابِ الْمُوَاجَهَةِ إلَى خِطَابِ الْغَائِبِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا فَائِدَةٍ إلَّا إبْطَالَ الْمُعْجِزَةِ لِهَذَا النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ، وَاَللَّهُ وَلِيُّ التَّقْوِيمِ .

كَمَا انْتَهَى الْإِفْرَاطُ بِقَوْمٍ إلَى أَنْ يَقُولُوا : إنَّهُ كَانَ مِنْ كَلَامِ النَّمْلَةِ لَهُ أَنْ قَالَتْ : يَا نَبِيَّ اللَّهِ ؛ أَرَى لَك مُلْكًا عَظِيمًا ، فَمَا أَعْظَمُ جُنْدِك ؟ قَالَ لَهَا : تَسْخِيرُ الرِّيحِ .
قَالَتْ لَهُ : إنَّ اللَّهَ أَعْلَمَك أَنَّ كُلَّ مَا أَنْتَ فِيهِ فِي الدُّنْيَا رِيحٌ .
وَمَا أَحْسَنُ الِاقْتِصَادَ ، وَأَضْبَطُ السَّدَادَ لِلْأُمُورِ وَالِانْتِقَادَ ،

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِك فِي عِبَادِك الصَّالِحِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَوْلُ فِي التَّبَسُّمِ : وَهُوَ أَوَّلُ الضَّحِكِ ، وَآخِرُهُ بُدُوُّ النَّوَاجِذِ ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ مَعَ الْقَهْقَهَةِ ، وَجُلُّ ضَحِكِ الْأَنْبِيَاءِ التَّبَسُّمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : مِنْ الضَّحِكِ مَكْرُوهٌ ، لِقَوْلِهِ : { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ كَانَ لَا يَضْحَكُ ؛ اهْتِمَامًا بِنَفْسِهِ وَفَسَادِ حَالِهِ فِي اعْتِقَادِهِ مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا طَائِعًا .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَضْحَكُ ، وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ فِي الْكُفَّارِ : { فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا } لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ النِّفَاقِ يَعْنِي ضَحِكَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ تَهْدِيدٌ لَا أَمْرٌ بِالضَّحِكِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : { جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ رِفَاعَةُ طَلَّقَهَا فَبَتَّ طَلَاقَهَا ، فَتَزَوَّجَتْ بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ ، وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَاَللَّهِ مَا مَعَهُ إلَّا مِثْلُ هَذِهِ الْهُدْبَةِ الْهُدْبَةُ أَخَذَتْهَا مِنْ جِلْبَابِهَا ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَخَالِدٌ جَالِسَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ جَالِسٌ بِبَابِ الْحُجْرَةِ لِيُؤْذَنَ لَهُ ، فَطَفِقَ خَالِدٌ يُنَادِي : يَا أَبَا بَكْرٍ ، اُنْظُرْ مَا تَجْهَرُ بِهِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَزِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى التَّبَسُّمِ .
ثُمَّ قَالَ : لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ .
} الْحَدِيثَ .
{ وَاسْتَأْذَنَ عُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ نِسْوَةٌ مِنْ

قُرَيْشٍ يَسْأَلْنَهُ وَيَسْتَكْثِرْنَهُ عَالِيَةً أَصْوَاتُهُنَّ عَلَى صَوْتِهِ ؛ فَلَمَّا اسْتَأْذَنَ عُمَرُ تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ ، فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُ .
فَقَالَ : أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، فَقَالَ : عَجِبْت مِنْ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي كُنَّ عِنْدِي ، فَلَمَّا سَمِعْنَ صَوْتَك تَبَادَرْنَ الْحِجَابَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ بِالطَّائِفِ قَالَ : إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ .
فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا نَبْرَحُ حَتَّى نَفْتَحَهَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَاغْدُوَا عَلَى الْقِتَالِ .
قَالَ : فَغَدَوْا ، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا ، وَكَثُرَتْ الْجِرَاحَاتُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّا قَافِلُونَ غَدًا إنْ شَاءَ اللَّهُ قَالَ : فَسَكَتُوا .
قَالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ { : أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : هَلَكْت ، وَأَهْلَكْت ، وَقَعْت عَلَى أَهْلِي فِي رَمَضَانَ .
قَالَ : اعْتِقْ رَقَبَةً .
قَالَ : لَيْسَ لِي مَالٌ .
قَالَ : فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ .
قَالَ : لَا أَسْتَطِيعُ .
قَالَ : فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
قَالَ : لَا أَجِدُ .
قَالَ : فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ بِعَرَقِ تَمْرٍ .
وَالْعَرَقُ : الْمِكْتَلُ .
فَقَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ ؟ تَصَدَّقْ بِهَذَا قَالَ : أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي ، وَاَللَّهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنَّا .
فَضَحِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ .
قَالَ : فَأَنْتُمْ إذًا } .
وَلَمَّا سَأَلَهُ النَّاسُ الْمَطَرَ فَأُمْطِرُوا ، ثُمَّ سَأَلُوهُ الصَّحْوَ ضَحِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ قِيلَ : مِنْ أَيِّ شَيْءٍ ضَحِكَ سُلَيْمَانُ ؟ قُلْنَا :

فِيهِ أَقْوَالٌ : أَصَحُّهَا أَنَّهُ ضَحِكَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي تَسْخِيرِ الْجَيْشِ وَعَظِيمِ الطَّاعَةِ ، حَتَّى لَا يَكُونَ اعْتِدَاءً .
وَلِذَلِكَ قَالَ : { أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَك الَّتِي أَنْعَمْت عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ } وَهُوَ حَقِيقَةُ الشُّكْرِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ تَفَقُّدِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الطَّيْرَ كَانَتْ تُظِلُّ سُلَيْمَانُ مِنْ الشَّمْسِ حَتَّى تَصِيرَ عَلَيْهِ صَافَّاتٍ ، كَالْغَمَامَةِ ، فَطَارَ الْهُدْهُدُ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَأَصَابَتْ الشَّمْسُ سُلَيْمَانَ ، فَتَفَقَّدَهُ حِينَئِذٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْهُدْهُدَ كَانَ يَرَى تَحْتَ الْأَرْضِ الْمَاءَ ، فَكَانَ يَنْزِلُ بِجَيْشِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْهُدْهُدِ : اُنْظُرْ بُعْدَ الْمَاءِ مِنْ قُرْبِهِ ، فَيُشِيرُ لَهُ إلَى بِقْعَةٍ ، فَيَأْمُرُ الْجِنَّ فَتَسْلُخُ الْأَرْضَ سَلْخَ الْأَدِيمِ ، حَتَّى تَبْلُغَ الْمَاءَ ، فَيَسْتَقِي وَيَسْقِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ سُلَيْمَانُ : مَا لِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ .
وَلَمْ يَقُلْ : مَا لِلْهُدْهُدِ لَا أَرَاهُ ، قَالَ لَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ طَاهِرٍ الشَّهِيدُ : قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ وَشَيْخُ الصُّوفِيَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنَ : إنَّمَا قَالَ : [ مَالِي لَا أَرَى الْهُدْهُدَ ] ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ حَالَ نَفْسِهِ ؟ إذْ عَلِمَ أَنَّهُ أُوتِيَ الْمُلْكَ الْعَظِيمَ ، وَسُخِّرَ لَهُ الْخَلْقُ ، فَقَدْ لَزِمَهُ حَقُّ الشُّكْرِ بِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِدَامَةِ الْعَمَلِ .
فَلَمَّا فَقَدَ نِعْمَةَ الْهُدْهُدِ تَوَقَّعَ أَنْ يَكُونَ قَصَّرَ فِي حَقِّ الشُّكْرِ ، فَلِأَجْلِهِ سُلِبَهَا ، فَجَعَلَ يَتَفَقَّدُ نَفْسَهُ ، فَقَالَ : مَالِي ، وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ إذَا فَقَدُوا آمَالَهُمْ تَفَقَّدُوا أَعْمَالَهُمْ .
هَذَا فِي الْآدَابِ ، فَكَيْفَ بِنَا الْيَوْمَ ، وَنَحْنُ نُقَصِّرُ فِي الْفَرَائِضِ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ مِنْ سَلِيمَانِ عَلَى تَفَقُّدِهِ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِمْ ، فَانْظُرُوا إلَى الْهُدْهُدِ وَإِلَى صِغَرِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِبْ عَنْهُ حَالُهُ ، فَكَيْفَ بِعَظَائِمِ الْمُلْكِ ؟ وَيَرْحَمُ اللَّهُ عُمَرَ ، فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى سِيرَتِهِ قَالَ : " لَوْ

أَنَّ سَخْلَةً بِشَاطِئِ الْفُرَاتِ أَخَذَهَا الذِّئْبُ لَيُسْأَلُ عَنْهَا عُمَرُ ، فَمَا ظَنُّك بِوَالٍ تَذْهَبُ عَلَى يَدَيْهِ الْبُلْدَانُ ، وَتَضِيعُ الرَّعِيَّةُ ، وَتَضِيعُ الرُّعْيَانُ ، الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ ابْنُ الْأَزْرَقِ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ شَأْنَ الْهُدْهُدِ هَذَا : قِفْ يَا وَقَّافٍ .
كَيْفَ يَرَى الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَلَا يَرَى الْحَبَّةَ فِي الْفَخِّ .
فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَدِيهَةً : إذَا نَزَلَ الْقَدَرُ عَشِيَ الْبَصَرُ .
وَلَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ إلَّا عَالِمُ الْقُرْآنِ وَقَدْ أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ التِّنِّيسِيُّ الْوَاعِظُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ فِي هَذَا الْمَعْنَى : إذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا بِامْرِئٍ وَكَانَ ذَا عَقْلٍ وَسَمْعٍ وَبَصَرْ وَحِيلَةٍ يَعْمَلُهَا فِي دَفْعِ مَا يَأْتِي بِهِ مَكْرُوهُ أَسْبَابِ الْقَدَرْ غَطَّى عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَعَقْلَهُ وَسَلَّهُ مِنْ ذِهْنِهِ سَلَّ الشَّعَرْ حَتَّى إذَا أَنْفَذَ فِيهِ حُكْمَهُ رَدَّ عَلَيْهِ عَقْلَهُ لِيَعْتَبِرْ

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ كَانُوا مُكَلَّفِينَ ؛ إذْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ إلَّا مَنْ كُلِّفَ ذَلِكَ الْفِعْلَ ، وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ عَلَى جَهْلِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ سُلَيْمَانَ اسْتِدْلَالًا بِالْأَمَارَاتِ ، وَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلطَّيْرِ عَقْلٌ ، وَلَا كَانَ لِلْبَهَائِمِ عِلْمٌ ، وَلَا أُوتِيَ سُلَيْمَانُ عِلْمَ مَنْطِقِ الطَّيْرِ .
وَقَاتَلَهُمْ اللَّهُ ، مَا أَجْرَأَهُمْ عَلَى الْخَلْقِ فَضْلًا عَنْ الْخَالِقِ ، الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَانَ الْهُدْهُدُ صَغِيرَ الْجُرْمِ ، وَوُعِدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِعَظِيمِ الْجُرْمِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ ، أَمَّا إنَّهُ يُرْفَقُ بِالْمَحْدُودِ فِي الزَّمَانِ وَالصِّفَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي أَحْكَامِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَقُولُ لِلْكَبِيرِ ، وَالْمُتَعَلِّمُ لِلْعَالِمِ : عِنْدِي مَا لَيْسَ عِنْدَك ، إذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَتَيَقَّنَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي آدَابِ الْعِلْمِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هِيَ بِلْقِيسُ بِنْتُ شُرَحْبِيلَ مَلِكَةُ سَبَأٍ ، وَأُمُّهَا جِنِّيَّةٌ بِنْتُ أَرْبَعِينَ مَلِكًا .
وَهَذَا أَمْرٌ تُنْكِرُهُ الْمُلْحِدَةُ .
وَيَقُولُونَ : إنَّ الْجِنَّ لَا يَأْكُلُونَ ، وَلَا يَلِدُونَ وَكَذَبُوا لَعَنَهُمْ اللَّهُ أَجْمَعِينَ .
ذَلِكَ صَحِيحٌ وَنِكَاحُهُمْ مَعَ الْإِنْسِ جَائِزٌ عَقْلًا .
فَإِنْ صَحَّ نَقْلًا فَبِهَا وَنِعْمَتْ ، وَإِلَّا بَقَيْنَا عَلَى أَصْلِ الْجَوَازِ الْعَقْلِيِّ .
.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ فِي سَبَأٍ : هُوَ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشْرَةُ أَوْلَادٍ ، وَكَانَ لَهُمْ خَبَرٌ فَسَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ } ، أَوْ ذَكَرَ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ الْقَبِيلَةِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمَّى الْبَلَدَ بِاسْمِ الْقَبِيلَةِ .
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيِّ ، قَالَ : { أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَلَا أُقَاتِلُ مَنْ أَدْبَرَ مِنْ قَوْمِي بِمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ ، فَأَذِنَ لِي فِي قِتَالِهِمْ وَأَمَرَنِي .
فَلَمَّا خَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ سَأَلَ عَنِّي مَا فَعَلَ الْقَطِيفِيُّ ؟ فَأَخْبَرَ بِأَنِّي قَدْ سِرْت .
قَالَ : فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَرَدَّنِي ، فَأَتَيْته ، وَهُوَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : اُدْعُ الْقَوْمَ ، فَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَاقْبَلْ مِنْهُ ، وَمَنْ لَمْ يُسْلِمْ فَلَا تَعْجَلْ حَتَّى أُحْدِثَ لَك .
وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي سَبَأٍ مَا أَنْزَلَ .
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مَا سَبَأٌ ؟ أَرْضٌ أَوْ امْرَأَةٌ ؟ فَقَالَ : لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنْ الْعَرَبِ فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ ؟ فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا فَلَخْمُ وَجُذَامُ وَغَسَّانُ وَعَامِلَةُ .
وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا فَالْأَزْدُ ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ ، وَحِمْيَرُ ، وَكِنْدَةُ ، وَمِذْحَجُ ، وَأَنْمَارٌ .
فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ وَمَا أَنْمَارُ ؟ قَالَ : الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبُجَيْلَةُ } .
وَرُوِيَ فِي هَذَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثٌ آخَرُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ كِسْرَى لَمَّا مَاتَ وَلَّى قَوْمُهُ بِنْتَهُ : لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ .
وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ إمَامِ الدِّينِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً ؛ وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ ؛ وَلَعَلَّهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا [ إنَّمَا ] تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ ، وَلَيْسَ بِأَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَلَا بِأَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَنْشُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ ، إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالنِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَسَبِيلِ التَّحْكِيمِ أَوْ الِاسْتِبَانَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً } .
وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَدَّمَ امْرَأَةً عَلَى حِسْبَةِ السُّوقِ ، وَلَمْ يَصِحَّ ؛ فَلَا تَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ دَسَائِسِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي الْأَحَادِيثِ .
وَقَدْ تَنَاظَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ الْمَالِكِيُّ الْأَشْعَرِي مَعَ أَبِي الْفَرَجِ بْنِ طَرَارٍ شَيْخِ الشَّافِعِيَّةِ بِبَغْدَادَ فِي مَجْلِسِ السُّلْطَانِ الْأَعْظَمِ عَضُدِ الدَّوْلَةِ ، فَمَاحَلَ وَنَصَرَ ابْنُ طَرَارٍ لِمَا يُنْسَبُ إلَى ابْنِ جَرِيرٍ ، عَلَى عَادَةِ الْقَوْمِ التَّجَادُلُ عَلَى الْمَذَاهِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُولُوا بِهَا اسْتِخْرَاجًا لِلْأَدِلَّةِ وَتَمَرُّنًا فِي الِاسْتِنْبَاطِ لِلْمَعَانِي ؛ فَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ : الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ أَنْ تَحْكُمَ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الْأَحْكَامِ تَنْفِيذُ الْقَاضِي لَهَا ، وَسَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهَا ، وَالْفَصْلُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِيهَا ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ مِنْ الْمَرْأَةِ ، كَإِمْكَانِهِ مِنْ الرَّجُلِ .
فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ

، وَنَقَضَ كَلَامَهُ بِالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا حِفْظُ الثُّغُورِ ، وَتَدْبِيرُ الْأُمُورِ ، وَحِمَايَةُ الْبَيْضَةِ ، وَقَبْضُ الْخَرَاجِ ، وَرَدُّهُ عَلَى مُسْتَحِقِّيهِ ، وَذَلِكَ يَتَأَتَّى مِنْ الْمَرْأَةِ كَتَأَتِّيه مِنْ الرَّجُلِ .
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ طَرَارٍ : هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِهِ .
فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ أَصْلُ الشَّرْعِ .
قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ : هَذَا تَعْلِيلٌ لِلنَّقْضِ ، يُرِيدُ : وَالنَّقْضُ لَا يُعَلَّلُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ قَوْلِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ كَلَامُ الشَّيْخَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا أَنْ تَبْرُزَ إلَى الْمَجَالِسِ ، وَلَا تُخَالِطَ الرِّجَالَ ، وَلَا تُفَاوِضَهُمْ مُفَاوَضَةَ النَّظِيرِ لِلنَّظِيرِ ، لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ فَتَاةً حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهَا وَكَلَامُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً بَرْزَةً لَمْ يَجْمَعْهَا وَالرِّجَالَ مَجْلِسٌ تَزْدَحِمُ فِيهِ مَعَهُمْ ، وَتَكُونُ مَنْظَرَةً لَهُمْ ، وَلَمْ يُفْلِحْ قَطُّ مَنْ تَصَوَّرَ هَذَا ، وَلَا مَنْ اعْتَقَدَهُ .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى : { قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ { سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ } لَمْ يُعَاقِبْهُ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَذَرَ لَهُ ، وَلَا أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ ، وَلِذَلِكَ بَعَثَ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ .
وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْوَالِي أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَ رَعِيَّتِهِ ، وَيَدْرَأَ الْعُقُوبَةَ عَنْهُمْ فِي ظَاهِرِ أَحْوَالِهِمْ بِبَاطِنِ أَعْذَارِهِمْ ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَمْتَحِنَ ذَلِكَ إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ، كَمَا فَعَلَ سُلَيْمَانُ ؟ فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ [ الْهُدْهُدُ ] : { إنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } لَمْ يَسْتَفِزَّهُ الطَّمَعُ ، وَلَا اسْتَجَرَّهُ حُبُّ الزِّيَادَةِ فِي الْمِلْكِ إلَى أَنْ يَعْرِضَ لَهُ ، حَتَّى قَالَ : { وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، حِينَئِذٍ غَاظَهُ مَا سَمِعَ ، وَطَلَبَ الِانْتِهَاءَ إلَى مَا أَخْبَرَ ، وَتَحْصِيلَ عِلْمِ مَا غَابَ مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى يُغَيِّرَهُ بِالْحَقِّ ، وَيَرُدَّهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ عَنْ إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ ، وَهِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينَهَا ، فَقَالَ : أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْئًا ؟ قُلْت : أَنَا يَعْنِي الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَقَالَ : مَا هُوَ ؟ قُلْت : سَمِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ } .
فَقَالَ : " لَا تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيءَ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ " فَخَرَجْت ، فَوَجَدْت مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ ، فَجِئْت بِهِ ، فَشَهِدَ .
وَكَانَ هَذَا تَثَبُّتًا مِنْ عُمَرَ احْتَجَّ بِهِ لِنَفْسِهِ .
وَأَمَّا الْمُغِيرَةُ فَتَوَقَّفَ فِيمَا قَالَ لِأَجْلِ قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَوْ قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ : سَنَنْظُرُ فِي أَمْرِك

لَاجْتَزَأَ بِهِ ، وَلَكِنَّ الْهُدْهُدَ لَمَّا صَرَّحَ لَهُ بِفَخْرِ الْعِلْمِ ، { فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } صَرَّحَ لَهُ سُلَيْمَانُ بِأَنَّهُ سَيَنْظُرُ ، أَصَدَقَ أَمْ كَذَبَ فَكَانَ ذَلِكَ كُفُؤًا لِمَا قَالَهُ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { كِتَابٌ كَرِيمٌ } فِيهِ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لِخَتْمِهِ ، وَكَرَامَةُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ .
الثَّانِي : لِحُسْنِ مَا فِيهِ مِنْ بَلَاغَةٍ وَإِصَابَةِ مَعْنًى .
الثَّالِثُ : كَرَامَةُ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكٌ .
الرَّابِعُ : كَرَامَةُ رَسُولِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَائِرٌ ؛ وَمَا عُهِدَتْ الرُّسُلُ مِنْهَا .
الْخَامِسُ : لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ .
السَّادِسُ : لِأَنَّهُ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا الْجُلَّةُ .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ : لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؛ إنِّي أَقِرُّ لَك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ مَا اسْتَطَعْت ، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا لَك بِذَلِكَ .
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَحَدٌ قَبْلَ سُلَيْمَانَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْوَصْفُ الْكَرِيمُ فِي الْكِتَابِ غَايَةُ الْوَصْفِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ : { إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } .
وَأَهْلُ الزَّمَانِ يَصِفُونَ الْكِتَابَ بِالْخَطِيرِ ، وَبِالْأَثِيرِ ، وَبِالْمَبْرُورِ ؛ فَإِنْ كَانَ لِمَلِكٍ قَالُوا : الْعَزِيزَ ؛ وَأَسْقَطُوا الْكَرِيمَ غَفْلَةً ، وَهُوَ أَفْضَلُهَا خَصْلَةً .
فَأَمَّا الْوَصْفُ بِالْعَزِيزِ فَقَدْ اتَّصَفَ بِهِ الْقُرْآنُ أَيْضًا ؛ فَقَالَ : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ } .
فَهَذِهِ عِزَّتُهُ ، وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ إلَّا لَهُ ؛ فَاجْتَنِبُوهَا فِي كُتُبِكُمْ ، وَاجْعَلُوا بَدَلَهَا الْعَالِيَ ، تَوْقِيَةً لِحَقِّ الْوِلَايَةِ ، وَحِيَاطَةً لِلدِّيَانَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْبَسْمَلَةُ آيَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِإِجْمَاعٍ ؛ وَلِذَلِكَ إنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ ، وَمَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ بِآيَةٍ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ لَمْ يَكْفُرْ ؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا ، وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ مُخْتَلَفٌ فِيهَا .
وَلَا يَكْفُرُ إلَّا بِالنَّصِّ أَوْ مَا يُجْمِعُ عَلَيْهِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالَتْ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونَ } .
فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْمُشَاوَرَةِ إمَّا اسْتِعَانَةً بِالْآرَاءِ ، وَإِمَّا مُدَارَاةً لِلْأَوْلِيَاءِ .
وَيُقَالُ : إنَّهَا أَوَّلُ مَنْ جَاءَ أَنَّهُ شَاوَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَشُورَةَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إعَادَتِهِ ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْفُضَلَاءَ بِقَوْلِهِ : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } .

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : يُرْوَى أَنَّهَا قَالَتْ : إنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَقْبَلْ الْهَدِيَّةَ ، وَإِنْ كَانَ مَلِكًا قَبِلَهَا .
وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ أَنَّهُ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ ، وَلَا يَقْبَلُ الصَّدَقَةَ .
وَكَذَلِكَ كَانَ سُلَيْمَانُ ، وَجَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ يَقْبَلُونَ الْهَدِيَّةَ .
وَإِنَّمَا جَعَلَتْ بِلْقِيسُ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ أَوْ رَدَّهَا عَلَامَةً عَلَى مَا فِي نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَهَا فِي كِتَابِهِ : { أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } .
وَهَذَا لَا تُقْبَلُ فِيهِ فِدْيَةٌ ، وَلَا تُؤْخَذُ عَنْهُ هَدِيَّةٌ .
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْبَابِ الَّذِي تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ بِسَبِيلٍ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ رِشْوَةٌ ، وَبَيْعُ الْحَقِّ بِالْمَالِ هُوَ الرِّشْوَةُ الَّتِي لَا تَحِلُّ .
وَأَمَّا الْهَدِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ لِلتَّحَبُّبِ وَالتَّوَاصُلِ فَإِنَّهَا جَائِزَةٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَهَذَا مَا لَمْ تَكُنْ مِنْ مُشْرِكٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ مُشْرِكٍ ، فَفِي الْحَدِيثِ : { نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ } .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { لَقَدْ هَمَمْت أَلَّا أَقْبَلَ هَدِيَّةً إلَّا مِنْ ثَقَفِيٍّ أَوْ دَوْسِيٍّ } .
وَالصَّحِيحُ مَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا } .
وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ : { لَوْ دُعِيت إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْت ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْت } .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ فِي الصَّيْدِ : هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ ؟ قُلْت : نَعَمْ .
فَنَاوَلْته الْعَضُدَ } .
{ وَقَدْ اسْتَسْقَى فِي دَارِ أَنَسٍ فَحُلِبَتْ لَهُ شَاةٌ وَشِيبٌ وَشَرِبَهُ } .
{ وَأَهْدَى أَبُو طَلْحَةَ لَهُ وَرِكَ أَرْنَبٍ وَفَخِذَيْهَا فَقَبِلَهُ } .
{ وَأَهْدَتْ أُمُّ حَفِيدٍ إلَيْهِ أَقِطًا وَسَمْنًا وَضَبًّا ، فَأَكَلَ

النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْأَقِطِ وَالسَّمْنِ ، وَتَرَكَ الضَّبَّ } .
وَقَالَ فِي حَدِيثِ بَرِيرَةَ : { هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } .
وَكَانَ النَّاسُ يَتَحَرَّوْنَ بِهَدَايَاهُمْ يَوْمَ عَائِشَةَ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالَ يَأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْك طَرْفُكَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : مَا الْفَائِدَةُ فِي طَلَبِ عَرْشِهَا ؟ : قِيلَ : فِيهِ أَرْبَعُ فَوَائِدَ : الْفَائِدَةُ الْأُولَى : أَحَبَّ أَنْ يَخْتَبِرَ صِدْقَ الْهُدْهُدِ .
الثَّانِيَةُ : أَرَادَ أَخْذَهُ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ ، فَيَحْرُمَ عَلَيْهِ مَالُهَا .
الثَّالِثَةُ : أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ عَقْلَهَا فِي مَعْرِفَتِهَا بِهِ .
الرَّابِعَةُ : أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِ ؛ لِأَخْذِهِ مِنْ ثِقَاتِهَا دُونَ جَيْشٍ وَلَا حَرْبٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْغَنِيمَةَ وَهِيَ أَمْوَالُ الْكُفَّارِ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَإِنَّمَا قَصَدَ بِالْإِرْسَالِ إلَيْهَا إظْهَارَ نُبُوَّتِهِ ، وَيَرْجِعُ إلَيْهَا مُلْكُهَا بَعْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى النُّبُوَّةِ بِهِ عِنْدَهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْك طَرْفُك } فِي تَسْمِيَتِهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ لَا تُسَاوِي سَمَاعَهَا ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يَعْلَمُهُ .
وَلَقَدْ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : حَدَّثَنِي مَالِكٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ : { قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيك بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُك } قَالَ : كَانَتْ بِالْيَمَنِ ، وَسُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالشَّامِ ، أَرَادَ مَالِكٌ أَنَّ هَذِهِ مُعْجِزَةٌ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ بِالْعَرْشِ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تُعْدَمَ الْمَسَافَةُ بَيْنَ الشَّامِ وَالْيَمَنِ .
وَإِمَّا أَنْ يُعْدَمَ الْعَرْشُ بِالْيَمَنِ ، وَيُوجَدُ بِالشَّامِ ، وَالْكُلُّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ هَيِّنٌ ، وَهُوَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاَللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمَّا صَانَ اللَّهُ بِالْقِصَاصِ فِي أُهُبِهَا الدِّمَاءَ ، وَعَلَيْهَا تَسَلَّطَ عَلَمُ الْأَعْدَاءِ ، شَرَعَ الْقَسَامَةَ بِالتُّهْمَةِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَاعْتَبَرَ فِيهَا التُّهْمَةَ ، وَقَدْ حَبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا فِي الدِّمَاءِ وَالِاعْتِدَاءِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْمُعَامَلَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْتَبَرَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَتِيلَ الْمَحَلَّةِ فِي الْقَسَامَةِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِأَجْلِ طَلَبِ الْيَهُودِ ، وَلِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ فِي الصَّحِيحِ : أَنَّ نَفَرًا مِنْ قَوْمِهِ أَتَوْا خَيْبَرَ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلًا ، فَقَالُوا لِلَّذِي وُجِدَ فِيهِمْ : قَدْ قَتَلْتُمْ صَاحِبَنَا .
قَالُوا : مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا قَاتِلَهُ .
وَقَالَ عُمَرُ حِينَ قَدَعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْيَهُودَ : أَنْتُمْ عَدُوُّنَا وَتُهْمَتُنَا .
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْيَهُودِ وَبَدَأَ بِهِمْ : أَيَحْلِفُ مِنْكُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا .
فَأَبَوْا ، فَقَالَ لِلْأَنْصَارِ : أَتَحْلِفُونَ قَالُوا : نَحْلِفُ عَلَى الْغَيْبِ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَجَعَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودَ } ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

سُورَةُ الْقَصَصِ فِيهَا ثَمَانِ آيَاتٍ : الْآيَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { فَارِغًا } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : فَارِغًا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، إلَّا مِنْ ذِكْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ .
الثَّانِي : فَارِغًا مِنْ وَحْيِنَا يَعْنِي بِسَبَبِهِ .
الثَّالِثُ : فَارِغًا مِنْ الْعَقْلِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ؛ يُرِيدُ امْتَلَأَ وَلَهًا ، يُرْوَى أَنَّهَا لَمَّا رَمَتْهُ فِي الْبَحْرِ جَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَقَالَ لَهَا : لَوْ حَبَسْتِهِ فَذُبِحَ فَتَوَلَّيْت دَفْنَهُ ، وَعَرَفْت مَوْضِعَهُ ، وَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ قَتَلْتِهِ أَنْتِ .
وَسَمِعَتْ ذَلِكَ ، فَفَرَغَ فُؤَادُهَا مِمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ الْوَحْيِ ، إلَّا أَنَّ اللَّهَ رَبَطَ عَلَى قَلْبِهَا بِالصَّبْرِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَعْظَمِ آيِ الْقُرْآنِ فَصَاحَةً ؛ إذْ فِيهَا أَمْرَانِ وَنَهْيَانِ وَخَبَرَانِ وَبِشَارَتَانِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي اللَّقِيطِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَهَذِهِ اللَّامُ لَامُ الْعَاقِبَةِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرْضِعَةٍ وَدُورُنَا لِخَرَابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { فَاسْتَغَاثَهُ } طَلَبَ غَوْثَهُ وَنُصْرَتَهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ بَعْدَهَا : { فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ } وَإِنَّمَا أَغَاثَهُ ؛ لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ دَيْنٌ فِي الْمِلَلِ كُلِّهَا ، وَفَرْضٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ نَصْرُ الْمَظْلُومِ } .
وَفِيهِ أَيْضًا : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اُنْصُرْ أَخَاك ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا } .
فَنَصْرُهُ ظَالِمًا كَفُّهُ عَنْ الظُّلْمِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ } لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَهُ ؛ وَإِنَّمَا دَفْعَهُ فَكَانَتْ فِيهِ نَفْسُهُ ، وَذَلِكَ قَتْلُ خَطَأٍ ، وَلَكِنَّهُ فِي وَقْتٍ لَا يُؤْمَرُ فِيهِ بِقَتْلٍ وَلَا قِتَالٍ ، فَلِذَلِكَ عَدَّهُ ذَنْبًا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلِينَ فِي بَابِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { مَا خَطْبُكُمَا } إنَّمَا سَأَلَهُمَا شَفَقَةً مِنْهُ عَلَيْهِمَا وَرِقَّةً ؛ وَلَمْ تَكُنْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ أَوْ فِي ذَلِكَ الشَّرْعِ حَجَبَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } يَعْنِي لِضَعْفِنَا لَا نَسْقِي إلَّا مَا فَضَلَ عَنْ الرِّعَاءِ مِنْ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ .
وَقِيلَ : كَانَ الْمَاءُ يَخْرُجُ مِنْ الْبِئْرِ ، فَإِذَا كَمُلَ سَقْيُ الرِّعَاءِ رَدُّوا عَلَى الْبِئْرِ حَجَرَهَا ، فَإِنْ وُجِدَ فِي الْحَوْضِ بَقِيَّةٌ كَانَ ذَلِكَ سَقْيَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَقِيَّةٌ عَطِشَتْ غَنَمُهُمَا ؛ فَرَقَّ لَهُمَا مُوسَى ، وَرَفَعَ الْحَجَرَ ، وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ عَشَرَةٌ ، وَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ رَدَّهُ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمَا لِأَبِيهِمَا : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } وَهِيَ :

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَجَاءَتْهُ إحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ : يَا بُنَيَّةُ ، هَذِهِ قُوَّتُهُ ، فَمَا أَمَانَتُهُ ؟ قَالَتْ : إنَّكَ لَمَّا أَرْسَلْتنِي إلَيْهِ قَالَ لِي : كُونِي وَرَائِي لِئَلَّا يَصِفَك الثَّوْبُ مِنْ الرِّيحِ ، وَأَنَا عِبْرَانِيٌّ ، لَا أَنْظُرُ إلَى أَدْبَارِ النِّسَاءِ ، وَدُلِّينِي عَلَى الطَّرِيقِ يَمِينًا وَيَسَارًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { اسْتَأْجِرْهُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْنَهُمْ وَعِنْدَهُمْ مَشْرُوعَةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَكَذَلِكَ كَانَتْ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ، وَهِيَ مِنْ ضَرُورَةِ الْخَلِيقَةِ ، وَمَصْلَحَةِ الْخُلْطَةِ بَيْنَ النَّاسِ خِلَافًا لِلْأَصَمِّ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ حَيْثُ وَرَدَ فِي مَوَاضِعِهِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { قَالَ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاَللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } .
اعْلَمُوا ، عَلَّمَكُمْ اللَّهُ الِاجْتِهَادَ ، وَحِفْظَ سَبِيلَ الِاعْتِقَادِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَذْكُرْهَا الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ ، مَعَ أَنَّ مَالِكًا قَدْ ذَكَرَهَا ، وَهَذِهِ غَفْلَةٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْصِبِهِ ، وَفِيهَا أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ ، وَآثَارٌ مِنْ جِنْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِهَا ، وَنَحْنُ نَحْلُبُ دَرَّهَا ، وَنَنْظِمُ دُرَرَهَا ، وَنَشُدُّ مِئْزَرَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَفِيهَا ثَلَاثُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك } فِيهِ عَرْضُ الْمَوْلَى وَلِيَّتَهُ عَلَى الزَّوْجِ ، وَهَذِهِ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ : عَرَضَ صَالِحُ مَدْيَنَ ابْنَتَهُ عَلَى صَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَعَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ابْنَتَهُ حَفْصَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَرَضَتْ الْمَوْهُوبَةُ نَفْسَهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ حِينَ { تَأَيَّمَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ مِنْ خُنَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَتُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ قَالَ : فَلَقِيت عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ، فَعَرَضْت عَلَيْهِ حَفْصَةَ ، فَقُلْت : إنْ شِئْت أَنْكَحْتُك حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ .
فَقَالَ : سَأَنْظُرُ فِي أَمْرِي ، فَلَبِثْت لَيَالِيَ ، ثُمَّ لَقِيَنِي ، فَقَالَ : قَدْ بَدَا لِي أَلَّا أَتَزَوَّجَ يَوْمِي هَذَا .
قَالَ عُمَرُ : فَلَقِيت أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، فَقُلْت : إنْ شِئْت أَنْكَحْتُك حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ .
فَصَمَتَ أَبُو بَكْرٍ ، فَلَمْ يُرْجِعْ إلَيَّ شَيْئًا ، فَكُنْت عَلَيْهِ أَوْجَدُ

