ج11.وج12.
كتاب : أحكام القرآن
المؤلف:ابن العربي=
الْمُؤْمِنِينَ
، اقْضِ بَيْنَهُمَا ، وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الْآخَرِ .
فَقَالَ عُمَرُ : يَا تُيَّدُ ، كَمْ أَنْشُدُكُمْ
بِاَللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ ، هَلْ تَعْلَمُونَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا نُورَثُ
مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ؟ } يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ نَفْسَهُ .
قَالَ الرَّهْطُ : قَدْ قَالَ ذَلِكَ .
فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ :
أَنْشُدُكُمَا بِاَللَّهِ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ ؟ قَالَا : نَعَمْ .
قَالَ عُمَرُ : فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا
الْأَمْرِ : إنَّ اللَّهَ قَدْ خَصَّ رَسُولَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ
يُعْطِهِ غَيْرَهُ ، قَالَ : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ
فَمَا أَوَجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ
يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
} .
فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاَللَّهِ مَا اخْتَارَهَا دُونَكُمْ ، وَلَا
اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ ، قَدْ أَعْطَاكُمُوهَا ، وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى
بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ،
ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ ، فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ .
فَهَذَا حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ فِيهِ : إنَّ
بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ
نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ .
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحِ : { تَرَكَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ وَفَدَكَ
وَصَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ } ؛ فَأَمَّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا
عُمَرُ إلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ
.
وَأَمَّا خَيْبَرُ وَفَدَكُ فَأَمْسَكَهُمَا عُمَرُ ،
وَقَالَ : هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَتْ لِحُقُوقِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ ، وَأَمْرُهَا إلَى مَنْ
وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ .
فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ خَيْبَرَ وَفَدَكَ وَبَنِي
النَّضِيرِ كَانَتْ لِقُوتِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ سَنَةً ، وَلِحُقُوقِهِ وَنَوَائِبِهِ الَّتِي تَعْرُوهُ ،
لَا خُمُسَ الْخُمُسِ الَّذِي ادَّعَاهُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذَا نَصٌّ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ وَلَا كَلَامَ
لِأَحَدٍ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ تَعَالَى فِي هَذِهِ
الْآيَةِ : { لِذِي الْقُرْبَى
} ؛ فَنَظَرَ
قَوْمٌ إلَى أَنَّهَا قُرْبَى مِنْ قُرَيْشٍ ، لِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
الْأُخْرَى : { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلَّا الْمَوَدَّةَ فِي
الْقُرْبَى } .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إلَّا أَنْ
تَصِلُوا قَرَابَةَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } .
وَلَمَّا نَزَلَتْ : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ
الْأَقْرَبِينَ } .
وَرَهْطَك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ دَعَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ .
وَقَالَ :
{ يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ ؛ أَنْقِذُوا
أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ؛ يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كَعْبٍ ؛ أَنْقِذُوا
أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ
مِنْ النَّارِ ؛ يَا بَنِي هَاشِمٍ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ، يَا
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؛ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ ، يَا
فَاطِمَةُ ؛ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنْ النَّارِ ؛ فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكِ مِنْ
اللَّهِ شَيْئًا } .
فَهَذِهِ قَرَابَاتُهُ الَّتِي دَعَا عَلَى الْعُمُومِ
وَالْخُصُوصِ حِينَ دُعِيَ إلَى أَنْ يَدْعُوَهُمْ ، لَكِنْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَعْطَيْتَ بَنِي هَاشِمٍ
وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَتْنَا ، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ مِنْكَ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ فَقَالَ
: { إنَّ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُفَارِقُونَا
فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ
} .
أَمَّا قَوْلُهُ : " وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ
مِنْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
" .
فَلِأَنَّ هَاشِمًا وَالْمُطَّلِبَ وَعَبْدَ شَمْسٍ
بَنُو عَبْد مُنَافٍ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ
بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ }
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْأُلْفَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ
وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعَبِ ، وَخَرَجَتْ عَنْهُمْ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ
إلَى الْمُبَايَنَةِ ، فَاتَّصَلَتْ الْقَرَابَةُ الْجَاهِلِيَّةُ بِالْمَوَدَّةِ
، فَانْتَظَمَا .
وَهَذَا يُعَضِّدُ أَنَّ بَيَانَ اللَّهِ
لِلْأَصْنَافِ بَيَانٌ لِلْمَصْرِفِ وَلَيْسَ بَيَانًا
لِلْمُسْتَحِقِّ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ
الْأَخْمَاسِ فَهِيَ مِلْكٌ لِلْغَانِمَيْنِ : مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ
الْأَمَةِ ، بَيْدَ أَنَّ الْإِمَامَ إنْ رَأَى أَنْ يَمُنَّ عَلَى الْأَسْرَى
بِالْإِطْلَاقِ فَعَلَ وَتَبْطُلُ حُقُوقُ الْغَانِمِينَ فِيهِمْ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ كَانَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ
حَيًّا وَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ الثَّنِيِّ لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ } ، وَلَهُ
أَنْ يُنَفِّلَ جَمِيعَهُمْ ، وَيُبْطِلَ حَقَّ الْغَانِمِينَ بِالْقِتَالِ مِنْ
غَيْرِ خِلَافٍ ؛ وَذَلِكَ بِحُكْمِ مَا يَرَى أَنَّهُ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ
وَأَصْلَحُ لَهُمْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : أَطْلَقَ اللَّهُ
الْقَوْلَ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمَيْنِ تَضْمِينًا ،
وَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفَاضَلَ بَيْنَ
الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ ، وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ؛ قَالَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ .
الثَّانِي :
لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ ، وَلِلْفَارِسِ سَهْمٌ الثَّالِثُ
: يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الْإِمَامُ ، فَيُنَفِّذُ مَا رَأَى مِنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَتْ الرِّوَايَتَانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثَيْنِ .
وَالصَّحِيحُ أَنْ يُعْطَى الْفَارِسُ سَهْمَيْنِ ،
وَيُعْطَى لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ ، وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْعَنَاءِ ،
وَعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ التَّقْدِيرَ فِي الْغَنِيمَةِ
بِقَدْرِ الْعَنَاءِ فِي أَخْذِهَا حِكْمَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : وَلَا يُفَاضِلُ بَيْنَ
الْفَارِسِ وَالرَّاجِلِ بِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ ؛ وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يُسْهِمُ لِأَكْثَرَ مِنْ
فَرَسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ غَنَاءً ، وَأَعْظَمُ مَنْفَعَةً ، وَهَذَا
فَاسِدٌ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الرِّوَايَةَ لَمْ تَرِدْ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُسْهِمَ لِأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ
وَاحِدٍ .
الثَّانِي : أَنَّ الْمُفَاضَلَةَ فِي أَصْلِ الْغَنَاءِ
وَالْمَنْفَعَةِ قَدْ رُوعِيَتْ ؛ فَأَمَّا زِيَادَتُهَا فَزِيَادَةُ
تَفَاصِيلِهَا ، فَلَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ يُرْجَعُ إلَيْهِ ، وَلَا
يَنْضَبِطُ ذَلِكَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى فَرَسٍ
وَاحِدٍ ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْحَالِ ، وَإِنَّمَا
يَظْهَرُ تَأْثِيرُهَا فِي الْمَآلِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ؛ فَلَا حَظَّ فِي
الِاعْتِبَارِ لِذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : لَا حَقَّ فِي
الْغَنَائِمِ لِلْحَشْوَةِ كَالْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ الَّذِينَ يَصْحَبُونَ
الْجُيُوشَ لِلْمَعَاشِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَقْصِدُوا قِتَالًا ، وَلَا خَرَجُوا
مُجَاهِدِينَ .
وَقِيلَ
: يُسْهَمُ لَهُمْ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ } .
وَهَذَا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنَّمَا جَاءَ لِبَيَانِ خُرُوجِ مَنْ لَمْ يَحْضُرْ الْقِتَالَ عَنْ
الِاسْتِهَامِ ، وَأَنَّهَا لِمَنْ بَاشَرَهُ وَخَرَجَ إلَيْهِ .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ الْمُقَاتِلِينَ
وَأَهْلِ الْمَعَاشِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ
مُتَمَيِّزَتَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ حَالُهَا وَحُكْمُهَا ، فَقَالَ : { عَلِمَ
أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
إلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ إذَا قَاتَلُوا لَمْ يَضُرَّهُمْ
كَوْنُهُمْ عَلَى مَعَاشِهِمْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَدْ وُجِدَ
مِنْهُمْ .
وَتَفْصِيلُ الْمَذْهَبِ : أَنَّ مَنْ قَاتَلَ أُسْهِمَ لَهُ ، إلَّا
أَنْ يَكُونَ أَجِيرًا لِلْخِدْمَةِ ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ : لَا سَهْمَ
لَهُ حِينَئِذٍ ، وَإِنْ قَاتَلَ
.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : الْعَبْدُ لَا
سَهْمَ لَهُ : لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ خُوطِبَ بِالْقِتَالِ ، لِاسْتِغْرَاقِ
بَدَنِهِ بِحُقُوقِ السَّيِّدِ
.
فَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا سَهْمَ لَهُ : أَيْضًا إلَّا
أَنْ يَكُونَ مُرَاهِقًا لِلْبُلُوغِ مُطِيقًا لِلْقِتَالِ فَيُسْهَمُ لَهُ
عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسْهَمُ
لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ التَّكْلِيفِ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ
الْجِهَادِ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : {
عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ
وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجِزْنِي ، وَعُرِضْت عَلَيْهِ
يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي } .
فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ الشَّافِعِيُّ : إنَّمَا
ذَلِكَ حَدُّ الْبُلُوغِ .
وَقَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ ابْنُ وَهْبٍ ،
وَابْنُ حَبِيبٍ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَظَرَ فِي ذَلِكَ إلَى إطَاقَتِهِ لِلْقِتَالِ ، فَأَمَّا الْبُلُوغُ
فَلَا أَثَرَ لَهُ فِيهِ ، وَقَدْ أَمَرَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَنْ يُقْتَلَ
مِنْهُمْ مِنْ أَنْبَتَ ، وَيُخَلَّى مَنْ لَمْ يُنْبِتْ ؛ وَهَذِهِ مُرَاعَاةٌ
لِإِطَاقَةِ الْقِتَالِ أَيْضًا لَا لِلْبُلُوغِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ }
هَذَا خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لَا مَدْخَلَ فِيهِ
لِلْكُفَّارِ وَلَا لِلنِّسَاءِ ، وَإِنَّمَا خُوطِبَ بِهِ مَنْ قَاتَلَ
الْكُفَّارَ وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ ، وَخُوطِبَ بِهِ مَنْ يُقَاتِلُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ دُونَ مَنْ لَا يُقَاتِلُ .
فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا سَهْمَ لَهَا فِيهِ ، وَإِنْ
قَاتَلَتْ إلَّا عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ ؛ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ : { إنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يُحْذَيْنَ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا
يُسْهَمُ لَهُنَّ } ؛ فَإِنَّ الْقِتَالَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْهِنَّ ، وَالسَّهْمُ
لَمْ يُقْضَ بِهِ لَهُنَّ .
وَأَمَّا الْعَبِيدُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فَإِذَا
خَرَجُوا لُصُوصًا ، وَأَخَذُوا مَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ لَهُمْ ، وَلَا
يُخَمَّسُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْخِطَابِ أَحَدٌ مِنْهُمْ .
وَقَالَ سَحْنُونٌ : لَا يُخَمَّسُ مَا يَنُوبُ
الْعَبْدَ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : يُخَمَّسُ ؛ لِأَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ ، وَيُقَاتِلَ عَنْ الدِّينِ
بِخِلَافِ الْكَافِرِ .
فَأَمَّا إذَا كَانُوا فِي جُمْلَةِ الْجَيْشِ فَفِيهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنْ لَا يُسْهَمَ لِعَبْدٍ وَلَا
لِلْكَافِرِ يَكُونُ فِي الْجَيْشِ ؛ قَالَهُ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ .
زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ : وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي :
وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ .
الثَّالِثُ :
قَالَ سَحْنُونٌ : إنْ قَدَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
الْغَنِيمَةِ دُونَهُمْ لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
الْغَنِيمَةِ إلَّا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ أُسْهِمَ لَهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْعَبِيدُ
مَعَ الْأَحْرَارِ .
الرَّابِعُ : قَالَ أَشْهَبُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ :
إذَا خَرَجَ الْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ مِنْ الْجَيْشِ وَغَنِمَ فَالْغَنِيمَةُ
لِلْجَيْشِ دُونَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : إذَا ثَبَتَ
أَنَّ الْغَنِيمَةَ لِمَنْ حَضَرَ ، فَأَمَّا مَنْ غَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ .
وَالْمَغِيبُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا بِمَرَضٍ
، أَوْ بِضَلَالٍ ، أَوْ بِأَسْرٍ
.
فَأَمَّا الْمَرِيضُ فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ
يَكُونَ لَهُ رَأْيٌ ، وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ عُلَمَائِنَا : إنْ مَرِضَ
بَعْدَ الْقِتَالِ أُسْهِمَ لَهُ ، وَإِنْ مَرِضَ بَعْدَ الْإِرَادَةِ وَقَبْلَ
الْقِتَالِ فَفِيهِ قَوْلَانِ : وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ ذَلِكَ لَهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي الضَّالِّ عَلَى قَوْلَيْنِ ؛ وَقَالَ
أَشْهَبُ : يُسْهَمُ لِلْأَسِيرِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَدِيدِ .
وَالصَّحِيحُ أَنْ لَا سَهْمَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ
يُسْتَحَقُّ بِالْقِتَالِ ، فَمَنْ غَابَ خَابَ ، وَمَنْ حَضَرَ مَرِيضًا كَمَنْ
لَمْ يَحْضُرْ .
وَأَمَّا الْغَائِبُ الْمُطْلَقُ فَلَمْ يُسْهِمْ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطُّ لِغَائِبٍ إلَّا يَوْمَ
خَيْبَرَ ؛ قَسَمَ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ وَمَنْ غَابَ ،
لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } ، وَقَسَمَ يَوْمَ بَدْرٍ لِعُثْمَانَ لِبَقَائِهِ
عَلَى ابْنَتِهِ ، وَقَسَمَ لِسَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ وَطَلْحَةَ وَكَانَا
غَائِبَيْنِ .
فَأَمَّا أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ فَكَانَ مِيعَادًا مِنْ
اللَّهِ اخْتَصَّ بِأُولَئِكَ النَّفَرِ ، فَلَا يُشَارِكُهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ .
وَأَمَّا عُثْمَانُ وَسَعِيدٌ وَطَلْحَةُ فَيَحْتَمِلُ
أَنْ يَكُونَ أَسْهَمَ لَهُمْ مِنْ الْخُمُسِ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ
عَلَى أَنَّهُ مَنْ بَقِيَ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، بَيْدَ أَنَّ مُحَمَّدَ
بْنَ الْمَوَّازِ قَالَ : إذَا أَرْسَلَ الْإِمَامُ أَحَدًا فِي مَصْلَحَةِ
الْجَيْشِ فَإِنَّهُ يُشْرِكُ مَنْ غَنِمَ بِسَهْمِهِ ؛ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ،
وَابْنُ نَافِعٍ عَنْ مَالِكٍ .
وَقِيلَ عَنْهُ أَيْضًا : لَا شَيْءَ لَهُ ، وَهَذَا
أَحْسَنُ ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَرْضَخُ لَهُ ، وَلَا يُعْطَى مِنْ الْغَنِيمَةِ
لِعَدَمِ السَّبَبِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ عِنْدَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
هَذَا لَبَابُ مَا فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ ، فَمَنْ
تَعَذَّرَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ
إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا
اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا } ظَاهِرٌ فِي اللِّقَاءِ ، ظَاهِرٌ
فِي الْأَمْرِ بِالثَّبَاتِ ، مُجْمَلٌ فِي الْفِئَتَيْنِ الَّتِي تُلْقَى مِنَّا
وَاَلَّتِي تَكُونُ مِنْ مُخَالِفِينَا ، بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ الَّتِي
بَعْدَهَا فِي تَعْدِيدِ الْمُقَاتِلِينَ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ هَاهُنَا
بِالثَّبَاتِ عِنْدَ قِتَالِهِمْ ، كَمَا نَهَى فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا عَنْ
الْفِرَارِ عَنْهُمْ ؛ فَالْتَقَى الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى شَفَا مِنْ
الْحُكْمِ بِالْوُقُوفِ لِلْعَدُوِّ وَالتَّجَلُّدِ لَهُ .
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلْبَرَاءِ : أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَبَا عُمَارَةَ ؟ قَالَ : لَا ،
وَاَللَّهِ مَا وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ وَلَكِنْ وَلَّى سَرَعَانٌ مِنْ النَّاسِ ،
فَلَقِيَتْهُمْ هَوَازِنُ بِالنَّبْلِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ عَلَى بَغْلَتِهِ ،
وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا ،
وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَنَا النَّبِيُّ
لَا كَذِبْ .
أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ } .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : { لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ
حُنَيْنٍ ، وَإِنَّ الْفِئَتَيْنِ لَمُوَلِّيَتَانِ ، وَمَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةُ رَجُلٍ } .
وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَاذْكُرُوا
اللَّهَ } فِيهِ ثَلَاثُ احْتِمَالَاتٍ : الْأَوَّلُ : اُذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
جَزَعِ قُلُوبِكُمْ ؛ فَإِنَّ ذِكْرَهُ يُثَبِّتُ .
الثَّانِي : اُثْبُتُوا بِقُلُوبِكُمْ وَاذْكُرُوهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ قَدْ يَسْكُنُ عِنْدَ اللِّقَاءِ ،
وَيَضْطَرِبُ اللِّسَانُ ؛ فَأَمَرَ بِذِكْرِ اللَّهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْقَلْبُ
عَلَى الْيَقِينِ ، وَيَثْبُتَ اللِّسَانُ عَلَى الذِّكْرِ .
الثَّالِثُ : اُذْكُرُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ وَعْدِ
اللَّهِ [ لَكُمْ ] فِي ابْتِيَاعِهِ أَنْفُسَكُمْ مِنْكُمْ وَمُثَامَنَتِهِ
لَكُمْ .
وَكُلُّهَا مُرَادٌ ، وَأَقْوَاهَا وَأَوْسَطُهَا ؛
فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عَنْ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ ، وَنَفَاذِ
الْقَرِيحَةِ ، وَاتِّقَادِ الْبَصِيرَةِ ، وَهِيَ الشُّجَاعَةُ الْمَحْمُودَةُ
فِي النَّاسِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا أَحَدٌ أَقْوَى مِنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ أَشْجَعَ الْخَلِيقَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْضَاهُمْ عَزِيمَةً ، وَأَنْفَذَهُمْ
قَرِيحَةً ، وَأَنْوَرَهُمْ بَصِيرَةً ، وَأَصْدَقَهُمْ فِرَاسَةً ، وَأَصَحَّهُمْ
رَأْيًا ، وَأَثْبَتَهُمْ [ جَأْشًا ] ، وَأَصْفَاهُمْ إيمَانًا ، وَأَشْرَحَهُمْ
صَدْرًا ، وَأَسْلَمَهُمْ قَلْبًا
.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ظُهُورُ ذَلِكَ الْمَقَامِ فِي
مَقَامَاتٍ سِتَّةٍ : الْمَقَامُ الْأَوَّلُ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ ، وَلَمْ تَكُنْ مُصِيبَةٌ أَعْظَمُ مِنْهَا ،
وَلَا تَكُونُ أَبَدًا عَنْهَا تَفَرَّعَتْ مَصَائِبُنَا ، وَمِنْ أَجْلِهَا
فَسَدَتْ أَحْوَالُنَا ، فَاخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ ؛ فَأَمَّا عَلِيٌّ
فَاسْتَخْفَى .
وَأَمَّا عُثْمَانُ فَبُهِتَ .
وَأَمَّا عُمَرُ فَاخْتَلَطَ ، وَقَالَ : " مَا
مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا وَاعَدَهُ
اللَّهُ كَمَا وَاعَدَ مُوسَى ، وَلَيَرْجِعَنَّ رَسُولُ اللَّهِ فَلَيُقَطِّعَنَّ
أَيْدِيَ أُنَاسٍ وَأَرْجُلَهُمْ " وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ غَائِبًا بِمَنْزِلِهِ
بِالسُّنْحِ ، فَجَاءَ فَدَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ ، وَهُوَ مَيِّتٌ مُسَجًّى
بِثَوْبِهِ ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَقَالَ : "
بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا ، أَمَّا الْمَوْتَةُ الَّتِي
كُتِبَتْ عَلَيْك فَقَدْ مُتَّهَا "
.
وَخَرَجَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ؛ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : " مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا
فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ
حَيٌّ لَا يَمُوتُ " ثُمَّ قَرَأَ : { وَمَا مُحَمَّدٌ إلَّا رَسُولٌ قَدْ
خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى
أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا
وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ
} .
الْمَقَامُ الثَّانِي : لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتَلَفَ النَّاسُ أَيْنَ يُدْفَنُ
؛ فَقَالَ الْقَوْمُ : يُدْفَنُ بِمَكَّةَ
.
وَقَالَ آخَرُونَ : بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : بِالْمَدِينَةِ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مَا دُفِنَ قَطُّ نَبِيٌّ إلَّا حَيْثُ
يَمُوتُ } .
الْمَقَامُ الثَّالِثُ : لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَتْ فَاطِمَةُ إلَى أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَقُولُ لَهُ : لَوْ مِتَّ أَلَمْ تَكُنْ ابْنَتُك تَرِثُك ؟
قَالَ : نَعَمْ .
قَالَتْ لَهُ : فَأَعْطِنِي مِيرَاثِي مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا نُورَثُ ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } .
فَتَذَكَّرَ ذَلِكَ جَمِيعُ الصَّحَابَةِ ، وَعَلِمَهُ
عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةَ وَسَعْدٌ وَسَعِيدٌ ،
وَأَقَرَّ بِهِ عَلِيٌّ وَالْعَبَّاسُ
.
الْمَقَامُ الرَّابِعُ : لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَدَّ الْعَرَبُ ، وَانْقَاضَ الْإِسْلَامُ
، وَتَزَلْزَلَتْ الْأَفْئِدَةُ ، وَمَاجَ النَّاسُ ؛ فَارْتَاعَ الصَّحَابَةُ ؛
فَقَالَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ لِأَبِي بَكْرٍ : خُذْ مِنْهُمْ الصَّلَاةَ ، وَدَعْ
الزَّكَاةَ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الدَّيْنُ ، وَيَسْكُنَ جَأْشُ الْمُسْلِمِينَ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : " وَاَللَّهِ
لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ " .
الْمَقَامُ الْخَامِسُ : قَالَتْ الصَّحَابَةُ لَهُ :
يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ ؛ أَبْقِ جَيْشَ أُسَامَةَ ؛ فَإِنَّ مَنْ حَوْلَك
قَدْ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ ، "
وَاَللَّهِ لَوْ لَعِبْت الْكِلَابُ بِخَلَاخِيلِ
نِسَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَا رَدَدْت جَيْشًا أَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
" .
فَقَالُوا لَهُ : فَمَعَ مَنْ تُقَاتِلُهُمْ ؟ قَالَ :
وَحْدِي حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي
.
الْمَقَامُ السَّادِسُ : وَهُوَ ضَنْكُ الْحَالِ
وَمَأْزِقُ الِاخْتِلَالِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا تُوُفِّيَ اضْطَرَبَ الْأَمْرُ ، وَمَاجَ النَّاسُ ،
وَمَرَجَ قَوْلُهُمْ ، وَتَشَوَّفُوا إلَى رَأْسٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ تَدْبِيرُهُمْ
، وَاجْتَمَعَتْ الْأَنْصَارُ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ ، وَلَهُمْ
الْهِجْرَةُ ، وَفِيهِمْ الدَّوْحَةُ ، وَالْمُهَاجِرُونَ عَلَيْهِمْ نُزُلٌ ،
وَانْتَدَبَ الشَّيْطَانُ لِيَزِيغَ قُلُوبَ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ، فَسَوَّلَ
لِلْأَنْصَارِ أَنْ يَعْقِدُوا لِرَجُلٍ مِنْهُمْ الْأَمْرَ ؛ فَجَاءَ
الْمُهَاجِرُونَ .
فَاجْتُمِعُوا إلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَقَالُوا : نُرْسِلُ
إلَيْهِمْ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : " لَا ، أَلَا نَأْتِيهِمْ
فِي مَوْضِعِهِمْ " ، فَنُوزِعَ فِي ذَلِكَ ، فَصَرَمَ وَتَقَدَّمَ
وَاتَّبَعَتْهُ الْمُهَاجِرُونَ حَتَّى جَاءَ الْأَنْصَارَ فِي مَكَانِهِمْ ،
وَتَقَاوَلُوا ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ فِي كَلَامِهَا : مِنَّا أَمِيرٌ
وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ ، فَتَصَدَّرَ أَبُو بَكْرٍ بِحَقِّهِ ، وَتَكَلَّمَ عَلَى
مُقْتَضَى الدِّينِ وَوَفْقِهِ ، وَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؛
قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّا رَهْطُ رَسُولِ اللَّهِ وَعِتْرَتُهُ الْأَدْنَوْنَ ،
وَأَصْلُ الْعَرَبِ ، وَقُطْبُ النَّاسِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ } .
وَقَدْ سَمَّانَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الصَّادِقِينَ حِينَ
قَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ
وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ } .
وَسَمَّاكُمْ الْمُفْلِحِينَ ، فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ
تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ
إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ
عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ
} .
وَأَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا حَيْثُ
كُنَّا ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا
مَعَ الصَّادِقِينَ } .
وَقَالَ لَكُمْ النَّبِيُّ { سَتَرَوْنَ بَعْدِي
أَثَرَةً ، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ } .
وَقَالَ لَنَا فِي آخَرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا : {
أُوصِيكُمْ بِالْأَنْصَارِ خَيْرًا أَنْ تَقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ ،
وَتَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ ؛ وَلَوْ كَانَ لَكُمْ فِي الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا
رَأَيْتُمْ أَثَرَةً ، وَلَا وَصَّى بِكُمْ } .
فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ عِلْمِهِ ، وَوَعَوْهُ
مِنْ قَوْلِهِ تَذَّكَّرُوا الْحَقَّ ؛ فَانْقَادُوا لَهُ ، وَالْتَزَمُوا
حُكْمَهُ ؛ فَبَادَرَ عُمَرُ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ ، وَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا
عُبَيْدَةَ ؛ اُمْدُدْ يَدَك أُبَايِعْك .
فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : مَا سَمِعْت مِنْك تَهَّةً
فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَهَا ، أَتُبَايِعُنِي وَأَبُو بَكْرٍ فِيكُمْ ؟ فَقَالَ
لَهُ عُمَرُ : اُمْدُدْ يَدَك أُبَايِعْك يَا أَبَا بَكْرٍ .
فَمَدَّ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ وَبَايَعَهُ ، وَبَايَعَهُ
النَّاسُ ، وَصَارَ الْحَقُّ فِي نِصَابِهِ ، وَدَخَلَ الدِّينُ مِنْ بَابِهِ .
وَلَوْ هُدُوا لِهَذِهِ الْفِرْقَةِ الْأَدَبِيَّةِ
التَّارِيخِيَّةِ لَمَا كَانُوا عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ جَائِرِينَ وَبِحَقِيقَتِهِ
جَاهِلِينَ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ابْتَلَاهُمْ بِقِرَاءَةِ كُتُبٍ مِنْ الْأَدَبِ
وَالتَّارِيخِ قَدْ تَوَلَّاهَا جُهَّالٌ وَضُلَّالٌ ، فَقَالُوا : فَعَلَ عَلِيٌّ .
وَقَالَ عَلِيٌّ ، وَلَا يَقَعُ عَلِيٌّ مِنْ أَبِي
بَكْرٍ إلَّا نُقْطَةً مِنْ بَحْرٍ ، أَوْ لُقَطَةً فِي قَفْرٍ ، لَقَدْ
اسْتَقَامَ
الدِّينُ وَعَلِيٌّ عَنْهُ فِي حِجْرٍ ، وَقَدْ كَانَ
فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدَ رِجَالِهِ
، وَفَارِسًا مِنْ فُرْسَانِهِ ، وَوَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَائِهِ ، وَقَرِيبًا مِنْ
أَقْرِبَائِهِ ، فَلَمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ ، وَانْفَرَدَ
بِنَفْسِهِ لَمْ يَقُمْ بِالْأَمْرِ وَلَا قَعَدَ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ قَضَاهُ
اللَّهُ بِالْحَقِّ ، وَقَدَّرَهُ بِالصِّدْقِ ، وَأَنْفَذَهُ بِالْحِكْمَةِ
وَالْحُكْمِ ، وَمَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ أَحَدًا ثَبَتَ عَلَى الدَّيْنِ ،
وَقَرَّرَ وُلَاتَهُ فِي الْأَقْطَارِ ، وَأَنْفَذَ الْجُيُوشَ إلَى الْأَمْصَارِ
، وَقَاتَلَ عَلَى الْحَقِّ ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ خَيْرِ الْخَلْقِ
الصِّدِّيقُ ؛ فَمَهَّدَ الدَّيْنَ ، وَاسْتَتَبَّ بِهِ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ هِيَ الْعُمْدَةُ الَّتِي يَكُونُ
مَعَهَا النَّصْرُ ، وَيَظْهَرُ بِهَا الْحَقُّ ، وَيُسْلِمُ مَعَهَا الْقَلْبُ ،
وَتَسْتَمِرُّ مَعَهَا عَلَى الِاسْتِقَامَةِ الْجَوَارِحُ ؛ وَذَلِكَ بِأَنْ
يَكُونَ عَمَلُ الْمَرْءِ كُلُّهُ بِالطَّاعَةِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ
وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ ، فَإِنَّمَا يُقَاتِلُ الْمُسْلِمُونَ بِأَعْمَالِهِمْ
لَا بِأَعْدَادِهِمْ ، وَبِاعْتِقَادِهِمْ لَا بِأَمْدَادِهِمْ ؛ فَلَقَدْ فَتَحَ
اللَّهُ الْفُتُوحَ عَلَى قَوْمٍ كَانَتْ حِلْيَةُ سُيُوفِهِمْ إلَّا
الْغَلَّابِيّ .
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّمَا تُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ
} .
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الطَّاقَةَ فِي الطَّاعَةِ ،
وَالْمِنَّةَ فِي الْهِدَايَةِ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا } : وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ فِي الْمَعْقُولِ
وَالْمَشْرُوعِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْقُوَّةَ لِيُظْهِرَ بِهَا
الْأَفْعَالَ ، وَقُدْرَتُهُ سُبْحَانَهُ وَاحِدَةٌ تَعُمُّ الْمَقْدُورَاتِ ،
وَقُدَرُ الْخَلْقِ حَادِثَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْمَقْدُورَاتِ عَلَى
اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا [ وَأَجْرَى اللَّهُ ] الْعَادَةَ بِأَنَّ الْقُدْرَةَ
إذَا كَثُرَتْ عَلَى رَأْيِ قَوْمٍ أَوْ بَقِيَتْ عَلَى رَأْيِ آخَرِينَ
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْأُصُولِ ظَهَرَ الْمَقْدُورُ
بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُدْرَةِ إنْ كَانَ كَثِيرًا فَكَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا
فَقَلِيلًا ، وَكَذَلِكَ تَظْهَرُ الْمَفْعُولَاتُ بِحَسَبِ مَا يُلْقِي اللَّهُ
فِي الْقُلُوبِ مِنْ الطُّمَأْنِينَةِ ، فَإِذَا ائْتَلَفَتْ الْقُلُوبُ عَلَى
الْأَمْرِ اسْتَتَبَّ وُجُودُهُ ، وَاسْتَمَرَّ مَرِيرُهُ ، وَإِذَا تَخَلْخَلَ
الْقَلْبُ قَصُرَ عَنْ النَّظَرِ ، وَضَعُفَتْ الْحَوَاسُّ عَنْ الْقَبُولِ ،
وَالِائْتِلَافُ طُمَأْنِينَةٌ لِلنَّفْسِ ، وَقُوَّةٌ لِلْقَلْبِ ، وَالِاخْتِلَافُ
إضْعَافٌ لَهُ ؛ فَتُضَعَّفُ الْحَوَاسُّ ، فَتَقْعُدُ عَنْ الْمَطْلُوبِ ،
فَيَفُوتُ الْغَرَضُ ؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } ، وَكَنَّى بِالرِّيحِ عَنْ اطِّرَادِ الْأَمْرِ
وَمُضَائِهِ بِحُكْمِ اسْتِمْرَارِ الْقُوَّةِ فِيهِ وَالْعَزِيمَةِ عَلَيْهِ ،
وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالصَّبْرِ الَّذِي يَبْلُغُ الْعَبْدُ بِهِ إلَى
كُلِّ أَمْرٍ مُتَعَذِّرٍ بِوَعْدِهِ الصَّادِقِ فِي أَنَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ .
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ } : يَعْنِي تُصَادِفُهُمْ وَتَلْقَاهُمْ ،
يُقَالُ : ثَقِفْته أَثْقَفُهُ ثَقَفًا إذَا وَجَدْته ، وَفُلَانٌ ثَقِفٌ لَقِفٌ
أَيْ سَرِيعُ الْوُجُودِ لِمَا يُحَاوَلُ مِنْ الْقَوْلِ .
وَامْرَأَةٌ ثَقَافٌ .
هَكَذَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ ، وَهُوَ عِنْدِي
بِمَعْنَى الْحَبْسِ ، وَمِنْهُ رَجُلٌ ثَقِفٌ أَيْ يُقَيِّدُ الْأُمُورَ بِمَعْرِفَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ
} : أَيْ افْعَلْ بِهِمْ فِعْلًا مِنْ الْعُقُوبَةِ
يَتَفَرَّقُ بِهِمْ مَنْ وَرَاءَهُمْ ، وَمِنْهُ شَرَدَ الْبَعِيرُ وَالدَّابَّةُ
إذَا فَارَقَ صَاحِبَهُ وَمَأْلَفَهُ وَمَرْعَاهُ ، وَهَذَا أَحَدُ الْأَقْسَامِ
الْخَمْسَةِ الَّتِي لِلْإِمَامِ فِي الْأَسْرَى : مِنْ الْمَنِّ وَالْفِدَاءِ
وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْجِزْيَةِ وَالْقَتْلِ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَيَأْتِي هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ
السَّلَامُ ، وَهَذَا يُعْتَضَدُ بِالْآيَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : { مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى
} عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
الْآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ
إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ أَبْدَتْ مِنْ
التَّحَزُّبِ مَعَ قُرَيْشٍ وَنَقْضِ الْعَهْدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إنْ قِيلَ : كَيْفَ
يَجُوزُ نَقْضُ الْعَهْدِ مَعَ خَوْفِ الْخِيَانَةِ ، وَالْخَوْفُ ظَنٌّ لَا
يَقِينَ مَعَهُ ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ يَقِينُ الْعَهْدِ بِظَنِّ الْخِيَانَةِ
فَعَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّ الْخَوْفَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ ، كَمَا
يَأْتِي الرَّجَاءُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ ؛ كَقَوْلِهِ : { لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ
وَقَارًا } .
الثَّانِي : أَنَّهُ إذَا ظَهَرَتْ آثَارُ الْخِيَانَةِ
، وَثَبَتَتْ دَلَائِلُهَا وَجَبَ نَبْذُ الْعَهْدِ ، لِئَلَّا يُوقِعَ
التَّمَادِي عَلَيْهِ فِي الْهَلَكَةِ ، وَجَازَ إسْقَاطُ الْيَقِينِ هَاهُنَا
بِالظَّنِّ لِلضَّرُورَةِ ، وَإِذَا كَانَ الْعَهْدُ قَدْ وَقَعَ فَهَذَا
الشَّرْطُ عَادَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ لَفْظًا ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ
أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { فَانْبِذْ إلَيْهِمْ
عَلَى سَوَاءٍ } أَيْ عَلَى مَهْلٍ ؛ قَالَهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ .
وَقِيلَ :
عَلَى عَدْلٍ ، مَعْنَاهُ بِالتَّقَدُّمِ إلَيْهِمْ
وَالْإِنْذَارِ لَهُمْ ، وَهَكَذَا يَجِبُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ الْيَوْمَ
فِي كِلَا وَجْهَيْ الْعَقْدِ أَوَّلًا ، وَالنَّبْذُ عَلَى السَّوَاءِ ثَانِيًا .
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : {
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا
تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ يُوَفَّ إلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ لِلْأَعْدَاءِ
بَعْدَ أَنْ أَكَّدَ فِي تَقَدُّمَةِ التَّقْوَى ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ
شَاءَ لَهَزَمَهُمْ بِالْكَلَامِ ، وَالتَّفْلِ فِي الْوُجُوهِ ، وَحَفْنَةٍ مِنْ
تُرَابٍ ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُبْلِيَ بَعْضَ النَّاسِ بِبَعْضٍ ، بِعِلْمِهِ
السَّابِقِ وَقَضَائِهِ النَّافِذِ ؛ فَأَمَرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْآلَةِ
فِي فُنُونِ الْحَرْبِ الَّتِي تَكُونُ لَنَا عُدَّةً ، وَعَلَيْهِمْ قُوَّةً ،
وَوَعَدَ عَلَى الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى بِأَمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ الْعُلْيَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ : عَنْ
عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ؛ قَالَ
: { قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ : { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } ؛ فَقَالَ : أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ
، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ، أَلَا إنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ } ثَلَاثًا .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ،
قَالَ : { مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ
أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ بِالسِّهَامِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ارْمُوا بَنِي إسْمَاعِيلَ ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ
رَامِيًا ، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ
.
قَالَ : فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ ؟ قَالُوا : وَكَيْفَ
نَرْمِي ، وَأَنْتَ مَعَهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ
كُلُّكُمْ } .
زَادَ الْحَاكِمُ فِي رِوَايَةٍ : { فَلَقَدْ رَمَوْا
عَامَّةَ يَوْمِهِمْ
ذَلِكَ ، ثُمَّ تَفَرَّقُوا عَلَى السَّوَاءِ مَا نَضَلَ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا } .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ { عَلِيٍّ قَالَ : مَا
رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ يَفْدِي رَجُلًا بَعْدَ سَعْدٍ ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ :
ارْمِ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي }
.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو دَاوُد ،
وَالنَّسَائِيُّ ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { إنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ
الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ : صَانِعُهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ
الْخَيْرَ ، وَالرَّامِي بِهِ ، وَمُنْبِلُهُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَالْمُمِدُّ بِهِ ، فَارْمُوا
وَارْكَبُوا ، وَلَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا ، لَيْسَ
مِنْ اللَّهْوِ ثَلَاثٌ : تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ ، وَمُلَاعَبَتُهُ
أَهْلَهُ ، وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ .
وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَمَا عَلِمَهُ رَغْبَةً
عَنْهُ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ كَفَرَهَا
} .