مِنِّي عَلَى عُثْمَانَ ، فَلَبِثْت لَيَالِيَ ، ثُمَّ خَطَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْكَحْتهَا إيَّاهُ ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : لَعَلَّك وَجَدْت عَلِيَّ حِينَ عَرَضْت عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أُرْجِعْ إلَيْك شَيْئًا ، فَقُلْت : نَعَمْ .
فَقَالَ : إنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُرْجِعَ إلَيْك فِيمَا عَرَضْت عَلَيَّ إلَّا أَنِّي كُنْت عَلِمْت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ ذَكَرَهَا ، فَلَمْ أَكُنْ لَأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَلَوْ تَرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَبِلْتهَا } .
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمَوْهُوبَةِ فَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ قَالَ { : إنِّي لَفِي الْقَوْمِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ جَاءَتْ امْرَأَةٌ ، فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ جِئْت أَهَبُ لَك نَفْسِي ، فَرَأْيَك .
فَنَظَرَ إلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهَا وَصَوَّبَهُ ، ثُمَّ طَأْطَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ ، فَلَمَّا رَأَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِيهَا شَيْئًا جَلَسَتْ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك بِهَا حَاجَةٌ فَزَوِّجْنِيهَا .
فَقَالَ : هَلْ عِنْدَك مِنْ شَيْءٍ ؟ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
فَقَالَ : اذْهَبْ إلَى أَهْلِك فَانْظُرْ لَعَلَّك تَجِدُ شَيْئًا .
فَذَهَبَ وَرَجَعَ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ مَا وَجَدْت شَيْئًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُنْظُرْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ .
فَذَهَبَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ .
وَلَكِنَّ هَذَا إزَارِي قَالَ سَهْلٌ : مَا لَهُ رِدَاءٌ فَلَهَا نِصْفُهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِك ؟ إنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ لَبِسْته لَمْ يَكُنْ عَلَيْك مِنْهُ شَيْءٌ فَجَلَسَ الرَّجُلُ حَتَّى طَالَ مَجْلِسُهُ ، ثُمَّ قَامَ فَرَآهُ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَلِّيًا ، فَأَمَرَ بِهِ فَدُعِيَ ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ : مَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ ؟ قَالَ : مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا ، لِسُوَرٍ عَدَّدَهَا .
قَالَ : تَقْرَأُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِك ؟ قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ : اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : " زَوَّجْتُكهَا " .
وَفِي أُخْرَى : " أَنْكَحْتُكهَا " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " أَمْكَنَّاكَهَا " .
وَفِي رِوَايَةٍ : " وَلَكِنْ اُشْقُقْ بُرْدَتِي هَذِهِ ، أَعْطِهَا النِّصْفَ وَخُذْ النِّصْفَ " .
فَمِنْ الْحُسْنِ عَرْضُ الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ وَالْمَرْأَةِ نَفْسَهَا عَلَى الرَّجُلِ الصَّالِحِ اقْتِدَاءً بِهَذَا السَّلَفِ الصَّالِحِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اسْتَدَلَّ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ } عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ عَلَى لَفْظِ التَّزْوِيجِ وَالْإِنْكَاحِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِكُلِّ لَفْظٍ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَنْعَقِدُ بِكُلِّ لَفْظٍ يَقْتَضِي التَّمْلِيكَ عَلَى التَّأْبِيدِ .
وَلَا حُجَّةَ لِلشَّافِعِيِّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا ، وَهُمْ لَا يَرَوْنَهُ حُجَّةً فِي شَيْءٍ ، وَنَحْنُ وَإِنْ كُنَّا نَرَاهُ حُجَّةً فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا أَنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْإِنْكَاحِ وَقَعَ ، وَامْتِنَاعُهُ بِغَيْرِ لَفْظِ النِّكَاحِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَلَا يَقْتَضِيهِ بِظَاهِرِهَا ، وَلَا يُنْظَرُ مِنْهَا ؛ وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : { قَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } .
وَرُوِيَ { أَمْكَنَّاكَهَا بِمَا مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ } ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا فِي الْبُخَارِيِّ .
وَهَذَا نَصٌّ .
وَقَدْ رَامَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَنْ يَجْعَلُوا انْعِقَادَ النِّكَاحِ بِلَفْظِهِ تَعَبُّدًا ، كَانْعِقَادِ الصَّلَاةِ بِلَفْظِ اللَّهُ أَكْبَرُ ، وَيَأْبَوْنَ مَا بَيْنَ الْعُقُودِ وَالْعِبَادَاتِ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ الْأَمْرَ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ابْتِدَاؤُهُ بِالرَّجُلِ قَبْلَ الْمَرْأَةِ فِي قَوْلِهِ : { أُنْكِحُك } وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُقَدَّمُ فِي الْعَقْدِ ، الْمُلْتَزِمُ لِلصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ ، الْقَيِّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ ، وَصَاحِبُ الدَّرَجَةِ عَلَيْهَا فِي حَقِّ النِّكَاحِ .
وَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } .
فَبَدَأَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ زَيْنَبَ ؛ وَهُوَ شَرْعُنَا الَّذِي لَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَرْضٌ لَا عَقْدٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدًا لَعَيَّنَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ الْبَيْعِ إذَا قَالَ لَهُ : بِعْتُك أَحَدَ عَبْدِي هَذَيْنِ بِثَمَنِ كَذَا فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ خِيَارٌ ، وَلَا شَيْءَ مِنْ الْخِيَارِ يَلْصَقُ بِالنِّكَاحِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : أَيَّتَهُمَا تُرِيدُ ؟ قَالَ : الصُّغْرَى .
ثُمَّ قَالَ مُوسَى : لَا ، حَتَّى تُبْرِئَهَا مِمَّا فِي نَفْسِك ، يُرِيدُ حِينَ قَالَتْ : { إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } ، فَامْتَلَأَتْ نَفْسُ صَالِحَ مَدْيَنَ غَيْرَةً ، وَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُرَاجَعَةٌ فِي الْقَوْلِ وَمُؤَانَسَةٌ ، فَقَالَ : مِنْ أَيْنَ عَلِمْتِ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : أَمَّا قُوَّتُهُ فَرَفْعُهُ الْحَجَرَ مِنْ فَمِ الْبِئْرِ وَحْدَهُ ، وَكَانَ لَا يَرْفَعُهُ إلَّا عَشْرَةُ رِجَالٍ ، وَأَمَّا أَمَانَتُهُ فَحِينَ مَشَيْت قَالَ لِي : كُونِي وَرَائِي ، كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، فَحِينَئِذٍ سَكَنَتْ نَفْسُهُ ، وَتَمَكَّنَ أُنْسُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك } هَلْ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ إيجَابًا أَمْ لَا ؟ وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الِاسْتِدْعَاءِ ، هَلْ يَكُونُ قَبُولًا ؟ كَمَا إذَا قَالَ : بِعْنِي ثَوْبَك هَذَا .
فَقَالَ : بِعْتُك ، هَلْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ أَمْ لَا ؟ حَتَّى يَقُولَ الْآخَرُ قَبِلْت ، عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : يَنْعَقِدُ ، وَإِنْ تَقَدَّمَ الْقَبُولُ عَلَى الْإِيجَابِ بِلَفْظِ الِاسْتِدْعَاءِ لِحُصُولِ الْغَرَضِ مِنْ الرِّضَا بِهِ ، عَلَى أَصْلِنَا ؛ فَإِنَّ الرِّضَا بِالْقَلْبِ هُوَ الَّذِي يُعْتَبَرُ كَمَا وَقَعَ اللَّفْظُ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : أُرِيدُ أَنْ تُنْكِحَنِي ، أَوْ أُنْكِحَك ، يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إيجَابًا حَاصِلًا ؛ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : نَعَمْ ، انْعَقَدَ الْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ .
وَعَلَيْهِ يَدُلُّ ظَاهِرُ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك } فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : { ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَك } وَهَذَا انْعِقَادُ عَزْمٍ ، وَتَمَامُ قَوْلٍ ، وَحُصُولُ مَطْلُوبٍ ، وَنُفُوذُ عَقْدٍ .
وَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا بَنِي النَّجَّارِ ؛ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ فَقَالُوا : لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ ، إلَّا إلَى اللَّهِ } .
فَانْعَقَدَ الْعَقْدُ ، وَحَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمِلْكِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُمْ : إنَّهُ زَوَّجَ الصُّغْرَى .
يُرْوَى عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : { قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ سُئِلْت أَيُّ الْأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى فَقُلْ : خَيْرَهُمَا وَأَوْفَاهُمَا .
وَإِنْ سُئِلْت أَيُّ الْمَرْأَتَيْنِ تَزَوَّجَ فَقُلْ الصُّغْرَى وَهِيَ الَّتِي جَاءَتْ خَلْفَهُ ، وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْت الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : عَادَةُ النَّاسِ تَزْوِيجُ الْكُبْرَى قَبْلَ الصُّغْرَى ؛ لِأَنَّهَا سَبَقَتْهَا إلَى الْحَاجَةِ إلَى الرِّجَالِ ، وَمِنْ الْبِرِّ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا .
وَاَلَّذِي أَوْجَبَ تَقْدِيمَ الصُّغْرَى فِي قِصَّةِ صَالِحِ مَدْيَنَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ لَعَلَّهُ آنَسَ مِنْ الْكُبْرَى رِفْقًا بِهِ ، وَلِينَ عَرِيكَةٍ فِي خِدْمَتِهِ .
الثَّانِي : أَنَّهَا سَبَقَتْ الصُّغْرَى إلَى خِدْمَتِهِ ، فَلَعَلَّهَا كَانَتْ أَحَنَّ عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ تَوَقَّعَ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا ، لِأَنَّهُ رَآهَا فِي رِسَالَتِهِ ، وَمَاشَاهَا فِي إقْبَالِهِ إلَى أَبِيهَا مَعَهَا ، فَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهِ الْكُبْرَى رُبَّمَا أَظْهَرَ لَهُ الِاخْتِيَارَ ، وَهُوَ يُضْمِرُ غَيْرَهُ ، لَكِنْ عَرَضَ عَلَيْهِ شَرْطَهُ لِيُبْرِئَهَا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَتَطَرَّقَ الْوَهْمُ إلَيْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } .
فَذَكَرَ لَهُ لَفْظَ الْإِجَارَةِ وَمَعْنَاهَا .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي جَعْلِ الْمَنَافِعِ صَدَاقًا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، وَكَرِهَهُ مَالِكٌ ، وَمَنَعَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَجَازَهُ غَيْرُهُمَا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُفْسَخُ قَبْلَ الْبِنَاءِ ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ .
وَقَالَ أَصْبَغُ : إنْ نُقِدَ مَعَهُ شَيْءٌ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَدْ فَهُوَ أَشَدُّ ، فَإِنْ تَرَكَ مَضَى عَلَى كُلِّ حَالٍ ، بِدَلِيلِ قِصَّةِ شُعَيْبٍ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ وَابْن الْمَوَّازِ وَأَشْهَبُ ، وَعَوَّلَ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي هَذِهِ النَّازِلَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : صَالِحُ مَدْيَنَ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ صَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ خِدْمَتَهُ فِي غَنَمِهِ ؛ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقُ فُلَانَةَ خِدْمَةَ فُلَانٍ ، وَلَكِنَّ الْخِدْمَةَ لَهَا عِوَضٌ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ اسْتَقَرَّ فِي ذِمَّةِ صَالِحِ مَدْيَنَ لِصَالِحِ بَنِي إسْرَائِيلَ ، وَجَعَلَهُ صَدَاقًا لِابْنَتِهِ .
وَهَذَا ظَاهِرٌ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : فَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ بِجُعْلٍ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي سَمَاعِ يَحْيَى : لَا يَجُوزُ ، وَلَا كِرَاءَ لَهُ ، وَلَا أُجْرَةَ مِثْلِهِ ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَالْإِسْلَامُ بِخِلَافِهِ .
قَالَ الْإِمَامُ الْحَافِظُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ جُعْلٌ ، إنَّمَا فِيهِ إجَارَةٌ ، وَلَيْسَ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافُهُ ؛ بَلْ فِيهِ جَوَازُهُ فِي قِصَّةِ الْمَوْهُوبَةِ ، وَهُوَ يُجَوِّزُ النِّكَاحَ بِعَدَدٍ مُطْلَقٍ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ ؛ فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ عَلَى تَعْلِيمِ عِشْرِينَ سُورَةٍ .
وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّحْصِيلِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد فِي حَدِيثِ الْمَوْهُوبَةِ : { عَلِّمْهَا عِشْرِينَ سُورَةً ، وَهِيَ امْرَأَتُك } .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنَافِعُ الْحُرِّ صَدَاقًا .
وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَنَافِعِ الْعَبْدِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَجُوزُ ذَلِكَ كُلُّهُ .
وَنَزَعَ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ لَيْسَتْ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهَا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّهُ مَالٌ كُلُّهُ .
وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ مَالٌ ، بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهَا بِالْمَالِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مَا جَازَ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ مَالًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَدْخُلُ فِي أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَالصَّدَاقُ بِالْمَنَافِعِ إنَّمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَفِي الْحَدِيثِ ؛ فَمَنَافِعُ الْأَحْرَارِ وَمَنَافِعُ الْعَبِيدِ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهِ ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ الْأَصْلُ ، وَيُحْمَلُ الْفَرْعُ عَلَى أَصْلٍ سَاقِطٍ ؟ وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

جَوَازُ الصَّدَاقِ إجَارَةً الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّدَاقِ إجَارَةً فَفِي قَوْلِهِ : { عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي } ذِكْرٌ لِلْخِدْمَةِ مُطْلَقًا .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ جَائِزٌ ، وَيُحْمَلُ عَلَى الْمَعْرُوفِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْقَاقٌ لِمَنَافِعِهِ فِيمَا يُصْرَفُ فِيهِ مِثْلُهُ ، وَالْعُرْفُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ ، وَيَقْضِي بِهِ ؛ فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ .
وَيُعْضَدُ هَذَا بِظَاهِرِ قِصَّةِ مُوسَى فَإِنَّهُ ذِكْرُ إجَارَةٍ مُطْلَقَةٍ ، عَلَى أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ ذَكَرُوا أَنَّهُ عَيَّنَ لَهُ رَعِيَّةَ الْغَنَمِ ، وَلَمْ يَرْوُوا ذَلِكَ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ ، وَلَكِنْ قَالُوا : إنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَمَلٌ إلَّا رَعِيَّةَ الْغَنَمِ ، فَكَانَ مَا عُلِمَ مِنْ حَالِهِ قَائِمًا مَقَامَ تَعْيِينِ الْخِدْمَةِ فِيهِ .
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَنَا ؛ فَإِنَّ الْمُخَالِفَ يَرَى أَنَّ مَا عُلِمَ مِنْ الْحَالِ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِجَارَةِ حَتَّى يُسَمَّى .
وَعِنْدَنَا أَنَّهُ يَكْفِي مَا عُلِمَ مِنْ الْحَالِ ، وَمَا قَامَ مِنْ دَلِيلِ الْعُرْفِ ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّسْمِيَةِ فِي الْخِدْمَةِ ، وَالْعُرْفُ عِنْدَنَا أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَدَلِيلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَدِلَّةِ .
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ قَبْلُ ، وَفِي مَوْضِعِهِ مِنْ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ كَانَ آجَرَهُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ فَالْإِجَارَةُ عَلَى رِعَايَةِ الْغَنَمِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً ، أَوْ مُسَمَّاةً بِعِدَّةٍ ، أَوْ مُعَيَّنَةً .
فَإِنْ كَانَتْ مُطْلَقَةً جَازَتْ عِنْدَ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّهَا لَا تَجُوزُ لِجَهَالَتِهَا .
وَعَوَّلَ عُلَمَاؤُنَا عَلَى الْعُرْفِ ، وَأَنَّهُ يُعْطِي عَلَى قَدْرِ مَا تَحْتَمِلُ قُوَّتُهُ .
وَزَادَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْرَ قُوَّتِهِ .
وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ فَإِنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ قَدْ عَلِمَ

قَدْرَ قُوَّةِ مُوسَى بِرَفْعِ الْحَجَرِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ اتِّفَاقًا .
وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُودَةً مُعَيَّنَةً فَفِيهَا تَفْصِيلٌ لِعُلَمَائِنَا .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : لَا يَجُوزُ حَتَّى يَشْتَرِطَ الْخَلْفَ إنْ مَاتَتْ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ جِدًّا ، قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهَا فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
وَقَدْ اسْتَأْجَرَ صَالِحُ مَدْيَنَ مُوسَى عَلَى غَنَمِهِ ، وَقَدْ رَآهَا وَلَمْ يَشْرِطْ خَلْفًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ بَعْضُهُمْ : هَذَا الَّذِي [ كَانَ ] جَرَى مِنْ صَالِحِ مَدْيَنَ لَمْ يَكُنْ ذِكْرًا لِصَدَاقِ الْمَرْأَةِ ؛ وَإِنَّمَا كَانَ اشْتِرَاطًا لِنَفْسِهِ عَلَى مَا تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ فَإِنَّهَا تَشْتَرِطُ صَدَاقَ بَنَاتِهَا ، وَتَقُولُ : لِي كَذَا فِي خَاصَّةِ نَفْسِي قُلْنَا : هَذَا الَّذِي تَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ هُوَ حُلْوَانُ وَزِيَادَةٌ عَلَى الْمَهْرِ ، وَهُوَ حَرَامٌ لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ .
فَأَمَّا إذَا شَرَطَ الْوَلِيُّ شَيْئًا لِنَفْسِهِ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا يُخْرِجُهُ الزَّوْجُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جَائِزٌ .
وَالْآخَرُ : لَا يَجُوزُ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي فِيهِ التَّقْسِيمُ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَخْلُو أَنْ تَكُونَ بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا ، فَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا جَازَ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا بِيَدِهَا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ مُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْعِوَضُ عَنْهُ ، كَمَا يَأْخُذُهُ الْوَكِيلُ عَلَى عَقْدِ الْبَيْعِ .
وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا كَانَ الْعَقْدُ بِيَدِهِ ، فَكَأَنَّهُ عِوَضٌ فِي النِّكَاحِ لِغَيْرِ الزَّوْجَةِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ فَإِنْ وَقَعَ فَسْخٌ قَبْلَ الْبِنَاءِ ، وَثَبَتَ بَعْدَهُ عَلَى مَشْهُورِ الرِّوَايَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَمْ يَكُنْ اشْتِرَاطُ صَالِحِ مَدْيَنَ عَلَى مُوسَى مَهْرًا ، وَإِنَّمَا كَانَ كُلَّهُ لِنَفْسِهِ ، وَتَرَكَ الْمَهْرَ مُفَوَّضًا .
وَنِكَاحُ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ .
قُلْنَا : كَانَتْ بِكْرًا ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ ، وَلَا يُظَنُّ بِالْفُضَلَاءِ ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : لَمْ يُنْقَلْ مَا كَانَتْ أُجْرَةُ مُوسَى ، وَلَكِنْ رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ أَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ جَعَلَ لِمُوسَى كُلَّ سَخْلَةٍ تُوضَعُ خِلَافَ لَوْنِ أُمِّهَا ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى : أَلْقِ عَصَاك بَيْنَهُنَّ يَلِدْنَ خِلَافَ شَبَهِهِنَّ كُلِّهِنَّ .
وَاَلَّذِي رَوَى عُتْبَةُ بْنُ الْمُنْذِرِ السُّلَمِيُّ وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ عُبَيْدٍ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْأَجَلَيْنِ أَوْفَى مُوسَى ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْفَاهُمَا وَأَبَرُّهُمَا } .
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ فِرَاقَ شُعَيْبٍ أَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَسْأَلَ أَبَاهَا عَنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ مَا يَعِيشُونَ بِهِ .
" .
فَأَعْطَاهَا مَا وَلَدَتْ غَنَمُهُ مِنْ قَالِبِ لَوْنِ ذَلِكَ الْعَامِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا وَرَدَتْ الْحَوْضَ وَقَفَ مُوسَى بِإِزَاءِ الْحَوْضِ فَلَمْ تَمُرَّ بِهِ شَاةٌ إلَّا ضَرَبَ جَنْبَهَا بِعَصَا ، فَوَضَعَتْ قَوَالِبَ أَلْوَانٍ كُلِّهَا اثْنَيْنِ وَثَلَاثَةٍ ، كُلُّ شَاةٍ لَيْسَ مِنْهُنَّ فَشُوشٌ وَلَا ضَبُوبٌ وَلَا كَمِيشَةٌ وَلَا ثَعُولٌ " .
الْفَشُوشُ : الَّتِي إذَا مَشَتْ سَالَ لَبَنُهَا .
وَالضَّبُوبُ الَّتِي ضَرْعُهَا مِثْلُ الْمَوْزَتَيْنِ .
وَالْكَمِيشَةُ : الصَّغِيرَةُ الضَّرْعِ الَّتِي لَا يَضْبِطُهَا الْحَالِبُ .
وَالْقَالِبُ لَوْنُ صِنْفٍ وَاحِدٌ كُلُّهُ .
وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ لَكَانَ فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : إحْدَاهُمَا : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : وَهِيَ الْوَحْيُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ الْكَلَامِ ، وَذَلِكَ بِالْإِلْهَامِ ، أَوْ بِأَنْ يُكَلِّمَهُ الْمَلَكُ كَهَيْئَةِ الرَّجُلِ ، كَمَا رُوِيَ أَنَّهُ هَدَاهُ فِي طَرِيقِهِ لِمَدْيَنَ حِينَ ضَلَّ وَخَافَ ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ بِذَلِكَ نَبِيًّا ، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ يُكَلِّمُهُ الْمَلَكُ وَيُخْبِرُهُ بِأَمْرٍ مُشْكِلٍ يَكُونُ نَبِيًّا وَقَدْ وَرَدَتْ بِذَلِكَ أَخْبَارٌ

كَثِيرَةٌ .

الثَّانِيَةُ : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : الْإِجَارَة بِالْعِوَضِ الْمَجْهُولِ ، فَإِنَّ وِلَادَةَ الْغَنَمِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ، وَإِنَّ مِنْ الْبِلَادِ الْخِصْبَةِ مَا يُعْلَمُ وِلَادَةُ الْغَنَمِ فِيهَا قَطْعًا ، وَعِدَّتُهَا ، وَسَلَامَةُ سِخَالِهَا ؛ مِنْهَا دِيَارُ مِصْرَ وَغَيْرُهَا ، بَيْدَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي شَرْعِنَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ الْغَرَرِ } ، وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّ هَذَا فِي بِلَادِ الْخِصْبِ لَيْسَ بِغَرَرٍ ، لِاطِّرَادِ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ ، فَيُقَالُ لَهُ : لَيْسَ كَمَا ظَنَنْت ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا نَهَى عَنْ الْغَرَرِ نَهَى عَنْ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ .
وَالْمَضَامِينُ : مَا فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَالْمَلَاقِيحُ : مَا فِي أَصْلَابِ الْفُحُولِ ، أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : مَلْقُوحَةٌ فِي بَطْنِ نَابٍ حَامِلٍ عَلَى أَنَّ مَعْمَرَ بْنَ الْأَشَدِّ أَجَازَ الْإِجَارَةَ عَلَى الْغَنَمِ بِالثُّلُثِ وَالرُّبْعِ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَعَطَاءٌ ، وَقَتَادَةُ : يَنْسِجُ الثَّوْبَ بِنَصِيبٍ مِنْهُ .
وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
وَقَرَأْت بِبَابِ جَيْرُونَ عَلَى الشَّيْخِ الْأَجَلِّ الرَّئِيسِ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ فُضَيْلٍ الدِّمَشْقِيِّ ، أَخْبَرَنِي أَبُو عُمَرَ الْمَالِكِيُّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ حَمَّادِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ الْأَنْصَارِيُّ ، أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ عِيسَى ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيُّ عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ ، { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : آجَرَ مُوسَى نَفْسَهُ بِشِبَعِ بَطْنِهِ وَعِفَّةِ فَرْجِهِ .
فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ : لَك مِنْهَا يَعْنِي مِنْ نِتَاجِ غَنَمِهِ مَا جَاءَتْ بِهِ قَالِبُ لَوْنٍ وَاحِدٌ غَيْرُ وَاحِدٍ أَوْ اثْنَيْنِ ، لَيْسَ فِيهَا عَزُورٌ ، وَلَا فَشُوشٌ ، وَلَا كَمُوشٌ ،

وَلَا ضَبُوبٌ ، وَلَا ثَعُولٌ } .
الْعَزَوَّرُ : الَّتِي يَعْسُرُ حَلْبُهَا .
وَالثَّعُولُ : الَّتِي لَهَا زِيَادَةُ حَلَمَةٍ ، وَهُوَ عَيْبٌ فِيهَا .
وَقَدْ كَانَ مَعَ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ غُلَامٌ يَخْدِمُهُ ، بِشِبَعِ بَطْنِهِ .
وَجَوَّزَ ذَلِكَ مَالِكٌ ، وَأَبَاهُ غَيْرُهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ قَالَ لِبِنْتِ صَالِحِ مَدْيَنَ فِي الْغَنَمِ حِصَّةٌ ، فَلِذَلِكَ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ ، صَدَاقًا لَهَا بِمَا كَانَ لَهَا مِنْ الْحِصَّةِ فِيهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَذَا احْتِرَازٌ مِنْ مَعْنَى بِوُقُوعٍ فِي آخَرَ ؛ فَإِنَّ الْغَنَمَ إذَا كَانَتْ بَيْنَ صَالِحِ مَدْيَنَ وَبَيْنَ ابْنَتِهِ ، وَأَخَذَهَا مُوسَى مُسْتَأْجِرًا عَلَيْهَا ، فَفِي ذَلِكَ جَمَعَ سِلْعَتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لِغَيْرِ عَاقِدٍ وَاحِدٍ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ ، وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ مَنْعُهُ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَهْلِ بِالثَّمَنِ فِي حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ إلَى جَمْعِ السِّلْعَتَيْنِ ، لَا سِيَّمَا وَيُمْكِنُ التَّوَقِّي مِنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَذْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَةَ سِلْعَتِهِ ، وَيَقَعَ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى الْقِيمَةِ ، فَيَكُونَ مَعْرُوفًا لَا غَرَرَ فِيهِ ، فَلَا يُمْنَعُ الْعَقْدُ حِينَئِذٍ عَلَيْهِمَا .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : فِي هَذَا اجْتِمَاعُ إجَارَةٍ وَنِكَاحٍ : وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ فِي ثَمَانِيَةِ أَبِي زَيْدٍ : يُكْرَهُ ابْتِدَاءً ؛ فَإِنْ وَقَعَ مَضَى .
الثَّانِي : قَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَشْهُورِ : لَا يَجُوزُ ، وَيُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَبَعْدَهُ .
الثَّالِثُ : أَجَازَهُ أَشْهَبُ وَأَصْبَغُ .
الرَّابِعُ : قَالَ مُحَمَّدٌ : قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : إنْ بَقِيَ بَعْدَ الْمَبِيعِ ، يَعْنِي مِنْ الْقِيمَةِ ، رُبْعُ دِينَارٍ يُقَابِلُ الْبُضْعَ جَازَ النِّكَاحُ ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَوْجِيهَاتِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْآيَةُ وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ : النِّكَاحُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْبُيُوعِ ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ ، أَوْ بَيْنَ بَيْعٍ وَنِكَاحٍ ، وَهُوَ شَبَهُهُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّجُلَيْنِ يَجْمَعَانِ سِلْعَتَهُمَا ، وَإِذَا كَانَتَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَازَ ، وَالْعَاقِدُ هُنَا وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ إلَى الْوَلِيِّ ، لَا حَظَّ لِلْمَرْأَةِ فِيهِ ، لِأَنَّ صَالِحَ مَدْيَنَ تَوَلَّاهُ .
وَبِهِ قَالَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَفْتَقِرُ النِّكَاحُ إلَى وَلِيٍّ ، وَعَجَبًا لَهُ ، مَتَى رَأَى امْرَأَةً قَطُّ عَقَدَتْ نِكَاحَ نَفْسِهَا ، وَمِنْ الْمَشْهُورِ فِي الْآثَارِ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ ، فَإِنْ مَسَّهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْمَارٍ ؛ قَالَ مَالِكٌ .
وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ .
وَقَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إذَا بَلَغَتْ الصَّغِيرَةُ فَلَا يُزَوِّجُهَا أَحَدٌ إلَّا بِرِضَاهَا ؛ لِأَنَّهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّكْلِيفِ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً فَإِنَّهُ يُزَوِّجُهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا إذْنَ لَهَا ، وَلَا رِضَاءَ ، بِغَيْرِ خِلَافٍ .
وَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ : { الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا ، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا ، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ : { الْأَيِّمُ وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا } .
فَقَوْلُهُ : " الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا " دَلِيلٌ قَوِيٌّ فِي الْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعِلَّةَ فِي كَوْنِ الْمَرْأَةِ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا كَوْنَهَا أَيِّمًا ؛ وَذَلِكَ لِاخْتِيَارِهَا مَقَاصِدَ فِي النِّكَاحِ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَتَكَلَّمْنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ بِكُلِّ فَائِدَةٍ وَلَطِيفَةٍ .
وَاحْتِجَاجُ مَالِكٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُعَوِّلُ عَلَى الإسرائليات ، وَفِيهَا أَنَّهُمَا كَانَتَا بِكْرَيْنِ ، وَبَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّأِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَرُبَّمَا ظَنَّ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبَنَاتِ تَرْكُ النِّكَاحِ ، حَتَّى يَثْبُتَ أَنَّهُنَّ مُتَزَوِّجَاتٌ .
وَلَيْسَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ النِّسَاءِ النِّكَاحُ ، وَمَتَى اجْتَمَعَ أَصْلٌ وَظَاهِرٌ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَكَذَلِكَ يُقَالُ : إنَّ أَبَاهَا لَمَّا قَالَ : إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ ، فَأَشَارَ إلَيْهِمَا ، كَانَ هَذَا أَكْثَرَ مِنْ الِاسْتِئْمَارِ أَوْ مِثْلَهُ ؛ فَإِنَّ الْكَلَامَ مَعَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا بِضَمِيرِ الْحَاضِرِ إسْمَاعٌ لَهَا .
وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ الْآيَةِ مَسْأَلَةٌ ، وَهِيَ الِاكْتِفَاءُ

بِصَمْتِ الْبِكْرِ ، وَهُوَ فِي حَدِيثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَاهِرٌ ، وَفِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ أَبْيَنُ مِنْهُ فِي شَرْعِ مُوسَى ، وَبِهَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ يَتَبَيَّنُ لَك وَجْهُ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ ، وَمَا يَعْرِضُ عَلَى الْأَدِلَّةِ مِنْ الشَّبَهِ ، فَيُقَابَلُ كُلُّ فَنٍّ بِمَا يَصْلُحُ لَهُ ، وَيُرَجَّحُ الْأَظْهَرُ وَيُقْضَى بِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَدْ بَيَّنَّا فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ أَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي النِّكَاحِ .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيهَا ؛ هَلْ هِيَ فِي الدِّينِ وَالْمَالِ وَالْحَسَبِ ، أَوْ فِي بَعْضِهَا ؟ وَحَقَّقْنَا جَوَازَ نِكَاحِ الْمَوَالِي لِلْعَرَبِيَّاتِ وَلِلْقُرَشِيَّاتِ ، وَأَنَّ الْمُعَوِّلَ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } .
وَقَدْ جَاءَ مُوسَى إلَى صَالِحِ مَدْيَنَ غَرِيبًا طَرِيدًا ، وَحِيدًا جَائِعًا عُرْيَانًا ، فَأَنْكَحَهُ ابْنَتَهُ لَمَّا تَحَقَّقَ مِنْ دِينِهِ ، وَرَأَى مِنْ حَالِهِ ، وَأَعْرَضَ عَمَّا سِوَى ذَلِكَ .
وَلَا خِلَافَ فِي إنْكَاحِ الْأَبِ ؛ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي إنْكَاحِ غَيْرِ الْأَبِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ ، إلَّا أَنْ يَطْرَحَهَا الْأَبُ فِي عَارٍ يَلْحَقُ الْقَبِيلَ ، فَفِيهِ خِلَافٌ ، وَتَفْصِيلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَالْفُرُوعِ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : اخْتَلَفَ النَّاسُ ؛ هَلْ دَخَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ عَقَدَ ؟ أَمْ حِينَ سَافَرَ ؟ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ حِينَ عَقَدَ فَمَاذَا نَقَدَ ؟ وَقَدْ مَنَعَ عُلَمَاؤُنَا مِنْ الدُّخُولِ حَتَّى يَنْقُدَ وَلَوْ رُبْعَ دِينَارٍ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ مَضَى ، لِأَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالُوا : تَعْجِيلُ الصَّدَاقِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ مُسْتَحَبٌّ ، عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الصَّدَاقُ رَعْيَهُ الْغَنَمَ فَقَدْ نَقَدَ الشُّرُوعَ فِي الْخِدْمَةِ .
وَإِنْ كَانَ دَخَلَ حِينَ سَافَرَ أَوْ أَكْمَلَ الْمُدَّةَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَطُولُ الِانْتِظَارِ فِي النِّكَاحِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ مَدَى الْعُمْرِ ، بِغَيْرِ شَرْطٍ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ بِشَرْطٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِغَرَضٍ صَحِيحٍ ، مِثْلِ التَّأَهُّبِ لِلْبِنَاءِ ، أَوْ انْتِظَارِ صَلَاحِيَّةِ الزَّوْجَةِ لِلدُّخُولِ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً .
نَصَّ عَلَيْهَا عُلَمَاؤُنَا .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ دَخَلَ فِي الْحَالِ .
وَمَا كَانَ صَالِحُ مَدْيَنَ يَحْبِسُهُ عَنْ الدُّخُولِ يَوْمًا ، وَقَدْ عَقَدَهُ عَلَيْهَا حَالًا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { ثَمَانِيَ حِجَجٍ } فَنَصَّ عَلَى عَقْدِ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُوسَى مُدَّةً مِنْ ثَمَانِيَةِ أَعْوَامٍ عَلَى رَعْيِهِ الْغَنَمَ وَالْحَيَوَانَ ، فَتَغَيَّرَ فِي الْآمَادِ الطَّوِيلَةِ ، وَلَمْ يَرَ ابْنُ الْمَوَّازِ الْعِشْرِينَ سَنَةً فِي الْعَقْدِ طُولًا ، وَلَا رَأَى فِي الْمُدَوَّنَةِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ طُولًا .
وَمَنَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي الْعَشْرِ سِنِينَ ، وَهُوَ أَصَحُّ لِسُرْعَةِ التَّغَيُّرِ فِي الْغَالِبِ إلَى الْأَبَدَانِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ .
وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْتَضِي ثَمَانِيَ سِنِينَ ، وَبَلَغَهَا بِالطَّوْعِ الَّذِي لَا يُلْزَمُ عَشْرًا ، وَهُوَ الْعَدْلُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : لَمَّا ذَكَرَ الشَّرْطَ ، وَأَعْقَبَهُ بِالتَّطَوُّعِ فِي الْعَشْرِ ؛ خَرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُكْمِهِ ، وَلَمْ يَلْحَقْ الْآخَرُ بِالْأَوَّلِ ، وَلَا اشْتَرَكَ الْفَرْضُ وَالتَّطَوُّعُ ؛ وَلِذَلِكَ يُكْتَبُ فِي الْعُقُودِ الشُّرُوطُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ يُقَالُ : وَتَطَوَّعَ بِكَذَا ، فَيَجْرِي الشَّرْطُ عَلَى سَبِيلِهِ ، وَالتَّطَوُّعُ عَلَى حُكْمِهِ .
وَقَدْ أَفْرَطَ بَعْضُهُمْ بِأَنْ قَالَ : يُقَالُ فِي الْعَقْدِ : وَتَطَوَّعَ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْدِ .
وَهَذَا إفْرَاطٌ يَخْرُجُ بِقَائِلِهِ إلَى التَّفْرِيطِ فَإِنَّهُ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِيهِ ، وَهِيَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : عَقَدَ مَعَهُ كَذَا ، وَشَرَطَ كَذَا ، وَتَطَوَّعَ بِكَذَا ، فَقَدْ انْفَصَلَ الْوَاجِبُ مِنْ التَّطَوُّعِ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ التَّطَوُّعَ أَخْرَجَهُ عَنْ لَوَازِمِ الْعَقْدِ ، وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَذَلِكَ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْدِ حَشْوٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ ، وَتَكْرَارٌ لَا مَعْنَى لَهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ } الْمَعْنَى لَيْسَ لَك إنْ وَفَّيْت أَحَدَ الْأَجَلَيْنِ أَنْ تَتَعَدَّى عَلَيَّ بِالْمُطَالَبَةِ بِالزَّائِدِ عَلَيْهِ .
فَلَوْ قَصَّرَ فِي الْعَامَيْنِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ قَصَّرَ فِي الثَّمَانِي لَكَانَ عَلَيْهِ عُدْوَانٌ ، وَهُوَ أَنْ يُعْدِيَ عَلَيْهِ .
وَكَيْفِيَّةُ الْعُدْوَانِ نُبَيِّنُهُ بِأَنْ نَقُولَ : اخْتَلَفَ إذَا اسْتَأْجَرَ عَلَى عَمَلِ حَائِطٍ مَثَلًا يُتِمُّهُ فَلَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِقَدْرِ مَا عَمِلَ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ مُقَاطَعَةً ، فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ يُتِمَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعُرْفُ بِالنَّقْدِ فَيَنْقُدَهُ ، وَيَلْزَمَهُ تَمَامُهُ .
وَأَكْثَرُ بِنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمُقَاطَعَةِ ، إذَا سَمَّى لَهُ ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : اسْتَأْجَرْتُك عَلَى بُنْيَانِ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا ، أَوْ نِصْفًا ، أَوْ شَهْرَيْنِ ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ وَقَالَ : تَبْنِي هَذِهِ الدَّارَ كُلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ ، فَكُلَّمَا بَنَى أَخَذَ ، أَوْ تَبْنِي هَذَا الْبَابَ ، أَوْ هَذَا الْحَائِطَ ، فَهُوَ مِثْلُهُ .
وَكَذَلِكَ كَانَتْ إجَارَةُ مُوسَى مُقَاطَعَةً ، فَلَهَا حُكْمُ الْمُقَاطَعَةِ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ طَوِيلٌ يَأْتِي فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ .
تَحْرِيرُهُ أَنَّ الْعَمَلَ فِي الْإِجَارَةِ إمَّا يَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ ، أَوْ بِصِفَةِ الْعَمَلِ الَّذِي يَضْبِطُ ؛ فَإِنْ كَانَ بِالزَّمَانِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ بِهِ ، لَازِمٌ فِي مُدَّتِهِ .
وَإِنْ كَانَ بِالْعَمَلِ فَإِنَّهُ يُضْبَطُ بِصِفَتِهِ ، وَيَلْزَمُ الْأَجِيرَ تَمَامُ الْمُدَّةِ ، أَوْ تَمَامُ الصِّفَةِ .
وَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْأُجْرَةِ إذَا كَانَ هَكَذَا إلَّا بِتَمَامِ الْعَمَلِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } اكْتَفَى الصَّالِحَانِ بِاَللَّهِ فِي الْإِشْهَادِ ، وَلَمْ يُشْهِدَا أَحَدًا مِنْ الْخَلْقِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وُجُوبِ الْإِشْهَادِ فِي النِّكَاحِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مَالِكٌ : إنَّهُ يَنْعَقِدُ دُونَ شُهُودٍ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِعْلَانُ وَالتَّصْرِيحُ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كُتُبِ الْخِلَافِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَلَا يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِهِ الْإِشْهَادُ كَالْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا شَرَطْنَا الْإِعْلَانَ لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ : { فَرْقُ مَا بَيْنَ النِّكَاحِ وَالسِّفَاحِ الدُّفُّ } .

وَرُبَّمَا نَزَعَ نَازِعٌ بِأَنَّ الْإِشْهَادَ فِي الْبَيْعِ لَازِمٌ وَاجِبٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
وَقَدْ أَخْبَرْنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ قَالَ : أَخْبَرَنَا الرَّفَّاءُ الْحَافِظُ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْمَرْوَزِيِّ ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ ، وَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ الْعَبَّاسِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ ، حَدَّثَنَا آدَم ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ رَبِيعَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ .
قَالَ : أَتَيْتنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ ، قَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا .
قَالَ : أَتَيْتنِي بِالْكَفِيلِ ، قَالَ : كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا .
قَالَ : صَدَقْت .
فَدَفَعَهَا إلَيْهِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى .
فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ ، فَقَضَى حَاجَتَهُ ، وَالْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهُ ، لِئَلَّا يَقْدَمَ عَلَيْهِ الْأَجَلُ الَّذِي أَجَّلَهُ ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا ، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا ، وَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إلَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا .
ثُمَّ جَاءَ بِهَا إلَى الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي تَسَلَّفْت مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَسَأَلَنِي كَفِيلًا ، فَقُلْت لَهُ : كَفَى بِاَللَّهِ كَفِيلًا فَسَأَلَنِي شَهِيدًا ، فَقُلْت لَهُ : كَفَى بِاَللَّهِ شَهِيدًا .
فَرَضِيَ بِذَلِكَ ، وَإِنِّي جَهَدْت أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إلَيْهِ بِاَلَّذِي لَهُ ، فَلَمْ أَقْدِرْ ؛ وَإِنِّي قَدْ اسْتَوْدَعْتُكَهَا .
وَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ انْصَرَفَ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إلَى بَلَدِهِ .
فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا ، فَلَمَّا

نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ ، وَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ ، وَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا زِلْت أَجْهَدُ فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَك بِمَالِك ، فَمَا وَجَدْت مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْت فِيهِ .
قَالَ : هَلْ كُنْت بَعَثْت إلَيَّ بِشَيْءِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَأَخْبَرْتُك ، أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُك فِيهِ .
قَالَ : بَلَى ، وَاَللَّهِ ، قَدْ أَدَّى اللَّهُ عَنْك الَّذِي بَعَثْت بِهِ ، فَانْصَرَفَ بِالْأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا } .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ اُمْكُثُوا إنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنْ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } .
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَذْهَبَ بِأَهْلِهِ حَيْثُ شَاءَ ، لِمَا لَهُ عَلَيْهَا مِنْ فَضْلِ الْقَوَامِيَّةِ ، وَزِيَادَةِ الدَّرَجَةِ ، إلَّا أَنْ يَلْتَزِمَ لَهَا أَمْرًا فَالْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَحَنَّ إلَى وَطَنِهِ ، وَفِي الرُّجُوعِ إلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ ، وَيَقُولُ : لَمَّا طَالَتْ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتْ التُّهْمَةُ ، وَبَلِيَتْ الْقِصَّةُ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ : أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا ، فَكَانَ الْيَهُودُ يَلْقَوْنَهُمْ بِالسَّبِّ وَالشَّتْمِ ، فَيُعْرِضُونَ عَنْهُمْ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّانِي : قَوْمٌ مِنْ الْيَهُودِ أَسْلَمُوا ، فَكَانُوا إذَا سَمِعُوا مَا غَيَّرَهُ الْيَهُودُ مِنْ التَّوْرَاةِ وَبَدَّلُوهُ مِنْ نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِفَتِهِ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، وَذَكَرُوا الْحَقَّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ الْمُسْلِمُونَ إذَا سَمِعُوا الْبَاطِلَ لَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُمْ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ يَكُونُوا يَهُودًا وَلَا نَصَارَى ، وَكَانُوا عَلَى دِينِ اللَّهِ ، وَكَانُوا يَنْتَظِرُونَ بَعْثَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا سَمِعُوا بِهِ بِمَكَّةَ قَصَدُوهُ ، فَعُرِضَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ ، فَأَسْلَمُوا ؛ فَكَانَ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ يَقُولُونَ لَهُمْ : أُفٍّ لَكُمْ مِنْ قَوْمٍ اتَّبَعْتُمْ غُلَامًا كَرِهَهُ قَوْمُهُ ، وَهُمْ أَعْلَمُ بِهِ مِنْكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ } يُرِيدُ لَنَا حَقُّنَا ، وَلَكُمْ بَاطِلُكُمْ ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَيْسَ هَذَا بِسَلَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ اذْهَبْ بِسَلَامٍ أَيْ تَارِكْنِي وَأُتَارِكُك .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَبْلَ تِبْيَانِ الْحَالِ لِلتَّحِيَّةِ بِالسَّلَامِ ، وَاخْتِصَاصِهَا بِالْمُسْلِمِينَ ، وَخُرُوجِ الْكُفَّارِ عَنْهَا ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاك اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَك مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي مَعْنَى النَّصِيبِ : وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا تَنْسَ حَظَّك مِنْ الدُّنْيَا أَيْ لَا تَغْفُلْ أَنْ تَعْمَلَ فِي الدُّنْيَا لِلْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ : " اُحْرُثْ لِدُنْيَاك كَأَنَّك تَعِيشُ أَبَدًا ، وَاعْمَلْ لِآخِرَتِك كَأَنَّك تَمُوتُ غَدًا " .
الثَّانِي : أَمْسِكْ مَا يَبْلُغُك ، فَذَلِكَ حَظُّ الدُّنْيَا .
وَأَنْفِقْ الْفَضْلَ ، فَذَلِكَ حَظُّ الْآخِرَةِ .
الثَّالِثُ : لَا تَغْفُلْ شُكْرَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْك .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إلَيْك } ذُكِرَ فِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ ، جِمَاعُهَا اسْتَعْمِلْ نِعَمَ اللَّهِ فِي طَاعَتِهِ وَقَالَ مَالِكٌ : مَعْنَاهَا تَعِيشُ وَتَأْكُلُ وَتَشْرَبُ غَيْرَ مُضَيَّقٍ عَلَيْك فِي رَأْيٍ .
قَالَ الْقَاضِي : أَرَى مَالِكًا أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَرَى مِنْ الْغَالِينَ فِي الْعِبَادَةِ التَّقَشُّفَ وَالتَّقَصُّفَ وَالْبَأْسَاءَ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْكُلُ الْحَلْوَى ، وَيَشْرَبُ الْعَسَلَ ، وَيَسْتَعْمِلُ الشِّوَاءَ ، وَيَشْرَبُ الْمَاءَ الْبَارِدَ ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ : أُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ قَدْرَ عَيْشِهِ ، وَيُقَدِّمَ مَا سِوَى ذَلِكَ لِآخِرَتِهِ .
وَأَبْدَعُ مَا فِيهِ عِنْدِي قَوْلُ قَتَادَةَ : وَلَا تَنْسَ الْحَلَالَ ، فَهُوَ نَصِيبُك مِنْ الدُّنْيَا ، وَيَا مَا أَحْسَنَ هَذَا ،

سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاك لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلُوطًا إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا ، وَيَحِقُّ أَنْ نُعِيدَهُ لِعِظَمِهِ ، وَقَدْ نَادَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ اقْتَحَمَ هَذَا ، وَلَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ : { وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَا أَتَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ عَلَانِيَةً ، كَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ } .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ { : اُقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ } .
وَلَقَدْ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي ذَلِكَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ : عَلَيْهِ الرَّجْمُ .
وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ : إنَّ الْعَرَبَ تَأْنَفُ مِنْ الْعَارِ وَشُهْرَتِهِ أَنَفًا لَا تَأْنَفُهُ مِنْ الْحُدُودِ الَّتِي تَمْضِي فِي الْأَحْكَامِ ، فَأَرَى أَنْ تُحَرِّقَهُ بِالنَّارِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقَ أَبُو الْحَسَنِ .
فَكَتَبَ إلَى خَالِدٍ أَنْ أَحْرِقْهُ بِالنَّارِ ، فَفَعَلَ .
فَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا أَرَى خَالِدًا أَحْرَقَهُ إلَّا بَعْدَ قَتْلِهِ ؛ لِأَنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إلَّا اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الْقَاضِي : لَيْسَ كَمَا زَعَمَ ابْنُ وَهْبٍ ، كَانَ عَلِيٌّ يَرَى الْحَرْقَ بِالنَّارِ عُقُوبَةً ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ الْبَرْقَانِيُّ الْحَافِظُ ، أَخْبَرَنَا الْإِسْمَاعِيلِيُّ ، حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ الْبَغَوِيّ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ ، حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ : رَأَيْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ ، وَأَيُّوبَ ، وَعَمَّارًا الرَّهِينِيُّ ، اجْتَمَعُوا فَتَنَاكَرُوا الَّذِينَ حَرَقَهُمْ عَلِيٌّ ، فَحَدَّثَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ

لَمَّا بَلَغَهُ قَالَ : لَوْ كُنْت أَنَا مَا أَحْرَقْتُهُمْ ؟ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ } ، وَلَقَتَلْتُهُمْ " ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } .
فَقَالَ عَمَّارٌ : لَمْ يَكُنْ حَرَقَهُمْ ، وَلَكِنَّهُ حَفَرَ لَهُمْ حَفَائِرَ ، وَخَرَقَ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ دَخَنَ عَلَيْهِمْ حَتَّى مَاتُوا .
فَقَالَ عَمَّارٌ : قَالَ الشَّاعِرُ : لِتَرْمِ بِي الْمَنَايَا حَيْثُ شَاءَتْ إذَا لَمْ تَرْمِ بِي فِي الْحُفْرَتَيْنِ إذَا مَا أَجَّجُوا حَطَبًا وَنَارًا هُنَاكَ الْمَوْتُ نَقْدًا غَيْرَ دَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ بُكَيْر مَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ : عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَجَدَ فِي ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ كَانَ اسْمُهُ الْفُجَاءَةُ ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرٍ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَشَدَّ فِيهِمْ قَوْلًا ، فَقَالَ عَلَيَّ : إنَّ هَذَا الذَّنْبَ لَمْ تَعْصِ بِهِ أُمَّةٌ مِنْ الْأُمَمِ ، إلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً ، صَنَعَ اللَّهُ بِهَا مَا عَلِمْتُمْ ؛ أَرَى أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ .
فَاجْتَمَعَ رَأْيُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْرَقَ بِالنَّارِ ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إلَى خَالِدِ بْن الْوَلِيدِ أَنْ يَحْرِقَهُمْ بِالنَّارِ ، فَأَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ ابْنُ الزُّبَيْرِ فِي زَمَانِهِ ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، ثُمَّ أَحْرَقَهُمْ خَالِدُ الْقَسْرِيُّ بِالْعِرَاقِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أُتِيَ بِسَبْعَةٍ أُخِذُوا فِي لِوَاطٍ ، فَسَأَلَ عَنْهُمْ ، فَوُجِدُوا أَرْبَعَةً قَدْ أُحْصِنُوا ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَخَرَجَ بِهِمْ مِنْ الْحَرَمِ ، ثُمَّ رُجِمُوا بِالْحِجَارَةِ ، حَتَّى مَاتُوا ، وَجَلَدَ الثَّلَاثَةَ حَتَّى مَاتُوا بِالْحَدِّ .
قَالَ : وَعِنْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ عُمَرَ ، فَلَمْ يُنْكِرَا عَلَيْهِ .
وَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى هَذَا ، وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَحَقُّ

، وَهُوَ أَصَحُّ سَنَدًا ، وَأَقْوَى مُعْتَمَدًا ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ قَبْلَ هَذَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حَدِّ اللِّوَاطِ ، فَقَالَ : يُصْعَدُ بِهِ فِي الْجَبَلِ ، ثُمَّ يُرْدَى مِنْهُ ، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { اُتْلُ مَا أُوحِيَ إلَيْك مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلَاةَ إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ } قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا دَامَ فِيهَا .
وَالثَّانِي : مَا دَامَ فِيهَا وَفِيمَا بَعْدَهَا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ لَمْ يَزْدَدْ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا } .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ شُيُوخُ الصُّوفِيَّةِ : الْمَعْنَى فِيهَا أَيْضًا أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُصَلِّي أَنْ يَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ، كَمَا مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ، كَمَا قَالَ : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } .
وَكَمَا لَا يَخْرُجُ الْمُؤْمِنُ بِتَرْكِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ عَنْ الْإِيمَانِ كَذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْمُصَلِّي عَنْ الصَّلَاةِ بِأَنَّ صَلَاتَهُ قَصَرَتْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَةِ .
وَقَالَ مَشْيَخَةُ الصُّوفِيَّةِ : الصَّلَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ مَا كَانَتْ نَاهِيَةً ، فَإِنْ لَمْ تَنْهَهُ فَهِيَ صُورَةُ صَلَاةٍ لَا مَعْنَاهَا ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ وُقُوفَهُ بَيْنَ يَدِي مَوْلَاهُ وَمُنَاجَاتَهُ لَهُ إنْ لَمْ تَدُمْ عَلَيْهِ بَرَكَتُهَا ، وَتَظْهَرْ عَلَى جَوَارِحِهِ رَهْبَتُهَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ أُخْرَى ، وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَإِلَّا فَهُوَ عَنْ رَبِّهِ مُعْرِضٌ ، وَفِي حَالِ مُنَاجَاتِهِ غَافِلٌ عَنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْفَحْشَاءُ : الدُّنْيَا ، فَتَنْهَاهُ الصَّلَاةُ عَنْهَا ، حَتَّى لَا يَكُونَ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ حَظٌّ فِي قَلْبِهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ } .
وَقِيلَ : الْفَحْشَاءُ الْمَعَاصِي ، وَهُوَ أَقَلُّ الدَّرَجَاتِ ، فَمَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنْ الْمَعَاصِي وَلَمْ تَتَمَرَّنْ جَوَارِحُهُ

بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ ، حَتَّى يَأْنَسَ بِالصَّلَاةِ وَأَفْعَالِهَا أُنْسًا يَبْعُدُ بِهِ عَنْ اقْتِرَافِ الْخَطَايَا ، وَإِلَّا فَهِيَ قَاصِرَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْمُنْكَرُ : وَهُوَ كُلُّ مَا أَنْكَرَهُ الشَّرْعُ وَغَيْرُهُ ، وَنَهَى عَنْهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : ذِكْرُ اللَّهِ لَكُمْ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِكُمْ لَهُ ، أَضَافَ الْمَصْدَرَ إلَى الْفَاعِلِ .
الثَّانِي : ذِكْرُ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ .
الثَّالِثُ : ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي غَيْرِهَا ، يَعْنِي لِأَنَّهَا عِبَادَتَانِ .
الرَّابِعُ : ذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ أَكْبَرُ مِنْ الصَّلَاةِ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْمَفْعُولِ .
وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ بَرَكَةٌ عَظِيمَةٌ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاَلَّذِي أُنْزِلَ إلَيْنَا وَأُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ قَتَادَةُ : وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ ، فَإِنَّهُ رَفَعَ الْجِدَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مَنْسُوخَةً ، وَإِنَّمَا هِيَ مَخْصُوصَةٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ بِاللِّسَانِ يُقَاتِلُ بِهِ فِي اللَّهِ ، ثُمَّ أَمَرَهُ اللَّهُ بِالسَّيْفِ وَاللِّسَانِ ، حَتَّى قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْخَلْقِ لِلَّهِ ، وَتَبَيَّنَ الْعِنَادُ ، وَبَلَغَتْ الْقُدْرَةُ غَايَتَهَا عَشْرَةَ أَعْوَامٍ مُتَّصِلَةٍ ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتَلَ ، وَمَنْ امْتَنَعَ بَقِيَ الْجِدَالُ فِي حَقِّهِ ؛ وَلَكِنْ بِمَا يَحْسُنُ مِنْ الْأَدِلَّةِ ، وَيَجْمُلُ مِنْ الْكَلَامِ ، بِأَنْ يَكُونَ مِنْك لِلْخَصْمِ تَمْكِينٌ ، وَفِي خِطَابِك لَهُ لِينٌ ، وَأَنْ تَسْتَعْمِلَ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَظْهَرَهَا ، وَأَنْوَرَهَا ، وَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ الْمُجَادِلُ أَعَادَ عَلَيْهِ الْحُجَّةَ وَكَرَّرَهَا ، كَمَا فَعَلَ الْخَلِيلُ مَعَ الْكَافِرِ حِينَ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ : { رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } .
فَقَالَ لَهُ الْكَافِرُ : أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ، فَحَسُنَ الْجِدَالُ ، وَنَقَلَ إلَى أَبَيْنَ مِنْهُ بِالِاسْتِدْلَالِ .
وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ .
وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ حَقٍّ إلَى حَقٍّ أَظْهَرَ مِنْهُ ، وَمِنْ دَلِيلٍ إلَى دَلِيلٍ أَبْيَنَ مِنْهُ وَأَنْوَرَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا } فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَهْلُ الْحَرْبِ .
الثَّانِي : مَانِعُو الْجِزْيَةِ .
الثَّالِثُ : مَنْ بَقِيَ عَلَى الْمُعَانَدَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الْحُجَّةِ .
الرَّابِعُ : الَّذِينَ ظَلَمُوا فِي جِدَالِهِمْ ، بِأَنْ خَلَطُوا فِي إبْطَالِهِمْ .
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا

صَحِيحَةٌ مُرَدَّدَةٌ ، وَقَدْ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُجَادَلَاتٌ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، وَمَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ .
وَآيَاتُ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، وَهِيَ أَثْبَتُ فِي الْمَعْنَى .
وَقَدْ قَالَ لِلْيَهُودِ : { إنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } .
فَمَا أَجَابُوا جَوَابًا .
وَقَالَ لَهُمْ : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ } .
أَيْ : إنْ كُنْتُمْ أَبْعَدْتُمْ وَلَدًا بِغَيْرِ أَبٍ فَخُذُوا وَلَدًا دُونَ أَبٍ وَلَا أُمٍّ .
وَقَالَ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } .
وَقَالَ : { وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } .
وَقَالَ عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي حُصَيْنٍ : { يَا حُصَيْنُ ؛ كَمْ إلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ ، قَالَ : إنِّي أَعْبُدُ سَبْعَةً ، وَاحِدًا فِي السَّمَاءِ ، وَسِتًّا فِي الْأَرْضِ : قَالَ : فَأَيُّهُمْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِك وَرَهْبَتِك ، قَالَ : الَّذِي فِي السَّمَاءِ .
قَالَ : يَا حُصَيْنُ ، أَمَا إنَّك إنْ أَسْلَمْت عَلَّمْتُك } .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ .

سُورَةُ الرُّومِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ وَاللَّفْظُ لَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَنَزَلَتْ : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } إلَى قَوْلِهِ : { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } .
قَالَ : فَفَرِحَ الْمُؤْمِنُونَ بِظُهُورِ الرُّومِ عَلَى فَارِسَ .
وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : غُلِبَتْ الرُّومُ وَغَلَبَتْ ، كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ فَارِسُ عَلَى الرُّومِ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ تَظْهَرَ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ كَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ ، فَذَكَرُوهُ لِأَبِي بَكْرٍ ، فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { أَمَا إنَّهُمْ سَيَغْلِبُونَ } .
فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لَهُمْ ، فَقَالُوا : اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَك أَجَلًا ؛ فَإِنْ ظَهَرْنَا كَانَ لَنَا كَذَا وَكَذَا ، وَإِنْ ظَهَرْتُمْ كَانَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا .
فَجَعَلَ أَجَلًا خَمْسَ سِنِينَ ، فَلَمْ يَظْهَرُوا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ : { أَلَا أَخْفَضْت } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { أَلَا أَحْبَطْت } .
وَفِي رِوَايَةٍ : " { أَلَا جَعَلْته إلَى دُونٍ ، أَرَاهُ الْعَشَرَةَ } .
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : وَالْبِضْعُ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ ؛ ثُمَّ ظَهَرَتْ الرُّومُ ؛ فَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ } إلَى قَوْلِهِ : { يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ } قَالَ سُفْيَانُ : سَمِعْت أَنَّهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ نِيَارِ بْنِ مَكْرَمٍ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ

غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } وَكَانَتْ فَارِسُ يَوْمَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
قَاهِرِينَ لِلرُّومِ ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ ظُهُورَ الرُّومِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُحِبُّ ظُهُورَ فَارِسَ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ لَيْسُوا بِأَهْلِ كِتَابٍ ، وَلَا إيمَانٍ بِبَعْثٍ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَصِيحُ فِي نَوَاحِي مَكَّةَ : { الم غُلِبَتْ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } .
قَالَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي بَكْرٍ : فَذَلِكَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ، زَعَمَ صَاحِبُك أَنَّ الرُّومَ سَتَغْلِبُ فَارِسَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ؛ أَفَلَا نُرَاهِنُك عَلَى ذَلِكَ ، قَالَ : بَلَى .
وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الرِّهَانِ .
فَارْتَهَنَ أَبُو بَكْرٍ وَالْمُشْرِكُونَ ، وَتَوَاضَعُوا الرِّهَانَ ، وَقَالُوا لِأَبِي بَكْرٍ : كَمْ تَجْعَلُ ؟ الْبِضْعُ ثَلَاثُ سِنِينَ إلَى تِسْعِ سِنِينَ .
فَسَمِّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ وَسَطًا قَالَ : فَسَمَّوْا بَيْنَهُمْ سِتَّ سِنِينَ قَالَ : فَمَضَتْ السِّتُّ سِنِينَ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرُوا ؛ فَأَخَذَ الْمُشْرِكُونَ رَهْنَ أَبِي بَكْرٍ ، فَلَمَّا دَخَلَتْ السَّنَةُ السَّابِعَةُ ظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ، فَعَابَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ سِتِّ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : فِي بِضْعِ سِنِينَ .
قَالَ : وَأَسْلَمَ عِنْدَ ذَلِكَ نَاسٌ كَثِيرٌ ؛ فَهَذِهِ أَحَادِيثُ صِحَاحٌ حِسَانٌ غُرَابٌ

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْمُرَاهَنَةِ : وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْغَرَرِ وَالْقِمَارِ ؛ وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْهُ ، وَلَمْ يَبْقَ لِلرِّهَانِ جَوَازٌ إلَّا فِي الْخَيْلِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فِي بِضْعِ سِنِينَ } الْبِضْعُ فِيهِ لِأَهْلِ اللُّغَةِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَا بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَى عَشْرَةٍ ، أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ إلَى عِشْرِينَ ، فَيُقَالُ : بِضْعَ عَشْرَةَ فِي جَمْعِ الْمُذَكَّرِ ، وَبِضْعَةَ عَشَرَ فِي جَمْعِ الْمُؤَنَّثِ .
الثَّانِي : الْبِضْعُ سَبْعَةٌ ؛ قَالَهُ الْخَلِيلُ .
الثَّالِثُ : الْبِضْعُ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى التِّسْعِ .
الرَّابِعُ : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ مَا بَيْنَ نِصْفِ الْعِقْدَيْنِ ، يُرِيدُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إلَى الْأَرْبَعَةِ .
الْخَامِسُ : هُوَ مَا بَيْنَ خَمْسٍ إلَى سَبْعٍ ؛ قَالَهُ يَعْقُوبُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ .
وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِهَا قَالَ أَكْثَرُهُمْ : وَلَا يُقَالُ بِضْعٌ وَمِائَةٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ إلَى التِّسْعِينَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشْرِ ، وَبِذَلِكَ يَقْضِي فِي الْإِقْرَارِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي فُرُوعِ الْأَحْكَامِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا مَعَ نُظَرَائِهَا مِنْ آيَاتِ الصَّلَاةِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى { وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُضْعِفُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : بَيَّنَّا الرِّبَا وَمَعْنَاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، وَشَرَحْنَا حَقِيقَتَهُ وَحُكْمَهُ ، وَهُوَ هُنَاكَ مُحَرَّمٌ وَهُنَا مُحَلَّلٌ ، وَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ قِسْمَانِ ؛ مِنْهُ حَلَالٌ وَمِنْهُ حَرَامٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الرَّجُلُ يَهَبُ هِبَةً يَطْلُبُ أَفْضَلَ مِنْهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الرَّجُلُ فِي السَّفَرِ يَصْحَبُهُ رَجُلٌ يَخْدُمُهُ وَيُعِينُهُ ، فَيَجْعَلُ الْمَخْدُومُ لَهُ بَعْضَ الرِّبْحِ جَزَاءَ خِدْمَتِهِ ، لَا لِوَجْهِ اللَّهِ ؛ قَالَ الشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : الرَّجُلُ يَصِلُ قَرَابَتَهُ ، يَطْلُبُ بِذَلِكَ كَوْنَهُ غَنِيًّا ، لَا صِلَةً لِوَجْهِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا مَنْ يَصِلُ قَرَابَتَهُ لِيَكُونَ غَنِيًّا فَالنِّيَّةُ فِي ذَلِكَ مُتَنَوِّعَةٌ ، فَإِنْ كَانَ لِيَتَظَاهَرَ بِهِ دُنْيَا فَلَيْسَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ الْقَرَابَةِ وَبَيْنَهُمَا مِنْ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ ، فَإِنَّهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَأَمَّا مَنْ يُعِينُ الرَّجُلَ بِخِدْمَتِهِ فِي سَفَرِهِ بِجُزْءٍ مِنْ مَالِهِ فَإِنَّهُ لِلدُّنْيَا لَا لِوَجْهِ اللَّهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْمُرْبِي لَيْسَ لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا هُوَ لِيَرْبُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، وَصَرِيحُ الْآيَةِ فِيمَنْ يَهَبُ يَطْلُبُ الزِّيَادَةَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فِي الْمُكَافَأَةِ ، وَذَلِكَ لَهُ .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : " أَيُّمَا رَجُلٍ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهَا لِلثَّوَابِ فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ حَتَّى يَرْضَى مِنْهَا " .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْهِبَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِلَّهِ أَوْ لِجَلْبِ الْمَوَدَّةِ ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ : { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } .
وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ الْعُرْفَ جَارٍ بِأَنْ يَهَبَ الرَّجُلُ الْهِبَةَ لَا يَطْلُبُ إلَّا الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا ، وَتَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْمَوَدَّةُ تَبَعًا لِلْهِبَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثَابَ عَلَى لَقْحَةٍ } ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى صَاحِبِهَا حِينَ طَلَبَ الثَّوَابَ ، إنَّمَا أَنْكَرَ سَخَطَهُ لِلثَّوَابِ ، وَكَانَ زَائِدًا عَلَى الْقِيمَةِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِيمَا إذَا طَلَبَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ زَائِدًا عَلَى مُكَافَأَتِهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ قَائِمَةً لَمْ تَتَغَيَّرْ ، فَيَأْخُذُ مَا شَاءَ ، أَوْ يَرُدُّهَا عَلَيْهِ .
وَقِيلَ : تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ ، كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ بَعْدَ فَوَاتِ الْهِبَةِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا الْقِيمَةُ اتِّفَاقًا .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } أَيْ لَا تُعْطِ مُسْتَكْثِرًا عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

سُورَةُ لُقْمَانَ فِيهَا خَمْسُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { لَهْوَ الْحَدِيثِ } هُوَ الْغِنَاءُ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ : فَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ ، وَلَا شِرَاؤُهُنَّ ، وَلَا التِّجَارَةُ فِيهِنَّ ، وَلَا أَثْمَانُهُنَّ ؛ وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ } } الْآيَةَ .
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ جَلَسَ إلَى قَيْنَةٍ يَسْمَعُ مِنْهَا صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يُنَزِّهُونَ أَنْفُسَهُمْ وَأَسْمَاعَهُمْ عَنْ اللَّهْوِ وَمَزَامِيرِ الشَّيْطَانِ ؟ أَدْخِلُوهُمْ فِي رِيَاضِ الْمِسْكِ .
ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ : أَسْمِعُوهُمْ حَمْدِي وَشُكْرِي ، وَثَنَائِي عَلَيْهِمْ ، وَأَخْبِرُوهُمْ أَنْ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ .
وَمِنْ رِوَايَةِ مَكْحُولٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ مَاتَ وَعِنْدَهُ جَارِيَةٌ مُغَنِّيَةٌ فَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِ } .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْبَاطِلُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الطَّبْلُ ؛ قَالَهُ الطَّبَرِيُّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ ، كَانَ يَجْلِسُ بِمَكَّةَ ، فَإِذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ : إنَّ مُحَمَّدًا قَالَ كَذَا وَكَذَا ضَحِكَ مِنْهُ ،

====================

ج18. كتاب : أحكام القرآن ابن العربي



وَحَدَّثَهُمْ بِأَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ ، وَيَقُولُ : حَدِيثِي هَذَا أَحْسَنُ مِنْ قُرْآنِ مُحَمَّدٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مُغَنِّيَةً ، فَشُغِلَ النَّاسُ بِلَهْوِهَا عَنْ اسْتِمَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي أَوْرَدْنَاهَا لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ بِحَالٍ ، لِعَدَمِ ثِقَةِ نَاقِلِيهَا إلَى مَنْ ذُكِرَ مِنْ الْأَعْيَانِ فِيهَا .
وَأَصَحُّ مَا فِيهِ قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْبَاطِلُ .
فَأَمَّا قَوْلُ الطَّبَرِيِّ : إنَّهُ الطَّبْلُ فَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ : طَبْلُ حَرْبٍ ، وَطَبْلُ لَهْوٍ ، فَأَمَّا طَبْلُ الْحَرْبِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ النُّفُوسَ ، وَيُرْهِبُ عَلَى الْعَدُوِّ .
وَأَمَّا طَبْلُ اللَّهْوِ فَهُوَ كَالدُّفِّ .
وَكَذَلِكَ آلَاتُ اللَّهْوِ الْمُشْهِرَةُ لِلنِّكَاحِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهَا فِيهِ ، لِمَا يَحْسُنُ مِنْ الْكَلَامِ ، وَيَسْلَمُ مِنْ الرَّفَثِ .

وَأَمَّا سَمَاعُ الْقَيْنَاتِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَسْمَعَ غِنَاءَ جَارِيَتِهِ ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَيْهِ حَرَامًا ، لَا مِنْ ظَاهِرِهَا وَلَا مِنْ بَاطِنِهَا ، فَكَيْفَ يُمْنَعُ مِنْ التَّلَذُّذِ بِصَوْتِهَا .

وَلَمْ يَجُزْ الدُّفُّ فِي الْعُرْسِ لِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يُشْهِرُهُ ، فَكُلُّ مَا أَشْهَرَهُ جَازَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الزَّمْرِ فِي الْعُرْسِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ : { أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ } ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ انْكِشَافُ النِّسَاءِ لِلرِّجَالِ وَلَا هَتْكُ الْأَسْتَارِ ، وَلَا سَمَاعُ الرَّفَثِ ، فَإِذَا خَرَجَ ذَلِكَ إلَى مَا لَا يَجُوزُ مُنِعَ مِنْ أَوَّلِهِ ، وَاجْتُنِبَ مِنْ أَصْلِهِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اُشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ لُقْمَانَ : وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ : كَانَ لُقْمَانُ أَسْوَدَ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ ، حَكِيمًا ، ذَا مَشَافِرَ ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا .
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ : خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ ، فَقَذَفَ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ ، فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : إنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيَّ النُّبُوَّةَ عَزْمَةً لَرَجَوْت الْفَوْزَ بِهَا ، وَلَكِنَّهُ خَيَّرَنِي ؛ فَخِفْت أَنْ أَضْعُفَ عَنْ النُّبُوَّةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ النُّوبَةِ قَصِيرًا أَفْطَسَ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ حَبَشِيًّا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ كَانَ خَيَّاطًا .
السَّادِسُ : أَنَّهُ كَانَ رَاعِيًا ، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ قَالَ : أَلَسْت عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْت تَرْعَى بِالْأَمْسِ ؟ قَالَ : بَلَى .
قَالَ : فَمَا بَلَغَ بِك مَا أَرَى ؟ قَالَ : قَدَرُ اللَّهِ ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ ، وَتَرْكُ مَا لَا يَعْنِينِي .
السَّابِعُ : أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا نَجَّارًا قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ : اذْبَحْ شَاةً ، وَأْتِنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَاهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ .
ثُمَّ أَمَرَهُ بِذَبْحِ شَاةٍ ، وَقَالَ لَهُ : أَلْقِ أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ ، فَأَلْقَى اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ ، فَقَالَ : أَمَرْتُك أَنْ تَأْتِيَنِي بِأَطْيَبِهَا بِضْعَتَيْنِ فَأَتَيْتنِي بِاللِّسَانِ وَالْقَلْبِ ، وَأَمَرْتُك أَنْ تُلْقِي أَخْبَثَهَا بِضْعَتَيْنِ ، فَأَلْقَيْت اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ ، فَقَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ أَطْيَبَ مِنْهُمَا إذَا طَابَا ، وَلَا شَيْءَ أَخْبَثُ مِنْهَا إذَا خَبُثَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى عُلَمَاؤُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ ؛ إنَّ النَّاسَ قَدْ تَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ مَا يُوعَدُونَ ، وَهُمْ إلَى الْآخِرَةِ سِرَاعًا يَذْهَبُونَ ، وَإِنَّك قَدْ اسْتَدْبَرْت الدُّنْيَا مُنْذُ كُنْت ، وَاسْتَقْبَلْت الْآخِرَةَ ، وَإِنَّ دَارًا تَسِيرُ إلَيْهَا أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ دَارٍ تَخْرُجُ عَنْهَا .
وَقَالَ لُقْمَانُ ، يَا بُنَيَّ ؛ لَيْسَ غِنًى كَصِحَّةٍ ، وَلَا نِعْمَةٌ كَطِيبِ نَفْسٍ .
وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ : يَا بُنَيَّ لَا تُجَالِسْ الْفُجَّارَ ، وَلَا تُمَاشِهِمْ ، اتَّقِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مِنْ السَّمَاءِ ، فَيُصِيبَك مَعَهُمْ .
وَقَالَ : يَا بُنَيَّ ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَمَاشِهِمْ ، عَسَى أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ فَتُصِيبَك مَعَهُمْ .
وَقَالَ : يَا بُنَيَّ ؛ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْك ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْقُلُوبَ الْمَيِّتَةَ بِالْعِلْمِ ، كَمَا يُحْيِي الْأَرْضَ بِوَابِلِ الْمَطَرِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : ذَكَرَ الْمُؤَرِّخُونَ أَنَّهُ كَانَ لُقْمَانُ بْنَ عَادٍ الْأَكْبَرَ ، وَكَانَ لُقْمَانُ الْأَصْغَرَ ، وَلَيْسَ بِلُقْمَانَ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ .
وَكَانَ لُقْمَانُ هَذَا الَّذِي تَذْكُرُهُ الْعَرَبُ حَكِيمًا .
وَفِي أَخْبَارِهَا أَنَّ أُخْتَ لُقْمَانَ كَانَتْ امْرَأَةً مُحَمَّقَةً ، وَكَانَ لُقْمَانُ حَكِيمًا نَجِيًّا ، فَقَالَتْ أُخْتُهُ لِامْرَأَتِهِ : هَذِهِ لَيْلَةُ طُهْرِي فَهَبِي لِي لَيْلَتَك ، طَمَعًا فِي أَنْ تَعْلَقَ مِنْ أَخِيهَا بِنَجِيبٍ ، فَفَعَلَتْ ، فَحَمَلَتْ مِنْ أَخِيهَا ، فَوَلَدَتْ لُقَيْمَ بْنَ لُقْمَانَ ، وَفِيهِ يَقُولُ النَّمِرُ بْنُ تَوْلَبٍ : لُقَيْمُ بْنُ لُقْمَانَ مِنْ أُخْتِهِ فَكَانَ ابْنَ أُخْتٍ لَهَا وَابْنَا لَيَالِي حُمْقٌ فَاسْتَحْصَنَتْ عَلَيْهِ فَغُرَّ بِهَا مُظْلِمًا فَقَرَّ بِهِ رَجُلٌ مُحْكِمٌ فَجَاءَتْ بِهِ رَجُلًا مُحْكَمًا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : ذَكَرَ مَالِكٌ كَلَامًا كَثِيرًا مِنْ الْحِكْمَةِ عَنْ لُقْمَانَ ، وَأَدْخَلَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنْ مُوَطَّئِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَذَكَرَ مِنْ حِكْمَتِهِ فَصْلًا يَعْضُدُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، لِيُنَبِّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْحِكْمَةَ تُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا أَيْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ ، وَهِيَ الْعَمَلُ بِالْعِلْمِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : { وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّك } يَعْنِي لَا تُمِلْهُ عَنْهُمْ تَكَبُّرًا ، يُرِيدُ أَقْبِلْ عَلَيْهِمْ مُتَوَاضِعًا ، مُؤْنِسًا مُسْتَأْنِسًا ، وَإِذَا حَدَّثَك أَحَدُهُمْ فَأَصْغِ إلَيْهِ ، حَتَّى يُكْمِلَ حَدِيثَهُ ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ الشَّاعِرُ : وَكُنَّا إذَا الْجَبَّارُ صَعَّرَ خَدَّهُ أَقَمْنَا لَهُ مِنْ مَيْلِهِ فَتَقَوَّمَ يُرِيدُ : فَتَقَوَّمْ أَنْتَ ، أَمْرٌ ، ثُمَّ كُسِرَتْ لِلْقَافِيَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ : { بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ ، وَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَعَنْهُ ، صَحِيحًا : { الَّذِي يَجُرُّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَعَنْهُ مِثْلُهُ : { لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَرًا } .
وَعَنْهُ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْإِزَارِ ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ : أَنَا أُخْبِرُكُمْ بِعِلْمٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إزْرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ ، وَمَا أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ } .
قَالَ الْقَاضِي : رُوِيَ أَنَّ الْمُخْتَالَ هُوَ قَارُونُ ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ مِنْ الْخَسْفِ .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ ، وَفِي صَحِيحِ الْأَخْبَارِ { أَنَّهُ سَيُخْسَفُ بِجَيْشٍ فِي الْبَيْدَاءِ يَقْصِدُ الْبَيْتَ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ ، أَمَا إنَّهُ يَتَبَخْتَرُ فَلَمْ تُخْسَفْ بِهِ الْأَرْضُ حَقِيقَةً خُسِفَ بِهِ فِي الْعَمَلِ مَجَازًا ، فَلَمْ يَرْقَ لَهُ عَمَلٌ إلَى السَّمَاءِ ، وَهُوَ أَشَدُّ الْخَسْفِ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْقَصْدُ فِي الْمَشْيِ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ السُّرْعَةَ ، وَيَحْتَمِلُ التُّؤَدَةَ ؛ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَشْيَ بِقَصْدٍ ، لَا يَكُونُ عَادَةً ، بَلْ يَجْرِي عَلَى حُكْمِ النِّيَّةِ ، وَلَا يَسْتَرْسِلُ اسْتِرْسَالَ الْبَهِيمَةِ ؛ وَالْكُلُّ صَحِيحٌ مُرَادٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِك } يَعْنِي لَا تَتَكَلَّفْ رَفْعَ الصَّوْتِ ، وَخُذْ مِنْهُ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْجَهْرَ بِأَكْثَرَ مِنْ الْحَاجَةِ تَكَلُّفٌ يُؤْذِي .
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِمُؤَذِّنٍ تَكَلَّفَ رَفْعَ الْأَذَانِ بِأَكْثَرَ مِنْ طَاقَتِهِ : لَقَدْ خَشِيت أَنْ تَنْشَقَّ مُرَيْطَاؤُك .
وَالْمُؤَذِّنُ هُوَ أَبُو مَحْذُورَةَ سَمُرَةَ بْنُ مِعْيَرٍ .
وَالْمُرَيْطَاءُ : مَا بَيْنَ السُّرَّةِ إلَى الْعَانَةِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْمَصِيرُ } .
يَأْتِي فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .

سُورَةُ السَّجْدَةِ فِيهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْمَضَاجِعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ ، وَهِيَ مَوَاضِعُ النَّوْمِ .
وَيُحْتَمَلُ وَقْتُ الِاضْطِجَاعِ ، وَلَكِنَّهُ مَجَازٌ .
وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى ، وَذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ السَّهَرِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إلَى أَيِّ طَاعَةِ اللَّهِ تَتَجَافَى ؟ وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : ذِكْرُ اللَّهِ .
وَالْآخَرُ الصَّلَاةُ .
وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ ، إلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا عَامٌّ ، وَالْآخَرَ خَاصٌّ .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ ، فَأَيُّ صَلَاةٍ هِيَ ؟ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا النَّفَلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ ؛ قَالَ قَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا الْعَتَمَةُ ؛ قَالَهُ أَنَسٌ وَعَطَاءٌ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا صَلَاةُ الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ ؛ قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ قِيَامُ اللَّيْلِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَمَالِكٌ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : هُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ ، وَذَلِكَ أَثْقَلُهُ عَلَى النَّاسِ ، وَمَتَى كَانَ النَّوْمُ حِينَئِذٍ أَحَبَّ فَالصَّلَاةُ حِينَئِذٍ أَحَبُّ وَأَوْلَى .
وَالْقَوْلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ مَضَى ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الزُّمَرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْآيَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا مَنْ طَالَعْت كَلَامَهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْقُرْآنِيَّةِ ، وَذَكَرَهَا الْقُرْطُبِيُّ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ خَاصَّةً مُنْتَزِعًا بِهَا لِجَوَازِ الْوَكَالَةِ مِنْ قَوْلِهِ : { الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } وَهَذَا أَخْذٌ مِنْ لَفْظِهِ ، لَا مِنْ مَعْنَاهُ ؛ فَإِنَّ كُلَّ فَاعِلٍ غَيْرِ اللَّهِ إنَّمَا يَفْعَلُ بِمَا خَلَقَ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْفِعْلِ ، لَا بِمَا جَعَلَ إلَيْهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الدِّينِ .
وَلَوْ اطَّرَدَ ذَلِكَ لَقُلْنَا فِي قَوْلِهِ : { قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } أَنَّهَا نِيَابَةٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَوَكَالَةٌ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ ، وَلَقُلْنَا أَيْضًا فِي قَوْلِهِ : { وَآتُوا الزَّكَاةَ } إنَّهُ وَكَالَةٌ فِي أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ الرِّزْقَ لِكُلِّ دَابَّةٍ ، وَخَصَّ الْأَغْنِيَاءَ بِالْأَغْذِيَةِ ، وَأَوْعَزَ إلَيْهِمْ بِأَنَّ رِزْقَ الْفُقَرَاءِ عِنْدَهُمْ ، وَأَمَرَهُمْ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِمْ ، مُقَدَّرًا مَعْلُومًا فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، وَدَبَّرَهُ بِعِلْمِهِ ، وَأَنْفَذَهُ مِنْ حُكْمِهِ ، وَقَدَّرَهُ بِحِكْمَتِهِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَلَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ بِالْأَلْفَاظِ ، إلَّا أَنْ تُرَدَّ عَلَى مَوْضُوعَاتِهَا الْأَصْلِيَّةِ فِي مَقَاصِدِهَا الْمَطْلُوبَةِ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ فِي غَيْرِ مَقْصِدِهَا لَمْ تُعَلَّقْ عَلَيْهَا مَقَاصِدُهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ مَعْلُومُ اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ } .
وَلَا يُقَالُ : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مُبَايَعَةِ السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَيْنِ مُخْتَلِفَانِ .
وَهَذَا غَرَضٌ شَبَّ طَوْقُ أَصْحَابِنَا عَنْهُ ، فَإِذَا أَرَادُوا لُبْسَهُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا جَوْبَهُ ، وَلَا وُجِدَ امْرُؤٌ مِنْهُمْ جَيْبَهُ .
وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَى هَذِهِ

الْآيَةِ فِي الْمُشْكَلَيْنِ ، وَأَحْسَنُ مَا قَيَّدْنَا فِيهَا عَنْ الْإسْفَرايِينِيّ ، مِنْ طَرِيقِ الشَّهِيدِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْدِسِيِّ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْخَالِقُ لِكُلِّ شَيْءٍ ، الْفَاعِلُ حَقِيقَةً لِكُلِّ فِعْلٍ ، فِي أَيِّ مَحَلٍّ كَانَ ، وَمَتَى تَرَتَّبَ الْمُحَالُ ، وَتَنَاسَقَتْ الْأَفْعَالُ فَالْكُلُّ إلَيْهِ رَاجِعُونَ ، وَعَلَى قُدْرَتِهِ مُحَالُونَ ، وَمَنْ فَعَلَهُ مَحْسُوبٌ ، وَفِي كِتَابِهِ مَكْتُوبٌ ؛ وَقَدْ خَلَقَ مَلَكَ الْمَوْتِ ، وَخَلَقَ عَلَى يَدَيْهِ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ ، وَاسْتِلَالَهَا مِنْ الْأَجْسَامِ ، وَإِخْرَاجَهَا مِنْهَا عَلَى كَيْفِيَّةٍ بَيَّنَّاهَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَخَلَقَ جُنْدًا يَكُونُونَ مَعَهُ ، يَعْمَلُونَ عَمَلَهُ بِأَمْرِهِ مَثْنَى وَفُرَادَى .
وَالْبَارِي تَعَالَى خَالِقُ الْكُلِّ ، فَأَخْبَرَ عَنْ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ ، فَقَالَ : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَاَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } ، إخْبَارًا عَنْ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ الْحَقِيقَةُ .
وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ } خَبَرًا عَنْ الْمَحَلِّ الْأَوَّلِ الَّذِي نِيطَ بِهِ ، وَخَلَقَ فِعْلَهُ فِيهِ .
وَقَالَ : { وَلَوْ تَرَى إذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ } ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ خَبَرًا عَنْ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الَّتِي تُبَاشِرُ فِيهَا ذَلِكَ .
فَالْأُولَى حَقِيقَةٌ عَقْلِيَّةٌ إلَهِيَّةٌ ، وَالثَّانِيَةُ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ بِحُكْمِ الْمُبَاشَرَةِ .
وَقَالَ : مَلَكُ الْمَوْتِ إنْ بَاشَرَ مِثْلَهَا وَإِنْ أُمِرَ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ : حَدَّ الْأَمِيرُ الزَّانِيَ وَعَاقَبَ الْجَانِيَ .
وَهَذِهِ نِهَايَةٌ فِي تَحْقِيقِ الْقَوْلِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَا إنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ التَّسَوُّرِ عَلَى الْمَعَانِي ، وَدَفْعِ الْجَهْلِ عَنْهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا ، وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمَقَاصِدِ فِي ذَلِكَ ، فَيُقَالُ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَأْخُذُ الْحَقَّ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ قَسْرًا دُونَ

أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ أَوْ يَرْتَبِطَ بِهِ رِضًا إذَا وُجِدَ ذَلِكَ .
وَهُوَ التَّحْقِيقُ الْحَاضِرُ الْآنَ ، وَتَمَامُهُ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ .
.