وَقَدْ شَاهَدْت الْقِتَالَ مِرَارًا فَلَمْ أَرَ فِي
الْآلَةِ أَنْجَعَ مِنْ السَّهْمِ ، وَلَا أَسْرَعَ مَنْفَعَةً مِنْهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } الرِّبَاطُ : هُوَ حَبْسُ النَّفْسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
حِرَاسَةً لِلثُّغُورِ أَوْ مُلَازَمَةً لِلْأَعْدَاءِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ
شَيْءٍ مِنْهُ فِي سُورَةِ آلَ عِمْرَانَ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ
سَعْدٍ أَنَّهُ قَالَ : { رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَمَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا ، وَالرَّوْحَةُ يَرُوحُهَا الْعَبْدُ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ، وَالْغَدْوَةُ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ مَيِّتٍ
يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إلَّا الَّذِي يَمُوتُ مُرَابِطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَإِنَّهُ يُنَمَّى لَهُ عَمَلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيَأْمَنُ مِنْ
فِتْنَةِ الْقَبْرِ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَأَمَّا رِبَاطُ
الْخَيْلِ : فَهُوَ فَضْلٌ عَظِيمٌ وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ .
وَرَوَى الْأَئِمَّةُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَيْلُ ثَلَاثَةٌ
: لِرَجُلٍ أَجْرٌ ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ .
فَأَمَّا الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ فَرَجُلٌ
رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْرًا وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَهِيَ عَلَيْهِ
وِزْرٌ ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ عَلَيْهِ سِتْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا
وَتَعَفُّفًا ، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي ظُهُورِهَا فَهِيَ عَلَيْهِ
سِتْرٌ ، وَأَمَّا الَّذِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ
الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَدَدَ مَا
أَكَلَتْ حَسَنَاتٍ ، وَكَتَبَ لَهُ أَرْوَاثَهَا وَأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٍ ،
وَلَا يَقْطَعُ طِوَالَهَا فَتَسْتَنُّ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ إلَّا كَتَبَ
اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ ، وَلَا مَرَّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَى نَهْرٍ
فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَا يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ
عَدَدَ مَا شَرِبَتْ حَسَنَاتٍ
} .
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ { جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَلْوِي نَاصِيَةَ فَرَسٍ بِأُصْبُعَيْهِ ؛ وَهُوَ يَقُولُ : الْخَيْرُ
مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَثَبَتَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : { لَمْ يَكُنْ
شَيْءٌ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ
النِّسَاءِ مِنْ الْخَيْلِ } .
خَرَّجَهُ النَّسَائِيّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : الْمُسْتَحَبُّ مِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ الْإِنَاثُ قَبْلَ الذُّكُورِ : قَالَ عِكْرِمَةُ وَجَمَاعَةٌ ،
وَهَذَا صَحِيحٌ ، فَإِنَّ الْأُنْثَى بَطْنُهَا كَنْزٌ ، وَظَهْرُهَا عِزٌّ .
وَفَرَسُ جِبْرِيلَ أُنْثَى
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : يُسْتَحَبُّ مِنْ
الْخَيْلِ مَا رَوَى أَبُو وَهْبٍ الْجُشَمِيُّ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَيْكُمْ بِكُلِّ
كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ ، أَوْ أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ ، أَوْ أَشْقَرَ
أَغَرَّ مُحَجَّلٍ } .
خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ .
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَالَ : { خَيْرُ الْخَيْلِ
الْأَدْهَمُ الْأَقْرَحُ الْمُحَجَّلُ الْأَرْثَمُ ، ثُمَّ الْأَقْرَحُ
الْمُحَجَّلُ طَلْقُ الْيَمِينِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْهَمُ فَكُمَيْتٌ عَلَى
هَذِهِ الْهَيْئَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : رَوَى مُسْلِمٌ
وَالنَّسَائِيُّ أَنَّهُ يَكْرَهُ الشِّكَالَ مِنْ الْخَيْلِ .
وَثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّمَا
الشُّؤْمُ فِي الْمَرْأَةِ ، وَالْفَرَسِ ، وَالدَّارِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ
الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { تُرْهِبُونَ
بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } يَعْنِي تُخِيفُونَ بِذَلِكَ أَعْدَاءَ
اللَّهِ وَأَعْدَاءَكُمْ مِنْ الْيَهُودِ وَقُرَيْشٍ ، وَكُفَّارِ الْعَرَبِ .
{ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ } يَعْنِي فَارِسَ
وَالرُّومَ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَمَّا فَارِسُ فَنَطْحَةٌ أَوْ نَطْحَتَانِ ، ثُمَّ لَا
فَارِسَ بَعْدَهَا .
وَأَمَّا الرُّومُ ذَوَاتُ الْقُرُونِ فَكُلَّمَا هَلَكَ
قَرْنٌ خَلَفَهُ آخَرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ } عَامٌّ فِي الْخَيْلِ كُلِّهَا وَأَجْوَدِهَا أَعْظَمِهَا
أَجْرًا .
وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ
عَنْ مَالِكٍ قَالَ اللَّهُ : {
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } فَأَرَى الْبَرَاذِينَ مِنْ الْخَيْلِ إذَا أَجَازَهَا
الْوَالِي ، وَكَذَلِكَ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ
هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : السَّلْمُ :
بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَإِسْكَانِ اللَّامِ ، وَبِفَتْحِ السِّينِ
وَاللَّامِ ، وَبِزِيَادَةِ الْأَلْفِ أَيْضًا : هُوَ الصُّلْحُ ، وَقَدْ يَكُونُ
السَّلَامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ } وَنَحْوِهِ .
الثَّانِي : إنْ دَعَوْك إلَى الصُّلْحِ فَأَجِبْهُمْ ؛
قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ
.
الثَّالِثُ : إنْ جَنَحُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَاجْنَحْ
لَهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ
.
قَالَ مُجَاهِدٌ : وَعَنَى بِهِ قُرَيْظَةَ ؛ لِأَنَّ
الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ ، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ
شَيْءٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ
: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } فَدَعْوَى ،
فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنْ دَعَوْكَ إلَى الصُّلْحِ
فَأَجِبْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِ ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
: { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ } .
فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِزَّةٍ ، وَفِي
قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ ، وَمَقَانِبَ عَدِيدَةٍ ، وَعُدَّةٍ شَدِيدَةٍ : فَلَا صُلْحَ
حَتَّى تُطْعَنَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا ، وَتُضْرَبَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ
الْجَمَاجِمُ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ
لِانْتِفَاعٍ يُجْلَبُ بِهِ ، أَوْ ضُرٍّ يَنْدَفِعُ بِسَبَبِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ
يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ ، وَأَنْ يُجِيبُوا إذَا
دُعُوا إلَيْهِ وَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شُرُوطٍ نَقَضُوهَا ، فَنَقَضَ صُلْحَهُمْ ، وَقَدْ وَادَعَ
الضَّمْرِيُّ ، وَقَدْ صَالَحَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ ، وَأَهْلَ نَجْرَانَ ،
وَقَدْ هَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى
نَقَضُوا عَهْدَهُ ، وَمَا زَالَتْ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ عَلَى هَذِهِ
السَّبِيلِ الَّتِي شَرَعْنَاهَا سَالِكَةً ، وَبِالْوُجُوهِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا
عَامِلَةً .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : عَقْدُ الصُّلْحِ لَيْسَ
بِلَازِمٍ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا هُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ أَجْمَعِينَ
: إذْ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ ،
فَيَقُولَ : نَبَذْت إلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ ، فَخُذُوا مِنِّي حِذْرَكُمْ ، وَهَذَا
عِنْدِي إذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ طَلَبُوهُ ؛ فَإِنْ طَلَبَهُ الْمُسْلِمُونَ
لِمُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ قَبْلَهَا إلَّا بِاتِّفَاقٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَيَجُوزُ عِنْدَ
الْحَاجَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عَقْدُ الصُّلْحِ بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لِلْعَدُوِّ :
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مُوَادَعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ
نِصْفَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛
إنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَامْضِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ
أَمْرًا لَمْ تُؤْمَرْ بِهِ ، وَلَك فِيهِ هَوًى فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ ، وَإِنْ
كَانَ هَذَا الرَّأْيَ وَالْمَكِيدَةَ ، فَأَعْلِمْنَا بِهِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّمَا هُوَ
الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ ؛ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ بِقَوْسٍ
وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَدْفَعَهَا عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ } .
فَقَالَ السَّعْدَانِ : إنَّا كُنَّا كُفَّارًا ، وَمَا
طَمِعُوا مِنْهَا بِتَمْرَةٍ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِقِرًى ، فَإِذَا أَكْرَمَنَا
اللَّهُ بِك فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ ؛ وَشَقَّا الصَّحِيفَةَ الَّتِي
كَانَتْ كُتِبَتْ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى : {
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا
يَفْقَهُونَ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا
فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاَللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : {
حَرِّضْ } أَيْ أَكِّدْ الدُّعَاءَ ، وَوَاظِبْ عَلَيْهِ ، يُقَالُ : حَارَضَ
عَلَى الْأَمْرِ ، وَوَاظَبَ بِالظَّاءِ الْمُعْجَمَةِ ، وَوَاصَبَ بِالصَّادِ
غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ ، وَوَاكَبَ بِالْكَافِ : إذَا أَكَّدَ فِيهِ وَلَازَمَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقِتَالُ : هُوَ
الصَّدُّ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْقَتْلِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
} .
قَالَ قَوْمٌ : كَانَ هَذَا يَوْمَ بَدْرٍ ثُمَّ نُسِخَ
، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ قَائِلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ
ثَلَاثَمِائَةٍ وَنَيِّفًا ، وَالْكُفَّارُ كَانُوا تِسْعَمِائَةٍ وَنَيِّفًا ؛
فَكَانَ لِلْوَاحِدِ ثَلَاثَةٌ
.
وَأَمَّا هَذِهِ الْمُقَابَلَةُ ، وَهِيَ الْوَاحِدُ
بِالْعَشَرَةِ فَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ صَافُّوا الْمُشْرِكِينَ
عَلَيْهَا قَطُّ وَلَكِنَّ الْبَارِيَ فَرَضَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَوَّلًا ،
وَعَلَّلَهُ بِأَنَّكُمْ تَفْقَهُونَ مَا تُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ
الثَّوَابُ .
وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ .
ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : كَانَ هَذَا ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ
ذَلِكَ بِمُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَإِنْ كَانَتْ إلَى جَنْبِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } : أَمَّا التَّخْفِيفُ
فَهُوَ حَطُّ الثِّقَلِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا }
فَمَعْنَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِالْآنِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَارِي لَمْ يَزَلْ
عَالِمًا لَيْسَ لِعِلْمِهِ أَوَّلُ ، وَلَكِنَّ وَجْهَهُ : أَنَّ الْبَارِيَ
يَعْلَمُ الشَّيْءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ، وَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ ، وَهُوَ بِهِ
عَالِمٌ ، إذَا كَانَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَالِمُ
الشَّهَادَةِ ، وَبَعْدَ الشَّيْءِ ، فَيَكُونُ بِهِ عَالِمًا بِذَلِكَ الْعِلْمِ
بَعْدَ عَدَمِهِ ، وَيَتَعَلَّقُ عِلْمُهُ الْوَاحِدَ الَّذِي لَا أَوَّلَ لَهُ
بِالْمَعْلُومَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا وَتَغَيُّرِ أَحْوَالِهَا ، وَعِلْمُهُ لَا
يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَغَيَّرُ .
وَقَدْ ضَرَبْنَا لِذَلِكَ مِثَالًا يَسْتَرْوِحُ
إلَيْهِ النَّاظِرُ ؛ وَهُوَ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَعْلَمُ الْيَوْمَ أَنَّ
الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدًا ، ثُمَّ يَرَاهَا طَالِعَةً ، ثُمَّ يَرَاهَا غَارِبَةً
، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِلْمٌ مُجَدَّدٌ لِمَا
يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَوْ قَدَّرْنَا بَقَاءَ
الْعِلْمِ الْأَوَّلِ لَكَانَ وَاحِدًا يَتَعَلَّقُ بِهَا ، وَعِلْمُ الْبَارِي
وَاجِبُ الْأَوَّلِيَّةِ ، وَاجِبُ الْبَقَاءِ ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ
التَّغَيُّرُ ؛ فَانْتَظَمَتْ الْمَسْأَلَةُ ، وَتَمَكَّنَتْ بِهَا وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ الْمَعْرِفَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فَلَمَّا خَفَّفَ عَنَّا أَوْجَبَ
عَلَى الرَّجُلِ الثَّبَاتَ لِرَجُلَيْنِ ، وَهَكَذَا مَا تَزَايَدَتْ النِّسْبَةُ
الْوَاحِدَةُ بِاثْنَيْنِ ، فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ إلَيْهِمَا ، وَيَتَقَدَّمَانِ
إلَيْهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْذَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ ، فَيَهْجُمُ
عَلَى الْوَاحِدِ فَيَطْعَنُهُ ، فَإِذَا قَتَلَهُ بَقِيَ وَاحِدٌ بِوَاحِدٍ ،
وَإِنْ اقْتَتَلَا فَقَدْ حَصَلَ دَمُ وَاحِدٍ بِوَاحِدٍ ، وَبَقِيَ الزَّائِدُ
لَغْوًا ، وَهَذَا إنَّمَا يَكُونُ مَعَ الصَّبْرِ ، وَاَللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي الرَّجُلِ
يَلْقَى عَشَرَةً قَالَ : وَاسِعٌ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى مُعَسْكَرِهِ إنْ
لَمْ تَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى قِتَالِهِمْ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ
يَثْبُتَ مَعَهُمْ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : لَا
يَقْتَحِمُ الْوَاحِدُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَلَا الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ ؛
لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إلْقَاءَ الْيَدِ إلَى التَّهْلُكَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ .
قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ : قَالَ اللَّهُ : {
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ
مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } فَكَانَ كُلُّ رَجُلٍ
بِاثْنَيْنِ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاَللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاَللَّهُ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ،
وَذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ ، وَالْمُسْلِمُونَ قَلِيلٌ ، فَلَمَّا كَثُرُوا قَالَ
اللَّهُ : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } ، فَخَيَّرَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى ، وَهَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ بَعْدَهُ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : لَمَّا كَانَ يَوْمُ
بَدْرٍ وَجِيءَ بِالْأَسْرَى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأَسْرَى ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ قَوْمُك وَأَهْلُك ، فَاسْتَبْقِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْهِمْ .
قَالَ عُمَرُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ كَذَّبُوك
وَأَخْرَجُوك ، قَدِّمْهُمْ وَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ اُنْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ، ثُمَّ
أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا .
فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : قَطَعْتَ رَحِمَك .
فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَلَمْ يُجِبْهُمْ ، ثُمَّ دَخَلَ ، فَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ
أَبِي بَكْرٍ .
وَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ .
وَقَالَ نَاسٌ : يَأْخُذُ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
رَوَاحَةَ .
ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ لَيُلِينُ قُلُوبَ قَوْمٍ حَتَّى
تَكُونَ أَلْيَنَ مِنْ اللِّينِ ، وَيَشُدُّ قُلُوبَ قَوْمٍ حَتَّى تَكُونَ
أَشَدَّ مِنْ الْحِجَارَةِ ، وَإِنَّ مَثَلَك يَا أَبَا بَكْرٍ مَثَلُ إبْرَاهِيمَ
إذْ قَالَ : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّك
غَفُورٌ رَحِيمٌ } .
وَمَثَلُ عِيسَى حِينَ قَالَ : { إنْ تُعَذِّبْهُمْ
فَإِنَّهُمْ عِبَادُك } .
وَمَثَلُك يَا عُمَرُ مَثَلُ نُوحٍ إذْ قَالَ : { رَبِّ
لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } .
وَمَثَلُ مُوسَى إذْ قَالَ : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى
أَمْوَالِهِمْ } ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَنْتُمْ الْيَوْمَ عَالَةٌ فَلَا يَفْلِتَنَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ إلَّا بِفِدَاءٍ
أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ .
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إلَّا
سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ ، فَإِنِّي سَمِعْته يَذْكُرُ الْإِسْلَامَ .
فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفَ أَنْ تَقَعَ عَلَيَّ الْحِجَارَةُ مِنْ
السَّمَاءِ مِنِّي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إلَّا سُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ } .
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا عَنْ أَقْوَالِ
أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ رَوَاحَةَ ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَمَّا
أَسَرُوا الْأَسْرَى لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : مَا تَرَوْنَ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا نَبِيَّ
اللَّهِ ، هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ
فِدْيَةً ، فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ ، فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُمْ لِلْإِسْلَامِ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ قُلْت : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ
تُمَكِّنَنَا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ
فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ ، وَتُمَكِّنَنِي مِنْ فُلَانٍ نَسِيبٍ بِأَحَالَ فَأَضْرِبَ
عُنُقَهُ ؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا .
فَهَوِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْت .
فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ جِئْت ، فَإِذَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ
يَبْكِيَانِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي
أَنْتَ وَصَاحِبُك ، فَإِنْ وَجَدْت بُكَاءً بَكَيْت وَإِلَّا تَبَاكَيْت .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ
أَصْحَابُك مِنْ أَخْذِهِمْ الْفِدَاءَ ، لَقَدْ عُرِضَ
عَلَيَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } إلَى قَوْلِهِ : { فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } فَأَحَلَّ اللَّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ ،
وَأَنْزَلَ اللَّهُ : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا يَعْنِي الْفِدَاءَ ،
وَاَللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يَعْنِي إعْزَازَ الدَّيْنِ وَأَهْلِهِ ،
وَإِذْلَالَ الْكُفْرِ وَأَهْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى عَبِيدَةُ
السَّلْمَانِيُّ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ ، فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَقْرَبَ
الْأُسَارَى فَيَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ ، أَوْ يَقْبَلُوا مِنْهُمْ الْفِدَاءَ ،
وَيُقْتَلَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { هَذَا جِبْرِيلُ يُخْبِرُكُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا الْأُسَارَى
فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ ، أَوْ تَقْبَلُوا مِنْهُمْ الْفِدَاءَ ،
وَيُسْتَشْهَدَ مِنْكُمْ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ } .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ بَلْ نَأْخُذُ
الْفِدَاءَ فَنَقْوَى عَلَى عَدُوِّنَا ، وَيُقْتَلُ مِنَّا فِي الْعَامِ
الْمُقْبِلِ بِعِدَّتِهِمْ ، فَفَعَلُوا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ،
وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
: كَانَ بِبَدْرٍ أُسَارَى مُشْرِكُونَ ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ } وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ مُشْرِكِينَ ، فَفَادَوْا وَرَجَعُوا ، وَلَوْ
كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَنَابُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا ، وَكَانَ عِدَّةُ مَنْ قُتِلَ
أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا ، وَمِثْلُهُمْ أَسْرَى ، وَكَانَ الشُّهَدَاءُ
قَلِيلًا .
وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ : إنَّ
الْقَتْلَى كَانُوا سَبْعِينَ وَالْأَسْرَى كَذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَابْنُ
الْمُسَيِّبِ ، وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ : { أَوَلَمَّا
أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا } .
وَأَنْشُد أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ لِكَعْبِ بْنِ
مَالِكٍ : فَأَقَامَ بِالْعَطَنِ الْمُعَطَّنِ مِنْهُمْ سَبْعُونَ عُتْبَةُ
مِنْهُمْ وَالْأَسْوَدُ وَإِنَّمَا قَالَ مَالِكٌ : وَكَانُوا مُشْرِكِينَ ،
وَلَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ لَأَقَامُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا ؛ لِأَنَّ
الْمُفَسِّرِينَ رَوَوْا أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي مُسْلِمٌ
.
وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمْ : إنَّ الْأَسْرَى قَالُوا لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: آمَنَّا بِك وَبِمَا جِئْت بِهِ وَلَنَنْصَحَنَّ لَك
عَلَى قَوْمِنَا ، فَنَزَلَتْ : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي
أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى } ، قَالَ الْعَبَّاسُ : اُفْتُدِيت بِأَرْبَعِينَ
أُوقِيَّةً ، وَقَدْ آتَانِي اللَّهُ أَرْبَعِينَ عَبْدًا ، وَإِنِّي لَأَرْجُو
الْمَغْفِرَةَ .
وَهَذَا كُلُّهُ ضَعَّفَهُ مَالِكٌ ، وَاحْتَجَّ عَلَى
إبْطَالِهِ بِمَا ذَكَرَ مِنْ رُجُوعِهِمْ إلَى مَوْضِعِهِمْ ، وَزِيَادَةً
عَلَيْهِ أَنَّهُمْ غَزَوْهُ يَوْمَ أُحُدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ بَعْضُهُمْ :
يَدُلُّ قَوْلُهُ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى
يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ } عَلَى تَكْلِيفِ الْجِهَادِ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ .
قُلْنَا : كَانَ الْجِهَادُ وَاجِبًا عَلَى أَنْبِيَاءٍ
قَبْلَ مُحَمَّدٍ ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَسْرَى وَلَا غَنِيمَةٌ .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ
يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } مَا كَانَ لَك يَا مُحَمَّدُ أَنْ يَكُونَ لَك أَسْرَى
حَتَّى يَغْلُظَ قَتْلُك فِي الْأَرْضِ ، وَتَثْبُتَ هَيْبَتُك فِي النُّفُوسِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى : {
لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَغَيْرُهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ،
فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : لَا يَتْبَعْنِي رَجُلٌ بَنَى دَارًا ، وَلَمْ
يَسْكُنْهَا ، أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَبْنِ بِهَا ، أَوْ لَهُ حَاجَةٌ
فِي الرُّجُوعِ .
قَالَ : فَلَقِيَ الْعَدُوَّ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ
الشَّمْسِ ؛ فَقَالَ : اللَّهُمَّ إنَّهَا مَأْمُورَةٌ ، وَإِنِّي مَأْمُورٌ
فَاحْبِسْهَا حَتَّى تَقْضِيَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ ، فَحَبَسَهَا اللَّهُ
عَلَيْهِ ، فَجَمَعُوا الْغَنَائِمَ فَلَمْ تَأْكُلْهَا النَّارُ } .
قَالَ :
{ وَكَانُوا إذَا غَنِمُوا غَنِيمَةً بَعَثَ اللَّهُ
عَلَيْهَا نَارًا فَأَكَلَتْهَا ، فَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ : إنَّكُمْ
غَلَلْتُمْ فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ ، فَبَايَعُوهُ فَلَزِقَتْ
يَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِيَدِهِ ، فَقَالَ لَهُ : إنَّ أَصْحَابَك قَدْ غَلُّوا
فَأْتِنِي بِهِمْ فَلْيُبَايِعُونِي ، فَلَزِقَتْ يَدُ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ
مِنْهُمْ بِيَدِهِ ، فَقَالَ لَهُمَا : إنَّكُمَا قَدْ غَلَلْتُمَا ، فَقَالَا :
أَجَلْ ، قَدْ غَلَلْنَا صُورَةَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ ، فَجَاءَا بِهَا ،
فَطُرِحَتْ فِي الْغَنَائِمِ ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّارَ فَأَكَلَتْهَا } .
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ أَطْعَمَنَا الْغَنَائِمَ رَحْمَةً رَحِمَنَا بِهَا ،
وَتَخْفِيفًا خَفَّفَ عَنَّا لِمَا عَلِمَ مِنْ ضَعْفِنَا } .
قَالَ الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ
بَيَّنَّا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجْهَ هَذِهِ النِّعْمَةِ وَفَائِدَةَ مَا فِيهَا
مِنْ حِكْمَةٍ ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَأُمَّتِهِ
مِنْ أَفْضَلِ وُجُوهِ الْكَسْبِ ، وَهِيَ جِهَةُ الْقَهْرِ وَالِاسْتِعْلَاءِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَمْ تَحِلَّ الْغَنَائِمُ لِقَوْمٍ
سُودِ الرُّءُوسِ ،
مِنْ قَبْلِكُمْ كَانَتْ تَنْزِلُ نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ
، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أَسْرَعَ النَّاسُ فِي الْغَنَائِمِ ، فَأَنْزَلَ
اللَّهُ : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ } إلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ :
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ
اللَّهِ السَّابِقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : سَبَقَ مِنْ اللَّهِ
أَلَّا يُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ .
الثَّانِي : سَبَقَ مِنْهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ
وَمُحَمَّدٌ فِيهِمْ .
الثَّالِثُ :
سَبَقَ مِنْهُ إحْلَالُ الْغَنَائِمِ لَهُمْ ،
وَلَكِنَّهُمْ اسْتَعْجَلُوا قَبْلَ الْإِحْلَالِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُمْكِنٌ
صَحِيحٌ ، لَكِنَّ أَقْوَاهُ مَا سَبَقَ مِنْ إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ ، وَقَدْ
كَانُوا غَنِمُوا أَوَّلَ غَنِيمَةٍ فِي الْإِسْلَامِ حِينَ أَرْسَلَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ فِي رَجَبٍ
مَقْفَلَهُ مِنْ بَدْرٍ الْأُولَى ، وَبَعَثَ مَعَهُ ثَمَانِيَةَ رَهْطٍ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ لَيْسَ فِيهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أَحَدٌ إلَى نَخْلَةٍ مَا
بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ فَيَرْصُدَ بِهَا قُرَيْشًا ، فَمَضَى وَمَضَى
أَصْحَابُهُ مَعَهُ ، حَتَّى نَزَلُوا بِنَخْلَةٍ ، فَمَرَّتْ عَلَيْهِمْ عِيرٌ
لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَيْتًا وَأُدْمًا وَتِجَارَةً مِنْ تِجَارَةِ قُرَيْشٍ ،
فِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ ؛ فَقُتِلَ عَمْرٌو ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسْرَى حَتَّى قَدِمُوا عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُمْسَ الْغَنِيمَةِ ،
وَقَسَمَ سَائِرَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ ؛ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ اللَّهُ
لِرَسُولِهِ الْخُمُسَ ، فَأَكَلُوا الْغَنِيمَةَ ، وَنَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضُ
الْغَنِيمَةِ ، كَمَا كَانَ فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ مِنْ الْخُمُسِ
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَرْبَعَةِ
الْأَخْمَاسِ لِلْغَانِمِينَ .
وَاَلَّذِي ثَبَتَ مِنْ ذَلِكَ أَكْلُهُمْ الْغَنِيمَةَ
الَّتِي غَنِمُوا ، وَإِحْلَالُ مَا أَخَذَ لَهُمْ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ عَنْ ذَلِكَ مُجِيزٌ لَهُ ؛ فَكَانَ وَحْيًا
بِسُكُوتِهِ وَإِمْضَائِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَوْلَا
كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ } فِي إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ لَعُذِّبْتُمْ بِمَا
اقْتَحَمْتُمْ فِيهَا مِمَّا لَيْسَ لَكُمْ اقْتِحَامُهُ إلَّا بِشَرْعٍ ، فَكَانَ
هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا اقْتَحَمَ مَا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا
مِمَّا هُوَ فِي عِلْمِ اللَّهِ حَلَالٌ إنَّهُ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِ
كَالصَّائِمِ إذَا قَالَ : هَذَا يَوْمُ نَوْبِي فَأُفْطِرُ الْآنَ .
أَوْ هَذَا يَوْمُ حَيْضِي فَأُفْطِرُ فَفَعَلَا ذَلِكَ .
وَكَأَنَّ النَّوْبَ وَالْحَيْضَ الْمُوجِبَانِ
لِلْفِطْرِ ؛ فَفِي مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ ، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ،
وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى
.
وَلَنَا فِي إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ عُمْدَةٌ ؛ فَهُوَ
أَنَّ حُرْمَةَ الْيَوْمِ سَاقِطَةٌ عِنْدَ اللَّهِ ، فَصَادَفَ الْهَتْكُ
مَحَلًّا لَا حُرْمَةَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ
قَصَدَ وَطْءَ امْرَأَةٍ قَدْ زُفَّتْ إلَيْهِ ، وَهُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا
لَيْسَتْ بِزَوْجِهِ فَإِذَا هِيَ زَوْجُهُ .
وَتَعَلَّقَ مَنْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِأَنَّ
طُرُوءَ الْإِبَاحَةِ لَا يَنْتَصِبُ عُذْرًا فِي عُقُوبَةِ التَّحْرِيمِ عِنْدَ
الْهَتْكِ ، كَمَا لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً ثُمَّ نَكَحَهَا ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ
؛ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ عِلْمِنَا قَدْ اسْتَوَى فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ بِالتَّحْرِيمِ .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي اخْتَلَفْنَا فِيهَا
اخْتَلَفَ عِلْمُنَا وَعِلْمُ اللَّهِ ، فَكَانَ الْمُعَوَّلُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ
فِي إسْقَاطِ الْعُقُوبَةِ ، كَمَا قَالَ : { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : { لَوْ نَزَلَتْ
نَارٌ مِنْ السَّمَاءِ لَأَحْرَقَتْنَا إلَّا عُمَرَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَوْ نَزَلَ عَذَابٌ مِنْ
السَّمَاءِ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ إلَّا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، لِقَوْلِهِ : يَا
نَبِيَّ اللَّهِ ؛ كَانَ الْإِثْخَانُ فِي الْقَتْلِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ
اسْتِبْقَاءِ الرِّجَالِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَوْ عُذِّبْنَا فِي هَذَا
الْأَمْرِ يَا عُمَرُ مَا نَجَا غَيْرُك } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ
أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ
} .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : فِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ الْإِثْخَانَ فِي الْقَتْلِ وَاجِبٌ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، حَتَّى
إذَا قَوِيَ الْمُسْلِمُونَ جَازَ الْفِدَاءُ ؛ لِلْقُوَّةِ عَلَى الْعِدَّةِ
لِقِتَالِهِمْ أَيْضًا ، فَإِنَّمَا يُرَاعَى الْأَنْظَرُ وَالْأَوْكَدُ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَإِنْ قِيلَ : تَحَقَّقَ
لَنَا مَعْصِيَتُهُمْ .
قُلْنَا : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
إسْرَاعُهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْلَالِ .
الثَّانِي : اخْتِيَارُهُمْ الْفِدَاءَ قَبْلَ
الْإِثْخَانِ فِي الْقَتْلِ .
الثَّالِثُ :
قَوْلُهُ لَهُمْ : { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ
وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } فَأُمِرُوا بِالْقَتْلِ فَاخْتَارُوا
الْفِدَاءَ .
قُلْنَا : أَمَّا الْقَوْلُ الثَّالِثُ فَضَعِيفٌ ؛
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ قَبْلَ أَنْ يُبَرِّرَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ بَعْدَهُ ، وَلَا
يُحْتَجُّ بِمُحْتَمَلٍ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي فَمُحْتَمَلٌ
أَنْ يَكُونَ أَحَدَهُمَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعَهُمَا ؛
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ اخْتِيَارُ الْفِدَاءِ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَهُمْ فِيهِ ؛ فَمَالُوا إلَى الْفِدَاءِ ، وَكَانَ
اللَّهُ قَدْ عَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْفَتِهِمْ بِالْكُفَّارِ مَعَ إغْلَاظِهِمْ
عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ وَالْإِخْرَاجِ ، وَإِلَى تَحْقِيقِ
الْمَعْصِيَةِ إلَى تَأْخِيرِهِمْ الْقَتْلَ حَتَّى نَزَلَ الْعَفْوُ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فَقَدْ
اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَعَهُمْ ، فَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ
ذَنْبًا مِنْهُ قُلْنَا : كَذَلِكَ تَوَهَّمَ بَعْضُ النَّاسِ ، فَقَالَ : إنَّهُ
كَانَ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فِيهِ مَعْصِيَةٌ
غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، وَحَاشَا لِلَّهِ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ ، إنَّمَا كَانَ مِنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَقُّفٌ وَانْتِظَارٌ ، وَلَمْ
يَكُنْ الْقَتْلُ لِيَفُوتَ ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا الصَّنَادِيدَ
، وَأَثْخَنُوا فِي الْأَرْضِ ، فَانْتَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : هَلْ ذَلِكَ كَافٍ فِيهِ أَمْ لَا ؟ وَهَذَا بَيِّنٌ عِنْدَ
الْإِنْصَافِ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ
يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ
مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ يُرِيدُوا
خِيَانَتَك فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاَللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
لَمَّا أَسَرَ مِنْ أُسَارَى الْمُشْرِكِينَ رُوِيَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ قَوْمٌ
مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُمْضُوا بِذَلِكَ عَزِيمَةً ، وَلَا
اعْتَرَفُوا بِهِ اعْتِرَافًا جَازِمًا
.
وَيُشْبِهُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقْرَبُوا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَبْعُدُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَنَزَلَتْ الْآيَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ
تَكَلَّمَ الْكَافِرُ بِالْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ وَبِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يُمْضِ
بِهِ عَزِيمَةً لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا
.
وَإِذَا وُجِدَ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ الْمُؤْمِنِ كَانَ
كَافِرًا إلَّا مَا كَانَ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ الْمَرْءُ
عَلَى دَفْعِهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَفَا عَنْهَا وَأَسْقَطَهَا .
وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ الْحَقِيقَةَ ؛
فَقَالَ : { وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَك } أَيْ إنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ
مِنْهُمْ خِيَانَةً وَمَكْرًا { فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ }
بِكُفْرِهِمْ وَمَكْرِهِمْ بِك وَقِتَالِهِمْ لَك ، فَأَمْكَنَك مِنْهُمْ ، وَإِنْ
كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْهُمْ خَيْرًا وَيَعْلَمُهُ اللَّهُ فَيَقْبَلُ ذَلِكَ
مِنْهُمْ وَيُعَوِّضُهُمْ خَيْرًا مِمَّا خَرَجَ عَنْهُمْ وَيَغْفِرُ لَهُمْ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ كُفْرِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ وَمَكْرِهِمْ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى :
{ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : { الَّذِينَ آمَنُوا } : هُمْ الَّذِينَ
عَلِمُوا التَّوْحِيدَ ، وَصَدَّقُوا بِهِ ، وَأَمَّنُوا أَنْفُسَهُمْ مِنْ
الْوَعِيدِ فِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَهَاجَرُوا
} : هُمْ الَّذِينَ تَرَكُوا أَوْطَانَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ
إيثَارًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ فِي إعْلَاءِ دِينِهِ ، وَإِظْهَارِ كَلِمَتِهِ ،
وَلُزُومِ طَاعَتِهِ ، وَعُمُومِ دَعَوْتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : { وَجَاهَدُوا } : أَيْ
الْتَزَمُوا الْجَهْدَ ؛ وَهِيَ الْمَشَقَّةُ فِي أَنْفُسِهِمْ ، بِتَعْرِيضِهَا
لِلْإِذَايَةِ وَالنِّكَايَةِ وَالْقَتْلِ ، وَبِأَمْوَالِهِمْ بِإِهْلَاكِهَا
فِيمَا يُرْضِي اللَّهَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ
آوَوْا وَنَصَرُوا } : هُمْ الْأَنْصَارُ الَّذِي تَبَوَّءُوا الدَّارَ
وَالْإِيمَانَ ، وَانْضَوَى إلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرُونَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : { أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : فِي النُّصْرَةِ .
الثَّانِي : فِي الْمِيرَاثِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ : جَعَلَ اللَّهَ
الْمِيرَاثَ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ دُونَ ذَوِي الْأَرْحَامِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ { وَاَلَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا
} قِيلَ : مِنْ النُّصْرَةِ لِبُعْدِ دَارِهِمْ .
وَقِيلَ : مِنْ الْمِيرَاثِ لِانْقِطَاعِ وَلَايَتِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : { وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ
فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ } : يُرِيدُ إنْ دَعَوْا مِنْ أَرْضِ
الْحَرْبِ عَوْنَكُمْ بِنَفِيرٍ أَوْ مَالٍ لِاسْتِنْقَاذِهِمْ ، فَأَعِينُوهُمْ ؛
فَذَلِكَ عَلَيْكُمْ فَرْضٌ ، إلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ عَهْدٌ
، فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عَلَيْهِمْ [ يُرِيدُ ] حَتَّى يَتِمَّ الْعَهْدُ أَوْ
يُنْبَذَ عَلَى سَوَاءٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : أَمَّا قَوْلُهُ : {
أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } : يَعْنِي فِي النُّصْرَةِ أَوْ فِي
الْمِيرَاثِ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَلَا يُبَالَى بِهِ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَيَّنَ حُكْمَ الْمِيرَاثِ بِقَوْلِهِ : {
أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى عُصْبَةٍ
ذَكَرٍ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } :
فَإِنَّ ذَلِكَ عَامٌّ فِي النُّصْرَةِ وَالْمِيرَاثِ ؛ فَإِنَّ مَنْ كَانَ
مُقِيمًا بِمَكَّةَ عَلَى إيمَانِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُعْتَدًّا لَهُ بِهِ ،
وَلَا مُثَابًا عَلَيْهِ حَتَّى يُهَاجِرَ .
ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ بِفَتْحِ مَكَّةَ
وَالْمِيرَاثِ بِالْقَرَابَةِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْوَارِثُ فِي دَارِ الْحَرْبِ
أَوْ فِي دَارِ السَّلَامِ ؛ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ الْهِجْرَةِ بِالسَّنَةِ ،
إلَّا أَنْ يَكُونُوا أُسَرَاءَ مُسْتَضْعَفِينَ ؛ فَإِنَّ الْوِلَايَةَ مَعَهُمْ قَائِمَةٌ
، وَالنُّصْرَةَ لَهُمْ وَاجِبَةٌ بِالْبَدَنِ بِأَلَّا يَبْقَى مِنَّا عَيْنٌ
تَطْرِفُ حَتَّى نَخْرُجَ إلَى اسْتِنْقَاذِهِمْ إنْ كَانَ عَدَدُنَا يَحْتَمِلُ
ذَلِكَ ، أَوْ نَبْذُلَ جَمِيعَ أَمْوَالِنَا فِي اسْتِخْرَاجِهِمْ ، حَتَّى لَا
يَبْقَى لِأَحَدٍ دِرْهَمٌ كَذَلِكَ
.
قَالَ مَالِكٌ وَجَمِيعُ الْعُلَمَاءِ : فَإِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ عَلَى مَا حَلَّ بِالْخَلْقِ فِي تَرْكِهِمْ
إخْوَانَهُمْ فِي أَسْرِ الْعَدُوِّ ، وَبِأَيْدِيهِمْ خَزَائِنُ الْأَمْوَالِ
وَفُضُولُ الْأَحْوَالِ وَالْعُدَّةُ وَالْعَدَدُ ، وَالْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {
وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ
فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَطَعَ اللَّهُ الْوِلَايَةَ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُؤْمِنِينَ
فَجَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ ، وَجَعَلَ الْكَافِرِينَ
بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ بَعْضٍ ، وَجَعَلَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضَهُمْ أَوْلِيَاءَ
بَعْضٍ ، يَتَنَاصَرُونَ بِدِينِهِمْ ، وَيَتَعَامَلُونَ بِاعْتِقَادِهِمْ .
وَفِي الصَّحِيحِ : { مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي
تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ كَمِثْلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ
تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ } .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ فِي الْمِيرَاثِ ؛ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ ، وَلَا
الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ
أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } .
وَقَالَ بَعْد هَذَا : { الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا
تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ } : يَعْنِي بِضَعْفِ الْإِيمَانِ
وَغَلَبَةِ الْكُفْرِ ؛ وَهَذِهِ هِيَ الْفِتْنَةُ وَالْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ ،
وَفِي هَذَا أَمْرٌ بِالْخُرُوجِ عَنْ دَارِ الْكُفْرِ إلَى دَارِ الْإِيمَانِ ،
وَهِيَ الْهِجْرَةُ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَاَلَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
.
رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ لِحَارِثَةَ : يَا حَارِثَةُ ، كَيْفَ أَصْبَحْت ؟ قَالَ :
مُؤْمِنًا حَقًّا .
قَالَ
: لِكُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةٌ ، فَمَا حَقِيقَةُ إيمَانِكَ
؟ قَالَ : عَزَفَتْ نَفْسِي عَنْ الدُّنْيَا ؛ فَاسْتَوَى عِنْدِي حَجَرُهَا
وَذَهَبُهَا ، وَكَأَنِّي نَاظِرٌ إلَى عَرْشِ رَبِّي .
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : عَرَفْت فَالْزَمْ
} .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَا يُدْرِكُ
أَحَدُكُمْ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ
إلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إلَّا
لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إذْ أَنْقَذَهُ
اللَّهُ مِنْهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي النَّارِ } .
وَقَدْ تَقَدَّمَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } إلَى قَوْلِهِ : كَرِيمٌ .
وَإِذَا كَانَ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ حَقًّا ظَهَرَ
ذَلِكَ فِي اسْتِقَامَةِ الْأَعْمَالِ بِامْتِثَالِ الْأَمْرِ .
وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ ، وَإِذَا كَانَ مَجَازًا
قَصَّرَتْ الْجَوَارِحُ فِي الْأَعْمَالِ ؛ إذْ لَمْ تَبْلُغْ قُوَّتُهُ إلَيْهَا .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى
: { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ
فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :
{ مِنْ بَعْدُ } : يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا أَمَرْتُكُمْ بِالْمُوَالَاةِ ،
هَكَذَا قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ ، إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ يُرِيدُ مِنْ بَعْدِ الْإِيمَانِ الْأَوَّلِ وَالْهِجْرَةِ الْأُولَى ،
فَإِنَّ الْهِجْرَةَ طَبَقَاتٌ : الْمُهَاجِرُونَ الْأَوَّلُونَ ، وَبَعْدَهُمْ
مَنْ هَاجَرَ فِي بُحْبُوحَةِ الْإِيمَانِ وَقَبْلَ الْفَتْحِ ، وَهُمْ طَبَقَاتٌ
عِنْدَنَا وَدَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { فَأُولَئِكَ
مِنْكُمْ } : يَعْنِي فِي الْمُوَالَاةِ وَالْمِيرَاثِ عَلَى اخْتِلَافِ
الْأَقْوَالِ ؛ فَإِنْ تَوَلَّى قَوْمًا فَهُوَ مِنْهُمْ بِاعْتِقَادِهِ مَعَهُمْ
، وَالْتِزَامِهِ لَهُمْ ، وَعَمَلِهِ بِعَمَلِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ { وَأُولُوا
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هَذِهِ
الْآيَةُ نَسْخٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُوَالَاةِ بِالْهِجْرَةِ دُونَ
الْقَرَابَةِ الَّتِي لَيْسَ مَعَهَا هِجْرَةٌ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ عُمُومٌ فِي كُلِّ قَرِيبٍ
بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ بِقَوْلِهِ : { أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا ،
فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لِأَوْلَى عُصْبَةٍ ذَكَرٍ } ،
حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ .
وَكِتَابُ اللَّهِ الَّذِي ثَبَتَ فِيهِ هُوَ اللَّوْحُ
الْمَحْفُوظُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ كُلَّ شَيْءٍ ، فَتَجْرِي الْأَحْكَامُ
عَلَى مَا سَطَّرَ فِيهِ مِنْ نَسْخٍ وَثُبُوتٍ وَإِمْضَاءٍ وَرَدٍّ .
سُورَةُ التَّوْبَةِ .
فِيهَا إحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً [ تَسْمِيَتُهَا ] :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ ،
وَلِذَلِكَ قَلَّ فِيهَا الْمَنْسُوخُ ، وَلَهَا سِتَّةُ أَسْمَاءً : التَّوْبَةُ
، وَالْمُبَعْثِرَةُ ، وَالْمُقَشْقِشَةُ ، وَالْفَاضِحَةُ وَسُورَةُ الْبُحُوثِ ،
وَسُورَةُ الْعَذَابِ .
فَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِسُورَةِ التَّوْبَةِ فَلِأَنَّ
اللَّهَ ذَكَرَ فِيهَا تَوْبَةَ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا بِتَبُوكَ .
فَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا بِالْفَاضِحَةِ فَلِأَنَّهُ
نَزَلَ فِيهَا : وَمِنْهُمْ ، وَمِنْهُمْ .
قَالَتْ الصَّحَابَةُ : حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا لَا
تُبْقِي أَحَدًا .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا الْمُبَعْثِرَةُ فَمِنْ هَذَا
الْمَعْنَى ، يُقَالُ : بَعْثَرْت الْمَتَاعَ : إذَا جَعَلْت أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ،
وَقَلَبْت جَمِيعَهُ وَقَلَّبْتَهُ ، وَمِنْهُ : { وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ } .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا الْمُقَشْقِشَةُ فَمِنْ
الْجَمْعِ ، فَإِنَّهَا جَمَعَتْ أَوْصَافَ الْمُنَافِقِينَ ، وَكَشَفَتْ
أَسْرَارَ الدِّينِ .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْبُحُوثِ فَمِنْ
بَحَثَ : إذَا اخْتَبَرَ وَاسْتَقْصَى ، وَذَلِكَ لِمَا تَضَمَّنَتْ أَيْضًا مِنْ
ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ وَالْبَحْثِ عَنْ أَسْرَارِهِمْ .
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا سُورَةَ الْعَذَابِ فَقَدْ
رُوِيَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَارِثِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ : مَا كَانُوا
يَدْعُونَ سُورَةَ التَّوْبَةِ إلَّا الْمُبَعْثِرَةَ ، فَإِنَّهَا تُبَعْثِرُ
أَخْبَارَ الْمُنَافِقِينَ .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : مَا كُنَّا
نَدْعُوهَا إلَّا الْمُقَشْقِشَةَ
.
وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ : مَثَلُ
بَرَاءَةَ كَمَثَلِ الْمِرْوَدِ مَا يُدْرَى أَسْفَلُهُ مِنْ أَعْلَاهُ .
الْقَوْلُ فِي سُقُوطِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ مِنْهَا : وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ أَغْرَاضٌ جِمَاعُهَا أَرْبَعَةٌ
: الْأَوَّلُ : قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَى عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ
الْقَاسِمِ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : إنَّهُ لَمَّا سَقَطَ أَوَّلُهَا سَقَطَ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَعَهُ .
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ أَنَّهُ
بَلَغَهُ أَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَةَ " كَانَتْ تَعْدِلُ الْبَقَرَةَ
أَوْ قُرْبَهَا ، فَذَهَبَ مِنْهَا ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُكْتَبْ فِيهَا بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
.
الثَّانِي : أَنَّ بَرَاءَةَ سُخْطٌ ، وَبِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رَحْمَةٌ ، فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
الثَّالِثُ : أَنَّ بَرَاءَةَ نَزَلَتْ بِرَفْعِ
الْأَمَانِ ، وَبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَمَانٌ .
وَهَذِهِ كُلُّهَا احْتِمَالَاتٌ ، مِنْهَا بَعِيدٌ
وَمِنْهَا قَرِيبٌ ؛ وَأَبْعَدُهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مُفْتَتَحَةٌ
بِذِكْرِ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّ سُوَرًا كَثِيرَةً مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ
اُفْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الْكُفَّارِ كَقَوْلِهِ : { الَّذِينَ كَفَرُوا } .
وَقَوْلِهِ : { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ } .
الرَّابِعُ :
وَهُوَ الْأَصَحُّ مَا ثَبَتَ عَنْ يَزِيدَ
الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ : قُلْنَا لِعُثْمَانَ : مَا
حَمَلَكُمْ أَنْ عَمَدْتُمْ إلَى الْأَنْفَالِ ، وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي وَإِلَى
بَرَاءَةَ ، وَهِيَ مِنْ الْمِئِينِ ، فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ
تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، وَوَضَعْتُمُوهَا
فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ ، فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟ .
قَالَ عُثْمَانُ { : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَدْعُو
بِبَعْضِ مَنْ يَكْتُبُ عَنْهُ ، فَيَقُولُ : ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي
يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا ، وَتَنْزِلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ : ضَعُوا هَذِهِ
الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا ، وَكَانَتْ
الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَّلِ مَا نَزَلَ ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ مِنْ
الْقُرْآنِ ، وَكَانَتْ قِصَّتُهَا
شَبِيهَةً بِقِصَّتِهَا ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا ،
فَظَنَنْت أَنَّهَا مِنْهَا ؛ فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْت بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ أَكْتُبْ
بَيْنَهُمَا سَطْرَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } .
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ : آخِرُ مَا نَزَلَ
بَرَاءَةٌ { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَأْمُرُنَا فِي أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ،
وَلَمْ يَأْمُرْنَا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ بِشَيْءٍ } ؛ فَلِذَلِكَ ضُمَّتْ إلَى
الْأَنْفَالِ ، وَكَانَتْ شَبِيهَةً بِهَا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أُعْطِيت السَّبْعَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّوْرَاةِ
، وَأُعْطِيت الْمِئِينِ مَكَانَ الزَّبُورِ ، وَأُعْطِيت الْمَثَانِيَ مَكَانَ
الْإِنْجِيلِ ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ } .
نُكْتَةٌ أُصُولِيَّةٌ : فِي هَذَا كُلِّهِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّ تَأْلِيفَ الْقُرْآنِ كَانَ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ، وَأَنَّ
تَأْلِيفَهُ مِنْ تَنْزِيلِهِ يُبَيِّنُهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ ، وَيُمَيِّزُهُ لِكُتَّابِهِ ، وَيُرَتِّبُهُ عَلَى
أَبْوَابِهِ ، إلَّا هَذِهِ السُّورَةَ فَلَمْ يَذْكُرْ لَهُمْ فِيهَا شَيْئًا ؛
لِيَتَبَيَّنَّ الْخَلْقُ أَنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ، وَيَحْكُمُ مَا
يُرِيدُ ، وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ ،
وَلَا يُحَاطُ بِعِلْمِهِ إلَّا بِمَا أَبْرَزَ مِنْهُ إلَى الْخَلْقِ ،
وَأَوْضَحَهُ بِالْبَيَانِ .
وَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ فِي
الدِّينِ ؛ أَلَا تَرَى إلَى عُثْمَانَ وَأَعْيَانِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ لَجَئُوا
إلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ ، وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّةَ "
بَرَاءَةَ " شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ " الْأَنْفَالِ " فَأَلْحَقُوهَا بِهَا ؟ فَإِذَا
كَانَ اللَّهُ قَدْ بَيَّنَ دُخُولَ الْقِيَاسِ فِي تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ فَمَا
ظَنُّك بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ
.
وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ إحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً :
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى : { بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى : { بَرَاءَةٌ } : أَيْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ؛ يُقَالُ : بَرِئْت
مِنْ الشَّيْءِ أَبْرَأُ بَرَاءَةً فَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ : إذَا أَزَلْته عَنْ
نَفْسِك ، وَقَطَعْت سَبَبَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنِك .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { إلَى الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
} : وَلَمْ يُعَاهِدْهُمْ إلَّا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ الْآمِرَ وَالْحَاكِمَ ،
وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ أَوْ أَحْكَمَهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْأُمَّةِ ، مَنْسُوبٌ
إلَيْهِمْ ، مَحْسُوبٌ عَلَيْهِمْ ، يُؤَاخَذُونَ بِهِ ؛ إذْ لَا يُمْكِنُ غَيْرُ
ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ تَحْصِيلَ الرِّضَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْجَمِيعِ مُتَعَذَّرٌ
لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اخْتِلَافُ الْآرَاءِ ، وَامْتِنَاعُ الِاتِّفَاقِ
عَلَى مَذْهَبٍ وَاحِدٍ .
وَالثَّانِي
: كَثْرَةُ عَدَدِهِمْ الْمَانِعِ مِنْ تَحْصِيلِ رِضَا
جَمِيعِهِمْ ، فَوَقَعَ الِاجْتِزَاءُ بِالْمُقَدَّمِ مِنْ الْوَجْهَيْنِ ؛
فَإِذَا عَقَدَ الْإِمَامُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ أَمْرًا لَزِمَ
الرَّعَايَا حُكْمُهُ ، فَإِذَا رَضُوا بِهِ كَانَ أَثْبَتَ لِنِسْبَتِهِ
إلَيْهِمْ ، كَمَا نُسِبَ عَهْدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَى الْمُسْلِمِينَ ، لِكَوْنِهِمْ بِهِ رَاضِينَ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْجَمَاعَةِ ،
وَهُوَ مُضَافٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
طَرِيقِ التَّعْظِيمِ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الْوَاحِدِ الْعَظِيمِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ
الْمُشْرِكِينَ } : وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمُعَاهِدَ كَانَ مُشْرِكًا ،
وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانُوا أَيْضًا
مُشْرِكِينَ ؟ لِأَنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَخْصُوصًا بِالْعَرَبِ أَهْلِ
الْأَوْثَانِ ، وَكَانُوا عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ كَانَ أَجَلُ عَهْدِهِ
أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ ، فَأَمْهَلَ
الْكُلَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .
وَقِيلَ :
مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ خَمْسِينَ
لَيْلَةً : عِشْرِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمِ ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ :
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } .
وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الَّذِي عِنْدِي
أَنَّ هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ أَحَدٍ مِمَّنْ لَهُ عَهْدٌ دُونَ مَنْ لَا عَهْدَ
لَهُ ؛ لِقَوْلِهِ : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ } .
فَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ أُجِّلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ،
وَيُحِلُّ دَمَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ
الْإِحْلَالِ لِدَمِهِ بِالْكُفْرِ الْمَوْجُودِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ أَيْضًا أَجَلًا لِمَنْ كَانَتْ مُدَّتُهُ أَكْثَرَ
مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَيَكُونَ إسْقَاطُ الزِّيَادَةِ تَخْصِيصًا لِلْمُدَّةِ
، كَمَا أَخْرَجَ اللَّهُ النِّسَاءَ مِنْ أَعْدَادِ مَنْ صُولِحَ عَلَيْهِ فِي
الْحُدَيْبِيَةِ ، بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ مِنْ الْمَصْلَحَةِ لِلْإِمَامِ ،
وَالتَّمَادِي عَلَى الْعَهْدِ ، أَوْ الرُّجُوعِ عَنْهُ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ
قَبْلُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَسِيحُوا
فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي
اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى : { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } : أَيْ
سِيرُوا ، وَهِيَ السِّيَاحَةُ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : بَلَغَنِي أَنَّ
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ انْتَهَى إلَى قَرْيَةٍ خَرِبَتْ حُصُونُهَا ، وَجَفَّتْ
أَنْهَارُهَا ، وَتَشَعَّبَ شَجَرُهَا ، فَنَادَى : يَا خَرِبُ ، أَيْنَ أَهْلُكِ
؟ فَنُودِيَ : يَا عِيسَى ، بَادُوا فَضَمَّتْهُمْ الْأَرْضُ ، وَعَادَتْ
أَعْمَالُهُمْ قَلَائِدَ فِي رِقَابِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؛ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ فَجَدّ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : يُرِيدُ مَالِكٌ بِسِيَاحَتِهِ
أَنَّهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ .
الْمَعْنَى :
لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مَسِيرُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ،
وَاخْتَبِرُوا فِيهَا ، وَحَرِّرُوا أَعْمَالَكُمْ ، وَانْظُرُوا مَآلَكُمْ ،
فَإِنْ دَخَلْتُمْ فِي الْإِسْلَامِ فَلَكُمْ الْأَمَانُ وَالِاحْتِرَامُ ، وَإِنْ
اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ عُومِلْتُمْ بِمُعَامَلَةِ الْكُفَّارِ مِنْ
الْقَتْلِ وَالْإِسَارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَدْ رَوَى جَمَاعَةٌ
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَانَ يَقُولُ فِي أَذَانِهِ : وَمَنْ كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ
فَعَهْدُهُ إلَى مُدَّتِهِ ؛ فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْعَهْدَ الْمَحْدُودَ لِمُدَّةٍ مَوْقُوفٌ عَلَى أَمَدِهِ ، وَأَنَّ الْعَهْدَ
الْمُطْلَقَ ، أَوْ الَّذِي لَهُ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّ
مُدَّتَهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، إلَّا مَنْ لَمْ يَنْقُضْ ، فَإِنَّ عَهْدَهُ
إلَى مُدَّتِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بِنَصِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ هَذَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
هَذِهِ الْأَشْهُرِ الَّتِي قُدِّرَتْ لِلسِّيَاحَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا مِنْ شَوَّالٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ إلَى صَفَرٍ مِنْ سَنَةِ
تِسْعٍ ؛ قَالَهُ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا عِشْرُونَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ،
أَوَّلُهَا يَوْمُ النَّحْرِ إلَى تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَذَلِكَ بِمُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ مِنْ رَبِيعٍ
الْأَوَّلِ سَنَةَ تِسْعٍ ، وَقِيلَ : هُوَ الثَّالِثُ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ
ذِي الْقَعْدَةِ .
وَقِيلَ فِي الرَّابِعِ مِنْ يَوْمِ يَبْلُغُهُمْ
الْعِلْمُ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛
فَبِذَلِكَ كَانَ الْبَدْءُ وَإِلَيْهِ كَانَ الْمُنْتَهَى .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَأَذَانٌ
مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ
اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ
وَبَشِّرْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : الْأَذَانُ
: هُوَ الْإِعْلَامُ لُغَةً مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، الْمَعْنَى بَرَاءَةٌ مِنْ
اللَّهِ وَسُولِهِ وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، أَيْ هَذِهِ بَرَاءَةٌ ،
وَهَذَا إعْلَامٌ وَإِنْذَارٌ : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولًا } .
{ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ
بَعْدَ الرُّسُلِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ بِمِنًى
فَقَالَ : { أَيُّهَا النَّاسُ أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قُلْنَا :
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ .
أَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا : اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : شَهْرٌ حَرَامٌ .
قَالَ : أَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ قَالُوا :
اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
قَالَ : بَلَدٌ حَرَامٌ .
قَالَ :
إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ
هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا } .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ : { بَعَثَنِي
أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ الَّذِينَ بَعَثَهُمْ
يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ،
وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ
.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : ثُمَّ أَرْدَفَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيٍّ ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ
بِبَرَاءَةَ .
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ
بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ ، وَأَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ
مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ .
} وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عُمَرَ
وَابْنِ الْأَحْوَصِ ، حَدَّثَنَا
أَبِي أَنَّهُ { شَهِدَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ،
وَذَكَّرَ ، وَوَعَظَ ، ثُمَّ قَالَ : أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ ، أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ
؛ أَيُّ يَوْمٍ أَحْرَمُ ؟ قَالَ : فَقَالَ النَّاسُ : يَوْمَ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ يَا رَسُولَ اللَّهِ
.
قَالَ : فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ
وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ
هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى نَفْسِهِ ، لَا
يَجْنِي وَالِدٌ عَلَى وَلَدِهِ ، وَلَا وَلَدٌ عَلَى وَالِدِهِ ، إنَّ
الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ ، فَلَيْسَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ مِنْ أَخِيهِ إلَّا
مَا حَلَّ مِنْ نَفْسِهِ ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ
مَوْضُوعٌ ، لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ،
غَيْرَ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ
، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَإِنَّ
أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ،
أَلَا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عَوَارٍ عِنْدَكُمْ ،
لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ
بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ ؛ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ ،
وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا .
أَلَا إنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا ، وَلَهُنَّ
عَلَيْكُمْ حَقًّا ، فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلَا يُوطِئْنَ
فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ ، وَلَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ
تَكْرَهُونَ .
أَلَا وَإِنَّ حَقَّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا
إلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ } .
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَرُوِيَ عَنْ الْحَارِثِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : {
سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ ، فَقَالَ : يَوْمُ النَّحْرِ
} .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ :
{ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَبَا بَكْرٍ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ ،
وَأَتْبَعَهُ عَلِيًّا ، فَبَيْنَمَا أَبُو بَكْرٍ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ إذْ
سَمِعَ رُغَاءَ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْقَصْوَاءِ ، فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَزِعًا يَظُنُّ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ عَلِيٌّ ، فَدَفَعَ إلَيْهِ
كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ عَلِيًّا
أَنْ يُنَادِيَ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ ، فَانْطَلَقَا وَحَجَّا ، فَقَامَ عَلِيٌّ
فَنَادَى أَيَّامَ التَّشْرِيقِ
: ذِمَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بَرِيئَةٌ مِنْ كُلِّ
مُشْرِكٍ ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَحُجَّنَّ
بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَلَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا مُؤْمِنٌ
} .
وَكَانَ عَلِيٌّ يُنَادِي فَإِذَا أَعْيَا قَامَ أَبُو
بَكْرٍ يُنَادِي بِهَا .
وَرُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ يَثِيعَ قَالَ : { سَأَلْت
عَلِيًّا بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْت فِي الْحَجَّةِ ؟ قَالَ : بُعِثْت بِأَرْبَعٍ :
أَلَّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
النَّبِيِّ عَهْدٌ فَعَهْدُهُ إلَى مُدَّتِهِ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ
فَأَجَلُهُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا نَفْسٌ
مُؤْمِنَةٌ ، وَلَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بَعْدَ عَامِهِمْ
هَذَا } .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ : { بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَرَاءَةَ
مَعَ أَبِي بَكْرٍ ، ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ
يُبَلِّغَ هَذَا إلَّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي فَدَعَا عَلِيًّا ، فَأَعْطَاهُ
إيَّاهُ } .
وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ يَوْمَ
الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ
.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ : لَا
نَشُكُّ
أَنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ يَوْمُ النَّحْرِ ؛ وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي تُرْمَى فِيهِ الْجَمْرَةُ ، وَيُنْحَرُ فِيهِ
الْهَدْيُ ، وَتُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ ، وَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي يَنْقَضِي
فِيهِ الْحَجُّ ؛ مَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ النَّحْرِ فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ
الْفَجْرِ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْحَجِّ وَهُوَ الْحَجُّ
الْأَكْبَرُ .
وَنَحْوَهُ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَكَمِ عَنْهُ ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ ، وَعَلِيٌّ
، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ
سُئِلَ عَنْ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ، فَقَالَ : " هُوَ يَوْمٌ يُحْلَقُ فِيهِ
الشَّعْرُ ، وَتُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ ، وَيُحَلُّ فِيهِ الْحَرَامُ ، وَتُوضَعُ
فِيهِ النَّوَاصِي " .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ،
وَمُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ :
" إنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ " وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : " الْحَجُّ الْأَكْبَرُ
الْقِرَانُ ، وَالْحَجُّ الْأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ " .
قَالَ الْقَاضِي : إذَا نَظَرْنَا فِي هَذِهِ
الْأَقْوَالِ فَالْمُنَقَّحُ مِنْهَا أَنَّ الْحَجَّ الْأَكْبَرَ الْحَجُّ ، كَمَا
قَالَ مُجَاهِدٌ ؛ لَكِنَّا إذَا بَحَثْنَا عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ
فَلَا شَكَّ أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ لِأَنَّ
الْحَجَّ عَرَفَةَ ، مَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا فِي يَوْمِهَا أَدْرَكَ
الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا فَلَا حَجَّ لَهُ ؛ بَيْدَ أَنَّ
الْمُرَادَ بِالْبَحْثِ عَنْ يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ
اللَّهُ فِي كِتَابِهِ ، وَذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي خُطْبَتِهِ ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ .
فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إنَّمَا أَمَرَ بِالْأَذَانِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلِثُبُوتِ الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ قَالَ يَوْمُ النَّحْرِ : { أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ،
أَلَيْسَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؟ } كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ عَنْ الزُّبَيْرِ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ :
أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ : هُوَ يَوْمُ الْحَجِّ
الْأَكْبَرِ } .
وَهَذَا مِمَّا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ .
وَقَدْ احْتَجَّ ابْنُ أَبِي أَوْفَى عَلَى أَنَّهُ
يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ بِانْقِضَاءِ الْحَجِّ فِيهِ مِنْ النُّسُكِ ،
وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { ثُمَّ لِيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ } .
وَغَاصَ مَالِكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَجَمَعَ بَيْنَ
الدَّلَائِلِ ، وَقَالَ : إنَّ يَوْمَ النَّحْرِ فِيهِ الْحَجُّ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ
الْوُقُوفَ إنَّمَا هُوَ فِي لَيْلَتِهِ ، وَفِي صَبِيحَتِهِ الرَّمْيُ
وَالْحَلْقُ وَالنَّحْرُ وَالطَّوَافُ ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا إشْكَالٌ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ
أَنَّهُ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ " بَرَاءَةٌ " عَلَى رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ
لِيُقِيمَ لِلنَّاسِ الْحَجَّ قِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، لَوْ بَعَثْت
بِهِ إلَى أَبِي بَكْرٍ .
فَقَالَ : { إنَّهُ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إلَّا رَجُلٌ
مِنْ أَهْلِ بَيْتِي .
ثُمَّ دَعَا عَلِيًّا ، فَقَالَ لَهُ : اُخْرُجْ
بِهَذِهِ الْقُصَّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةَ ، وَأَذِنَّ فِي النَّاسِ يَوْمَ
النَّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ كَافِرٌ ،
وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ،
وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدَّتِهِ
.
فَخَرَجَ عَلِيٌّ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ ، فَلَمَّا
رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ : أَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ ؟ قَالَ بَلْ مَأْمُورٌ .
ثُمَّ مَضَيَا ، فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ
الْحَجَّ ، وَالْعَرَبُ