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِيمَنْ نَزَلَتْ ؟ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ الْمُؤْمِنِ ، وَفِي عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الْكَافِرِ ، فَاخَرَ عُقْبَةُ عَلِيًّا ، فَقَالَ : أَنَا أَبْسَطُ مِنْك لِسَانًا ، وَأَحَدُّ سِنَانًا ، وَأَمْلَأُ فِي الْكَتِيبَةِ مِنْك حَشْوًا .
فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ : لَيْسَ كَمَا قُلْت يَا فَاسِقُ .
قَالَ قَتَادَةُ : وَاَللَّهِ مَا اسْتَوَيَا فِي الدُّنْيَا ، وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا فِي الْآخِرَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا الْقَوْلِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ، وَبِهَذَا مُنِعَ الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا ؛ إذْ مِنْ شُرُوطِ وُجُودِ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ ، وَبِذَلِكَ احْتَجَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَتْلِهِ الْمُسْلِمَ بِالذِّمِّيِّ .
وَقَالَ : أَرَادَ نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ هَاهُنَا فِي الْآخِرَةِ فِي الثَّوَابِ ، وَفِي الدُّنْيَا فِي الْعَدَالَةِ ، وَنَحْنُ حَمَلْنَاهُ عَلَى عُمُومِهِ ؛ وَهُوَ أَصَحُّ ؛ إذْ لَا دَلِيلَ يَخُصُّهُ حَسْبَمَا قَرَرْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

سُورَةُ الْأَحْزَابِ فِيهَا أَرْبَعٌ وَعِشْرُونَ آيَةً الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لَيْسَ ابْنُ رَجُلٍ آخَرَ ابْنَك .
الثَّانِي : قَالَ قَتَادَةُ : كَانَ رَجُلٌ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا إلَّا وَعَاهُ ، فَقَالَ النَّاسُ : مَا يَعِي هَذَا إلَّا لِأَنَّ لَهُ قَلْبَيْنِ ، فَسُمِّيَ ذَا الْقَلْبَيْنِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ فَكَانَ مَا قَالَ ] .
الثَّالِثُ : قَالَ مُجَاهِدٌ : إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي فِهْرٍ قَالَ : إنَّ فِي جَوْفِي قَلْبَيْنِ ، أَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَلًا أَفْضَلَ مِنْ عَمَلِ مُحَمَّدٍ .
الرَّابِعُ : قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ : أَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } مَا عَنَى بِذَلِكَ ؟ قَالَ : قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَطَرَ خَطْرَةً ، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ مَعَهُ : أَلَا تَرَوْنَ لَهُ قَلْبَيْنِ : قَلْبًا مَعَكُمْ ، وَقَلْبًا مَعَهُمْ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ قَلْبَيْنِ } الْقَلْبُ : بِضْعَةٌ صَغِيرَةُ الْجُرْمِ عَلَى هَيْئَةِ الصَّنَوْبَرَةِ ، خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآدَمِيِّ وَجَعَلَهَا مَحَلًّا لِلْعِلْمِ ، وَالرُّوحِ أَيْضًا ، فِي قَوْلٍ ، يُحْصِي بِهِ الْعَبْدُ مِنْ الْعُلُومِ مَا لَا يَسَعُ فِي أَسْفَارٍ ، يَكْتُبُهُ اللَّهُ لَهُ فِيهِ بِالْخَطِّ الْإِلَهِيِّ ، وَيَضْبُطُهُ فِيهِ بِالْحِفْظِ الرَّبَّانِيِّ حَتَّى يُحْصِيَهُ وَلَا يَنْسَى مِنْهُ شَيْئًا .
وَهُوَ بَيْنَ لَمَّتَيْنِ : لَمَّةٌ مِنْ الْمَلَكِ ، وَلَمَّةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ .
وَهُوَ مَحَلُّ الْخَطِرَاتِ وَالْوَسَاوِسِ ، وَمَكَانُ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ، وَمَوْضِعُ الْإِصْرَارِ وَالْإِنَابَةِ ، وَمَجْرَى الِانْزِعَاجِ وَالطُّمَأْنِينَةِ .
وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالُ ، وَالْإِنَابَةُ وَالْإِصْرَارُ ، وَهَذَا نَفْيٌ لِكُلِّ مَا تَوَهَّمَهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ مِنْ حَقِيقَةٍ أَوْ مَجَازٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أُمًّا بِقَوْلِ الرَّجُلِ : هِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي .
وَلَكِنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ تَحْرِيمَ الْقَوْلِ يَمْتَدُّ إلَى غَايَةٍ ، وَهِيَ الْكَفَّارَةُ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْمُجَادَلَةِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } كَانَ الرَّجُلُ يَدْعُو الرَّجُلَ ابْنًا إذَا رَبَّيْهِ ، كَأَنَّهُ تَبَنَّاهُ أَيْ يُقِيمُهُ مَقَامَ الِابْنِ ؛ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَعَدَّوْا بِهِ إلَى أَنْ قَالُوا : الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ : وَإِلَى أَنْ يَقُولُوا : زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فَمَسَخَ اللَّهُ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ ، وَبَتَّ حَبْلَهَا ، وَقَطَعَ وَصْلَهَا بِمَا أَخْبَرَ مِنْ إبْطَالِ ذَلِكَ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } رَوَى الْأَئِمَّةُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ : مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إلَّا زَيْدَ بْنَ مُحَمَّدٍ ، حَتَّى نَزَلَتْ : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ } .
وَكَانَ مِنْ قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ جَبَلَةُ فِي الْحَيِّ ، فَقَالُوا : أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ زَيْدٌ ؟ فَقَالَ : زَيْدٌ أَكْبَرُ مِنِّي ، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ ، وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ : كَانَتْ أُمُّنَا امْرَأَةً مِنْ طَيِّئٍ ، فَمَاتَ أَبُونَا ، وَبَقِينَا فِي حِجْرِ جَدِّي ، فَجَاءَ عَمَّايَ ، فَقَالَا لِجَدِّي : نَحْنُ أَحَقُّ بِابْنِ أَخِينَا مِنْك .
فَقَالَ : مَا عِنْدَنَا خَيْرٌ لَهُمَا ، فَأَبَيَا .
فَقَالَ : خُذَا جَبَلَةَ وَدَعَا زَيْدًا .
فَانْطَلَقَا بِي ، فَجَاءَتْ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ ، فَأَصَابَتْ زَيْدًا ، فَتَرَاقَى بِهِ الْأَمْرُ إلَى خَدِيجَةَ ، فَوَهَبَتْهُ خَدِيجَةَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَغْزُ وَغَزَا زَيْدٌ أَعْطَاهُ سِلَاحَهُ .
وَأُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا مِرْجَلَانِ ، فَأَعْطَاهُ أَحَدَهُمَا ، وَأَعْطَى عَلِيًّا الْآخَرَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ ابْتَاعَهُ ، وَكَانَ مَسْبِيًّا مِنْ الشَّامِ ، فَوَهَبَهُ لِعَمَّتِهِ خَدِيجَةَ ، فَوَهَبَتْهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَنَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُوهُ يَدُورُ بِالشَّامِ وَيَقُولُ : بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلٌ أَحَيٌّ فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ فَوَاَللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَسَائِلٌ أَغَالَك بَعْدِي السَّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ فَيَا لَيْتَ شِعْرِي

هَلْ لَك الدَّهْرُ أَوْبَةً فَحَسْبِي مِنْ الدُّنْيَا رُجُوعُك لِي أَمَلْ تُذَكِّرُنِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَتُعْرِضُ ذِكْرَاهُ إذَا غَرْبُهَا أَفَلْ فَإِنْ هَبَّتْ الْأَرْوَاحُ هَيَّجْنَ ذِكْرَهُ فَيَا طُولُ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَيَا وَجَلْ سَأُعْمِلُ نَصَّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا وَلَا أَسْأَمُ التَّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيَّ مَنِيَّتِي فَكُلُّ امْرِئٍ فَانٍ وَإِنْ غَرَّهُ الْأَمَلْ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ بِمَكَّةَ ، فَجَاءَ إلَيْهِ ، فَهَلَكَ عِنْدَهُ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ جَاءَ إلَيْهِ ، فَخَيَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَارَ الْمَقَامَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعَادَتِهِ ، وَتَبَنَّاهُ وَرَبَّاهُ ، وَدُعِيَ لَهُ عَلَى رَسْمِ الْعَرَبِ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاَللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } .
فَدَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَارِثَةَ ، وَعَرَفَتْ كَلْبٌ نَسَبَهُ ، فَأَقَرُّوا بِهِ ، وَأَثْبَتُوا نِسْبَتَهُ .
وَهُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ؛ أَيْ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ قَوْلًا وَحُكْمًا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } دَلِيلٌ قَوِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَا أَبَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ دُعِيَ أَوْ لِعَانٍ لَا يَنْتَسِبُ إلَى أُمِّهِ ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ أَخُو مُعْتِقِهِ وَوَلَدُهُ إنْ كَانَ حُرًّا ، أَوْ عَبْدُهُ إنْ كَانَ رِقًّا .
فَأَمَّا وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ إنْ كَانَ حُرًّا فَإِنَّهُ يُدْعَى إلَى أُمِّهِ ، فَيُقَالُ : فُلَانٌ ابْنُ فُلَانَةَ ، لِأَنَّ أَسْبَابَهُ فِي انْتِسَابِهِ مُنْقَطِعَةٌ ، فَرَجَعَتْ إلَى أُمِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِيهِ إطْلَاقُ اسْمِ الْأُخُوَّةِ دُونَ إطْلَاقِ اسْمِ الْأُبُوَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَدِدْت أَنِّي رَأَيْت إخْوَانَنَا .
قَالُوا : أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك ، قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَوَالِيكُمْ } يَجُوزُ إطْلَاقُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ ، وَعَلَى الْمُعْتِقِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ ، وَيَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الْوِلَايَةِ ، وَهِيَ الْقُرْبُ ، كَمَا تَرْجِعُ الْأُخُوَّةُ إلَى أَصْلٍ هُوَ مَقَامُ الْأُبُوَّةِ مِنْ الدِّينِ وَالصَّدَاقَةِ .
وَلِلْمَوْلَى ثَمَانِيَةُ مَعَانٍ ، مِنْهَا مَا يَجْتَمِعُ أَكْثَرُهَا فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ مُعَايَنَةِ اثْنَيْنِ بِحَسَبِ مَا يُعَضِّدُهُ الِاشْتِقَاقُ ، وَيَقْتَضِيهِ الْحَالُ وَتَوْجِيهُ الْأَحْكَامِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ جَمَاعَةٌ : هَذَا نَاسِخٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ التَّبَنِّي وَالتَّوَارُثِ ، وَيَكُونُ نَسْخًا لِلسُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ نَسْخًا ؛ لِعَدَمِ شُرُوطِ النَّسْخِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ مَا جَاءَ مِنْ الشَّرِيعَةِ لَا يُقَالُ إنَّهُ نَسْخٌ لِبَاطِلِ الْخَلْقِ ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الْمُحَالِ وَالضَّلَالِ ، وَقَبِيحِ الْأَفْعَالِ ، وَمُسْتَرْسَلِ الْأَعْمَالِ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِذَلِكَ نَسْخَ الِاشْتِقَاقِ ، بِمَعْنَى الرَّفْعِ الْمُطْلَقِ ، وَالْإِزَالَةِ الْمُبْهَمَةِ .

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ غَزْوَةَ تَبُوكَ أَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ ، فَقَالَ قَوْمٌ : نَسْتَأْذِنُ آبَاءَنَا وَأُمَّهَاتِنَا ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } } .
وَفِي رِوَايَةِ عِكْرِمَةَ : وَهُوَ أَبُوهُمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ .
وَالْحَدِيثُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَوْضُوعٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَأَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ تَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ عَصَبَتُهُ مَنْ كَانُوا ، فَإِنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضِيَاعًا فَلْيَأْتِنِي ، فَأَنَا مَوْلَاهُ } .
فَانْقَلَبَتْ الْآنَ الْحَالُ بِالذُّنُوبِ ، فَإِنْ تَرَكُوا مَالًا ضُويِقَ الْعَصَبَةُ فِيهِ ، وَإِنْ تَرَكُوا ضِيَاعًا أَسْلَمُوا إلَيْهِ ، فَهَذَا تَفْسِيرُ الْوِلَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفْسِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْيِينِهِ ، وَلَا عِطْرَ بَعْدَ عَرُوسٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } وَلَسْنَ لَهُمْ بِأُمَّهَاتٍ ، وَلَكِنْ أُنْزِلْنَ مَنْزِلَتَهُنَّ فِي الْحُرْمَةِ ، كَمَا يُقَالُ : زَيْدُ الشَّمْسِ ، أَيْ أُنْزِلَ فِي حُسْنِهِ مَنْزِلَةَ الشَّمْسِ ، وَحَاتِمُ الْبَحْرِ أَيْ أُنْزِلَ فِي عُمُومِ جُودِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَحْرِ ؛ كُلُّ ذَلِكَ تَكْرِمَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِفْظًا لِقَلْبِهِ مِنْ التَّأَذِّي بِالْغَيْرَةِ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَنْصَارِ : { تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ، لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي } .
وَلِهَذَا قَالَ : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } .
وَلَمْ يُنَزَّلْ فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ أَحَدٌ مَنْزِلَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رُوعِيَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصِّيصَةُ ، وَإِنْ غَارَ وَتَأَذَّى ؛ وَلَكِنَّهُ مُحْتَمَلٌ مَعَ حَظِّ الْمَنْزِلَةِ مِنْ خَفِيفِ الْأَذَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : حَرَّمَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْخَلْقِ مِنْ بَعْدِهِ ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِهِ : { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } فَكُلُّ مَنْ طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَخَلَّى عَنْهَا فِي حَيَاتِهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، فَقِيلَ : هِيَ لِمَنْ دَخَلَ بِهَا دُونَ مَنْ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ .
وَقَدْ هَمَّ عُمَرُ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ فَارَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَكَحَتْ بَعْدَهُ ، فَقَالَتْ لَهُ : وَلِمَ ؟ وَمَا ضَرَبَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِجَابًا وَلَا دُعِيت أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ .
فَكَفَّ عَنْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } اخْتَلَفَ النَّاسُ ، هَلْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، أَمْ هُنَّ أُمَّهَاتُ الرِّجَالِ خَاصَّةً ، عَلَى قَوْلَيْنِ : فَقِيلَ : ذَلِكَ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ .
وَقِيلَ : هُوَ خَاصٌّ لِلرِّجَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِذَلِكَ إنْزَالُهُنَّ مَنْزِلَةَ أُمَّهَاتِهِمْ فِي الْحُرْمَةِ ، حَيْثُ يُتَوَقَّعُ الْحِلُّ ، وَالْحِلُّ غَيْرُ مُتَوَقَّعٍ بَيْنَ النِّسَاءِ ، فَلَا يُحْجَبُ بَيْنَهُنَّ بِحُرْمَةٍ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ : يَا أُمَّاهُ .
فَقَالَتْ : لَسْت لَك بِأُمٍّ ، إنَّمَا أَنَا أُمُّ رِجَالِكُمْ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ .
وَثَبَتَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ الزُّبَيْرِ وَبَيْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَارْتَثَّ كَعْبٌ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَجَاءَ بِهِ الزُّبَيْرُ يَقُودُهُ بِزِمَامِ رَاحِلَتِهِ ، فَلَوْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ كَعْبٌ عَنْ الضِّحِّ وَالرِّيحِ لَوَرِثَهُ الزُّبَيْرُ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقَرَابَةَ أَوْلَى مِنْ الْحَلِفِ ، فَتُرِكَتْ الْمُوَارَثَةُ بِالْحَلِفِ ، وَوَرِثُوا بِالْقَرَابَةِ ، وَقَوْلُهُ : { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } يَتَعَلَّقُ حَرْفُ الْجَرِّ بِأَوْلَى ، وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفِعْلِ ، لَا بِقَوْلِهِ : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ } بِإِجْمَاعٍ ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يُوجِبُ تَخْصِيصَهَا بِبَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا خِلَافَ فِي عُمُومِهَا ، وَهَذَا حَلُّ إشْكَالِهَا .

الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } .
فِيهَا أَحْكَامٌ وَسِيَرٌ ، وَقَدْ ذَكَرَهَا مَالِكٌ ، وَتَكَلَّمَ عَلَيْهَا ، وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ غَزْوَةَ الْخَنْدَقِ ، وَالْأَحْزَابِ ، وَبَنِي قُرَيْظَةَ ، وَكَانَتْ حَالَ شِدَّةٍ ، مُعَقَّبَةٌ بِنِعْمَةٍ ، وَرَخَاءٍ وَغِبْطَةٍ ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي تِسْعَ عَشْرَةَ آيَةً ، وَيَقْتَضِي مَسَائِلَ ثَلَاثًا : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : { أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِتَالِ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } قَالَ : ذَلِكَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ } ، جَاءَتْ قُرَيْشٌ مِنْ هَاهُنَا ، وَالْيَهُودُ مِنْ هَاهُنَا ، وَالنَّجْدِيَّةُ مِنْ هَاهُنَا ، يُرِيدُ مَالِكٌ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ : كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ ، وَهِيَ وَبَنُو قُرَيْظَةَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ أَرْبَعُ سِنِينَ .
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ : كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلَتْ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ ، وَجَاءَ لِيَحْكُمَ فِيهِمْ ، وَهُوَ عَلَى أَتَانٍ ، فَمَرَّ بِهِ حَتَّى لَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ الْمُنَافِقُ قَالَ : أَنْشَدْتُك اللَّهَ يَا سَعْدُ فِي إخْوَانِي وَأَنْصَارِي ، ثَلَاثُمِائَةِ فَارِسٍ وَسِتُّمِائَةِ رَاجِلٍ ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحِي ، وَهُمْ مَوَالِيك وَحُلَفَاؤُك .
فَقَالَ سَعْدٌ : قَدْ آنَ لِسَعْدٍ أَلَّا تَأْخُذَهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ ، فَحَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ ،

وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ سَعْدٌ بِحُكْمِ الْمَلِكِ } .
زَادَ غَيْرُهُ : مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ .
{ فَأَتَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ إلَى ابْنِ بَاطَا ، وَكَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ يَدٌ ، وَقَالَ : قَدْ اسْتَوْهَبْتُك مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدِك الَّتِي لَك عِنْدِي .
قَالَ : كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْكَرِيمُ بِالْكَرِيمِ .
ثُمَّ قَالَ : وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا وَلَدَ لَهُ وَلَا أَهْلَ ؟ قَالَ : فَأَتَى ثَابِتٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ ، فَأَعْطَاهُ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ .
فَأَتَاهُ فَأَعْلَمَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَكَيْفَ يَعِيشُ رَجُلٌ لَا مَالَ لَهُ ، فَأَتَى ثَابِتٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطَلَبَهُ ، فَأَعْطَاهُ مَالَهُ .
فَرَجَعَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ ، فَقَالَ : مَا فَعَلَ ابْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ الَّذِي كَأَنَّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيَّةٌ ؟ قَالَ : قُتِلَ .
فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ ، وَبَنِي عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ ؟ قَالَ : قُتِلُوا .
قَالَ : فَمَا فَعَلَتْ الْقَيْنَتَانِ ؟ قَالَ : قُتِلَتَا .
قَالَ : بَرِئَتْ ذِمَّتُك ، وَلَنْ أَصُبَّ فِيهَا دَلْوًا أَبَدًا يَعْنِي النَّخْلَ فَأَلْحِقْنِي بِهِمْ ، فَأَبَى أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَتَلَهُ غَيْرُهُ } .
وَالْيَدُ الَّتِي كَانَتْ لِابْنِ بَاطَا عِنْدَ ثَابِتٍ أَنَّهُ أَسَرَهُ يَوْمَ بُعَاثٍ فَجَزَّ نَاصِيَتَهُ وَأَطْلَقَهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ تُوُفِّيَ سَعْدٌ : نَخْشَى أَنْ نُغْلَبَ عَلَيْك ، كَمَا غُلِبْنَا عَلَى حَنْظَلَةَ .
قَالَ : وَكَانَ قَدْ أُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ ، فَانْتَقَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهِ .
} { وَكَانَتْ عَائِشَةُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَعَاهَدُ ثَغْرَةً مِنْ الْجَبَلِ يُحَافِظُ عَلَيْهَا

، ثُمَّ يُزْلِفُهُ الْبَرْدُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ، فَيَأْتِي فَيَضْطَجِعُ فِي حِجْرِي ، ثُمَّ يَقُومُ ، فَسَمِعْت حِسَّ رَجُلٍ عَلَيْهِ حَدِيدٌ وَقَدْ أَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقَالَ : سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ ، جِئْتُك لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك .
فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبِيتُ فِي تِلْكَ الثَّغْرَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ : وَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حِجْرِي حَتَّى سَمِعْت غَطِيطَهُ ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ لَا تَنْسَاهَا لِسَعْدٍ قَالَ مَالِكٌ : وَانْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ ، فَاغْتَسَلَ ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : أَوَضَعْت اللَّأْمَةَ أَوْ لَمْ تَضَعْهَا ؟ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : وَقَسَمَ قُرَيْظَةَ سُهْمَانًا ، فَأَمَّا النَّضِيرُ فَقَسَمَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ، وَلِثَلَاثَةِ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ؛ وَهُمْ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ ، وَأَبُو دُجَانَةَ ، وَالْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّةِ قَالَ مَالِكٌ : وَكَانَتْ النَّضِيرُ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : وَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ : اللَّهُمَّ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا خَيْرَ إلَّا خَيْرُ الْآخِرَةِ ، فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرَةِ وَالْأَنْصَارِ .
} قَالَ أَبُو بَكْرٍ : أَشْهَدُ أَنَّك رَسُولُ اللَّهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } .
وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ مِثْلُهُ .
وَقَالَ مَالِكٌ : لَمْ يُسْتَشْهَدْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَرْبَعَةٌ أَوْ خَمْسَةٌ .
قَالَ الْقَاضِي : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اسْتَشْهَدَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةُ نَفَرٍ : سَعْدُ بْنُ

مُعَاذٍ ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ .
وَمِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ثُمَّ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ : الطُّفَيْلُ بْنُ النُّعْمَانِ ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنْمَةَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، وَكَعْبُ بْنُ زَيْدٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ .
وَقُتِلَ مِنْ الْكُفَّارِ ثَلَاثَةٌ : مُنَبِّهَ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ ، وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ فَتَوَرَّطَ فِيهِ ، فَقُتِلَ .
فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَسَدِهِ ، فَرُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُمْ أَعْطَوْا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جَسَدِهِ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : لَا حَاجَةَ لَنَا بِجَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ .
فَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ .
وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ قَتَلَهُ عَلِيٌّ فِي الْمُبَارَزَةِ ، اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسِهِ فَعَقَرَهُ ، وَضَرَبَ وَجْهَهُ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ فَتَنَازَلَا ، فَغَلَبَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي ذَلِكَ : نَصَرَ الْحِجَارَةَ مِنْ سَفَاهَةِ رَأْيِهِ وَنَصَرْت رَبَّ مُحَمَّدٍ بِصَوَابِ فَصَدَدْت حِينَ تَرَكْته مُتَجَدِّلًا كَالْجِذْعِ بَيْنَ دَكَادِكَ وَرَوَابِي وَعَفَفْت عَنْ أَثْوَابِهِ وَلَوْ أَنَّنِي كُنْت الْمُقَطِّرَ بَزَّنِي أَثْوَابِي لَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ خَاذِلَ دِينِهِ وَنَبِيَّهُ يَا مَعْشَرَ الْأَحْزَابِ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : وَسَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيَّ ، وَعَبَّادَ بْنَ بَشِيرٍ ، وَأَبَا عَبَّاسٍ الْحَارِثِيَّ ، وَرَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ إلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيِّ لِيَقْتُلُوهُ ، فَبَلَغَنِي أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَتَأْذَنُ لَنَا أَنْ نَنَالَ مِنْك إذَا جِئْنَاهُ .
فَأَذِنَ لَهُمْ فَخَرَجُوا نَحْوَهُ لَيْلًا ، فَلَمَّا جَاءُوا وَنَادَوْهُ لِيَطْلُعَ إلَيْهِمْ ، وَكَانَ بَيْنَ عَبَّادِ بْنِ بَشِيرٍ وَبَيْنَ ابْنِ الْأَشْرَفِ رَضَاعٌ ، فَقَالَتْ لَهُ

امْرَأَتُهُ : لَا تَخْرُجْ إلَيْهِمْ ، فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْك .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَوْ كُنْت نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي فَخَرَجَ إلَيْهِمْ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا : جِئْنَا لِتُسْلِفَنَا شَطْرَ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ ، وَوَقَعُوا فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ ، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّا لَنَجِدُ مِنْك رِيحَ عَبِيرٍ قَالَ : فَأَدْنَى إلَيْهِمْ رَأْسَهُ ، وَقَالَ : شُمُّوا ، فَذَلِكَ حِينَ ابْتَدَرُوهُ فَقَتَلُوهُ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ : إنِّي لَأَجِدُ رِيحَ دَمِ كَافِرٍ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ : سَمَّيْت بِهِ ، لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : أَوَّلُ مَشْهَدٍ شَهِدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِبْت عَنْهُ ، أَمَا وَاَللَّهِ لَئِنْ أَرَانِي اللَّهُ مَشْهَدًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَعْدَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ .
قَالَ وَهَابَ أَنْ يَقُولَ غَيْرَهَا .
فَشَهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ الْعَامِ الْقَابِلِ ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَمْرٍو ، أَيْنَ ؟ قَالَ : وَاهَا لِرِيحِ الْجَنَّةِ ، إنِّي أَجِدُهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ ، فَوُجِدَ فِي جَسَدِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةً بَيْنَ ضَرْبَةٍ وَطَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ .
قَالَتْ عَمَّتِي الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ : فَمَا عَرَفْت أَخِي إلَّا بِبَنَانِهِ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
{ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } .
وَكَذَلِكَ رَوَى طَلْحَةُ أَنَّ { أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لِأَعْرَابِيٍّ جَاهِلٍ : سَلْهُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ مِنْهُمْ ، وَكَانُوا لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَى مَسْأَلَتِهِ ؛ يُوَقِّرُونَهُ وَيَهَابُونَهُ فَسَأَلَهُ الْأَعْرَابِيُّ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْهُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ، ثُمَّ إنِّي اطَّلَعْت مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ ، وَعَلَيَّ ثِيَابٌ خُضْرٌ ، فَلَمَّا رَآنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ ؟ قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ : هَذَا مِمَّنْ قَضَى نَحْبَهُ } النَّحْبُ : النَّذْرُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : سَمِعْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَتْهُ

الْجِرَاحُ فِي خُصٍّ عِنْدَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، فَكَانَ فِيهِ ، وَكَانَ جُرْحُهُ يَنْفَجِرُ ، ثُمَّ يُفِيقُ مِنْهُ ، فَخَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ حَتَّى سَالَ فِي الْمَسْجِدِ ، فَمَاتَ مِنْهُ .
وَبَلَغَنِي أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ مَرَّ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَنِسَاءٌ مَعَهَا فِي الْأُطُمِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فَارِعٌ ، وَعَلَيْهِ دِرْعٌ مُقَلَّصَةٌ ، مُشَمِّرَ الْكُمَّيْنِ ، وَبِهِ أَثَرُ صُفْرَةٍ وَهُوَ يَرْتَجِزُ : لَبِّثْ قَلِيلًا يَشْهَدُ الْهَيْجَا حَمَلْ لَا بَأْسَ بِالْمَوْتِ إذَا حَانَ الْأَجَلْ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : إنِّي لَسْت أَخَافُ أَنْ يُصَابَ سَعْدٌ الْيَوْمَ إلَّا مِنْ أَطْرَافِهِ ، فَأُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ .
قَالَ الْقَاضِي : فَرُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ عَاصِمُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الْعَرْقَةِ ، فَلَمَّا أَصَابَهُ قَالَ : خُذْهَا مِنِّي وَأَنَا ابْنُ الْعَرْقَةِ .
فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ : عَرَّقَ اللَّهُ وَجْهَك فِي النَّارِ ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت أَبْقَيْت مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْئًا فَأَبْقِنِي لَهَا ، فَإِنَّهُ لَا قَوْمَ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ مِنْ قَوْمٍ آذَوْا رَسُولَك وَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت وَضَعْت الْحَرْبَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَاجْعَلْهُ شَهَادَةً لِي ، وَلَا تُمِيتنِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الَّذِي أَصَابَهُ أَبُو أُسَامَةَ يَعْنِي الْجُشَمِيَّ ؛ قَالَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا لِعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ : أَعَكْرِمُ هَلَّا لُمْتنِي إذْ تَقُولُ لِي فِدَاك بِآطَامِ الْمَدِينَةِ خَالِدُ أَلَسْت الَّذِي أَلْزَمْت سَعْدًا مَنِيَّةً لَهَا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْمَرَافِقِ عَاقِدُ قَضَى نَحْبَهُ مِنْهَا سَعِيدٌ فَأَعْوَلَتْ عَلَيْهِ مَعَ الشَّمَطِ الْعَذَارَى النَّوَاهِدُ وَأَنْتَ الَّذِي دَافَعْت عَنْهُ وَقَدْ دَعَا عُبَيْدَةَ جَمْعًا مِنْهُمْ إذْ يُكَايِدُ عَلَى حِينِ مَا هُوَ جَائِرٌ عَنْ طَرِيقِهِ وَآخَرُ مَدْعُوٌّ عَلَى الْقَصْدِ قَاصِدُ وَقَدْ رُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ ، قَالَتْ عَائِشَةُ : مَا رَأَيْت رَجُلًا أَجْمَلَ مِنْ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، حَاشَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَأُصِيبَ فِي أَكْحَلِهِ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنْ كَانَ حَرْبُ قُرَيْظَةَ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَاقْبِضْنِي إلَيْك ، وَإِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَتْ مِنْهَا بَقِيَّةٌ فَأَبْقِنِي حَتَّى أُجَاهِدَ مَعَ رَسُولِك أَعْدَاءَهُ .
فَلَمَّا حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ تُوُفِّيَ ، فَفَرِحَ النَّاسُ بِذَلِكَ ، وَقَالُوا : نَرْجُو أَنْ تَكُونَ قَدْ اُسْتُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَقَالَ مَالِكٌ : وَقَالَ سَعْدٌ : اللَّهُمَّ إنَّك تَعْلَمُ أَنِّي كُنْت أُحِبُّ أَنْ يَقْتُلَنِي قَوْمٌ بَعَثْت فِيهِمْ نَبِيَّك فَكَذَّبُوهُ وَأَخْرَجُوهُ ، فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ الْحَرْبَ قَدْ بَقِيَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَأَبْقِنِي ، وَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ فَاقْبِضْنِي إلَيْك .
فَلَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدٌ تَبَاشَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ : لَقَدْ نَزَلَ بِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ مَا نَزَلُوا الْأَرْضَ قَبْلَهَا .
وَقَالَ مَالِكٌ : قَوْلُهُ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } يَعْنِي فِي رُجُوعِهِ مِنْ الْخَنْدَقِ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْهُ : { كَانَتْ وَقْعَةُ الْخَنْدَقِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ ، وَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ إلَى حِينِ غَابَتْ الشَّمْسُ } .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : لَمَّا انْصَرَفَ عَنْ الْخَنْدَقِ وَضَعَ السِّلَاحَ وَلَا أَدْرِي اغْتَسَلَ أَمْ لَا ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ أَتَضَعُونَ اللَّأْمَةَ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجُوا إلَى قُرَيْظَةَ ؛ لَا تَضَعُوا السِّلَاحَ حَتَّى تَخْرُجُوا إلَى بَنِي قُرَيْظَةَ .
فَصَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَّا يُصَلِّيَ أَحَدٌ صَلَاةَ الْعَصْرِ إلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ } .
فَصَلَّى بَعْضُ النَّاسِ لِفَوَاتِ الْوَقْتِ ، وَلَمْ يُصَلِّ بَعْضٌ ، حَتَّى لَحِقُوا بَنِي قُرَيْظَةَ ؛ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَهَذِهِ الْآيَاتُ التِّسْعَ عَشْرَةَ

نَزَلْنَ فِي شَأْنِ الْأَحْزَابِ بِمَا انْدَرَجَ فِيهَا مِنْ الْأَحْكَامِ مِمَّا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ، وَشَرَحْنَاهُ عِنْدَ وُرُودِهِ ، فَلَمْ يَكُنْ لِتَكْرَارِهِ مَعْنًى ، وَمَا خَرَجَ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ الْحَدِيثِ يُشْرَحُ فِي مَوْضِعِهِ .

وَقَدْ بَقِيَتْ آيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ تَتِمَّةُ عِشْرِينَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْأَحْزَابِ وَهِيَ قَوْلُهُ : { وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهَا هُنَالِكَ .
وَاَلَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِالِاسْتِئْذَانِ وَقَوْلُهُ : { إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } ، أَوْسُ بْنُ قَيْظِيٍّ .
وَاَلَّذِينَ { عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ } : هُمْ بَنُو حَارِثَةَ ، وَبَنُو سَلَمَةَ ، عَلَى مَا جَرَى عَلَيْهِمْ فِي أُحُدٍ ، وَنَدِمُوا ، ثُمَّ عَادُوا فِي الْخَنْدَقِ .
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ بِقَوْلِهِ : { إذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا } .
قَالَ جَابِرٌ : وَمَا وَدِدْت أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِهِ : { وَاَللَّهُ وَلِيُّهُمَا } .

الْآيَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } .
فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ صَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ ، وَخَيَّرَهُنَّ أَلَّا يَتَزَوَّجْنَ بَعْدَهُ ، فَلَمَّا اخْتَرْنَهُ أَمْسَكَهُنَّ ؛ قَالَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ .
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَ نَبِيَّهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؛ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ بِمَفَاتِحِهَا ، وَقَالَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ خَيَّرَك بَيْنَ أَنْ تَكُونَ نَبِيًّا مَلَكًا ، وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَبْدًا نَبِيًّا .
فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى جِبْرِيلَ كَالْمُسْتَشِيرِ ، فَأَشَارَ إلَيْهِ أَنْ تَوَاضَعْ فَقُلْت : بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا ، أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا ، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } .
فَلَمَّا اخْتَارَ ذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ عَلَى مِثَالِهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ أَزْوَاجَهُ طَالَبْنَهُ بِمَا لَا يَسْتَطِيعُ ، فَكَانَتْ أُولَاهُنَّ أُمُّ سَلَمَةَ ؛ سَأَلَتْهُ سَتْرًا مُعْلَمًا ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ .
وَسَأَلَتْهُ مَيْمُونَةُ حُلَّةً يَمَانِيَّةً .
وَسَأَلَتْهُ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ثَوْبًا مُخَطَّطًا .
وَسَأَلَتْهُ أُمُّ حَبِيبَةَ ثَوْبًا سُحُولِيًّا .
وَسَأَلَتْهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ قَطِيفَةً خَيْبَرِيَّةً .
وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ طَلَبَتْ مِنْهُ شَيْئًا ، إلَّا عَائِشَةَ ؛ فَأَمَرَ بِتَخْيِيرِهِنَّ حَكَاهُ النَّقَّاشُ ، وَهَذَا بِهَذَا اللَّفْظِ بَاطِلٌ .
وَالصَّحِيحُ مَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ

جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : { جَاءَ أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ النَّاسَ جُلُوسًا عِنْدَ بَابِهِ لَمْ يَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ قَالَ : فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ أَقْبَلَ عُمَرُ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ بِالدُّخُولِ ، فَوَجَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا وَحَوْلَهُ نِسَاؤُهُ ، وَاجِمًا سَاكِتًا قَالَ : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَأَقُولَنَّ شَيْئًا يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ بِنْتُ خَارِجَةَ ، سَأَلَتْنِي النَّفَقَةَ فَقُمْت إلَيْهَا فَوَجَأْت عُنُقَهَا ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : هُنَّ حَوْلِي كَمَا تَرَى يَسْأَلْنَنِي النَّفَقَةَ .
فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ إلَى عَائِشَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا ، وَقَامَ عُمَرُ إلَى حَفْصَةَ يَجَأُ عُنُقَهَا ، كِلَاهُمَا يَقُولُ : تَسْأَلْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ .
ثُمَّ اعْتَزَلَهُنَّ شَهْرًا ، ثُمَّ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ آيَةُ التَّخْيِيرِ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } } .
فَقَدْ خَرَجَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ طَلَبَتْهُ أَيْضًا .
فَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ قَوْلِ النَّقَّاشِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ يَوْمًا فَقُلْنَ : نُرِيدُ مَا تُرِيدُ النِّسَاءُ مِنْ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ ، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُنَّ : لَوْ كُنَّا عِنْدَ غَيْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَانَ لَنَا حُلِيٌّ وَثِيَابٌ وَشَأْنٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْيِيرَهُنَّ ؛ قَالَهُ النَّقَّاشُ .
الْخَامِسُ : أَنَّ أَزْوَاجَهُ اجْتَمَعْنَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ ، فَحَلَفَ أَلَّا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا ، وَنَصُّهُ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ

أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ فِيهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فَمَكَثْت سَنَةً مَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ ، حَتَّى حَجَّ عُمَرُ ، وَحَجَجْت مَعَهُ ، فَلَمَّا كَانَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ عَدَلَ عُمَرُ إلَى الْأَرَاك ، فَقَالَ : أَدْرِكْنِي بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ ، فَأَتَيْته بِهَا وَعَدَلْت مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ ، فَتَبَرَّزَ عُمَرُ ، ثُمَّ أَتَانِي ، فَسَكَبْت عَلَى يَدِهِ الْمَاءَ فَتَوَضَّأَ ، فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَك عَنْ هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ فَمَا أَسْتَطِيعُ هَيْبَةً لَك .
فَقَالَ عُمَرُ : وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ عَبَّاسٍ ، لَا تَفْعَلْ ، مَا ظَنَنْت أَنَّ عِنْدِي فِيهِ عِلْمًا ، فَسَلْنِي عَنْهُ ، فَإِنْ كُنْت أَعْلَمُهُ أَخْبَرْتُك .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : كَرِهَ وَاَللَّهِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَكْتُمْهُ .
قَالَ : هُمَا وَاَللَّهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ ، ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ .
قَالَ : { كُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ .
قَالَ : وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي فَتَغَيَّظْتُ يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي ، وَذَلِكَ أَنِّي كُنْت فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ قَالَتْ لِي : لَوْ صَنَعْت كَذَا .
فَقُلْت لَهَا : مَالَك أَنْتِ وَلِهَذَا وَتَكَلُّفُك فِي أَمْرٍ أُرِيدُهُ ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي ، فَقَالَتْ : مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك ، فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَاجِعْنَهُ ، وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ يَوْمَهَا إلَى اللَّيْلِ .
فَأَخَذْت رِدَائِي ، وَشَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي ، فَانْطَلَقْت ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ ، فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ ، فَقُلْت لَهَا : يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، قَدْ

بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : مَالِي وَلَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، عَلَيْك بِعَيْبَتِك .
فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ ، فَقُلْت : قَدْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِك أَنْ تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَتُرَاجِعِينَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَتْ : نَعَمْ .
فَقُلْت : أَتَهْجُرُهُ إحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ ، فَقَالَتْ : نَعَمْ .
قُلْت : قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَتْ ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ ، لَا تُرَاجِعِي رَسُولَ اللَّهِ وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَك ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هَذِهِ الَّتِي أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وَحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهَا ؛ هِيَ أَوْسَمُ مِنْك ، وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك يُرِيدُ عَائِشَةَ .
لَقَدْ عَلِمْت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُحِبُّك ، وَلَوْلَا أَنَا لَطَلَّقَك ؛ فَبَكَتْ أَشَدَّ الْبُكَاءِ .
وَدَخَلْت عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ لِقَرَابَتِي مِنْهَا فَكَلَّمْتهَا ، فَقَالَتْ لِي : وَاعْجَبَا لَك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، قَدْ دَخَلْت فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَبْغِي أَنْ تَدْخُلَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِ ؛ وَإِنَّهُ كَسَرَنِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ مَا كُنْت أَجِدُ .
وَكَانَ لِي جَارٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَكُنَّا نَتَنَاوَبُ فِي النُّزُولِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا ، وَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ تَغْزُونَا ، فَنَزَلَ صَاحِبِي ثُمَّ أَتَانِي عَشِيًّا ، فَضَرَبَ بَابِي ، وَنَادَانِي ، فَخَرَجْت إلَيْهِ ، فَقَالَ : حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ .
فَقُلْت : مَاذَا ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ ؟ فَقَالَ : بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ .
فَقُلْت : مَا تَقُولُ ، طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ؟ فَقُلْت : قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ ، وَخَسِرَتْ ، قَدْ كُنْت أَظُنُّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ ؛ حَتَّى إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ شَدَدْت عَلَيَّ ثِيَابِي ، ثُمَّ نَزَلْت ، فَدَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ ، وَهِيَ تَبْكِي .
فَقُلْت : طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ فَقَالَتْ : لَا أَدْرِي ، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ الْمَشْرُبَةِ .
فَأَتَيْت غُلَامًا أَسْوَدَ قَاعِدًا عَلَى أُسْكُفَّةِ الْبَابِ مُدْلِيًا رِجْلَيْهِ عَلَى نَقِيرٍ مِنْ خَشَبٍ وَهُوَ جَذَعٌ يَرْقَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَنْحَدِرُ .
فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ .
فَانْطَلَقْت ، حَتَّى أَتَيْت الْمِنْبَرَ ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ ، فَجَلَسْت قَلِيلًا ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ ، فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ .
فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إلَيَّ فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ ، فَخَرَجْت فَجَلَسْت إلَى الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ ، فَأَتَيْت الْغُلَامَ ، فَقُلْت : اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ ، فَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَنَّ أَنِّي جِئْت مِنْ أَجْلِ حَفْصَةَ ، وَاَللَّهِ لَئِنْ أَمَرَنِي أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهَا لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَهَا .
قَالَ : وَرَفَعْت صَوْتِي ، فَدَخَلَ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ : قَدْ ذَكَرْتُك لَهُ فَصَمَتَ ، فَوَلَّيْت مُدْبِرًا ، فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي قَالَ : اُدْخُلْ فَقَدْ أَذِنَ لَك .
فَدَخَلْت ، فَسَلَّمْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ ، قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ ، مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ ، حَشْوُهَا لِيفٌ .
فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَطَلَّقْت نِسَاءَك ؟ مَا يَشُقُّ عَلَيْك مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ ؟ فَإِنْ كُنْت طَلَّقْتهنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَك وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلَ ، وَأَنَا وَأَبَا بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنِينَ .
قَالَ : وَقَلَّمَا تَكَلَّمْت وَأَحْمَدُ

اللَّهَ بِكَلَامٍ إلَّا رَجَوْت أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ آيَةُ التَّخْيِيرِ : { عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ } .
فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ إلَيَّ فَقَالَ : لَا .
فَقُلْت : اللَّهُ أَكْبَرُ ، لَوْ رَأَيْتنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَوَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا ، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي ، فَأَنْكَرْت أَنْ تُرَاجِعَنِي .
قَالَتْ : مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَك .
فَوَاَللَّهِ إنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ .
فَقُلْت : قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ ، أَفَتَأْمَنُ إحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ .
فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ دَخَلْت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْت : لَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُك هِيَ أَوْسَمُ وَأَحَبُّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك فَتَبَسَّمَ أُخْرَى ؛ وَإِنِّي لَمَّا قَصَصْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَ أُمِّ سَلَمَةَ تَبَسَّمَ ، وَلَمْ أَزَلْ أُحَدِّثُهُ حَتَّى انْحَسَرَ الْغَضَبُ عَنْ وَجْهِهِ وَكَشَّرَ ، وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ ثَغْرًا .
فَقُلْت : أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك ، قَالَ : نَعَمْ .
فَجَلَسْت فَرَفَعْت بَصَرِي فِي الْبَيْتِ ، فَوَاَللَّهِ مَا رَأَيْت فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ ، إلَّا أُهُبًا ثَلَاثَةً ، وَإِلَّا قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ ، وَقَرَظٌ مَصْبُورٌ فِي نَاحِيَةِ الْغُرْفَةِ وَإِذَا أَفِيقٌ مُعَلَّقٌ ؛ فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ ، فَقَالَ : مَا يُبْكِيك يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقُلْت : وَمَا لِي لَا أَبْكِي ،

وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِك ، وَهَذِهِ خَزَائِنُك لَا أَرَى فِيهَا شَيْئًا إلَّا مَا أَرَى ، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ ، وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ ؟ وَقُلْت : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ لِأُمَّتِك ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ .
فَاسْتَوَى جَالِسًا ، وَقَالَ : أَفِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ، أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .
فَقُلْت : اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ .
وَإِنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّهُ لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ ، فَأَذِنَ لَهُ ، فَقَامَ عُمَرُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يُنَادِي : لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنْ الْأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فَكُنْت أَنَا الَّذِي اسْتَنْبَطْت ذَلِكَ الْأَمْرَ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّخْيِيرِ } .
وَكَانَ أَقْسَمَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا ، يَعْنِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ يَعْنِي قِصَّةَ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ .
هَذَا نَصُّ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى سِوَاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الَّذِي اشْتَمَلَ عَلَيْهِ كِتَابُ الصَّحِيحِ يَجْمَعُ لَك جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَضِبَ عَلَى أَزْوَاجِهِ مِنْ أَجْلِ سُؤَالِهِنَّ لَهُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ وَلِقَوْلِ عُمَرَ لِحَفْصَةَ ، لَا تَسْأَلِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا ، وَسَلِينِي مَا بَدَا لَك .
وَسَبَبُ غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ ،

لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِعُمَرَ : مَنْ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ تَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ ؟ وَقَوْلُهُ : { عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } .
وَذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي شُرْبِ الْعَسَلِ فِي بَيْتِ زَيْنَبَ ؛ فَهَذَانِ قَوْلَانِ وَقَعَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَصًّا .
وَفِيهِ الْإِشَارَةُ لِمَا فِيهَا بِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مِنْ عَدَمِ قُدْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّفَقَةِ ، حَتَّى تَجَمَّعْنَ حَوْلَهُ بِمَا ظَهَرَ لِعُمَرَ مِنْ ضِيقِ حَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا سِيَّمَا لَمَا اطَّلَعَ فِي مَشْرُبَتِهِ مِنْ عَدَمِ الْمِهَادِ ، وَقِلَّةِ الْوِسَادِ .
وَفِيهِ إبْطَالُ مَا ذَكَرَهُ النَّقَّاشُ مِنْ أَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تَسْأَلْهُ شَيْئًا ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُنَّ حَوْلِي ، كَمَا تَرَى ، وَقِيَامِ أَبِي بَكْرٍ لِعَائِشَةَ يَجَأُ فِي عُنُقِهَا ، وَلَوْلَا سُؤَالُهَا مَا أَدَّبَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : ( قُلْ ) قَالَ الْجُوَيْنِيُّ : هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَاحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي سَرَدْنَاهُ آنِفًا ، وَلَا حُجَّةَ فِيهِ ؛ أَمَّا أَنَّ قَوْلَهُ : ( قُلْ ) يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَالْإِبَاحَةَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُوجِبُ لِنُزُولِ الْآيَةِ تَخْيِيرَ اللَّهِ لَهُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَاخْتَارَ الْآخِرَةَ ، فَأَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِأَزْوَاجِهِ لِيَكُنَّ مَعَهُ فِي مَنْزِلَتِهِ ، وَلِيَتَخَلَّقْنَ بِأَخْلَاقِهِ الشَّرِيفَةِ ، وَلِيَصُنَّ خَلَوَاتِهِ الْكَرِيمَةَ مِنْ أَنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْوُجُوبِ .
وَإِنْ كَانَ لِسُؤَالِهِنَّ الْإِنْفَاقَ فَهُوَ لَفْظُ إبَاحَةٍ ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنْ ضَاقَ صَدْرُك بِسُؤَالِهِنَّ لَك مَا لَا تُطِيقُ فَإِنْ شِئْت فَخَيِّرْهُنَّ ، وَإِنْ شِئْت فَاصْبِرْ مَعَهُنَّ ، وَهَذَا بَيِّنٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى إطْنَابٍ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِأَزْوَاجِك } اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْأَزْوَاجِ الْمَذْكُورَاتِ ؛ فَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ : كَانَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ سِوَى الْخَيْبَرِيَّةِ ؛ خَمْسٌ مِنْ قُرَيْشٍ : عَائِشَةُ ، وَحَفْصَةُ ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ .
وَكَانَتْ تَحْتَهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْخَيْبَرِيّةُ ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا ، فَذَهَبَتْ ، وَكَانَتْ بَدَوِيَّةً .
قَالَ رَبِيعَةُ : فَكَانَتْ أَلْبَتَّةَ ، وَاسْمُهَا عَمْرَةُ بِنْتُ يَزِيدَ الْكِلَابِيَّةُ ؛ اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ ، فَذَهَبَتْ ، فَابْتَلَاهَا اللَّهُ بِالْجُنُونِ .
وَيُقَالُ : إنَّ أَبَاهَا تَرَكَهَا تَرْعَى غَنَمًا لَهُ ، فَصَارَتْ فِي طَلَبِ إحْدَاهُنَّ ، فَلَمْ يُعْلَمْ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهَا إلَى الْيَوْمِ .
وَقِيلَ : إنَّهَا كِنْدِيَّةٌ .
وَقِيلَ : لَمْ يُخَيِّرْهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَرَدَّهَا ، وَقَالَ : لَقَدْ اسْتَعَذْتِ بِمَعَاذٍ .
هَذَا مُنْتَهَى قَوْلِهِمْ ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ بَيَانًا شَافِيًا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَنَقُولُ : كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجٌ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ، وَالْحَاضِرُ الْآنَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ سَبْعَ عَشْرَةَ زَوْجَةً ، عَقَدَ عَلَى خَمْسٍ ، وَبَنَى بِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ ، وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمُخَيَّرُ مِنْهُنَّ أَرْبَعٌ : الْأُولَى : سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لُؤَيٍّ .
الثَّانِيَةُ : عَائِشَةُ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ، تَجْتَمِعُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ الثَّامِنِ .
الثَّالِثُ : حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ

الْخَطَّابِ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ التَّاسِعِ .
الرَّابِعَةُ : أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ ، تَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَبِ السَّابِعِ .
وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ [ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ] أَنَّ الْمُخَيَّرَاتِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِسْعٌ ، وَذَكَرَ النَّقَّاشُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَزَيْنَبَ مِمَّنْ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّفَقَةَ ، وَنَزَلَ لِأَجْلِهِنَّ آيَةُ التَّخْيِيرِ .
وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ عَظِيمٌ ؛ فَإِنَّ فِي الصَّحِيحِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ عُمَرَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ : فَدَخَلْت عَلَى عَائِشَةَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ ؛ وَإِنَّمَا نَزَلَ الْحِجَابُ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ ، وَكَذَلِكَ إنَّمَا زَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّجَاشِيُّ بِالْيَمَنِ ، وَهُوَ أَصْدَقَ عَنْهُ ، فَأَرْسَلَ بِهَا إلَيْهِ مِنْ الْيَمَنِ ، وَذَلِكَ سَنَةَ سِتٍّ .
وَأَمَّا الْكِلَابِيَّةُ الْمَذْكُورَةُ فَلَمْ يَبْنِ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَيُقَالُ : إنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا مِنْهُ ، وَقَالَ لَهُ : إنَّهَا لَمْ تَمْرَضْ قَطُّ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا لِهَذِهِ قَدْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ، فَطَلَّقَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا ، وَقَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ : إنَّهَا كَانَتْ بَدَوِيَّةً ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَصِحَّ .
وَقَوْلُ رَبِيعَةَ : إنَّهَا كَانَتْ أَلْبَتَّةَ لَمْ يَثْبُتْ وَإِنَّمَا بَنَاهُ مَنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَ رَبِيعَةَ فِي التَّخْيِيرِ بَتَاتٌ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } وَهُوَ شَرْطٌ جَوَابُهُ { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } ، فَعَلَّقَ التَّخْيِيرَ عَلَى شَرْطٍ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّخْيِيرَ وَالطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَيْنِ عَلَى شَرْطٍ صَحِيحَانِ ، يَنْفُذَانِ وَيَمْضِيَانِ ، خِلَافًا لِلْجُهَّالِ الْمُبْتَدِعَةِ ، الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الشَّرْعِيَّ هُوَ الْمُنْجَزُ لَا غَيْرَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } مَعْنَاهُ إنْ كُنْتُنَّ تَقْصِدْنَ الْحَالَةَ الْقَرِيبَةَ مِنْكُنَّ ؛ فَإِنَّ لِلْإِنْسَانِ حَالَتَيْنِ : حَالَةٌ هُوَ فِيهَا تُسَمَّى الدُّنْيَا ، وَحَالَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَصِيرَ إلَيْهَا وَهِيَ الْأُخْرَى ، وَتَقْصِدْنَ التَّمَتُّعَ بِمَا فِيهَا ، وَالتَّزَيُّنَ بِمَحَاسِنِهَا ، سَرَحْتُكُنَّ لِطَلَبِ ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } .
وَلَا بُدَّ لِلْمَرْءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَتَيْنِ : إمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ ، وَيَجْمَعَ لَهَا ، وَيَنْظُرَ فِيهَا [ وَمِنْهَا ] .
وَإِمَّا أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى حَالَتِهِ الْأُخْرَى ، فَإِيَّاهَا يَقْصِدُ ، وَلَهَا يَسْعَى وَيَطْلُبُ ؛ وَلِذَلِكَ اخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَالَةَ الْأُخْرَى ، فَقَالَ لَهُ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّك خَيْرٌ وَأَبْقَى } يَعْنِي رِزْقَهُ فِي الْآخِرَةِ ؛ إذْ الْمَرْءُ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ رِزْقُهُ فِي الدُّنْيَا طَلَبَهُ أَوْ تَرَكَهُ فَإِنَّهُ طَالِبٌ لَهُ طَلَبَ الْأَجَلِ .
وَأَمَّا رِزْقُهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَا يَأْتِيهِ إلَّا وَيَطْلُبُهُ ، فَخَيَّرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ نَبِيِّهِ فِي هَذَا لِيَكُونَ لَهُنَّ الْمَنْزِلَةُ الْعُلْيَا ، كَمَا كَانَتْ لِزَوْجِهِنَّ .
وَهَذَا مَعْنَى مَا رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ : { لَمْ يُخَيِّرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ إلَّا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ : خَيَّرَهُنَّ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ لَوْ اخْتَارَتْ مِنْهُنَّ الدُّنْيَا مَثَلًا ، هَلْ كَانَتْ تَبِينُ بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ أَمْ لَا ؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهَا تَبِينُ ، لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اخْتِيَارَ الدُّنْيَا سَبَبُ الِافْتِرَاقِ ؛ فَإِنَّ الْفِرَاقَ إذَا وَقَعَ لَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ إمْضَاؤُهُ ؛ أَصْلُهُ يَمِينُ اللِّعَانِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ هَلْ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ بِنَفْسِ الْيَمِينِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْفِرَاقِ ، أَمْ لَا بُدَّ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ ؟ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الثَّانِي : أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : اخْتَارِي نَفْسَك وَنَوَى الْفِرَاقَ وَاخْتَارَتْ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ .
وَالدُّنْيَا كِنَايَةٌ عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ } : هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ ، وَهُوَ فِعْلُ جَمَاعَةِ النِّسَاءِ ، مِنْ قَوْلِك " تَعَالَى " وَهُوَ دُعَاءٌ إلَى الْإِقْبَالِ إلَيْهِ ، تَقُولُ : تَعَالَى بِمَعْنَى " أَقْبِلْ " وُضِعَ لِمَنْ لَهُ جَلَالَةٌ وَرِفْعَةٌ ، ثُمَّ صَارَ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَوْضُوعًا لِكُلِّ دَاعٍ إلَى الْإِقْبَالِ .
وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ ؛ فَإِنَّ الدَّاعِيَ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَرْفَعِ رُتْبَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أُمَتِّعْكُنَّ } وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أُسَرِّحْكُنَّ } : مَعْنَاهُ أُطَلِّقُكُنَّ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي السَّرَاحِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : وَهِيَ مَقْصُودُ الْبَابِ وَتَحْقِيقُهُ فِي بَيَانِ الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَخْيِيرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَزْوَاجِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ : الْأَوَّلُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ أَزْوَاجَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ فِي الْبَقَاءِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ، أَوْ الطَّلَاقِ .
فَاخْتَرْنَ الْبَقَاءَ مَعَهُ ، قَالَتْهُ عَائِشَةُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَرَبِيعَةُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا فَيُفَارِقُهُنَّ ، وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيُمْسِكُهُنَّ ، وَلَمْ يُخَيِّرْهُنَّ فِي الطَّلَاقِ ، ذَكَرَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ .
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ الْآيَةَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ إذًا قَبْلَ ثَلَاثٍ ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ ، وَقَدْ قَالَ : { سَرَاحًا جَمِيلًا } وَالثَّلَاثُ لَيْسَ مِمَّا يَجْمُلُ ؛ وَإِنَّمَا السَّرَاحُ الْجَمِيلُ وَاحِدَةٌ لَيْسَ الثَّلَاثُ الَّتِي يُوجِبُهُنَّ قَبُولُ التَّخْيِيرِ .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا عَائِشَةُ فَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْهَا قَطُّ ، إنَّمَا الْمَرْوِيُّ عَنْهَا أَنَّ مَسْرُوقًا سَأَلَهَا عَنْ الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ فَتَخْتَارُهُ ، أَيَكُونُ طَلَاقًا ؟ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ اخْتَلَفُوا فِيهِ .
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ فَاخْتَرْنَهُ ، أَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا ؟ خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَرُوِيَ ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا ، فَلَا وَجَدُوا لَفْظَ ( خَيَّرَ ) فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ ، وَقَوْلُهَا : لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ بَدَأَ بِي ، فَقَالَ : إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ } .
وَلَيْسَ فِي هَذَا تَخْيِيرٌ بِطَلَاقٍ كَمَا

زَعَمُوا ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْأَوَّلُ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ : التَّخْيِيرُ بَيْنَ الدُّنْيَا ، فَيُوقَعُ الطَّلَاقُ ؛ وَبَيْنَ الْآخِرَةِ فَيَكُونُ الْإِمْسَاكُ ، وَلِهَذَا يَرْجِعُ قَوْلُهُمْ إلَى آيَةِ التَّخْيِيرِ ، وَقَوْلُهَا ، خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ ، أَوْ أُمِرَ بِتَخْيِيرِ نِسَائِهِ ، فَإِنَّمَا يَعُودُ ذَلِكَ كُلُّهُ إلَى هَذَا التَّفْسِيرِ مِنْ التَّخْيِيرِ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ سَمَّى كَمَا تَقَدَّمَ آيَةَ التَّخْيِيرِ : { عَسَى رَبُّهُ إنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ } .
وَلَيْسَ لِلتَّخْيِيرِ فِيهَا ذِكْرٌ لَفْظِيٌّ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهَا مَعْنَى التَّخْيِيرِ نَسَبَهَا إلَى الْمَعْنَى .
الثَّانِي : أَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَدْ قَالَ : إنَّ مَعْنَى خَيَّرَهُنَّ قَرَأَ عَلَيْهِنَّ آيَةَ التَّخْيِيرِ ؛ وَقَوْلُهُ : إنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَيِّرَهُنَّ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ صَحِيحٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ نَصُّ الْآيَةِ ؛ فَإِنَّ التَّخْيِيرَ فِيهَا إنَّمَا وَقَعَ بَيْنَ الْآخِرَةِ ، فَيَكُونُ التَّمَسُّكُ ؛ وَبَيْنَ الدُّنْيَا ، فَيَكُونُ الْفِرَاقُ ؛ وَهُوَ ظَاهِرٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ ، وَلَيْسَ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَالَ مِنْ أَنَّ التَّخْيِيرَ ثَلَاثٌ ، وَاَللَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُطَلِّقَ النِّسَاءَ لِعِدَّتِهِنَّ ؛ فَإِنَّ كَوْنَ قَبُولِ الْخِيَارِ ثَلَاثًا إنَّمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى حُكْمٍ بِمَذْهَبٍ بِقَوْلٍ يُخَالِفُ فِيهِ ؛ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ يَقُولَانِ : إنَّهَا وَاحِدَةٌ فِي تَفْصِيلٍ ، وَقَوْلُهُ : إنَّ اللَّهَ قَالَ : سَرَاحًا جَمِيلًا .
وَالثَّلَاثُ مِمَّا لَا يَجْمُلُ خَطَأً ؛ بَلْ هِيَ مِمَّا يَجْمُلُ وَيَحْسُنُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فَسَمَّى الثَّلَاثَ تَسْرِيحًا بِإِحْسَانٍ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا تُوصَفُ بِالْإِحْسَانِ إذَا فُرِّقَتْ ؛ فَأَمَّا إذَا وَقَعَتْ جُمْلَةً فَلَا .
قُلْنَا : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ الثَّلَاثَ فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ ، كَمَا أَنَّ التَّخْيِيرَ عِنْدَك

فُرْقَةُ انْقِطَاعٍ .
وَإِنَّمَا الْمَعْنَى السَّرَاحُ الْجَمِيلُ ، وَالسَّرَاحُ الْحَسَنُ فُرْقَةٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، كَانَتْ وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِمَّا ظَنَّهُ هَذَا الْعَالِمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ : ابْعَثِي إلَى أَبَوَيْك .
فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لِمَ ؟ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُخَيِّرَكُنَّ .
فَقَالَتْ : إنِّي أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، فَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ .
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ لِي إلَيْك حَاجَةً ؛ لَا تُخَيِّرْ مِنْ نِسَائِك مَنْ تُحِبُّ أَنْ تُفَارِقَنِي ، فَخَيَّرَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمِيعًا ، فَكُلُّهُنَّ اخْتَرْنَهُ } .
{ قَالَتْ عَائِشَةُ : خَيَّرَنَا فَاخْتَرْنَاهُ ، فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا } .
وَفِي الصَّحِيحِ { عَنْ عَائِشَةَ : لَمَّا نَزَلَتْ : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَدَأَ بِي ، فَقَالَ : يَا عَائِشَةُ ؛ إنِّي ذَاكِرٌ لَك أَمْرًا فَلَا عَلَيْك أَلَّا تُعَجِّلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْك .
قَالَتْ : وَقَدْ عَلِمَ وَاَللَّهِ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ ، فَقَرَأَ عَلَيَّ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا } .
فَقُلْت : أَوَفِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ ، فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } .
هَذِهِ رِوَايَةُ مَعْمَرٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ .
قَالَ مَعْمَرٌ : وَقَالَ أَيُّوبُ : قَالَتْ عَائِشَةُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَا تُخْبِرْ أَزْوَاجَك أَنِّي اخْتَرْتُك ؛ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ

يَبْعَثْنِي مُتَعَنِّتًا ، إنَّمَا بَعَثَنِي مُبَلِّغًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ عَلَى أَزْوَاجِهِ الْآيَةَ وَيَقُولُ : قَدْ اخْتَارَتْنِي عَائِشَةُ ، فَاخْتَرْنَهُ كُلُّهُنَّ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ : لَمَّا خَيَّرَهُنَّ اخْتَرْنَهُ ، فَقَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِنَّ ، وَنَزَلَتْ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } .
وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ وَقَعَ التَّخْيِيرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَمَسْأَلَةُ التَّخْيِيرِ طَوِيلَةٌ عَرِيضَةٌ ، لَا يَسْتَوْفِيهَا إلَّا الْإِطْنَابُ بِالتَّطْوِيلِ مَعَ اسْتِيفَاءِ التَّفْصِيلِ ، وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ فِي هَذِهِ الْعُجَالَةِ ، وَبَيَانُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، فَنُشِيرُ مِنْهُ الْآنَ إلَى طَرَفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : إذَا خَيَّرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْهُ .
الثَّانِي : إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا .
أَمَّا الطَّرَفُ الْأَوَّلُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَذَهَبَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَعَائِشَةُ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ زَيْدٍ ، وَعَلِيٍّ ، إلَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ .
وَذَهَبَ إلَى أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ عَلِيٌّ وَزَيْدٌ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى ، وَالْحَسَنُ ، وَرَبِيعَةُ ، وَتَعَلَّقُوا بِأَنَّ قَوْلَهُ : " اخْتَارِي " كِنَايَةٌ عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ ؛ فَإِذَا أَضَافَهُ إلَيْهَا وَقَعَتْ طَلْقَةٌ ، كَقَوْلِهِ ، أَنْتِ بَائِنٌ .
وَدَلِيلُنَا قَوْلُ عَائِشَةَ : خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ .
أَفَكَانَ ذَلِكَ طَلَاقًا ، فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قُلْتُمْ : إنَّ تَخْيِيرَ عَائِشَةَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الزَّوْجِيَّةِ وَالْفِرَاقِ ، وَإِنَّمَا كَانَ بَيْنَ الْبَقَاءِ فَيُمْسِكُ ، وَبَيْنَ الْفِرَاقِ فَيَسْتَأْنِفُ إيقَاعَهُ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا عِنْدَكُمْ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَيْنَا مِنْكُمْ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ كَانَ .
وَقَوْلُكُمْ : لَا حُجَّةَ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ حُجَّتُهُ ظَاهِرَةٌ ؛ لِأَنَّكُمْ قَدْ قُلْتُمْ : إنَّهَا كِنَايَةٌ ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَقُولُوا : إنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهَذَا أَيْضًا .
فَإِذَا قُلْتُمْ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ : إنَّهُ لَا يَقَعُ ، كَانَتْ الْأُخْرَى مِثْلَهَا ؛ لِأَنَّهُمَا كِنَايَتَانِ ، فَلَوْ لَزِمَ الطَّلَاقُ بِإِحْدَاهُمَا لَزِمَ بِالْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
وَبِهَذَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِسِعَةِ عِلْمِهَا ، وَعَظِيمِ فِقْهِهَا .
وَقَوْلُهُمْ : إنَّهَا

إيقَاعٌ بَاطِلٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْيِيرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِرَاقِهِ ، وَهُمَا ضِدَّانِ ، لَيْسَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا لِلثَّانِي بِحَالٍ .
وَأَمَّا الطَّرَفُ الثَّانِي : وَهُوَ إذَا اخْتَارَتْ الْفِرَاقَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا ثَلَاثٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا بَيْنُونَةٍ .
فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهُ مَا نَوَى .
هَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَبِهِ قَالَ اللَّيْثُ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ .
الثَّانِي : رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ وَلَا مَبْتُوتَةٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ .
الثَّالِثُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا إذَا نَوَيَاهُ جَمِيعًا ، وَلَا يَقَعُ مِنْهُ إلَّا مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ جَمِيعًا ، فَإِنْ اخْتَلَفَا وَقَعَ الْأَقَلُّ ، وَبَطَلَ الْأَكْثَرُ .
وَدَلِيلُنَا أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِقَوْلِهِ : " اخْتَارِي " أَلَّا يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ ، وَلَا يَمْلِكَ مِنْهَا شَيْئًا ؛ إذْ قَدْ جَعَلَ إلَيْهَا أَنْ تُخْرِجَ مَا يَمْلِكُهُ مِنْهَا عَنْهُ أَوْ تُقِيمَ مَعَهُ ، فَإِذَا أَخْرَجَتْ الْبَعْضَ لَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ غَيْرَهُمَا .
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِخَبَرٍ مِنْ جِهَتِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّتِهَا ، كَمَا لَوْ قَالَ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّهُ إذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ لَمْ يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ كَخِيَارِ الْمُعْتَقَةِ .
الْجَوَابُ : إنَّا نَقُولُ : أَمَّا اعْتِبَارُ نِيَّتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا مُوقِعَةٌ لِلطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَنِيَابَةٌ ، وَأَمَّا خِيَارُ الْمُعْتِقَةِ فَلَا نُسَلِّمُهُ ، بَلْ هُوَ ثَلَاثٌ .
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ لَفْظُ الثَّلَاثِ وَلَا نِيَّتُهَا .
الْجَوَابُ : إمَّا نَقُولُ : قَدْ اقْتَرَنَ بِهِ لَفْظُهَا كَمَا

بَيَّنَّاهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ } اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ عِلْمَهُ وَأَفَاضَ عَلَيْكُمْ حُكْمَهُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ عَلَى قِسْمَيْنِ : قَدِيمٌ وَمُحْدَثٌ ، وَخَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ ، وَالْمَخْلُوقُ وَالْمُحْدَثُ عَلَى قِسْمَيْنِ : حَيَوَانٌ وَجَمَادٌ .
وَالْحَيَوَانُ عَلَى قِسْمَيْنِ : مُكَلَّفٌ ، وَغَيْرُ مُكَلَّفٍ .
وَالْمُكَلَّفُ حَالَتَانِ : حَالَةٌ هُوَ فِيهَا ، وَحَالَةٌ هُوَ مَنْقُولٌ إلَيْهَا ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ .
وَالْحَالَةُ الْمُنْتَقَلُ إلَيْهَا هِيَ الْحَبِيبَةُ إلَى اللَّهِ الْمَمْدُوحَةُ مِنْهُ ، وَالْحَالَةُ الَّتِي هُوَ فِيهَا هِيَ الْمُبْغَضَةُ إلَى اللَّهِ الْمَذْمُومَةُ عِنْدَهُ ؛ فَإِنْ رَكَنَ إلَيْهَا ، وَعَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا مِنْ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ ، وَأَهْمَلَ الْحَالَةَ الَّتِي يَنْتَقِلُ إلَيْهَا ، وَهِيَ الْمَحْمُودَةُ ، هَلَكَ .
وَإِنْ كَانَ مَقْصِدُهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْقَرِيبَةِ تِلْكَ الْآخِرَةَ ، وَكَانَ لَهَا يَعْمَلُ ، وَإِيَّاهَا يَطْلُبُ ، وَاعْتَقَدَ نَفْسَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسَافِرِ إلَى مَقْصِدٍ ، فَهُوَ فِي طَرِيقِهِ يَعْبُرُ ، وَعَلَى مَسَافَتِهِ يَرْتَحِلُ ؛ وَقَلْبُ الْأَوَّلِ مَعْمُورٌ بِذِكْرِ الدُّنْيَا ، مَغْمُورٌ بِحُبِّهَا ، وَقَلْبُ الثَّانِي مَغْمُورٌ بِذِكْرِ اللَّهِ ، مَعْمُورٌ بِحُبِّهِ ، وَجَوَارِحُهُ مُسْتَعْمَلَةٌ بِطَاعَتِهِ ، فَقِيلَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ، وَتَقْصِدْنَ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَثَوَابَهُ فِيهَا ، فَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ ثَوَابَكُنَّ وَثَوَابَ أَمْثَالِكُنَّ فِي أَصْلِ الْقَصْدِ لَا فِي مِقْدَارِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَعْمَلُ مَحَبَّةً فِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِذَاتَيْهِمَا ، وَفِي الدَّارِ الْآخِرَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الثَّوَابِ .
قَالَ قَوْمٌ : لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحَبَّ اللَّهُ لِذَاتِهِ وَلَا رَسُولُهُ لِذَاتِهِ ، وَإِنَّمَا الْمَحْبُوبُ الثَّوَابُ مِنْهُمَا ، الْعَائِدُ عَلَيْهِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ

الْعَبْدَ يُحِبُّ نَفْسَهُ ، وَأَنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ الْعَالَمِينَ فِي ذَلِكَ الْغَرَضِ الْمَسْطُورِ فِيهَا .
.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ } الْإِحْسَانُ فِي الْفِعْلِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ .
وَالثَّانِي : التَّمَادِي عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : قُلْ لَهُنَّ مَنْ جَاءَ بِهَذَا الْفِعْلِ الْمَطْلُوبِ مِنْكُنَّ كَمَا أُمِرَ بِهِ ، وَتَمَادَى عَلَيْهِ إلَى حَالَةِ الِاحْتِرَامِ بِالْمُنْيَةِ ، فَعِنْدَنَا لَهُ أَفْضَلُ الْجَلَالَةِ وَالْإِكْرَامِ .
وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } إلَى آخِرِ الْمَعْنَى .
فَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ ، وَهُوَ الْإِحْسَانُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { أَجْرًا عَظِيمًا } الْمَعْنَى أَعْطَاهُنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ ثَوَابًا مُتَكَاثِرَ الْكَيْفِيَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } ، وَزِيَادَةُ رِزْقٍ كَرِيمٍ مُعَدٍّ لَهُنَّ .
أَمَّا ثَوَابُهُنَّ فِي الْآخِرَةِ فَكَوْنُهُنَّ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَرَجَتِهِ فِي الْجَنَّةِ ، وَلَا غَايَةَ بَعْدَهَا ، وَلَا مَزِيَّةَ فَوْقَهَا ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةِ النَّعِيمِ وَالثَّوَابِ عَلَى غَيْرِهِنَّ ؛ فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالنَّعِيمَ عَلَى قَدْرِ الْمَنْزِلَةِ .
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَبِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ جَعَلَهُنَّ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، تَعْظِيمًا لِحَقِّهِنَّ ، وَتَأْكِيدًا لِحُرْمَتِهِنَّ ، وَتَشْرِيفًا لِمَنْزِلَتِهِنَّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ حَظَرَ عَلَيْهِ طَلَاقَهُنَّ ، وَمَنَعَهُ مِنْ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ ، فَقَالَ : { لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ } .
وَالْحِكْمَةُ أَنَّهُنَّ لَمَّا لَمْ يَخْتَرْنَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ أَمَرَ بِمُكَافَأَتِهِنَّ فِي التَّمَسُّكِ بِنِكَاحِهِنَّ .
فَأَمَّا مَنْعُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِنَّ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ؛ هَلْ بَقِيَ ذَلِكَ مُسْتَدَامًا أَمْ رَفَعَهُ اللَّهُ عَنْهُ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ الْعَبْدَ فِي الدُّنْيَا بِوُجُوهٍ مِنْ رَحْمَتِهِ وَخَيْرَاتِهِ ، وَلَا يَنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ ثَوَابِهِ فِي الْآخِرَةِ .
وَقَدْ يُثِيبُهُ فِي الدُّنْيَا ، وَيَنْقَصُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ مَنْ قَذَفَهُنَّ حُدَّ حَدَّيْنِ ، كَمَا قَالَ مَسْرُوقٌ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ النُّورِ ، مِنْ أَنَّ عُمُومَ قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } .
يَتَنَاوَلُ كُلَّ مُحْصَنَةٍ ،

وَلَا يَقْتَضِي شَرَفُهُنَّ زِيَادَةً فِي الْحَدِّ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ شَرَفَ الْمَنْزِلَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحُدُودِ بِزِيَادَةٍ ، وَلَا نَقْصُهَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَدِّ بِنَقْصٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

الْآيَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْفَاحِشَةِ وَتِبْيَانِهَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ ، وَأَنَّهَا تَنْطَبِقُ عَلَى الزِّنَا ، وَعَلَى سَائِرِ الْمَعَاصِي .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ جَاءَ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَاحِشَةٍ يُضَاعَفُ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ، لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ ، وَفَضْلِ دَرَجَتِهِنَّ ، وَتَقَدُّمِهِنَّ عَلَى سَائِرِ النِّسَاءِ أَجْمَعَ ؛ وَكَذَلِكَ ثَبَتَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ كُلَّمَا تَضَاعَفَتْ الْحُرُمَاتُ فَهُتِكَتْ تَضَاعَفَتْ الْعُقُوبَاتُ ؛ وَلِذَلِكَ ضُوعِفَ حَدُّ الْحُرِّ عَلَى حَدِّ الْعَبْدِ ، وَالثَّيِّبِ عَلَى الْبِكْرِ ؛ لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فِيهِمَا عَلَى قَرِينِهِمَا ؛ وَذَلِكَ مَشْرُوحٌ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَدْ قَالَ مَسْرُوقٌ : إنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحْدَدْنَ حَدَّيْنِ .
وَيَا مَسْرُوقُ ، لَقَدْ كُنْت فِي غِنًى عَنْ هَذَا ؛ فَإِنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ لَا يَأْتِينَ أَبَدًا بِفَاحِشَةٍ تُوجِبُ حَدًّا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ؛ وَإِنَّمَا خَانَتْ فِي الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ، وَلَوْ أَمْسَكَ النَّاسُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي بَلْ عَمَّا لَا يَعْنِي لَكَثُرَ الصَّوَابُ ، وَظَهَرَ الْحَقُّ .

الْآيَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا } .
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَمَا يُضَاعَفُ ، بِهَتْكِ الْحُرُمَاتِ ، الْعَذَابُ ، كَذَلِكَ يُضَاعَفُ بِصِيَانَتِهَا الثَّوَابُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ إنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } .
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ } يَعْنِي فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ مِنْ الْآدَمِيَّاتِ فَلَسْنَ كَإِحْدَاهُنَّ ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْبَشَرِ جِبِلَّةً ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ فَضِيلَةً وَمَنْزِلَةً ، وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَثَرَاتِ ، فَإِنَّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ ، وَتُرْفَعُ مَنْزِلَتُهُ عَلَى الْمَنَازِلِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَرْتَفِعَ فِعْلُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ ، وَيَرْبُوَ حَالُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } أَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ جَزْلًا ، وَكَلَامُهُنَّ فَصْلًا ، وَلَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ عَلَاقَةً بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّينِ الْمُطْمِعِ لِلسَّامِعِ ، وَأَخَذَ عَلَيْهِنَّ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ مَعْرُوفًا ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قِيلَ : الْمَعْرُوفُ هُوَ السِّرُّ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَعُودُ إلَى الشَّرْعِ بِمَا أُمِرْنَ فِيهِ بِالتَّبْلِيغِ ، أَوْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْبَشَرِ مِنْهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } يَعْنِي اُسْكُنَّ فِيهَا وَلَا تَتَحَرَّكْنَ ، وَلَا تَبْرَحْنَ مِنْهَا ، حَتَّى إنَّهُ رُوِيَ وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا انْصَرَفَ مِنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ قَالَ لِأَزْوَاجِهِ هَذِهِ ؛ ثُمَّ ظُهُورُ الْحُصْرِ ؛ إشَارَةً إلَى مَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ مِنْ لُزُومِ بَيْتِهَا ، وَالِانْكِفَافِ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهُ ، إلَّا لِضَرُورَةٍ .
وَلَقَدْ دَخَلْتَ نَيِّفًا عَلَى أَلْفِ قَرْيَةٍ مِنْ بَرِيَّةٍ ، فَمَا رَأَيْت [ نِسَاءً ] أَصْوَنَ عِيَالًا ، وَلَا أَعَفَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ نَابُلُسَ الَّتِي رُمِيَ فِيهَا الْخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنَّارِ ، فَإِنِّي أَقَمْت فِيهَا أَشْهُرًا ، فَمَا رَأَيْت امْرَأَةً فِي طَرِيقٍ ، نَهَارًا ، إلَّا يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَإِنَّهُنَّ يَخْرُجْنَ إلَيْهَا حَتَّى يَمْتَلِئَ الْمَسْجِدُ مِنْهُنَّ ، فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ ، وَانْقَلَبْنَ إلَى مَنَازِلِهِنَّ لَمْ تَقَعْ عَيْنِي عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ إلَى الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى .
وَسَائِرُ الْقُرَى تُرَى نِسَاؤُهَا مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَعُطْلَةٍ ، مُتَفَرِّقَاتٍ فِي كُلِّ فِتْنَةٍ وَعُضْلَةٍ .
وَقَدْ رَأَيْت بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى عَفَائِفَ مَا خَرَجْنَ مِنْ مُعْتَكَفِهِنَّ حَتَّى اسْتَشْهَدْنَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ تَعَلَّقَ الرَّافِضَةُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إذْ قَالُوا : إنَّهَا خَالَفَتْ أَمْرَ اللَّهِ وَأَمْرَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَتْ تَقُودُ الْجُيُوشَ ، وَتُبَاشِرُ الْحُرُوبَ ، وَتَقْتَحِمُ مَآزِقَ الْحَرْبِ وَالضَّرْبِ ، فِيمَا لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا .
وَلَقَدْ حُصِرَ عُثْمَانُ ، فَلَمَّا رَأَتْ ذَلِكَ أَمَرَتْ بِرَوَاحِلِهَا فَقُرِّبَتْ ، لِتَخْرُجَ إلَى مَكَّةَ ، فَقَالَ لَهَا مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؛ أَقِيمِي هَاهُنَا ، وَرُدِّي هَؤُلَاءِ الرَّعَاعَ عَنْ عُثْمَانَ ؛ فَإِنَّ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ النَّاسِ خَيْرٌ مِنْ حَجِّك .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ نَذَرَتْ الْحَجَّ قَبْلَ الْفِتْنَةِ ، فَلَمْ تَرَ التَّخَلُّفَ عَنْ نَذْرِهَا ؛ وَلَوْ خَرَجَتْ عَنْ تِلْكَ الثَّائِرَةِ لَكَانَ ذَلِكَ صَوَابًا لَهَا .
وَأَمَّا خُرُوجُهَا إلَى حَرْبِ الْجَمَلِ فَمَا خَرَجَتْ لِحَرْبٍ ، وَلَكِنْ تَعَلَّقَ النَّاسُ بِهَا ، وَشَكَوْا إلَيْهَا مَا صَارُوا إلَيْهِ مِنْ عَظِيمِ الْفِتْنَةِ ، وَتَهَارَجَ النَّاسِ ، وَرَجَوْا بَرَكَتَهَا فِي الْإِصْلَاحِ ، وَطَمِعُوا فِي الِاسْتِحْيَاءِ مِنْهَا إذَا وَقَفَتْ إلَى الْخَلْقِ وَظَنَّتْ هِيَ ذَلِكَ ، فَخَرَجَتْ مُقْتَدِيَةً بِاَللَّهِ فِي قَوْلِهِ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } .
وَبِقَوْلِهِ : { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا } .
وَالْأَمْرُ بِالْإِصْلَاحِ مُخَاطَبٌ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، فَلَمْ يُرِدْ اللَّهُ بِسَابِقِ قَضَائِهِ ، وَنَافِذِ حُكْمِهِ ، أَنْ يَقَعَ إصْلَاحٌ ، وَلَكِنْ جَرَتْ مُطَاعَنَاتٌ وَجِرَاحَاتٌ ، حَتَّى كَادَ يَفْنَى الْفَرِيقَانِ ، فَعَمَدَ بَعْضُهُمْ إلَى الْجَمَلِ فَعَرْقَبَهُ ، فَلَمَّا سَقَطَ الْجَمَلُ لِجَنْبِهِ أَدْرَكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَائِشَةَ ، فَاحْتَمَلَهَا إلَى الْبَصْرَةِ ، وَخَرَجَتْ فِي

ثَلَاثِينَ امْرَأَةٍ قَرَنَهُنَّ عَلِيٌّ بِهَا ، حَتَّى أَوْصَلُوهَا إلَى الْمَدِينَةِ بَرَّةً تَقِيَّةً مُجْتَهِدَةً ، مُصِيبَةً ثَابِتَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ ، مَأْجُورَةً فِيمَا تَأَوَّلَتْ وَفَعَلَتْ ؛ إذْ كُلُّ مُجْتَهِدٍ فِي الْأَحْكَامِ مُصِيبٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ تَصْوِيبَ الصَّحَابَةِ فِي الْحُرُوبِ ، وَحَمْلَ أَفْعَالِهِمْ عَلَى أَجْمَلِ تَأْوِيلٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى التَّبَرُّجِ .
وَقَوْلُهُ : { الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ ، فَقَالَ : أَفَرَأَيْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } ؟ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَتْ جَاهِلِيَّةً غَيْرَ وَاحِدَةٍ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؛ هَلْ سَمِعْت بِأُولَى إلَّا لَهَا آخِرَةٌ ، قَالَ : فَأْتِنَا بِمَا يُصَدِّقُ ذَلِكَ فِي كُتُبِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } جَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ .
فَقَالَ عُمَرُ : فَمَنْ أَمَرَ بِأَنْ نُجَاهِدَ ؟ قَالَ : مَخْزُومٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا تَكُونُ جَاهِلِيَّةً أُخْرَى .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ الْأُولَى مَا بَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ الْقَاضِي : الَّذِي عِنْدِي أَنَّهَا جَاهِلِيَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ؛ وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِالْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا صِفَتُهَا الَّتِي لَيْسَ لَهَا نَعْتُ غَيْرِهَا ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { قَالَ رَبِّ اُحْكُمْ بِالْحَقِّ } وَهَذِهِ حَقِيقَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْكُمُ إلَّا بِالْحَقِّ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : الْإِثْمُ .
الثَّانِي : الشِّرْكُ .
الثَّالِثُ : الشَّيْطَانُ .
الرَّابِعُ : الْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ ؛ فَالْأَفْعَالُ الْخَبِيثَةُ كَالْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ؛ وَالْأَخْلَاقُ الذَّمِيمَةُ كَالشُّحِّ ، وَالْبُخْلِ ، وَالْحَسَدِ ، وَقَطْعِ الرَّحِمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { أَهْلَ الْبَيْتِ } رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّهُ قَالَ : { لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا ، وَجَعَلَ عَلِيًّا خَلْفَ ظَهْرِهِ ، وَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ إنَّ هَؤُلَاءِ أَهْلَ بَيْتِي ، فَأَذْهِبْ عَنْهُمْ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا .
قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ : وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ .
قَالَ : أَنْتِ عَلَى مَكَانِك وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ } .
وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ بِبَابِ فَاطِمَةَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ إذَا خَرَجَ إلَى صَلَاةِ الْفَجْرِ يَقُولُ : الصَّلَاةَ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ ، إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } .
خَرَّجَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : آيَاتُ اللَّهِ الْقُرْآنُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : آيَاتُ اللَّهِ الْحِكْمَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا الْحِكْمَةَ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَآيَاتُ اللَّهِ حِكْمَتُهُ ، وَسُنَّةُ رَسُولِهِ حِكْمَتُهُ ، وَالْحَلَالُ وَالْحَرَامُ حِكْمَتُهُ ، وَالشَّرْعُ كُلُّهُ حِكْمَتُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَرَ اللَّهُ أَزْوَاجَ رَسُولِهِ بِأَنْ يُخْبِرْنَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي بُيُوتِهِنَّ ، وَمَا يَرَيْنَ مِنْ أَفْعَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْوَالِهِ فِيهِنَّ ، حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ ، فَيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ ، وَيَقْتَدُوا بِهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الدِّينِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ ؛ وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَتَعْلِيمِ مَا عَلِمَهُ مِنْ الدِّينِ ؛ فَكَانَ إذَا قَرَأَهُ عَلَى وَاحِدٍ ، أَوْ مَا اتَّفَقَ ، سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ ، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يُبَلِّغَهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْكُرَهُ لِجَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَلَا كَانَ عَلَيْهِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ أَنْ يَخْرُجَ إلَى النَّاسِ فَيَقُولَ لَهُمْ : نَزَلَ كَذَا ، وَكَانَ كَذَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ ، وَشَرْحِ الْحَدِيثِ ، وَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ لَا يَعْتَدُّ بِمَا يَعْلَمُهُ مِنْ ذَلِكَ أَزْوَاجُهُ مَا أُمِرْنَ بِالْإِعْلَامِ بِذَلِكَ ، وَلَا فَرَضَ عَلَيْهِنَّ تَبْلِيغَهُ ؛ وَلِذَلِكَ قُلْنَا بِجَوَازِ قَبُولِ خَبَرِ بُسْرَةَ فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ؛ لِأَنَّهَا رَوَتْ مَا سَمِعَتْ ، وَبَلَّغَتْ مَا وَعَتْ .
وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ الرِّجَالَ ، كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَحَقَّقْنَاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ عَلَى أَنَّهُ قَدْ نُقِلَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَابْنِ عُمَرَ ، وَهَذَا كَانَ هَاهُنَا .

الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، وَكَانَتْ أَوَّلَ امْرَأَةٍ هَاجَرَتْ مِنْ النِّسَاءِ ، وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَدْ قَبِلْت ، فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَسَخِطَتْهُ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ، خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، فَامْتَنَعَتْ ، وَامْتَنَعَ أَخُوهَا عَبْدُ اللَّهِ لِنَسَبِهَا فِي قُرَيْشٍ ، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِنْتَ عَمَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُّهَا أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَإِنَّ زَيْدًا كَانَ عَبْدًا بِالْأَمْسِ إلَى أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ، فَقَالَ لَهُ أَخُوهَا : مُرْنِي بِمَا شِئْت ، فَزَوَّجَهَا مِنْ زَيْدٍ .
وَاَلَّذِي رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْسِيرٍ ، زَادَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ سَاقَ إلَيْهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ وَسِتِّينَ دِرْهَمًا ، وَمِلْحَفَةً ، وَدِرْعًا ، وَخَمْسِينَ مُدًّا مِنْ طَعَامٍ ، وَعَشْرَةَ أَمْدَادٍ مِنْ تَمْرٍ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ الْكَفَاءَةُ فِي الْأَحْسَابِ ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْأَدْيَانِ ، خِلَافًا لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْمُغِيرَةِ وَسَحْنُونٍ ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوَالِيَ تَزَوَّجَتْ فِي قُرَيْشٍ وَتَزَوَّجَ زَيْدٌ بِزَيْنَبِ ، وَتَزَوَّجَ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ ضُبَاعَةَ بِنْتَ الزُّبَيْرِ ، وَزَوَّجَ أَبُو حَنِيفَةَ سَالِمًا مِنْ هِنْدَ بِنْتِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ .
وَفِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ ؛ لِمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَجَمَالِهَا ؛ فَعَلَيْك بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك } .
وَفِيهِ قَالَ سَهْلٌ : { مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ فَقَالُوا : هَذَا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْمَعَ قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ ، فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أَلَّا يُنْكَحَ ، وَإِنْ قَالَ لَا يُسْمَعَ ، وَإِنْ شَفَعَ لَا يُشَفَّعَ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا } .

الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَنْزِلَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، فَأَبْصَرَ امْرَأَتَهُ قَائِمَةً ، فَأَعْجَبَتْهُ ؛ فَقَالَ : سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ ، فَلَمَّا سَمِعَتْ زَيْنَبُ ذَلِكَ جَلَسَتْ ، وَجَاءَ زَيْدٌ إلَى مَنْزِلِهِ ، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ زَيْنَبَ ؛ فَعَلِمَ أَنَّهَا وَقَعَتْ فِي نَفْسِهِ ؛ فَأَتَى زَيْدٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ائْذَنْ لِي فِي طَلَاقِهَا ، فَإِنَّ بِهَا غَيْرَةً وَإِذَايَةً بِلِسَانِهَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ أَهْلَك وَفِي قَلْبِهِ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَطَلَّقَهَا زَيْدٌ .
فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْدٍ : اُذْكُرْنِي لَهَا فَانْطَلَقَ زَيْدٌ إلَى زَيْنَبَ ، فَقَالَ لَهَا : أَبْشِرِي ، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُك .
فَقَالَتْ : مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا ، حَتَّى أَسْتَأْمِرَ رَبِّي ، وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } أَيْ بِالْإِسْلَامِ .
{ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ } ، أَيْ بِالْعِتْقِ ، هُوَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُ .
وَقِيلَ : أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِأَنْ سَاقَهُ إلَيْك ، وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ بِأَنْ تَبَنَّيْته ؛ وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ اللَّهِ إلَيْهِ أَوْ مِنْ مُحَمَّدٍ إلَيْهِ فَهُوَ نِعْمَةٌ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ

الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ } يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا .
فَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَعْلَمَهُ بِأَنَّهَا تَكُونُ مِنْ أَزْوَاجِهِ .
وَقِيلَ : تُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ مِنْ مَيْلِك إلَيْهَا وَحُبِّك لَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَتَخْشَى النَّاسَ } فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : تَسْتَحِي مِنْهُمْ ، وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ، وَتَسْتَحِي مِنْهُ .
وَالْخَشْيَةُ بِمَعْنَى الِاسْتِحْيَاءِ كَثِيرَةٌ فِي اللُّغَةِ .
الثَّانِي : تَخْشَى النَّاسَ أَنْ يُعَاتِبُوك ، وَعِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ .
الثَّالِثُ : وَتَخْشَى النَّاسَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا فِيك .
وَقِيلَ : أَنْ يُفْتَتَنُوا مِنْ أَجْلِك ، وَيَنْسُبُوك إلَى مَا لَا يَنْبَغِي .
وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَإِنَّهُ مَالِكُ الْقُلُوبِ ، وَبِيَدِهِ النَّوَاصِي وَالْأَلْسِنَةُ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ وَتَصْحِيحِ الْحَالِ : قَدْ بَيَّنَّا فِي السَّالِفِ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَفِي غَيْرِ مَوْضِعٍ عِصْمَةَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مِنْ الذُّنُوبِ ، وَحَقَّقْنَا الْقَوْلَ فِيمَا نُسِبَ إلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَهِدْنَا إلَيْكُمْ عَهْدًا لَنْ تَجِدُوا لَهُ رَدًّا أَنَّ أَحَدًا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ نَبِيًّا إلَّا بِمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ ، لَا يَزِيدُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ أَخْبَارَهُمْ مَرْوِيَّةٌ ، وَأَحَادِيثَهُمْ مَنْقُولَةٌ بِزِيَادَاتٍ تَوَلَّاهَا أَحَدُ رَجُلَيْنِ : إمَّا غَبِيٌّ عَنْ مِقْدَارِهِمْ ، وَإِمَّا بِدْعِيٌّ لَا رَأْيَ لَهُ فِي بِرِّهِمْ وَوَقَارِهِمْ ، فَيَدُسُّ تَحْتَ الْمَقَالِ الْمُطْلَقِ الدَّوَاهِي ، وَلَا يُرَاعِي الْأَدِلَّةَ وَلَا النَّوَاهِيَ ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْك أَحْسَنَ الْقَصَصِ } ، أَيْ أَصْدَقُهُ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَهِيَ كَثِيرَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي أَمَالِي أَنْوَارِ الْفَجْرِ .
فَهَذَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عَصَى قَطُّ رَبَّهُ ، لَا فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا بَعْدَهَا ، تَكْرِمَةً مِنْ اللَّهِ وَتَفَضُّلًا وَجَلَالًا ، أَحَلَّهُ بِهِ الْمَحَلَّ الْجَلِيلَ الرَّفِيعَ ، لِيَصْلُحَ أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْقَضَاءِ يَوْمَ الْحَقِّ .
وَمَا زَالَتْ الْأَسْبَابُ الْكَرِيمَةُ ، وَالْوَسَائِلُ السَّلِيمَةُ تُحِيطُ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ وَالطَّرَائِفُ النَّجِيبَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى جُمْلَةِ ضَرَائِبِهِ ، وَالْقُرَنَاءُ الْأَفْرَادُ يَحْيَوْنَ لَهُ ، وَالْأَصْحَابُ الْأَمْجَادُ يَنْتَقُونَ لَهُ مِنْ كُلِّ طَاهِرِ الْجَيْبِ ، سَالِمٍ عَنْ الْعَيْبِ ، بَرِيءٍ مِنْ الرَّيْبِ ، يَأْخُذُونَهُ عَنْ الْعُزْلَةِ ، وَيَنْقُلُونَهُ عَنْ الْوَحْدَةِ ، فَلَا يَنْتَقِلُ إلَّا مِنْ كَرَامَةٍ إلَى كَرَامَةٍ ، وَلَا يَتَنَزَّلُ إلَّا مَنَازِلَ السَّلَامَةِ حَتَّى تَجِيءَ بِالْحَيِيِّ نِقَابًا ، أَكْرَمَ الْخَلْقِ سَلِيقَةً وَأَصْحَابًا ، وَكَانَتْ عِصْمَتُهُ مِنْ اللَّهِ فَضْلًا لَا اسْتِحْقَاقًا ؛ إذْ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا رَحْمَةً

لَا مَصْلَحَةً ، كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ لِلْخَلْقِ ، بَلْ مُجَرَّدُ كَرَامَةٍ لَهُ وَرَحْمَةٍ بِهِ ، وَتَفَضُّلٍ عَلَيْهِ ، وَاصْطِفَاءٍ لَهُ ، فَلَمْ يَقَعْ قَطُّ لَا فِي ذَنْبٍ صَغِيرٍ حَاشَا لِلَّهِ وَلَا كَبِيرٍ ، وَلَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ لِأَجْلِهِ نَقْصٌ ، وَلَا تَعْيِيرٌ .
وَقَدْ مَهَّدْنَا ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا سَاقِطَةُ الْأَسَانِيدِ ؛ إنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : لَوْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمًا مِنْ الْوَحْيِ شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ الْآيَةَ : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ } يَعْنِي بِالْإِسْلَامِ ، { وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ } يَعْنِي بِالْعِتْقِ ، فَأَعْتَقْته : { أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } إلَى قَوْلِهِ : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا } وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا قَالُوا : تَزَوَّجَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } .
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَنَّاهُ وَهُوَ صَغِيرٌ ، فَلَبِثَ حَتَّى صَارَ رَجُلًا ، يُقَالُ لَهُ زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } .
فُلَانٌ مَوْلَى فُلَانٍ ، وَفُلَانٌ أَخُو فُلَانٍ ، هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ يَعْنِي أَنَّهُ أَعْدَلُ عِنْدَ اللَّهِ .
قَالَ الْقَاضِي : وَمَا وَرَاءَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهَا فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ فَبَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَوْضِعٍ ، وَلَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ حِجَابٌ ، فَكَيْفَ تَنْشَأُ مَعَهُ وَيَنْشَأُ مَعَهَا وَيَلْحَظُهَا فِي كُلِّ سَاعَةٍ ، وَلَا

تَقَعُ فِي قَلْبِهِ إلَّا إذَا كَانَ لَهَا زَوْجٌ ، وَقَدْ وَهَبَتْهُ نَفْسَهَا ، وَكَرِهَتْ غَيْرَهُ ، فَلَمْ تَخْطِرْ بِبَالِهِ ، فَكَيْفَ يَتَجَدَّدُ لَهُ هَوًى لَمْ يَكُنْ ، حَاشَا لِذَلِكَ الْقَلْبِ الْمُطَهَّرِ مِنْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ الْفَاسِدَةِ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لَهُ : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْك إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } .
وَالنِّسَاءُ أَفْتَنُ الزَّهَرَاتِ وَأَنْشَرُ الرَّيَاحِينِ ، فَيُخَالِفُ هَذَا فِي الْمُطَلَّقَاتِ ، فَكَيْفَ فِي الْمَنْكُوحَاتِ الْمَحْبُوسَاتِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْحَدِيثُ أَنَّهَا لَمَّا اسْتَقَرَّتْ عِنْدَ زَيْدٍ جَاءَهُ جِبْرِيلُ : إنَّ زَيْنَبَ زَوْجُك ، وَلَمْ يَكُنْ بِأَسْرَعَ أَنْ جَاءَهُ زَيْدٌ يَتَبَرَّأُ مِنْهَا ، فَقَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ ، وَأَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك ، فَأَبَى زَيْدٌ إلَّا الْفِرَاقَ ، وَطَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، وَخَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَدَيْ مَوْلَاهُ زَوْجِهَا ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ الْمَذْكُورَ فِيهِ خَبَرُهُمَا ، هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي تَلَوْنَاهَا وَفَسَّرْنَاهَا ، فَقَالَ : وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْت عَلَيْهِ : أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك ، وَاتَّقِ اللَّهَ فِي فِرَاقِهَا ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِك مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ يَعْنِي مِنْ نِكَاحِك لَهَا ، وَهُوَ الَّذِي أَبْدَاهُ لَا سِوَاهُ .
وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذْ أَوْحَى إلَيْهِ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ هَذَا الْخَبَرِ وَظُهُورِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُخْبِرُ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَائِنٌ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِوُجُوبِ صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ ، هَذَا يَدُلُّك عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرَهُ مُتَسَوِّرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ، مَقْصُورٌ عَلَى عُلُومِ الدِّينِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلِأَيِّ مَعْنًى قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ عَلَيْك زَوْجَك ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ لَا زَوْجُ زَيْدٍ ؟ قُلْنَا : هَذَا لَا

يَلْزَمُ ؛ وَلَكِنْ لِطِيبِ نُفُوسِكُمْ نُفَسِّرُ مَا خَطَرَ مِنْ الْإِشْكَالِ فِيهِ : إنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَخْتَبِرَ مِنْهُ مَا لَمْ يُعْلِمْهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ رَغْبَتِهِ فِيهَا أَوْ رَغْبَتِهِ عَنْهَا ، فَأَبْدَى لَهُ زَيْدٌ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْهَا وَالْكَرَاهِيَةِ فِيهَا مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ مِنْهُ فِي أَمْرِهَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَأْمُرُهُ بِالتَّمَسُّكِ بِهَا ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْفِرَاقَ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ ؟ قُلْنَا : بَلْ هُوَ صَحِيحٌ لِلْمَقَاصِدِ الصَّحِيحَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ ، وَمَعْرِفَةِ الْعَاقِبَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ الْعَبْدَ بِالْإِيمَانِ ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ ، فَلَيْسَ فِي مُخَالَفَةِ مُتَعَلِّقِ الْأَمْرِ لِمُتَعَلِّقِ الْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ مِنْ الْأَمْرِ بِهِ عَقْلًا وَحُكْمًا ، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ الْعِلْمِ ؛ فَتَيَقَّنُوهُ وَتَقَبَّلُوهُ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا } فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْوَطَرُ : الْأَرَبُ ، وَهُوَ الْحَاجَةُ ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ .
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ : { أَيُّكُمْ يَمْلِكُ أَرَبَهُ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْلِكُ أَرَبَهُ } عَلَى أَحَدِ الضَّبْطَيْنِ يَعْنِي شَهْوَتَهُ " .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { زَوَّجْنَاكَهَا } فَذَكَرَ عَقْدَهُ عَلَيْهَا بِلَفْظِ التَّزْوِيجِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عِنْدَ جَمَاعَةٍ عَلَى أَنَّهُ الْقَوْلُ الْمَخْصُوصُ بِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ فِيهِ ، وَعِنْدَنَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رَوَى يَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ وَغَيْرُهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا زَيْدًا فَقَالَ : ائْتِ زَيْنَبَ فَاذْكُرْنِي لَهَا } ، كَمَا تَقَدَّمَ وَقَالَ يَحْيَى : { فَأَخْبِرْهَا أَنَّ اللَّهَ قَدْ زَوَّجَنِيهَا ، فَاسْتَفْتَحَ زَيْدٌ الْبَابَ ، فَقَالَتْ : مَنْ ؟ قَالَ : زَيْدٌ .
قَالَتْ : مَا حَاجَتُك ؟ قَالَ : أَرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَتْ : مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَتَحَتْ لَهُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا وَهِيَ تَبْكِي ، فَقَالَ زَيْدٌ : لَا أَبْكَى اللَّهُ لَك عَيْنًا قَدْ كُنْت نِعْمَتْ الْمَرْأَةُ تَبَرِّينَ قَسَمِي ، وَتُطِيعِينَ أَمْرِي ، وَتَبْغِينَ مَسَرَّتِي ، وَقَدْ أَبْدَلَك اللَّهُ خَيْرًا مِنِّي .
قَالَتْ مَنْ ؟ قَالَ : رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَخَرَّتْ سَاجِدَةً } .
وَفِي رِوَايَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ { قَالَتْ : حَتَّى أَوَامِرَ رَبِّي ، وَقَامَتْ إلَى مُصَلَّاهَا ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ إذْنٍ ، فَكَانَتْ تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَقُولُ : أَمَّا أَنْتُنَّ فَزَوَّجَكُنَّ آبَاؤُكُنَّ ، وَأَمَّا أَنَا

فَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { إنَّ زَيْدًا لَمَّا جَاءَهَا بِرِسَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهَا تُخَمِّرُ عَجِينَهَا قَالَ : فَمَا اسْتَطَعْت أَنْ أَنْظُرَ إلَيْهَا مِنْ عِظَمِهَا فِي صَدْرِي ، فَوَلَّيْت لَهَا ظَهْرِي ، وَنَكَصْت عَلَى عَقِبِي ، وَقُلْت : يَا زَيْنَبُ ، أَبْشِرِي ، أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُك الْحَدِيثُ } .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ : { قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي أُدِلُّ عَلَيْك بِثَلَاثٍ ، مَا مِنْ أَزْوَاجِك امْرَأَةٌ تُدِلُّ بِهِنَّ عَلَيْك : جَدِّي وَجَدُّك وَاحِدٌ ، وَإِنِّي أَنْكَحَنِيكَ اللَّهُ مِنْ السَّمَوَاتِ ، وَإِنَّ السَّفِيرَ جِبْرِيلُ } .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا } يَعْنِي دَخَلُوا بِهِنَّ ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ فِي أَزْوَاجِ الْأَبْنَاءِ مِنْ الْأَصْلَابِ ، أَوْ مَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْأَبْنَاءِ مِنْ الْأَصْلَابِ بِالْبَعْضِيَّةِ ، وَهُوَ فِي الرَّضَاعِ كَمَا تَقَدَّمَ تَحْرِيرُهُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ :

الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشَرَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } .
إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَطَّطَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخُطَطِهِ ، وَعَدَّدَ لَهُ أَسْمَاءَهُ ، وَالشَّيْءُ إذَا عَظُمَ قَدْرُهُ عَظُمَتْ أَسْمَاؤُهُ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ : لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفُ اسْمٍ ، وَلِلنَّبِيِّ أَلْفُ اسْمٍ .
فَأَمَّا أَسْمَاءُ اللَّهِ فَهَذَا الْعَدَدُ حَقِيرٌ فِيهَا ، { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا } .
وَأَمَّا أَسْمَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ أُحْصِهَا إلَّا مِنْ جِهَةِ الْوُرُودِ الظَّاهِرِ لِصِيغَةِ الْأَسْمَاءِ الْبَيِّنَةِ ، فَوَعَيْتُ مِنْهَا جُمْلَةً ، الْحَاضِرُ الْآنَ مِنْهَا سَبْعَةٌ وَسِتُّونَ اسْمًا : أَوَّلُهَا الرَّسُولُ ، الْمُرْسَلُ ، النَّبِيُّ ، الْأُمِّيُّ ، الشَّهِيدُ ، الْمُصَدِّقُ ، النُّورُ ، الْمُسْلِمُ ، الْبَشِيرُ ، الْمُبَشِّرُ ، النَّذِيرُ ، الْمُنْذِرُ ، الْمُبَيِّنُ ، الْعَبْدُ ، الدَّاعِي ، السِّرَاجُ ، الْمُنِيرُ ، الْإِمَامُ ، الذِّكْرُ الْمُذَكِّرُ ، الْهَادِي ، الْمُهَاجِرُ ، الْعَامِلُ ، الْمُبَارَكُ ، الرَّحْمَةُ ، الْآمِرُ ، النَّاهِي ، الطَّيِّبُ ، الْكَرِيمُ ، الْمُحَلِّلُ ، الْمُحَرِّمُ ، الْوَاضِعُ ، الرَّافِعُ ، الْمُخْبِرُ ، خَاتَمُ النَّبِيِّينَ ، ثَانِي اثْنَيْنِ ، مَنْصُورٌ ، أُذُنُ خَيْرٍ ، مُصْطَفًى ، أَمِينٌ ، مَأْمُونٌ ، قَاسِمٌ ، نَقِيبٌ ، مُزَّمِّلٌ ، مُدَّثِّرٌ ، الْعَلِيُّ ، الْحَكِيمُ ، الْمُؤْمِنُ ، الرَّءُوفُ ، الرَّحِيمُ ، الصَّاحِبُ ، الشَّفِيعُ ، الْمُشَفَّعُ ، الْمُتَوَكِّلُ ، مُحَمَّدٌ ، أَحْمَدُ ، الْمَاحِي ، الْحَاشِرُ ، الْمُقَفِّي ، الْعَاقِبُ ، نَبِيُّ التَّوْبَةِ ، نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ، نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ، عَبْدُ اللَّهِ ، نَبِيُّ الْحَرَمَيْنِ ، فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ .
وَلَهُ وَرَاءَ هَذِهِ فِيمَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ مَا لَا يُصِيبُهُ إلَّا صَمَيَانٌ .
فَأَمَّا الرَّسُولُ

: فَهُوَ الَّذِي تَتَابَعَ خَبَرُهُ عَنْ اللَّهِ ، وَهُوَ الْمُرْسَلُ بِفَتْحِ السِّينِ ، وَلَا يَقْتَضِي التَّتَابُعَ .
وَهُوَ الْمُرْسِلُ : بِكَسْرِ السِّينِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُمُّ بِالتَّبْلِيغِ مُشَافَهَةً ، فَلَمْ يَكُ بُدٌّ مِنْ الرُّسُلِ يَنُوبُونَ عَنْهُ ، وَيَتَلَقَّوْنَ مِنْهُ ، كَمَا بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : { تَسْمَعُونَ ، وَيَسْمَعُ مِنْكُمْ ، وَيَسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ } .
وَأَمَّا النَّبِيءُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَهُوَ مَهْمُوزٌ مِنْ النَّبَأِ ، وَغَيْرُ مَهْمُوزٍ مِنْ النُّبُوَّةِ ، وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ ، فَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرٌ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، رَفِيعُ الْقَدْرِ عِنْدَهُ ، فَاجْتَمَعَ لَهُ الْوَصْفَانِ ، وَتَمَّ لَهُ الشَّرَفَانِ .
وَأَمَّا الْأُمِّيُّ : فَفِيهِ أَقْوَالٌ ؛ أَصَحُّهَا أَنَّهُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ ، كَمَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا } ، ثُمَّ عَلَّمَهُمْ مَا شَاءَ .
وَأَمَّا الشَّهِيدُ : فَهُوَ لِشَهَادَتِهِ عَلَى الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } .
وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى أَنَّهُ تَشْهَدُ لَهُ الْمُعْجِزَةُ بِالصِّدْقِ ، وَالْخَلْقُ بِظُهُورِ الْحَقِّ .
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ : فَهُوَ بِمَا صَدَّقَ بِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنْ التَّوْرَاةِ } .
وَأَمَّا النُّورُ : فَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ بِمَا كَانَ فِيهِ الْخَلْقُ مِنْ ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ ، فَنَوَّرَ اللَّهُ الْأَفْئِدَةَ بِالْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ .
وَأَمَّا الْمُسْلِمُ : فَهُوَ خَيْرُهُمْ وَأَوَّلُهُمْ ، كَمَا قَالَ : { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } .
وَتَقَدَّمَ فِي ذَلِكَ بِشَرَفِ انْقِيَادِهِ بِكُلِّ وَجْهٍ ، وَبِكُلِّ حَالٍ إلَى اللَّهِ وَبِسَلَامَةٍ عَنْ الْجَهْلِ وَالْمَعَاصِي .

وَأَمَّا الْبَشِيرُ : فَإِنَّهُ أَخْبَرَ الْخَلْقَ بِثَوَابِهِمْ إنْ أَطَاعُوا ، وَبِعِقَابِهِمْ إنْ عَصَوْا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَكَذَلِكَ الْمُبَشِّرُ .
وَأَمَّا النَّذِيرُ وَالْمُنْذِرُ : فَهُوَ الْمُخْبِرُ عَمَّا يُخَافُ وَيُحْذَرُ ، وَيَكُفُّ عَمَّا يَؤُولُ إلَيْهِ وَيُعْمَلُ بِمَا يُدْفَعُ فِيهِ .
وَأَمَّا الْمُبَيِّنُ : فَمَا أَبَانَ عَنْ رَبِّهِ مِنْ الْوَحْيِ وَالدِّينِ ، وَأَظْهَرَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ .
وَأَمَّا الْأَمِينُ : فَبِأَنَّهُ حَفِظَ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ وَمَا وُظِّفَ إلَيْهِ ، وَمَنْ أَجَابَهُ إلَى أَدَاءِ مَا دَعَاهُ .
وَأَمَّا الْعَبْدُ : فَإِنَّهُ ذَلَّ لِلَّهِ خُلُقًا وَعِبَادَةً ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ عِزًّا وَقَدْرًا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ، فَقَالَ : { أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ } .
وَأَمَّا الدَّاعِي : فَبِدُعَائِهِ الْخَلْقَ لِيَرْجِعُوا مِنْ الضَّلَالِ إلَى الْحَقِّ .
وَأَمَّا السِّرَاجُ : فَبِمَعْنَى النُّورِ ، إذْ أَبْصَرَ بِهِ الْخَلْقُ الرُّشْدَ .
وَأَمَّا الْمُنِيرُ : فَهُوَ مُفْعِلٌ مِنْ النُّورِ .
وَأَمَّا الْإِمَامُ : فَلِاقْتِدَاءِ الْخَلْقِ بِهِ وَرُجُوعِهِمْ إلَى قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ .
وَأَمَّا الذِّكْرُ : فَإِنَّهُ شَرِيفٌ فِي نَفْسِهِ ، مُشَرِّفٌ غَيْرَهُ ، مُخْبِرٌ عَنْ رَبِّهِ ، وَاجْتَمَعَتْ لَهُ وُجُوهُ الذِّكْرِ الثَّلَاثَةُ .
وَأَمَّا الْمُذَكِّرُ : فَهُوَ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ الذِّكْرَ ، وَهُوَ الْعِلْمُ الثَّانِي فِي الْحَقِيقَةِ ، وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْأَوَّلِ أَيْضًا ، وَلَقَدْ اعْتَرَفَ الْخَلْقُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ الرَّبُّ ، ثُمَّ ذَهَلُوا ، فَذَكَّرَهُمْ اللَّهُ بِأَنْبِيَائِهِ ، وَخَتَمَ الذِّكْرَ بِأَفْضَلِ أَصْفِيَائِهِ ، وَقَالَ : { فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْت عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ } .
ثُمَّ مَكَّنَهُ مِنْ السَّيْطَرَةِ ، وَآتَاهُ السَّلْطَنَةَ ، وَمَكَّنَ لَهُ دِينَهُ فِي الْأَرْضِ .
وَأَمَّا الْهَادِي : فَإِنَّهُ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى لِسَانِهِ النَّجْدَيْنِ .
وَأَمَّا الْمُهَاجِرُ : فَهَذِهِ الصِّفَةُ لَهُ

حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ، وَهَجَرَ أَهْلَهُ وَوَطَنَهُ ، وَهَجَرَ الْخَلْقَ ؛ أُنْسًا بِاَللَّهِ وَطَاعَتِهِ ، فَخَلَا عَنْهُمْ ، وَاعْتَزَلَهُمْ ، وَاعْتَزَلَ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا الْعَامِلُ : فَلِأَنَّهُ قَامَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ ، وَوَافَقَ فِعْلُهُ وَاعْتِقَادُهُ .
وَأَمَّا الْمُبَارَكُ : فَبِمَا جَعَلَ اللَّهُ فِي حَالِهِ مِنْ نَمَاءِ الثَّوَابِ ، وَفِي حَالِ أَصْحَابِهِ مِنْ فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ ، وَفِي أُمَّتِهِ مِنْ زِيَادَةِ الْعَدَدِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ .
وَأَمَّا الرَّحْمَةُ : فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَاك إلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } فَرَحِمَهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ الْعَذَابِ ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ ، وَتَضْعِيفِ الثَّوَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
وَأَمَّا الْآمِرُ وَالنَّاهِي : فَذَلِكَ الْوَصْفُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَاسِطَةَ أُضِيفَ إلَيْهِ ؛ إذْ هُوَ الَّذِي يُشَاهَدُ آمِرًا نَاهِيًا ، وَيُعْلَمُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ ذَلِكَ وَاسِطَةٌ ، وَنَقْلٌ عَنْ الَّذِي لَهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ حَقِيقَةً .
وَأَمَّا الطَّيِّبُ فَلَا أَطْيَبَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَلْبِ حِينَ رُمِيَتْ مِنْهُ الْعَلَقَةُ السَّوْدَاءُ .
وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْقَوْلِ ، فَهُوَ الصَّادِقُ الْمُصَدِّقُ .
وَسَلِمَ عَنْ خَبَثِ الْفِعْلِ ، فَهُوَ كُلُّهُ طَاعَةٌ .
وَأَمَّا الْكَرِيمُ : فَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَرَمِ ، وَهُوَ لَهُ عَلَى التَّمَامِ وَالْكَمَالِ .
وَأَمَّا الْمُحَلِّلُ وَالْمُحَرِّمُ : فَذَلِكَ مُبَيِّنُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ ، وَذَلِكَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، كَمَا تَقَدَّمَ ، وَالنَّبِيُّ مُتَوَلِّي ذَلِكَ بِالْوَسَاطَةِ وَالرِّسَالَةِ .
وَأَمَّا الْوَاضِعُ وَالرَّافِعُ : فَهُوَ الَّذِي وَضَعَ الْأَشْيَاءَ مَوَاضِعَهَا ، بِبَيَانِهِ ، وَرَفَعَ قَوْمًا ، وَوَضَعَ آخَرِينَ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ فُضِّلَ عَلَيْهِ بِالْعَطَاءِ غَيْرُهُ : أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ

الْعَبِيدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ وَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلَا حَابِسٌ يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي مَجْمَعِ وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ فَأَلْحَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَطَاءِ بِمَنْ فَضَّلَ عَنْهُ .
وَأَمَّا الْمُخْبِرُ : فَهُوَ النَّبِيءُ مَهْمُوزًا .
وَأَمَّا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ : فَهُوَ آخِرُهُمْ : وَهِيَ عِبَارَةٌ مَلِيحَةٌ شَرِيفَةٌ ، تَشْرِيفًا فِي الْإِخْبَارِ بِالْمَجَازِ عَنْ الْآخِرِيَّةِ ؛ إذْ الْخَتْمُ آخِرُ الْكِتَابِ ، وَذَلِكَ بِمَا فُضِّلَ بِهِ ، فَشَرِيعَتُهُ بَاقِيَةٌ وَفَضِيلَتُهُ دَائِمَةٌ إلَى يَوْمِ الدِّينِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : ثَانِيَ اثْنَيْنِ فَاقْتِرَانُهُ فِي الْخَبَرِ بِاَللَّهِ .
وَأَمَّا مَنْصُورٌ : فَهُوَ الْمُعَانُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ بِالْعِزَّةِ وَالظُّهُورِ عَلَى الْأَعْدَاءِ ، وَهَذَا عَامٌّ فِي الرُّسُلِ ، وَلَهُ أَكْثَرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ } .
وَقَالَ لَهُ : اُغْزُهُمْ نَمُدَّك ، وَقَاتِلْهُمْ نَعُدُّك ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ عَشْرَةَ أَمْثَالِهِ .
وَأَمَّا أُذُنُ خَيْرٍ : فَهُوَ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْإِدْرَاكِ لِقِيلِ الْأَصْوَاتِ لَا يَعِي مِنْ ذَلِكَ إلَّا خَيْرًا ، وَلَا يَسْمَعُ إلَّا أَحْسَنَهُ .
وَأَمَّا الْمُصْطَفَى : فَهُوَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ صَفْوَةُ الْخَلْقِ ، كَمَا رَوَاهُ عَنْهُ وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ إسْمَاعِيلَ ، وَاصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ } .
وَأَمَّا الْأَمِينُ : فَهُوَ الَّذِي تُلْقَى إلَيْهِ مَقَالِيدُ الْمَعَانِي ثِقَةً بِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَحِفْظًا مِنْهُ .
وَأَمَّا الْمَأْمُونُ : فَهُوَ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْ جِهَتِهِ شَرٌّ .
وَأَمَّا قَاسِمٌ : فَبِمَا مَيَّزَهُ بِهِ مِنْ حُقُوقِ الْخَلْقِ فِي الزَّكَوَاتِ وَالْأَخْمَاسِ وَسَائِرِ

الْأَمْوَالِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { اللَّهُ يُعْطِي ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ } .
وَأَمَّا نَقِيبٌ : فَإِنَّهُ فَخَرَ بِالْأَنْصَارِ عَلَى سَائِرِ الْأَصْحَابِ مِنْ الصَّحَابَةِ ، بِأَنْ قَالَ لَهَا : { أَنَا نَقِيبُكُمْ } .
إذْ كُلُّ طَائِفَةٍ لَهَا نَقِيبٌ يَتَوَلَّى أُمُورَهَا ، وَيَحْفَظُ أَخْبَارَهَا ، وَيَجْمَعُ نَشْرَهَا ، { وَالْتَزَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِلْأَنْصَارِ } ، تَشْرِيفًا لَهُمْ .
وَأَمَّا كَوْنُهُ مُرْسَلًا فَبِبَعْثِهِ الرُّسُلَ بِالشَّرَائِعِ إلَى النَّاسِ فِي الْآفَاقِ مِمَّنْ نَأَى عَنْهُ .
وَأَمَّا الْعَلِيُّ : فَبِمَا رَفَعَ اللَّهُ مِنْ مَكَانِهِ وَشَرَّفَ مِنْ شَأْنِهِ ، وَأَوْضَحَ عَلَى الدَّعَاوَى مِنْ بُرْهَانِهِ .
وَأَمَّا الْحَكِيمُ : فَإِنَّهُ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ ، وَأَدَّى عَنْ رَبِّهِ قَانُونَ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَمَلِ .
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ : فَهُوَ الْمُصَدِّقُ لِرَبِّهِ ، الْعَامِلُ اعْتِقَادًا وَفِعْلًا بِمَا أَوْجَبَ الْأَمْنَ لَهُ .
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ : فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، فَإِنَّهُ صَدَّقَ رَبَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ، وَصَدَّقَ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ ، فَتَمَّ لَهُ الْوَصْفُ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ ذَلِكَ .
وَأَمَّا الرَّءُوفُ الرَّحِيمُ : فَبِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنْ الشَّفَقَةِ عَلَى النَّاسِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَقَالَ كَمَا قَالَ مَنْ قَبْلَهُ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ " .
وَأَمَّا الصَّاحِبُ : فَبِمَا كَانَ مَعَ مَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ حُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَعَظِيمِ الْوَفَاءِ ، وَالْمُرُوءَةِ وَالْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ .
وَأَمَّا الشَّفِيعُ الْمُشَفَّعُ : فَإِنَّهُ يَرْغَبُ إلَى اللَّهِ فِي أَمْرِ الْخَلْقِ بِتَعْجِيلِ الْحِسَابِ ، وَإِسْقَاطِ الْعَذَابِ وَتَخْفِيفِهِ ، فَيَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَيُخَصُّ بِهِ دُونَ الْخَلْقِ ، وَيُكَرَّمُ بِسَبَبِهِ غَايَةَ الْكَرَامَةِ .
وَأَمَّا الْمُتَوَكِّلُ : فَهُوَ الْمُلْقِي مَقَالِيدَ الْأُمُورِ إلَى اللَّهِ عِلْمًا ، كَمَا قَالَ

: { لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك } ، وَعَمَلًا ، كَمَا قَالَ : { إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي ، أَوْ إلَى عَدُوٍّ مَلَّكْته أَمْرِي } ؟ وَأَمَّا الْمُقَفَّى : فِي التَّفْسِيرِ فَكَالْعَابِدِ .
وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ : لِأَنَّهُ تَابَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ بِالْقَوْلِ وَالِاعْتِقَادِ دُونَ تَكْلِيفِ قَتْلٍ أَوْ إصْرٍ .
وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ : تَقَدَّمَ فِي اسْمِ الرَّحِيمِ .
وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ : لِأَنَّهُ الْمَبْعُوثُ بِحَرْبِ الْأَعْدَاءِ وَالنَّصْرِ عَلَيْهِمْ ، حَتَّى يَعُودُوا جَزْرًا عَلَى وَضَمٍ وَلَحْمًا عَلَى وَضَمٍ .

الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ فِي أَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى مُطَلَّقَةٍ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَهُوَ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَإِذَا دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ إجْمَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وقَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } ، وَهِيَ الرَّجْعَةُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي آيَتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الدُّخُولُ بِالْمَرْأَةِ وَعَدَمُ الدُّخُولِ بِهَا إنَّمَا يُعْرَفُ مُشَاهَدَةً بِإِغْلَاقِ الْأَبْوَابِ عَلَى خَلْوَةٍ ، أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجَيْنِ ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ دُخُولٌ وَقَالَتْ الزَّوْجَةُ : وَطِئَنِي ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ، حَلَفَ وَلَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ ، وَسَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ الْمَهْرِ .
وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ : وَطِئْتهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كُلُّهُ ، وَلَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ .
وَإِنْ كَانَ دُخُولٌ فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : لَمْ يَطَأْنِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي الْعِدَّةِ ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْمَهْرِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْخَلْوَةِ ، هَلْ تُقَرِّرُ الْمَهْرَ ؟ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
فَإِنْ قَالَ : وَطِئْتهَا ، وَأَنْكَرَتْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَأُخِذَ مِنْهُ الصَّدَاقُ ، وَوَقَفَ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يَطُولَ الْمَدَى ، فَيُرَدُّ إلَى صَاحِبِهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ بِخِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَمَتِّعُوهُنَّ } تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِهِ وَأَدِلَّتِهِ ، وَفِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ بِفُرُوعِهِ .

الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ { قَالَتْ : خَطَبَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَذَرْت إلَيْهِ ، فَعَذَرَنِي ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } [ قَالَتْ : فَلَمْ أَكُنْ أَحِلُّ لَهُ ؛ لِأَنِّي لَمْ أُهَاجِرْ ، كُنْت مِنْ الطُّلَقَاءِ } ] قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ [ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ حَدِيثِ السُّدِّيِّ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا ، وَلَمْ يَأْتِ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ يُحْتَجُّ فِي مَوَاضِعِهِ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ } قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَحْلَلْنَا لَك } وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِ الْإِحْلَالِ وَالتَّحْرِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَغَيْرِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { أَزْوَاجَك } وَالنِّكَاحُ وَالزَّوْجِيَّةُ مَعْرُوفَةٌ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الزَّوْجِيَّةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ هَلْ هُنَّ كَالسَّرَائِرِ عِنْدَنَا ، أَوْ حُكْمُهُنَّ حُكْمُ الْأَزْوَاجِ الْمُطَلَّقَةِ ؟ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : فِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ ؛ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي قَوْلِهِ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ } وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُنَّ حُكْمَ الْأَزْوَاجِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَلْ الْمُرَادُ بِذَلِكَ كُلُّ زَوْجَةٍ أَمْ مَنْ تَحْتَهُ مِنْهُنَّ ؟ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ : قِيلَ : إنَّ الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ أَيْ كُلَّ زَوْجَةٍ آتَيْتهَا مَهْرَهَا ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ عُمُومًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ .
الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك الْكَائِنَاتِ عِنْدَك ، وَهُوَ الظَّاهِرُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { آتَيْت } خَبَرٌ عَنْ أَمْرٍ مَاضٍ ؛ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ بِظَاهِرِهِ ، وَلَا يَكُونُ الْفِعْلُ الْمَاضِي بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ إلَّا بِشُرُوطٍ لَيْسَتْ هَاهُنَا ، يَطُولُ الْكِتَابُ بِذِكْرِهَا ، وَلَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ .
{ وَقَدْ عَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عِدَّةٍ مِنْ النِّسَاءِ نِكَاحَهُ } ، فَذَكَرْنَا عِدَّتَهُنَّ فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا هَاهُنَا وَفِي غَيْرِهِ ؛ وَهُنَّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ وَسَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، وَحَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ ، وَأَمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَأَمُّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، فَهَؤُلَاءِ سِتُّ قُرَشِيَّاتٍ .
وَزَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْعَامِرِيَّةُ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّةُ أَسَدُ خُزَيْمَةَ ، وَمَيْمُونَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةُ ، وَصَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ الْهَارُونِيَّةُ ، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْمُصْطَلِقِيَّةُ ، وَمَاتَ عَنْ تِسْعٍ ، وَسَائِرُهُنَّ فِي شَرْحِ

الْبُخَارِيِّ مَذْكُورَاتٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : أَحَلَّ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَزْوَاجَ اللَّاتِي كُنَّ مَعَهُ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ، فَأَمَّا إحْلَالُ غَيْرِهِنَّ فَلَا ؛ لِقَوْلِهِ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } ، وَهَذَا لَا يَصِحُّ ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ نَصٌّ فِي إحْلَالِ غَيْرِهِنَّ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالِ وَالْخَالَاتِ ، وَقَوْلُهُ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } يَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ } يَعْنِي اللَّوَاتِي تَزَوَّجْت بِصَدَاقٍ ، وَكَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : مِنْهُنَّ مَنْ ذَكَرَ لَهَا صَدَاقًا ، وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَ ذَكَرَ لَهَا الصَّدَاقَ بَعْدَ النِّكَاحِ ، كَزَيْنَبِ بِنْتِ جَحْشٍ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ نِكَاحَهَا مِنْ السَّمَاءِ ، وَكَانَ فَرْضُ الصَّدَاقِ بَعْدَ ذَلِكَ لَهَا ، وَمِنْهُنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا وَحَلَّتْ لَهُ ؛ وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك } يَعْنِي السَّرَارِيَ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ السَّرَارِي لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأُمَّتِهِ بِغَيْرِ عَدَدٍ ، وَأَحَلَّ الْأَزْوَاجَ لِنَبِيِّهِ مُطْلَقًا ، وَأَحَلَّهُنَّ لِلْخَلْقِ بِعَدَدٍ ؛ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِهِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَمَّنْ كَانَ قَبْلَهُ فِي أَحَادِيثِهِمْ أَنَّ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ امْرَأَةٍ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَلَثُمِائَةِ حُرَّةٍ وَسَبْعُمِائَةِ سُرِّيَّةٍ ، وَالْحَقُّ مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ سُلَيْمَانَ قَالَ : لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً كُلُّ امْرَأَةٍ تَلِدُ غُلَامًا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَنَسِيَ أَنْ يَقُولَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ } .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك } وَالْمُرَادُ بِهِ الْفَيْءُ الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِهِ ، وَيَطَأُ مِنْ مَلْكِ يَمِينِهِ ، بِأَشْرَفِ وُجُوهِ الْكَسْبِ ، وَأَعْلَى أَنْوَاعِ الْمِلْكِ ، وَهُوَ الْقَهْرُ وَالْغَلَبَةُ ، لَا مِنْ الصَّفْقِ بِالْأَسْوَاقِ .
وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { جُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي } .

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك } الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك ذَلِكَ زَائِدًا إلَى مَا عِنْدَك مِنْ الْأَزْوَاجِ اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ .
فَأَمَّا مَنْ عَدَاهُنَّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ فَلَا ذِكْرَ لِإِحْلَالِهِنَّ هَاهُنَا ؛ بَلْ هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ غَيْرُ هَذَا ؛ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي عِنْدَك ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَحْلَلْنَا لَك كُلَّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجْت وَآتَيْت أَجْرَهَا لِمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِيمَا تَقَدَّمَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا كَرَّرَهُ لِأَجْلِ شَرْطِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّهُ قَالَ : اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك .
قُلْنَا : وَكَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَصِحُّ هَذَا مَعَ هَذَا الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْهِجْرَةِ لَوْ كَانَ كَمَا قُلْتُمْ لَكَانَ شَرْطًا فِي كُلِّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا .
فَأَمَّا أَنْ يَجْعَلَ شَرْطًا فِي الْقَرَابَةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَا يَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ وَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِي سَائِرِ النِّسَاءِ ، فَيَتَزَوَّجُ مِنْهُنَّ مَنْ هَاجَرَ وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ ، فَهَذَا كَلَامٌ رَكِيكٌ مِنْ قَائِلِهِ بَيِّنٌ خَطَؤُهُ لِمُتَأَمِّلِهِ ، حَسْبَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ ، مِنْ أَنَّ الْهِجْرَةَ لَوْ كَانَتْ شَرْطًا فِي كُلِّ زَوْجَةٍ لَمَا كَانَ لِذِكْرِ الْقَرَابَةِ فَائِدَةٌ بِحَالٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك } وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَنْكِحَ مِنْ بَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك إلَّا مَنْ أَسْلَمَ ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ } .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك مِنْهُنَّ إلَّا مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَيْسَ مِنْ أَوْلِيَائِك لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } .
وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لَمْ يَكْمُلْ ، وَمَنْ لَمْ يَكْمُلْ لَمْ يَصْلُحْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي كَمُلَ وَشَرُفَ وَعَظُمَ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَتْ بِعَامَّةٍ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ تَخْتَصُّ بِهِ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي أُمِّ هَانِئٍ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ هَاجَرَتْ ، فَمُنِعَ مِنْهَا لِنَقْصِهَا بِالْهِجْرَةِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { هَاجَرْنَ } خَرَجْنَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَهَذَا أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ بَلَدِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ ، وَالْأَسْمَاءُ إنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى عُرْفِهَا ، وَالْهِجْرَةُ فِي الشَّرِيعَةِ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تَحْتَاجَ إلَى بَيَانٍ ، أَوْ تَخْتَصَّ بِدَلِيلٍ ؛ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ لِمَنْ ادَّعَى غَيْرَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { مَعَك } صُحْبَتِهِ إذْ هَاجَرَ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ يُقَالُ : دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي ، أَيْ فِي صُحْبَتِي ، فَكُنَّا مَعًا ، وَتَقُولُ : دَخَلَ فُلَانٌ مَعِي وَخَرَجَ مَعِي ، أَيْ كَانَ عَمَلُهُ كَعَمَلِي ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ فِيهِ عَمَلُكُمَا وَلَوْ قُلْت : خَرَجْنَا مَعًا لَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا : الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ

، وَالِاقْتِرَانُ فِيهِ ؛ فَصَارَ قَوْلُك : " مَعِي " لِلْمُشَارَكَةِ ، وَقَوْلُك : " مَعًا " لِلْمُشَارَكَةِ وَالِاقْتِرَانِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَبَنَاتِ عَمِّك } فَذَكَرَهُ مُفْرَدًا .
وَقَالَ : { وَبَنَاتِ عَمَّاتِك } فَذَكَرَهُنَّ جَمِيعًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ : وَبَنَاتِ خَالِك فَرْدًا وَبَنَاتِ خَالَاتِك جَمْعًا .
وَالْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ فِي الْإِطْلَاقِ اسْمُ جِنْسٍ كَالشَّاعِرِ وَالرَّاجِزِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ .
وَهَذَا عُرْفٌ لُغَوِيٌّ ؛ فَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ بِغَايَةِ الْبَيَانِ لِرَفْعِ الْإِشْكَالِ ؛ وَهَذَا دَقِيقٌ فَتَأَمَّلُوهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : فِي فَائِدَةِ الْآيَةِ وَلِأَجْلِ مَا سِيقَتْ لَهُ : وَفِي ذَلِكَ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى : نَسْخُ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ اللَّهُ قَدْ أَلْزَمَهُ بِقَوْلِهِ : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ أَحَلَّ لَهُ أَزْوَاجَهُ اللَّوَاتِي عِنْدَهُ ، وَغَيْرَهُنَّ مِمَّنْ سَمَّاهُ مَعَهُنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمَهُ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً فِي جُمْلَةِ النِّسَاءِ ؛ وَإِنَّمَا هِيَ فِي الْمُعَيَّنَاتِ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ وَالْعَمَّاتِ ، وَبَنَاتِ الْخَالِ وَالْخَالَاتِ الْمُسْلِمَاتِ ، وَالْمُهَاجِرَاتِ وَالْمُؤْمِنَاتِ .
الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لَهُ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ ؛ فَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا عَلَى مَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ لَمْ يُبِحْ لَهُ نِكَاحَ الْإِمَاءِ أَيْضًا صِيَانَةً لَهُ ، وَتَكْرِمَةً لِقَدْرِهِ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ قَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } وَقَدْ بَيَّنَّا سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ وَغَيْرِهَا : { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ ، وَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنِّي وَهَبْت لَك نَفْسِي .
الْحَدِيثُ إلَى آخِرِهِ } .
وَوَرَدَ فِي ذَلِكَ لِلْمُفَسِّرِينَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ فِي مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ ، خَطَبَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَجَعَلَتْ أَمْرَهَا إلَى الْعَبَّاسِ عَمِّهِ .
وَقِيلَ : وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَقَتَادَةُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أُمِّ شَرِيكٍ الْأَزْدِيَّةِ ، وَقِيلَ الْعَامِرِيَّةِ ، وَاسْمُهَا غَزِيَّةُ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ، وَعُرْوَةُ ، وَالشَّعْبِيُّ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ .
الرَّابِعُ : أَنَّهَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ .
الْخَامِسُ : أَنَّهَا خَوْلَةُ بِنْتُ حَكِيمٍ السُّلَمِيَّةُ .
قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ : أَمَّا سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ ، وَإِنَّمَا هَذِهِ الْأَقْوَالُ وَارِدَةٌ بِطُرُقٍ مِنْ غَيْرِ خُطُمٍ وَلَا أَزِمَّةٍ ، بِيدَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ أَنَّهُمَا قَالَا : لَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةٌ مَوْهُوبَةٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِي مَجِيءِ الْمَرْأَةِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوُقُوفِهَا عَلَيْهِ ، وَهِبَتِهَا نَفْسَهَا لَهُ مِنْ طَرِيقٍ سَهْلٍ وَغَيْرِهِ فِي الصِّحَاحِ ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي ثَبَتَ سَنَدُهُ ، وَصَحَّ نَقْلُهُ .
وَاَلَّذِي يَتَحَقَّقُ أَنَّهَا لَمَّا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَهَبْت نَفْسِي لَك ؛ فَسَكَتَ عَنْهَا ، حَتَّى قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ لَمْ تَكُنْ لَك

بِهَا حَاجَةٌ .
وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْهِبَةُ غَيْرَ جَائِزَةٍ لَمَا سَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى الْبَاطِلِ إذَا سَمِعَهُ ، حَسْبَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سُكُوتُهُ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ كَانَتْ بِالْإِحْلَالِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ مُنْتَظِرًا بَيَانًا ؛ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّخْيِيرِ ؛ فَاخْتَارَ تَرْكَهَا وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَكَتَ نَاظِرًا فِي ذَلِكَ حَتَّى قَامَ الرَّجُلُ لَهَا طَالِبًا .
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : كُنْت أَغَارُ مِنْ اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَتْ : أَمَا تَسْتَحِي امْرَأَةٌ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } فَقُلْت : مَا أَرَى رَبَّك إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاك .
فَاقْتَضَى هَذَا اللَّفْظُ أَنَّ مَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ عِدَّةٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةً أَمْ لَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَامْرَأَةً } الْمَعْنَى أَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً تَهَبُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ صَدَاقٍ فَإِنَّهُ أَحَلَّ لَهُ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا أَزْوَاجَهُ اللَّاتِي آتَى أُجُورَهُنَّ .
وَهَذَا مَعْنًى يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ؛ فَزَادَهُ فَضْلًا عَلَى أُمَّتِهِ أَنْ أَحَلَّ لَهُ الْمَوْهُوبَةَ ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { مُؤْمِنَةً } وَهَذَا تَقْيِيدٌ مِنْ طَرِيقِ التَّخْصِيصِ بِالتَّعْلِيلِ وَالتَّشْرِيفِ ، لَا مِنْ طَرِيقِ دَلِيلِ الْخِطَابِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَفِي هَذَا الْكِتَابِ فِي أَمْثَالِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْكَافِرَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ .
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ : وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَحْرِيمِ الْحُرَّةِ الْكَافِرَةِ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : وَالصَّحِيحُ عِنْدِي تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ ، وَبِهَذَا يَتَمَيَّزُ عَلَيْنَا فَإِنَّهُ مَا كَانَ مِنْ جَانِبِ الْفَضَائِلِ وَالْكَرَامَةِ فَحَظُّهُ فِيهِ أَكْثَرُ ، وَمَا كَانَ مِنْ جَانِبِ النَّقَائِصِ فَجَانِبُهُ عَنْهَا أَظْهَرُ ، فَجَوَّزَ لَنَا نِكَاحَ الْحَرَائِرِ مِنْ الْكِتَابِيَّاتِ ، وَقُصِرَ هُوَ لِجَلَالَتِهِ عَلَى الْمُؤْمِنَاتِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ مَنْ لَمْ يُهَاجِرْ لِنُقْصَانِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ فَأَحْرَى أَلَّا تَحِلَّ لَهُ الْكِتَابِيَّةُ الْحُرَّةُ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { إنْ وَهَبَتْ } : قُرِئَتْ بِالْفَتْحِ فِي الْأَلِفِ وَكَسْرِهَا ، وَقَرَأَتْ الْجَمَاعَةُ فِيهَا بِالْكَسْرِ ، عَلَى مَعْنَى الشَّرْطِ .
تَقْدِيرُهُ وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَك ، لَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ سِوَى ذَلِكَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَوَابُ إنْ مَحْذُوفًا ، وَتَقْدِيرُهُ إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ حَلَّتْ لَهُ وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْعَرَبِيَّةِ ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ .
وَيُعْزَى إلَى الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَهَا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ امْرَأَةً وَاحِدَةً حَلَّتْ لَهُ ، لِأَجْلِ أَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا ، وَهَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ ، وَهِيَ لَا تَجُوزُ تِلَاوَةً ، وَلَا تُوجِبُ حُكْمًا .
الثَّانِي : أَنْ تُوجِبَ أَنْ يَكُونَ إحْلَالًا لِأَجْلِ هِبَتِهَا لِنَفْسِهَا ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّهَا حَلَالٌ لَهُ قَبْلَ الْهِبَةِ بِالصَّدَاقِ .
وَقَدْ نُسِبَ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْقِطُ فِي قِرَاءَتِهِ " أَنْ " فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَإِنَّمَا كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُبَيِّنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمَوْهُوبَةِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْهِبَةِ ، وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ : { خَالِصَةً لَك } لَا مِنْ جِهَةِ الشَّرْطِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ هَذَا الشَّرْطِ وَأَمْثَالِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَهَبَتْ نَفْسَهَا } وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَلَكِنَّهُ عَلَى صِفَاتٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ جُمْلَةِ الْمُعَاوَضَاتِ وَإِجَارَةٌ مُبَايِنَةٌ لِلْإِجَارَاتِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ الصَّدَاقُ أُجْرَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْلُهُ : { إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا } مَعْنَاهُ أَنَّهَا إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَيَّرٌ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ نَكَحَهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا ؛ وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ ، وَجَعَلَهُ قُرْآنًا يُتْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّ مِنْ مَكَارِمِ أَخْلَاقِ نَبِيِّنَا أَنْ يَقْبَلَ مِنْ الْوَاهِبِ هِبَتَهُ ، وَيَرَى الْأَكَارِمُ أَنَّ رَدَّهَا هُجْنَةٌ فِي الْعَادَةِ ، وَوَصْمَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ ، وَإِذَايَةٌ لِقَلْبِهِ ؛ فَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّ رَسُولِهِ لِرَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ ، وَلِيُبْطِلَ ظَنَّ النَّاسِ فِي عَادَتِهِمْ وَقَوْلِهِمْ .

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ : { خَالِصَةً لَك } وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : خَالِصَةً لَك : إذَا وَهَبَتْ لَك نَفْسَهَا أَنْ تَنْكِحَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَقَدْ أَنْفَذَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ نِكَاحَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فِي السَّمَاءِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ مِنْ الْخَلْقِ ، وَلَا بَذْلِ صَدَاقٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بِحُكْمِ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ وَمَالِك الْعَالَمِينَ .
الثَّانِي : نِكَاحُهُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ ؛ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ عَقْدَ نِكَاحِهَا بِلَفْظِ الْهِبَةِ خَالِصًا لَك ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِك [ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ] ؛ قَالَهُ الشَّعْبِيُّ .
قَالَ الْقَاضِي : الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي رَاجِعَانِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ ، إلَّا أَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِي أَصَحُّ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الصَّدَاقِ مَذْكُورٌ فِي الْآيَةِ ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ وَهُوَ قَوْلُهُ : { إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } فَأَمَّا سُقُوطُ الْوَلِيِّ فَلَيْسَ لَهُ فِيهَا ذِكْرٌ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَلِيِّ النِّكَاحَ ؛ وَإِنَّمَا شُرِعَ لِقِلَّةِ الثِّقَةِ بِالْمَرْأَةِ فِي اخْتِيَارِ أَعْيَانِ الْأَزْوَاجِ ، وَخَوْفِ غَلَبَةِ الشَّهْوَةِ فِي نِكَاحِ غَيْرِ الْكُفْءِ ، وَإِلْحَاقِ الْعَارِ بِالْأَوْلِيَاءِ ، وَهَذَا مَعْدُومٌ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

وَقَدْ خَصَّصَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ بِمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ فِي بَابِ الْفَرْضِ وَالتَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ، مَزِيَّةً عَلَى الْأُمَّةِ ، وَهَيْبَةً لَهُ ، وَمَرْتَبَةً خُصَّ بِهَا ؛ فَفُرِضَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ ، وَمَا فُرِضَتْ عَلَى غَيْرِهِ ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أَشْيَاءُ وَأَفْعَالٌ لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِمْ ؛ وَحُلِّلَتْ لَهُ أَشْيَاءُ لَمْ تُحَلَّلْ لَهُمْ ، مِنْهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، أَفَادَنِيهَا الشَّهِيدُ الْأَكْبَرُ عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ هَاهُنَا إلَى جُمْلَةِ الْأَمْرِ لِمَكَانِ الْفَائِدَةِ فِيهِ ، وَتَعَلُّقِ الْمَعْنَى فِيهِ إشَارَةً مُوجِزَةً ، تَبِينُ لِلَّبِيبِ وَتُبْصِرُ الْمُرِيبَ ، فَنَقُولُ : أَمَّا قِسْمُ الْفَرِيضَةِ فَجُمْلَتُهُ تِسْعَةٌ : الْأَوَّلُ : التَّهَجُّدُ بِاللَّيْلِ .
الثَّانِي : الضُّحَى .
الثَّالِثُ : الْأَضْحَى .
الرَّابِعُ : الْوِتْرُ ، وَهُوَ يَدْخُلُ فِي قِسْمِ التَّهَجُّدِ .
الْخَامِسُ : السِّوَاكُ .
السَّادِسُ : قَضَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا .
السَّابِعُ : مُشَاوِرَةُ ذَوِي الْأَحْلَامِ فِي غَيْرِ الشَّرَائِعِ .
الثَّامِنُ : تَخْيِيرُ النِّسَاءِ .
التَّاسِعُ : كَانَ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ .
وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْرِيمِ فَجُمْلَتُهُ عَشْرَةٌ : الْأَوَّلُ : تَحْرِيمُ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ .
الثَّانِي : صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَيْهِ ، وَفِي آلِهِ تَفْصِيلٌ بِاخْتِلَافٍ .
الثَّالِثُ : خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ خِلَافَ مَا يُضْمِرُ ، أَوْ يَنْخَدِعَ عَمَّا يُحِبُّ ، وَقَدْ ذَمَّ بَعْضَ الْكُفَّارِ عِنْدَ إذْنِهِ ؛ ثُمَّ أَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ عِنْدَ دُخُولِهِ .
الرَّابِعُ : حَرَّمَ عَلَيْهِ إذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا عَنْهُ ، أَوْ يَحْكُمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُحَارِبِهِ ، وَيَدْخُلُ مَعَهُ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَيْرِ .
الْخَامِسُ : الْأَكْلُ مُتَّكِئًا .
السَّادِسُ : أَكْلُ الْأَطْعِمَةِ الْكَرِيهَةِ الرَّائِحَةِ .
السَّابِعُ :

التَّبَدُّلُ بِأَزْوَاجِهِ .
الثَّامِنُ : نِكَاحُ امْرَأَةٍ تَكْرَهُ صُحْبَتَهُ .
التَّاسِعُ : نِكَاحُ الْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ .
الْعَاشِرُ : نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا قِسْمُ التَّحْلِيلِ فَصَفِيُّ الْمَغْنَمِ .
الثَّانِي : الِاسْتِبْدَادُ بِخُمْسِ الْخُمْسِ أَوْ الْخُمْسِ .
الثَّالِثُ : الْوِصَالُ .
الرَّابِعُ : الزِّيَادَةُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ .
الْخَامِسُ : النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ .
السَّادِسُ : النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ .
السَّابِعُ : النِّكَاحُ بِغَيْرِ صَدَاقٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي نِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، فَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الثَّامِنُ : نِكَاحُهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ، فَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّهُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
التَّاسِعُ : سُقُوطُ الْقَسَمِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ عَنْهُ ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } .
الْعَاشِرُ : إذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى امْرَأَةٍ وَجَبَ عَلَى زَوْجِهَا طَلَاقُهَا ، وَحَلَّ لَهُ نِكَاحُهَا .
قَالَ الْقَاضِي : هَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَمْرَ فِي قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ كَيْفَ وَقَعَ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهُ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ؛ وَفِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ ، وَيَتَعَلَّقُ بِنِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ أَيْضًا .
الثَّانِيَ عَشَرَ : دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَفِي حَقِّنَا فِيهِ اخْتِلَافٌ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : الْقِتَالُ بِمَكَّةَ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ } .
الرَّابِعَ عَشَرَ : أَنَّهُ لَا يُورَثُ .
قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا ذَكَرْته فِي قِسْمِ التَّحْلِيلِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَارَبَ الْمَوْتَ بِالْمَرَضِ زَالَ عَنْهُ

أَكْثَرُ مِلْكِهِ ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ خَالِصًا ، وَبَقِيَ مِلْكُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا تَقَدَّمَ فِي آيَةِ الْمِيرَاثِ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : بَقَاءُ زَوْجِيَّتِهِ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ .
السَّادِسَ عَشَرَ : إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً ، هَلْ تَبْقَى حُرْمَتُهُ عَلَيْهَا فَلَا تُنْكَحُ ؟ .
وَهَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ سَتَأْتِيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ فِي الْأَقْسَامِ الْمَذْكُورَةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا مَشْرُوحَةٌ فِي تَفَارِيقِهَا ، حَيْثُ وَقَعَتْ مَجْمُوعَةٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْمَوْسُومِ بِالنَّيِّرَيْنِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : تَكَلَّمَ النَّاسُ فِي إعْرَابِ قَوْلِهِ : { خَالِصَةً لَك } ، وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ الْوَهْمُ فِيهِ ، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ فِي مُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ .
وَحَقِيقَتُهُ عِنْدِي أَنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرٍ مُتَّصِلٍ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمُظْهَرُ ، تَقْدِيرُهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك ، وَأَحْلَلْنَا لَك امْرَأَةً مُؤْمِنَةً ، أَحْلَلْنَاهَا خَالِصَةً بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَبِغَيْرِ صَدَاقٍ ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : قِيلَ : هُوَ خُلُوصُ النِّكَاحِ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ انْبَنَى مَعْنَى الْخُلُوصِ هَاهُنَا .
وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّا إنْ قُلْنَا : إنَّ نِكَاحَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْوَلِيِّ وَعَلَيْهِ يَدُلُّ { قَوْلُهُ لِعَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبِهِ ، حِينَ زَوَّجَ أُمَّهُ : قُمْ يَا غُلَامُ فَزَوِّجْ أُمَّك } .
وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ هَذَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَوْهُوبَةِ : وَهَبْت نَفْسِي لَك لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ ، وَلَا بُدَّ بَعْدَهُ مِنْ عَقْدٍ مَعَ الْوَلِيِّ ، فَهَلْ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِهِ وَصِفَتِهِ أَمْ لَا ؟ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى لَا ذِكْرَ لِلْآيَةِ فِيهَا .
الثَّانِي : أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْآيَةِ خُلُوُّ النِّكَاحِ مِنْ الصَّدَاقِ ، وَلَهُ جَاءَ الْبَيَانُ ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْخُلُوصُ الْمَخْصُوصُ بِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا ، فَذَكَرَهُ فِي جَنْبَتِهِ بِلَفْظِ النِّكَاحِ الْمَخْصُوصِ بِهَذَا الْعَقْدِ ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ وَهَبَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ صَدَاقٍ ، فَإِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَزَوَّجَ ، فَيَكُونُ النِّكَاحُ حُكْمًا مُسْتَأْنَفًا ، لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، إلَّا فِي الْمَقْصُودِ مِنْ الْهِبَةِ ، وَهُوَ سُقُوطُ الْعِوَضِ وَهُوَ الصَّدَاقُ .
الرَّابِعُ : إنَّا لَا نَقُولُ : إنَّ النِّكَاحَ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ ؛ فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك ، وَأَحْلَلْنَا لَك الْمَرْأَةَ الْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا خَالِصَةً ، فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ : { خَالِصَةً } حَالًا مِنْ الصِّفَةِ الَّتِي هِيَ ذِكْرُ الْهِبَةِ دُونَ الْمَوْصُوفِ الَّذِي هُوَ الْمَرْأَةُ وَسُقُوطُ الصَّدَاقِ ، لَكَانَ إخْلَالًا مِنْ الْقَوْلِ ، وَعُدُولًا عَنْ الْمَقْصُودِ فِي اللَّفْظِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَرَبِيَّةً ، وَلَا مَعْنًى .
أَلَا تَرَى أَنَّك لَوْ

قُلْت : أُحَدِّثُك بِالْحَدِيثِ الرُّبَاعِيِّ خَالِصًا لَك دُونَ أَصْحَابِك لَمَا كَانَ رُجُوعُ الْحَالِ إلَّا إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ ، وَهُوَ الْحَدِيثُ ؛ هَذَا عَلَى نِظَامِ التَّقْدِيرِ ، فَلَوْ قُلْت عَلَى لَفْظِ أُحَدِّثُك بِحَدِيثٍ إنْ وَجَدْته بِأَرْبَعِ رِوَايَاتٍ خَالِصًا ذَلِكَ دُونَ أَصْحَابِك لَرَجَعَتْ الْحَالُ إلَى الْمَقْصُودِ الْمَوْصُوفِ أَيْضًا ، دُونَ الصِّفَةِ ؛ وَهَذَا لَا يَفْهَمُهُ إلَّا الْمُتَحَقِّقُونَ فِي الْعَرَبِيَّةِ ، وَمَا أَرَى مَنْ عَزَا إلَى الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : { خَالِصَةً } يَرْجِعُ إلَى النِّكَاحِ بِلَفْظِ الْهِبَةِ إلَّا قَدْ وَهَمَ ، لِأَجْلِ مَكَانَتِهِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ .
وَالنِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ جَائِزٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا ، مَعْرُوفٌ بِدَلِيلِهِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } فَائِدَتُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ وَإِنْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ عِنْدَنَا فَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دُخُولٌ ؛ لِأَنَّ تَصْرِيفَ الْأَحْكَامِ إنَّمَا تَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ الْإِسْلَامِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ عِلْمِ اللَّهِ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ وَكِتَابِ الْأُصُولِ .
وَكَذَلِكَ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : وَهِيَ قَوْلُهُ : ( مَا فَرَضْنَا ) وَبَيَّنَّا مَعْنَى الْفَرْضِ ، وَالْقَدْرُ الْمُخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ عِلْمَهُ سَابِقٌ بِكُلِّ مَا حَكَمَ بِهِ ، وَقَرَّرَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ فِي النِّكَاحِ وَأَعْدَادِهِ وَصِفَاتِهِ ، وَمِلْكِ الْيَمِينِ وَشُرُوطِهِ ، بِخِلَافِهِ ، فَهُوَ حُكْمٌ سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ ، وَقَضَاءٌ حَقَّ بِهِ الْقَوْلُ لِلنَّبِيِّ فِي تَشْرِيعِهِ وَلِلْمُنْبَأِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِ بِتَكْلِيفِهِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ } أَيْ ضِيقٌ فِي أَمْرٍ أَنْتَ فِيهِ مُحْتَاجٌ إلَى السَّعَةِ ، كَمَا أَنَّهُ ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرٍ لَا يَسْتَطِيعُونَ فِيهِ شَرْطَ السَّعَةِ عَلَيْهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } قَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى ذَلِكَ فِي كِتَابِ " الْأَمَدِ الْأَقْصَى " بَيَانًا شَافِيًا .
وَالْمِقْدَارُ الَّذِي يَنْتَظِمُ بِهِ الْكَلَامُ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمْ يُؤَاخِذْ النَّاسَ بِذُنُوبِهِمْ ، بَلْ بِقَوْلِهِمْ ، وَرَحِمَهُمْ وَشَرَّفَ رُسُلَهُ الْكِرَامَ ، فَجَعَلَهُمْ فَوْقَهُمْ ، وَلَمْ يُعْطِ عَلَى مِقْدَارِ مَا يَسْتَحِقُّونَ ، إذْ لَا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ بَلْ زَادَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ، وَعَمَّهُمْ بِرِفْقِهِ وَلُطْفِهِ ، وَلَوْ أَخَذَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ ، وَأَعْطَاهُمْ عَلَى قَدْرِ حُقُوقِهِمْ عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ ذَلِكَ فِيهِمْ ، لَمَا وَجَبَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ ، وَلَا غُفِرَ لِلْخَلْقِ ذَنْبٌ ؛ وَلَكِنَّهُ أَنْعَمَ عَلَى الْكُلِّ ، وَقَدَّمَ مَنَازِلَ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَأَعْطَى كُلًّا عَلَى قَدْرِ عِلْمِهِ وَحُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ .

الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ رَوَى أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ { أَنَّ نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَشْفَقْنَ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِك وَمَالِك مَا شِئْت ، فَكَانَتْ مِنْهُنَّ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ ، وَجُوَيْرِيَةُ ، وَصَفِيَّةُ ، وَمَيْمُونَةُ ، وَأُمُّ حَبِيبَةَ ، غَيْرُ مَقْسُومٍ لَهُنَّ وَكَانَ مِمَّنْ آوَى عَائِشَةُ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ ، وَزَيْنَبُ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ ، يَضُمُّهُنَّ ، وَيَقْسِمُ لَهُنَّ } قَالَهُ الضَّحَّاكُ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَرَادَ مَنْ شِئْت أَمْسَكْت ، وَمَنْ شِئْت طَلَّقْت .
الثَّالِثُ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَطَبَ امْرَأَةً لَمْ يَكُنْ لِرَجُلٍ أَنْ يَخْطِبَهَا حَتَّى يَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ يَتْرُكَهَا .
وَالْمَعْنَى اُتْرُكْ نِكَاحَ مَنْ شِئْت ، وَانْكِحْ مَنْ شِئْت ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
الرَّابِعُ : تَعْزِلُ مَنْ شِئْت ، وَتَضُمُّ مَنْ شِئْت ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الْخَامِسُ : قَالَ أَبُو رَزِينٍ : تَعْزِلُ مَنْ شِئْت عَنْ الْقَسْمِ ، وَتَضُمُّ مَنْ شِئْت إلَى الْقَسْمِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَصْحِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : أَمَّا قَوْلُ أَبِي رَزِينٍ فَلَمْ يَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحَةٍ ؛ وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَرُوِيَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ { سَوْدَةَ لَمَّا كَبِرَتْ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اجْعَلْ يَوْمِي مِنْك لِعَائِشَةَ ، فَكَانَ

يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ يَوْمَيْنِ : يَوْمَهَا ، وَيَوْمَ سَوْدَةَ } .
وَأَمَّا قَوْلُ الْحَسَنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ وَلَا حَسَنٍ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ امْتِنَاعَ خِطْبَةِ مَنْ يَخْطُبُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ لَهُ ذِكْرٌ وَلَا دَلِيلٌ فِي شَيْءٍ مِنْ مَعَانِي الْآيَةِ وَلَا أَلْفَاظِهَا .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } يَعْنِي تُؤَخِّرُ وَتَضُمُّ ، وَيُقَالُ : أَرْجَأْته إذَا أَخَّرْته ، وَآوَيْت فُلَانًا إذَا ضَمَمْته وَجَعَلْته فِي ذُرَاك وَفِي جُمْلَتِك ، فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ سِتَّةٌ : الْأَوَّلُ : تُطَلِّقُ مَنْ شِئْت ، وَتُمْسِكُ مَنْ شِئْت ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : تَتْرُكُ مَنْ شِئْت ، وَتَنْكِحُ مَنْ شِئْت ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ .
الرَّابِعُ : تَقْسِمُ لِمَنْ شِئْت ، وَتَتْرُكُ قَسْمَ مَنْ شِئْت .
الْخَامِسُ : مَا فِي الصَّحِيحِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْت أَغَارُ مِنْ اللَّائِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقُولُ : أَتَهَبُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ؟ فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ } .
قُلْت : مَا أَرَى رَبَّك إلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاك .
السَّادِسُ : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَأْذِنُ فِي يَوْمِ الْمَرْأَةِ مِنَّا بَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْك مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت فَلَا جُنَاحَ عَلَيْك } ، فَقِيلَ لَهَا : مَا كُنْت تَقُولِينَ ؟ قَالَتْ : كُنْت أَقُولُ : إنْ كَانَ الْأَمْرُ إلَيَّ فَإِنِّي لَا أُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أُوثِرَ عَلَيْك أَحَدًا } .
وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ يَتَدَاخَلُ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا ، وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ .
وَالْمَعْنَى الْمُرَادُ هُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُخَيَّرًا فِي أَزْوَاجِهِ إنْ شَاءَ أَنْ يَقْسِمَ قَسَمَ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَ الْقَسْمَ تَرَكَ ، لَكِنَّهُ كَانَ يَقْسِمُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ دُونَ فَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنَّهُ قِيلَ لَهُ : انْكِحْ مَنْ شِئْت ، وَاتْرُكْ مَنْ شِئْت ، فَقَدْ أَفَادَهُ قَوْلُهُ : {

إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُك مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْك وَبَنَاتِ عَمِّك وَبَنَاتِ عَمَّاتِك وَبَنَاتِ خَالِك وَبَنَاتِ خَالَاتِك اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَك مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } .
حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ فِي ذَلِكَ وَالِانْتِهَاءِ إلَى آخِرِ الْآيَةِ ، فَهَذَا الْقَوْلُ يُحْمَلُ عَلَى فَائِدَةٍ مُجَرَّدَةٍ ، فَأَمَّا وُجُوبُ الْقَسْمِ فَإِنَّ النِّكَاحَ يَقْتَضِيهِ ، وَيَلْزَمُ الزَّوْجَ ؛ فَخُصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِأَنْ جُعِلَ الْأَمْرُ فِيهِ إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يُقَالُ : إنَّ الْقَسْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فِي الْقَسْمِ ، وَيَقُولُ : { هَذِهِ قُدْرَتِي فِيمَا أَمْلِكُ ، فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا أَمْلِكُ يَعْنِي قَلْبَهُ } " لِإِيثَارِ عَائِشَةَ دُونَ أَنْ يَكُونَ يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ فِعْلِهِ .
قُلْنَا : ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَضْلِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاهُ سُقُوطَهُ ؛ وَكَانَ هُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَزِمُهُ تَطَيُّبًا لِنُفُوسِهِنَّ ، وَصَوْنًا لَهُنَّ عَنْ أَقْوَالِ الْغَيْرَةِ الَّتِي رُبَّمَا تَرَقَّتْ إلَى مَا لَا يَنْبَغِي .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَمَنْ ابْتَغَيْت مِمَّنْ عَزَلْت } يَعْنِي طَلَبْت ، وَالِابْتِغَاءُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الطَّلَبُ ، وَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِرَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { مِمَّنْ عَزَلْت } يَعْنِي أَزَلْت ، وَالْعُزْلَةُ الْإِزَالَةُ ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ فِي اللَّفْظَيْنِ مَفْهُومٌ .
وَالْمَعْنَى : وَمَنْ أَرَدْت أَنْ تَضُمَّهُ وَتُؤْوِيَهُ بَعْدَ أَنْ أَزَلْته فَقَدْ نِلْت ذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَوَجَدْته تَحْقِيقًا لِقَوْلِ عَائِشَةَ :

لَا أَرَى رَبُّك إلَّا وَهُوَ يُسَارِعُ فِي هَوَاك ؛ فَإِنْ شَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُؤَخِّرَ أَخَّرَ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُقَدِّمَ اسْتَقْدَمَ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَقْلِبَ الْمُؤَخَّرَ مُقَدَّمًا وَالْمُقَدَّمَ مُؤَخَّرًا فَعَلَ ، لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا حَرَجَ فِيهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : وَقَدْ بَيَّنَّا الْجُنَاحَ فِيمَا تَقَدَّمَ ، وَأَوْضَحْنَا حَقِيقَتَهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } : الْمَعْنَى أَنَّ الْأَمْرَ إذَا كَانَ الْإِدْنَاءُ وَالْإِقْصَاءُ لَهُنَّ ، وَالتَّقْرِيبُ وَالتَّبْعِيدُ إلَيْك ، تَفْعَلُ مِنْ ذَلِكَ مَا شِئْت ، كَانَ أَقْرَبَ إلَى قُرَّةِ أَعْيُنِهِنَّ ، وَرَاحَةِ قُلُوبِهِنَّ ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ كَانَ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيَ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا لَمْ يُقْنِعْهُ مَا أُوتِيَ مِنْهُ ، وَاشْتَدَّتْ غَيْرَتُهُ عَلَيْهِ ، وَعَظُمَ حِرْصُهُ فِيهِ ، فَكَانَ مَا فَعَلَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ مِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَيْهِ فِي أَحْوَالِ أَزْوَاجِهِ أَقْرَبَ إلَى رِضَاهُنَّ مَعَهُ ، وَاسْتِقْرَارِ أَعْيُنِهِنَّ عَلَى مَا يُسْمَحُ بِهِ مِنْهُ لَهُنَّ ، دُونَ أَنْ تَتَعَلَّقَ قُلُوبُهُنَّ بِأَكْثَرَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي : الْمَسْأَلَةِ الثَّامِنَةِ : { وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } الْمَعْنَى : وَتَرْضَى كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمَا أُوتِيَتْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، لِعِلْمِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ حَقٍّ لَهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ تَفَضَّلَ بِهِ عَلَيْهَا ، وَقَلِيلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ ، وَاسْمُ زَوْجَتِهِ ، وَالْكَوْنُ فِي عِصْمَتِهِ ، وَمَعَهُ فِي الْآخِرَةِ فِي دَرَجَتِهِ ، فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ كَبِيرٌ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } وَقَدْ بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَهُوَ بَيِّنٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَنَّ الْبَارِئَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ .
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ، وَيَطَّلِعُ عَلَى الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ .
وَوَجْهُ تَخْصِيصِهِ بِالذِّكْرِ هَاهُنَا التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِنَا مِنْ مَيْلٍ إلَى بَعْضِ مَا عِنْدَنَا مِنْ النِّسَاءِ دُونَ بَعْضٍ ، وَهُوَ يَسْمَحُ فِي ذَلِكَ ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ أَنْ يَصْرِفَ قَلْبَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمِيلِ إنْ كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْرِفَ فَعَلَهُ ، وَلَا يُؤَاخِذُ الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ بِمَا فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يُؤَاخِذُ بِمَا يَكُونُ مِنْ فِعْلٍ فِيهِ ، وَإِلَى ذَلِكَ يَعُودُ قَوْلُهُ : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا } وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ :

الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَك حُسْنُهُنَّ إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رُوِيَ { أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ ، لَمَّا تُوُفِّيَ زَوْجُهَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْجَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُسْنُهَا ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ { لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ } اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ كَلِمَةَ " بَعْدُ " ظَرْفٌ بُنِيَ عَلَى الضَّمِّ هَاهُنَا ، لِمَا اُقْتُرِنَ بِهِ مِنْ الْحَذْفِ ، فَصَارَ بِهَذِهِ الدَّلَالَةِ كَأَنَّهُ بَعْضُ كَلِمَةٍ ، فَرُبِطَ عَلَى حَرْفٍ وَاحِدٍ لِيَتَبَيَّنَ ذَلِكَ .
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ مَنْ عِنْدَك ، مِنْهُنَّ اللَّوَاتِي اخْتَرْنَك عَلَى الدُّنْيَا فَقُصِرَ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَجْلِ اخْتِيَارِهِنَّ لَهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : مِنْ بَعْدِ مَا أَحْلَلْنَا لَك ، وَهِيَ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ؛ قَالَهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ .
الثَّالِثُ : لَا يَحِلُّ لَك نِكَاحُ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ ؛ قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَمُجَاهِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي التَّنْقِيحِ : أَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمَعْنَى لَا يَحِلُّ لَك نِكَاحُ غَيْرِ الْمُسْلِمَاتِ فَدَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ؛ لِأَنَّ الْآيَةَ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالثَّانِي قَوْلُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ .
فَإِذَا قُلْنَا بِقَوْلِ أُبَيٍّ ، وَحَكَمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ لَا يَحِلُّ لَك النِّسَاءُ مِنْ بَعْدِ مَا أَحْلَلْنَا لَك مِنْ أَزْوَاجِك اللَّاتِي آتَيْت أُجُورَهُنَّ قَرَابَتَك الْمُؤْمِنَاتِ الْمُهَاجِرَاتِ ، وَالْوَاهِبَةَ نَفْسَهَا بَقِيَ عَلَى التَّحْرِيمِ مَنْ عَدَاهُنَّ .
وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ ، وَيَقْوَى فِي النَّفْسِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ كَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ ، وَأُمُّ سَلَمَةَ : لَمْ يَمُتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أُحِلَّ لَهُ النِّسَاءُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ ، وَكَأَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَحَلَّ لَهُ النِّسَاءَ حَتَّى الْمَوْتِ قُصِرَ عَلَيْهِنَّ كَمَا قُصِرْنَ عَلَيْهِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَتِهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ

، وَجَمَاعَةٌ وَجَعَلُوا حَدِيثَ عَائِشَةَ سُنَّةً نَاسِخَةً ، وَهُوَ حَدِيثٌ وَاهٍ ، وَمُتَعَلَّقٌ ضَعِيفٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ ؛ فَتَمَّ تَمَامُ الْقَوْلِ وَبَيَانُهُ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَةً مِنْ أَزْوَاجِك ، وَتَنْكِحَ غَيْرَهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الثَّانِي : لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَبَدَّلَ الْمُسْلِمَةَ الَّتِي عِنْدَك بِمُشْرِكَةٍ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
الثَّالِثُ : لَا تُعْطِي زَوْجَك فِي زَوْجَةٍ أُخْرَى ، كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، لَهُ يَشْهَدُ النَّصُّ ، وَعَلَيْهِ يَقُومُ الدَّلِيلُ .
وَأَمَّا قَوْلُ مُجَاهِدٍ فَمَبْنِيٌّ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَهَا ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ ، وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ بِمَا يُبْطِلُ فَائِدَتَهُ وَيُسْقِطُ عُمُومَهُ ، وَيُبْطِلُ حُكْمَهُ ، وَيَذْهَبُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ فَضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ ؛ إذْ التَّعَاوُضُ فِي الزَّوْجَاتِ لَا يَجُوزُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ : { بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } ، وَهَذَا الْحُكْمُ لَا يَجُوزُ لَا بِهِنَّ وَلَا بِغَيْرِهِنَّ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ اسْتِبْدَالَ الْجَاهِلِيَّةِ لَقَالَ : أَزْوَاجَك بِأَزْوَاجٍ ، وَمَتَى جَاءَ اللَّفْظُ خَاصًّا فِي حُكْمٍ لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ لِضَرُورَةٍ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك } الْمَعْنَى فَإِنَّهُ حَلَالٌ لَك عَلَى الْإِطْلَاقِ الْمَعْلُومِ فِي الشَّرْعِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي إحْلَالِ الْكَافِرَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكَافِرَةِ وَوَطْؤُهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُك } وَهَذَا عُمُومٌ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ خَوْفِ الْعَنَتِ ؛ وَهَذَا الشَّرْطُ مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مَعْصُومٌ ؛ فَأَمَّا وَطْؤُهَا بِمَلْكِ الْيَمِينِ فَيَتَرَدَّدُ فِيهِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ الْكَافِرَةِ ، وَلَا وَطْؤُهَا بِمَلْكِ الْيَمِينِ ، تَنْزِيهًا لِقَدْرِهِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْكَافِرَةِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } ، فَكَيْفَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ : { اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَك } ، فَشَرَطَ فِي الْإِحْلَالِ لَهُ الْهِجْرَةَ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ الْكَافِرَةَ تَحِلُّ لَهُ ،

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا } وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الرَّقِيبِ فِي أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْمَعْنَى الْمُخْتَصُّ بِهِ هَاهُنَا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عِلْمًا مُسْتَمِرًّا ، وَيَحْكُمُ فِيهَا حُكْمًا مُسْتَقِرًّا ، وَيَرْبِطُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ رَبْطًا يَنْتَظِمُ بِهِ الْوُجُودُ ، وَيَصِحُّ بِهِ التَّكْلِيفُ .

الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ وَلَكِنْ إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } .
فِيهَا ثَمَانِ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ : كِتَابِ الْبُخَارِيِّ ، وَمُسْلِمٍ ، وَالتِّرْمِذِيِّ وَاللَّفْظُ لَهُ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ : { تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بِأَهْلِهِ ، فَصَنَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ أُمِّي حَيْسًا ، فَجَعَلَتْهُ فِي تَوْرٍ ، وَقَالَتْ لِي : يَا أَنَسُ اذْهَبْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ : بَعَثَتْ بِهِ إلَيْك أُمِّي ، وَهِيَ تُقْرِئُك السَّلَامَ ، وَتَقُولُ لَك : إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : فَذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْت : إنَّ أُمِّي تُقْرِئُك السَّلَامَ وَتَقُولُ لَك : إنَّ هَذَا لَك مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : ضَعْهُ ثُمَّ قَالَ : اذْهَبْ فَادْعُ لِي فُلَانًا وَفُلَانًا ، وَمَنْ لَقِيت وَسَمَّى رِجَالًا فَدَعَوْت مَنْ سَمَّى ، وَمَنْ لَقِيت .
قَالَ : قُلْت لِأَنَسٍ : عَدَدُكُمْ كَمْ كَانُوا ؟ قَالَ : زُهَاءَ ثَلَاثِمِائَةٍ .
فَقَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَنَسُ هَاتِ التَّوْرَ قَالَ : فَدَخَلُوا حَتَّى امْتَلَأَتْ الصُّفَّةُ وَالْحُجْرَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِيَتَحَلَّقْ عَشْرَةٌ عَشْرَةٌ ،

وَلْيَأْكُلْ كُلُّ إنْسَانٍ مِمَّا يَلِيهِ قَالَ : فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا قَالَ : فَخَرَجَتْ طَائِفَةٌ وَدَخَلَتْ طَائِفَةٌ ، حَتَّى أَكَلُوا كُلُّهُمْ قَالَ : قَالَ لِي : يَا أَنَسُ ، ارْفَعْ قَالَ : فَرَفَعْت ، فَمَا أَدْرِي حِينَ وَضَعْت كَانَ أَكْثَرَ أَمْ حِينَ رَفَعْت قَالَ : وَجَلَسَ مِنْهُمْ طَوَائِفُ يَتَحَدَّثُونَ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ وَزَوْجَتُهُ مُوَلِّيَةٌ وَجْهَهَا إلَى الْحَائِطِ ، فَثَقُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ عَلَى نِسَائِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَلَمَّا رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَجَعَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ ثَقُلُوا عَلَيْهِ ، فَابْتَدَرُوا الْبَابَ ، وَخَرَجُوا كُلُّهُمْ ، وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَرْخَى السِّتْرَ ، وَدَخَلَ ، وَأَنَا جَالِسٌ فِي الْحُجْرَةِ ، فَلَمْ يَلْبَثْ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى خَرَجَ عَلَيَّ ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
قَالَ أَنَسٌ : أَنَا أَحْدَثُ النَّاسِ عَهْدًا بِهَذِهِ الْآيَاتِ ، وَحُجِبَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
الثَّانِي : رَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ { عَائِشَةَ قَالَتْ : كُنْت آكُلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْسًا ، فَمَرَّ عُمَرُ فَدَعَاهُ ، فَأَكَلَ ، فَأَصَابَ أُصْبُعُهُ أُصْبُعِي ، فَقَالَ حِينَئِذٍ : لَوْ أُطَاعُ فِيكُنَّ مَا رَأَتْكُنَّ عَيْنٌ ؛ فَنَزَلَ الْحِجَابُ } .
الثَّالِثُ : مَا رَوَى عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إلَى الْمَنَاصِعِ وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ ، يَتَبَرَّزْنَ فِيهِ ، فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ : اُحْجُبْ نِسَاءَك ، فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي ، وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً ، فَنَادَاهَا عُمَرُ : قَدْ عَرَفْنَاك يَا سَوْدَةُ ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ قَالَتْ عَائِشَةُ : فَأُنْزِلَ الْحِجَابُ .
الرَّابِعُ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ : أُمِرَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَابِ ، فَقَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ : يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؛ إنَّك تَغَارُ عَلَيْنَا وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْنَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } .
الْخَامِسُ : رَوَى قَتَادَةُ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَكَلُوا وَأَطَالُوا الْحَدِيثَ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ ، وَيَسْتَحْيِي مِنْهُمْ ، وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ .
السَّادِسُ : رَوَى أَنَسٌ أَنَّ عُمَرَ قَالَ : قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ نِسَاءَك يَدْخُلُ عَلَيْهِنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ، فَلَوْ أَمَرْتَهُنَّ أَنْ يَحْتَجِبْنَ ؛ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَذِهِ الرِّوَايَاتُ ضَعِيفَةٌ إلَّا الْأُولَى وَالسَّادِسَةَ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَبَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحِجَابَ نَزَلَ يَوْمَ الْبِنَاءِ بِزَيْنَبِ ، وَلَا يَصِحُّ مَا ذُكِرَ فِيهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { بُيُوتَ النَّبِيِّ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُ الرَّجُلِ إذْ جَعَلَهُ مُضَافًا إلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قَالَ : { وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ } .
قُلْنَا : إضَافَةُ الْبُيُوتِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إضَافَةُ مِلْكٍ ، وَإِضَافَةُ الْبُيُوتِ إلَى الْأَزْوَاجِ إضَافَةُ مَحَلٍّ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهُ جَعَلَ فِيهَا الْإِذْنَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْإِذْنُ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمَالِكِ ، وَبِدَلِيلِ قَوْلِهِ : { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَلِكَ يُؤْذِي أَزْوَاجَهُ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحَقُّ حَقَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضَافَهُ إلَيْهِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي بُيُوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ كُنَّ يَسْكُنَّ فِيهَا ، هَلْ هُنَّ مِلْكٌ لَهُنَّ أَمْ لَا ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : كَانَتْ مِلْكًا لَهُنَّ بِدَلِيلِ أَنَّهُنَّ سَكَنَّ فِيهَا بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى وَفَاتِهِنَّ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَ لَهُنَّ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ .
وَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُنَّ هِبَةً ، وَإِنَّمَا كَانَ إسْكَانًا ، كَمَا يُسْكِنُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ ، وَتَمَادَى سُكْنَاهُنَّ بِهَا إلَى الْمَوْتِ لِأَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا لِأَنَّ عِدَّتَهُنَّ لَمْ تَنْقَضِ إلَّا بِمَوْتِهِنَّ ، وَإِمَّا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى ذَلِكَ لَهُنَّ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ ، كَمَا اسْتَثْنَى نَفَقَاتِهِنَّ بِقَوْلِهِ : { مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ } .
فَجَعَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدَقَةً بَعْدَ نَفَقَةِ الْعِيَالِ ؛ وَالسُّكْنَى مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَاتِ ، فَإِذَا مُتْنَ رَجَعَتْ مَسَاكِنُهُنَّ إلَى أَصْلِهَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ،

كَرُجُوعِ نَفَقَاتِهِنَّ .
وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِذَلِكَ أَنَّ وَرَثَتَهُنَّ لَمْ يَرِثُوا عَنْهُنَّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَسَاكِنُ مِلْكًا لَهُنَّ لَوَرِثَ ذَلِكَ وَرَثَتُهُنَّ عَنْهُنَّ ، فَلَمَّا رُدَّتْ مَنَازِلُهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي تَعُمُّ مَنْفَعَتُهُ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سُكْنَاهُنَّ إنَّمَا كَانَتْ مَتَاعًا لَهُنَّ إلَى الْمَمَاتِ ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى أَصْلِهَا فِي مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ } وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْإِذْنِ وَأَحْكَامِهِ فِي سُورَةِ النُّورِ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { إلَى طَعَامٍ } يَعْنِي بِهِ هَاهُنَا طَعَامَ الْوَلِيمَةِ ، وَالْأَطْعِمَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ عَشْرَةٌ : الْمَأْدُبَةُ ، وَهِيَ طَعَامُ الدَّعْوَةِ كَيْفَمَا وَقَعَتْ .
طَعَامُ الزَّائِرِ التُّحْفَةُ ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ النُّزُلُ .
وَطَعَامُ الْإِمْلَاكِ الشَّدْخِيَّةُ ، وَمَا رَأَيْته فِي أَثَرٍ ، إلَّا مَا رُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمَّا عُقِدَ نِكَاحُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمِّ حَبِيبَةَ عِنْدَهُ قَالَ لَهُمْ : لَا تُفَرِّقُوا الْأَطْعِمَةَ .
وَكَذَلِكَ كَانَتْ الْأَنْبِيَاءُ تَفْعَلُ ، وَبَعَثَ بِهَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَدِينَةِ .
طَعَامُ الْعُرْسِ : الْوَلِيمَةُ .
طَعَامُ الْبِنَاءِ : الْوَكِيرَةُ .
طَعَامُ الْوِلَادَةِ : الْخُرْسُ .
طَعَامُ سَابِعِهَا : الْعَقِيقَةُ .
طَعَامُ الْخِتَانِ : الْإِعْذَارُ : وَيُقَالُ : الْعَذِيرَةُ .
طَعَامُ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ : النَّقِيعَةُ .
طَعَامُ الْجِنَازَةِ : الْوَضِيمَةُ .
وَهُنَاكَ أَسْمَاءٌ تُعَدُّ هَذِهِ أُصُولُهَا الْمَعْلُومَةُ .
وَالْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ : إلَى طَعَامٍ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْكَرِيمَ إذَا دَعَا إلَى مَنْزِلِهِ أَحَدًا لِأَمْرٍ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ أَنْ يُقَدِّمَ إلَيْهِ مَا حَضَرَ مِنْ طَعَامٍ وَلَوْ تَمْرَةً أَوْ كِسْرَةً ، فَإِذَا تَنَاوَلَ مَعَهُ مَا حَضَرَ كَلَّمَهُ فِيمَا عَرَضَ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إنَاهُ } مَعْنَاهُ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ وَقْتَهُ ، وَالنَّاظِرُ هُوَ الْمُسْتَنْظِرُ ، وَالْإِنَى هُوَ الْوَقْتُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَعْنَى لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ فِي الدُّخُولِ ، أَوْ يُطْعِمَكُمْ طَعَامًا حَاضِرًا ، لَا تَنْتَظِرُونَ نُضْجَهُ ، وَلَا تَرْتَقِبُونَ حُضُورَهُ ، فَيَطُولُ لِذَلِكَ مُقَامُكُمْ ، وَتَحْصُلُونَ فِيمَا كَرِهَ مِنْكُمْ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَكِنْ إذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } الْمَعْنَى اُدْخُلُوا عَلَى وَجْهِ الْأَدَبِ ، وَحِفْظِ الْحَضْرَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ الْمُبَاسَطَةِ الْمَكْرُوهَةِ .
وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ : إذَا دُعِيتُمْ فَأُذِنَ لَكُمْ فَادْخُلُوا ، وَإِلَّا فَنَفْسُ الدَّعْوَةِ لَا تَكُونُ إذْنًا كَافِيًا فِي الدُّخُولِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ } هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضَّيْفَ يَأْكُلُ عَلَى مِلْكِ الْمُضِيفِ ، لَا عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : { فَإِذَا طَعِمْتُمْ } فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْلِ ، وَلَا أَضَافَ لَهُ سِوَاهُ ، وَبَقِيَ الْمِلْكُ عَلَى أَصْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ .

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَانْتَشِرُوا } : الْمُرَادُ : تَفَرَّقُوا .
مِنْ النَّشْرِ ، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُفْتَرَقُ .
وَالْمُرَادُ إلْزَامُ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْأَكْلِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الدُّخُولَ حَرَامٌ ، وَإِنَّمَا جَازَ لِأَجْلِ الْأَكْلِ ، فَإِذَا انْقَضَى الْأَكْلُ زَالَ السَّبَبُ الْمُبِيحُ ، وَعَادَ التَّحْرِيمُ إلَى أَصْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } : الْمَعْنَى : لَا تَمْكُثُوا مُسْتَأْنِسِينَ بِالْحَدِيثِ ، كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلِيمَةِ زَيْنَبَ ، وَلَكِنَّ الْفَائِدَةَ فِي عَطْفِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ اسْتِدَامَةَ الدُّخُولِ دُخُولٌ فَعَطَفَهُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } : وَالْإِذَايَةُ كُلُّ مَا تَكْرَهُهُ النَّفْسُ ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى النَّاسِ ، لَا سِيَّمَا إذَايَةٌ يَكْرَهُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ بَلْ أَلْزَمَ الْخَلْقَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا يَكْرَهُونَ ، إرْضَاءً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْمَعْنَى : مَنَعْنَاكُمْ مِنْهُ لِإذَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَعَلَ الْمَنْعَ مِنْ الدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَالْمُقَامَ بَعْدَ كَمَالِ الْمَقْصُودِ مُحَرَّمًا فِعْلُهُ ، لِإذَايَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَالْمُحَرَّمَاتُ فِي الشَّرْعِ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهَا مُعَلَّلٌ ، وَمِنْهَا غَيْرُ مُعَلَّلٍ ؛ فَهَذَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّلَةِ بِالْعِلَّةِ ، وَهِيَ إذَايَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاَللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ } : وَقَدْ بَيَّنَّا الْحَيَاءَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ ، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا فَيُمْسِكُ عَنْ كَشْفِ مُرَادِهِ لَكُمْ ، فَيَتَأَذَّى بِإِقَامَتِكُمْ ، عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ

بِمُقَدِّمَتِهِ ، وَهُوَ أَحَدُ وُجُوهِ الْمَجَازِ ، أَوْ بِفَائِدَتِهِ وَهُوَ الْوَجْهُ الثَّانِي ، أَوْ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ وَهُوَ الثَّالِثُ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } وَفِي الْمَتَاعِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : عَارِيَّةٌ .
الثَّانِي : حَاجَةٌ .
الثَّالِثُ : فَتْوَى .
الرَّابِعُ : صُحُفُ الْقُرْآنِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ فِي مُسَاءَلَتِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فِي حَاجَةٍ تَعْرِضُ أَوْ مَسْأَلَةٍ يُسْتَفْتَى فِيهَا ؛ وَالْمَرْأَةُ كُلُّهَا عَوْرَةٌ ؛ بَدَنُهَا وَصَوْتُهَا ، فَلَا يَجُوزُ كَشْفُ ذَلِكَ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ لِحَاجَةٍ ، كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا ، أَوْ دَاءٍ يَكُونُ بِبَدَنِهَا ، أَوْ سُؤَالِهَا عَمَّا يَعِنُّ وَيَعْرِضُ عِنْدَهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } الْمَعْنَى : أَنَّ ذَلِكَ أَنْفَى لِلرِّيبَةِ ، وَأَبْعَدُ لِلتُّهْمَةِ ، وَأَقْوَى فِي الْحِمَايَةِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَثِقَ بِنَفْسِهِ فِي الْخَلْوَةِ مَعَ مَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ ؛ فَإِنَّ مُجَانَبَةَ ذَلِكَ أَحْسَنُ لِحَالِهِ ، وَأَحْصَنُ لِنَفْسِهِ ، وَأَتَمُّ لِعِصْمَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } وَهَذَا تَكْرَارٌ لِلْعِلَّةِ ، وَتَأْكِيدٌ لِحُكْمِهَا ؛ وَتَأْكِيدُ الْعِلَلِ أَقْوَى فِي الْأَحْكَامِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } : وَهِيَ مِنْ خَصَائِصِهِ ؛ فَقَدْ خُصَّ بِأَحْكَامٍ ، وَشَرُفَ بِمَعَالِمَ وَمَعَانٍ لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهَا أَحَدٌ ، تَمْيِيزًا لِشَرَفِهِ ، وَتَنْبِيهًا عَلَى مَرْتَبَتِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّ آيَةَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَتْ قَالُوا : يَمْنَعُنَا مِنْ بَنَاتِ عَمِّنَا ؛ لَئِنْ حَدَثَ بِهِ الْمَوْتُ لَنَتَزَوَّجَنَّ نِسَاءَهُ مِنْ بَعْدِهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْكَلِمَةَ .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ : لَئِنْ مَاتَ لَأَتَزَوَّجَنَّ عَائِشَةَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَصَانَ خَلْوَةَ نَبِيِّهِ ، وَحَقَّقَ غَيْرَتَهُ ، فَقَصَرَهُنَّ عَلَيْهِ ، وَحَرَّمَهُنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي حَالِهِنَّ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : هَلْ بَقِينَ أَزْوَاجًا أَوْ زَالَ النِّكَاحُ بِالْمَوْتِ ؛ وَإِذَا قُلْنَا : إنَّ حُكْمَ النِّكَاحِ زَالَ بِالْمَوْتِ ، فَهَلْ عَلَيْهِنَّ عِدَّةٌ أَمْ لَا ؟ فَقِيلَ : عَلَيْهِنَّ الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ تُوُفِّيَ عَنْهُنَّ زَوْجُهُنَّ ، وَهِيَ عِبَادَةٌ .
وَقِيلَ : لَا عِدَّةَ عَلَيْهِنَّ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّةُ تَرَبُّصٍ لَا يُنْتَظَرُ بِهَا الْإِبَاحَةُ .
وَبِبَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ أَقُولُ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمُؤْنَةِ عَامِلِي صَدَقَةٌ } .
وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ : { مَا تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ أَهْلِي } وَهَذَا اسْمٌ خَاصٌّ بِالزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ مُدَّةَ حَيَاتِهِنَّ ، لِكَوْنِهِنَّ نِسَاءَهُ .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ : { كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلَّا سَبَبِي وَنَسَبِي } .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ .
وَمَعْنَى إبْقَاءِ النِّكَاحِ بَقَاءُ أَحْكَامِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى ؛ إذْ جُعِلَ الْمَوْتُ فِي حَقِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغِيبِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، لِكَوْنِهِنَّ أَزْوَاجًا لَهُ

قَطْعًا ، بِخِلَافِ سَائِرِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَعَ أَهْلِهِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ ، فَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ فِي الْجَنَّةِ وَالْآخَرُ فِي النَّارِ ، فَبِهَذَا الْوَجْهِ انْقَطَعَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْخَلْقِ ، وَبَقِيَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْلُهُ : { إنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا } يَعْنِي إذَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ نِكَاحَ أَزْوَاجِهِ ، فَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ ، وَلَا ذَنْبَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْوَالَ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَالْمُشْكِلَيْنِ فِي أَبْوَابِ الْكَبَائِرِ .

الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { إنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } : الْبَارِئُ تَعَالَى عَالِمٌ مَا بَدَا وَمَا خَفِيَ وَمَا ظَهَرَ ، وَمَا كَانَ وَمَا لَمْ يَكُنْ ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَاضٍ يَمْضِي ، وَلَا مُسْتَقْبَلٌ يَأْتِي ، وَهَذَا عَلَى الْعُمُومِ تَمَدَّحَ اللَّهُ بِهِ ، وَهُوَ أَصْلُ الْحَمْدِ وَالْمَدْحِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ هَاهُنَا فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ مَا أَكَنُّوهُ مِنْ نِكَاحِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهُ ، فَحَرَّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حِينَ أَضْمَرُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَأَكَنُّوهُ فِي أَنْفُسِهِمْ ؛ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةً لَهَا .

الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : { لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ أَنَّ نُزُولَ الْحِجَابِ لَمَّا نَزَلَ ، وَسِتْرَهُ لَمَّا انْسَدَلَ قَالَ الْآبَاءُ : كَيْفَ بِنَا مَعَ بَنَاتِنَا ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَنْفِيِّ عَنْهُ الْجُنَاحَ : فَقِيلَ : مَعْنَاهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ ؛ قَالَ قَتَادَةُ .
وَقِيلَ : لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي سَدْلِ الْحِجَابِ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالْمَعْنَى الْمُتَقَدِّمُ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُنَّ بِالسَّتْرِ عَنْ الْخَلْقِ ، وَضَرَبَ الْحِجَابَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ النَّاسِ ، ثُمَّ أَسْقَطَ ذَلِكَ بَيْنَ مَنْ ذَكَرَ هَاهُنَا مِنْ الْقَرَابَاتِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : لَمْ يَذْكُرْ اللَّهُ الْعَمَّ فِيهَا وَلَا الْخَالَ ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ لِأَبْنَائِهِمَا .
وَقِيلَ : لَمْ يَذْكُرْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَائِمَانِ مَقَامَ الْأَبَوَيْنِ ، بِدَلِيلِ نُزُولِهِمَا مَنْزِلَتَهُمَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ .
فَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَقَالَ : إنَّ حُكْمَ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ يَنْقَسِمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : الْأَوَّلُ : مَنْ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا .
وَالثَّانِي : مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ، لِابْنِهِ ، كَالْأَخِ وَالْجَدِّ وَالْحَفِيدِ .
وَالثَّالِثُ : مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا ، وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ ، كَالْعَمِّ وَالْخَالِ ، بِحَسْبِ مَنْزِلَتِهِمْ مِنْهَا فِي الْحُرْمَةِ .
فَمَنْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ شَيْءٍ مِنْهَا .
وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا وَيَجُوزُ لِوَلَدِهِ جَازَ رُؤْيَةُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا خَاصَّةً ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ رُؤْيَةُ زِينَتِهَا .
وَمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَلَا لِوَلَدِهِ جَازَ الْوَضْعُ لِجِلْبَابِهَا وَرُؤْيَةُ زِينَتِهَا .
وَهَذَا التَّقْسِيمُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ رَفْعَ الْجُنَاحِ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي وَضْعِ الْجِلْبَابِ .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ فِي رَفْعِ الْحِجَابِ لَمْ يَصِحَّ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ وَضْعِ الْجِلْبَابِ فِي سُورَةِ النُّورِ ، وَحُكْمَ الْعَمِّ مِنْ الرَّضَاعِ وَالنَّسَبِ بِمَا يُغْنِي بَيَانُهُ عَنْ إعَادَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : { وَاتَّقِينَ اللَّهَ } فَخَصَّ بِهِ النِّسَاءَ ، وَعَيَّنَهُنَّ فِي هَذَا الْأَمْرِ بِالتَّقْوَى ، لِقِلَّةِ تَحَفُّظِهِنَّ وَكَثْرَةِ اسْتِرْسَالِهِنَّ .

الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ذِكْرِ صَلَاةِ اللَّهِ : قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِنَا ، وَالْأَمْرُ خُصَّ بِهِ مَعْنَى صَلَاةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ، وَأَنَّهُ يَكُونُ بِمَعْنَى دُعَائِهِمْ لَهُ ، وَذِكْرِهِ الْجَمِيلِ ؛ وَتَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى رَحْمَتِهِ لَهُ ؛ إذْ هُوَ فَائِدَةُ ذَلِكَ مَجَازًا عَلَى مَعْنَى التَّعْبِيرِ عَنْ الشَّيْءِ بِفَائِدَتِهِ .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْمَلَائِكَةِ : قَالَ الْعُلَمَاءُ : هُوَ دُعَاؤُهُمْ ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ ، وَتَبْرِيكُهُمْ عَلَيْهِمْ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ } ، وَكَمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ } .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي ذِكْرِ صَلَاةِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ : وَفِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ مُخْتَلِفَةٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ أَوْرَدْنَاهَا فِي كِتَابِ مُخْتَصَرِ النَّيِّرَيْنِ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ؛ فَمِنْ ذَلِكَ ثَمَانِ رِوَايَاتٍ : الْأُولَى : رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ { أَنَّهُمْ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
الثَّانِيَةُ : رَوَى مَالِكٌ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ : { أَمَرَنَا اللَّهُ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟ قَالَ : فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ ، ثُمَّ قَالَ : قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ } .
الثَّالِثَةُ : رَوَى النَّسَائِيّ عَنْ طَلْحَةَ مِثْلَهُ بِإِسْقَاطِ قَوْلِهِ : فِي الْعَالَمِينَ ، وَقَوْلِهِ : وَالسَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ .
الرَّابِعَةُ : عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى : تَلَقَّانِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ ، فَقَالَ : أَلَا أُهْدِي لَك هَدِيَّةً ؟ قُلْت : بَلَى .
قَالَ : { خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْك قَدْ عَلِمْنَاهُ ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك ؟ قَالَ : قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا

صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
الْخَامِسَةُ : عَنْ بُرَيْدَةَ الْخُزَاعِيِّ قَالَ : { قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَدْ عِلْمنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْك ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك ؟ قَالَ قُولُوا : اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِك وَرَحْمَتَك عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا جَعَلْتهَا عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
السَّادِسَةُ : عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ : { قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ عَلِمْنَا هَذَا السَّلَامَ عَلَيْك ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْك ؟ قَالَ : قُولُوا : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ } .
السَّابِعَةُ : رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : { مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكْتَالَ بِالْمِكْيَالِ الْأَوْفَى إذَا صَلَّى عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ فَلْيَقُلْ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَأَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ ، وَذُرِّيَّتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ } .
الثَّامِنَةُ : مِنْ طَرِيقِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ تَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ وَتَحَنَّنْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَحَنَّنْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ، إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ ، اللَّهُمَّ سَلِّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا سَلَّمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ ؛ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ }

.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ صَحِيحٌ ، وَمِنْهَا سَقِيمٌ ، وَأَصَحُّهَا مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فَاعْتَمِدُوهُ .
وَرِوَايَةُ مَنْ رَوَى غَيْرَ مَالِكٍ مِنْ زِيَادَةِ الرَّحْمَةِ مَعَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا لَا يَقْوَى ؛ وَإِنَّمَا عَلَى النَّاسِ أَنْ يَنْظُرُوا فِي أَدْيَانِهِمْ نَظَرَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَهُمْ لَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيْعِ دِينَارًا مَعِيبًا ، وَإِنَّمَا يَخْتَارُونَ السَّالِمَ الطَّيِّبَ ؛ كَذَلِكَ فِي الدِّينِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ الرِّوَايَاتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا مَا صَحَّ سَنَدُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي خَبَرِ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطْلُبُ الْفَضْلَ إذَا بِهِ قَدْ أَصَابَ النَّقْصَ ، بَلْ رُبَّمَا أَصَابَ الْخُسْرَانَ الْمُبِينَ .

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً بِلَا خِلَافٍ ؛ فَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ وَالشَّافِعِيُّ : إنَّهَا فَرْضٌ ، فَمَنْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ .
وَقَالَ سَائِرُ الْعُلَمَاءِ : هِيَ سُنَّةٌ فِي الصَّلَاةِ .
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : إنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْك ، فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْك ؟ فَعَلَّمَ الصَّلَاةَ وَوَقْتَهَا ، فَتَعَيَّنَا كَيْفِيَّةً وَوَقْتًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : مَنْ آلِ مُحَمَّدٍ ؟ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ .
وَجُمْلَتُهُ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ الْمُتَّقُونَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : وَهُمْ الْأَكْثَرُونَ هُمْ أَهْلُهُ ؛ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ : { صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ } .
وَقَالَ فِي آخَرَ : { وَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ } .
فَتَارَةً فَسَّرَهُ بِالذُّرِّيَّةِ وَالْأَزْوَاجِ ، وَتَارَةً أَطْلَقَهُ .

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ : وَهِيَ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ، لِأَنَّ مُحَمَّدًا أَفْضَلُ مِنْ إبْرَاهِيمَ ، فَكَيْفَ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْهُ ، ثُمَّ يَطْلُبُ لَهُ أَنْ يَبْلُغَ رُتْبَتَهُ ؟ وَفِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ كَثِيرَةٌ أُمَّهَاتُهَا عَشْرَةٌ : الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْرِفَ بِمَرْتَبَتِهِ ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ ذَلِكَ فِيهِ .
الثَّانِي : أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَأَزْوَاجِهِ ، لِتَتِمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةُ ، كَمَا تَمَّتْ عَلَيْهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ آلَ مُحَمَّدٍ كُلُّ مَنْ اتَّبَعَهُ .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُضَاعَفًا لَهُ ، حَتَّى يَكُونَ لِإِبْرَاهِيمَ بِالْأَصْلِ ، وَلَهُ بِالْمُضَاعَفَةِ .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ لِتَدُومَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ ذَلِكَ لَهُ بِدُعَاءِ أُمَّتِهِ ، تَكْرِمَةً لَهُمْ وَنِعْمَةً عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُكَرَّمَ رَسُولُهُمْ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ .
السَّابِعُ : أَنَّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ لَهُمْ لِيُثَابُوا عَلَيْهِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا } .
الثَّامِنُ : أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَبْقَى لَهُ ذَلِكَ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخَرِينَ .
التَّاسِعُ : أَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ رَحْمَةً فِي الْعَالَمِينَ يَبْقَى بِهَا دِينُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
الْعَاشِرُ : أَنَّ مَعْنَاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ صَلَاةً تَتَّخِذُهُ بِهَا خَلِيلًا ، كَمَا اتَّخَذْت إبْرَاهِيمَ خَلِيلًا .
قَالَ الْقَاضِي : وَعِنْدِي أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِصَلَاتِهِ وَصَلَاةِ أُمَّتِهِ كَمَا غُفِرَ لَهُمْ بِشَرْطِ اسْتِغْفَارِهِ ، فَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَهُ ، ثُمَّ كَانَ يُدِيمُ الِاسْتِغْفَارَ ، لِيَأْتِيَ بِالشَّرْطِ الَّذِي غُفِرَ لَهُ .
وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَقْوَالِ ، وَتَحْقِيقٌ فِيهَا لِمَا يَقْوَى مِنْ الِاحْتِمَالِ .

الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رُوِيَ { أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مُخْتَرِمَةٍ بَيْنَ أَعْلَاجٍ قَائِمَةٍ بِسُوقِ بَعْضِ السِّلَعِ ، فَجَلَدَهَا ، فَانْطَلَقَتْ حَتَّى أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، جَلَدَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ رَآهُ مِنِّي ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا حَمَلَك عَلَى جَلْدِ ابْنَةِ عَمِّك ؟ فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهَا ، فَقَالَ : وَابْنَةُ عَمِّي هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَنْكَرْتهَا إذْ لَمْ أَرَ عَلَيْهَا جِلْبَابًا فَظَنَنْتهَا وَلِيدَةً فَقَالَ النَّاسُ : الْآنَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا .
قَالَ عُمَرُ : وَمَا نَجِدُ لِنِسَائِنَا جَلَابِيبَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِك وَبَنَاتِك وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجِلْبَابِ عَلَى أَلْفَاظٍ مُتَقَارِبَةٍ ، عِمَادُهَا أَنَّهُ الثَّوْبُ الَّذِي يُسْتَرُ بِهِ الْبَدَنُ ، لَكِنَّهُمْ نَوَّعُوهُ هَاهُنَا ، فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ الرِّدَاءُ .
وَقِيلَ : إنَّهُ الْقِنَاعُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ } قِيلَ : مَعْنَاهُ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَهَا فَوْقَ خِمَارِهَا .
وَقِيلَ : تُغَطِّي بِهِ وَجْهَهَا حَتَّى لَا يَظْهَرَ مِنْهَا إلَّا عَيْنُهَا الْيُسْرَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَاَلَّذِي أَوْقَعَهُمْ فِي تَنْوِيعِهِ أَنَّهُمْ رَأَوْا السِّتْرَ وَالْحِجَابَ مِمَّا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَاسْتَقَرَّتْ مَعْرِفَتُهُ ، وَجَاءَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرِينَةُ  ==

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق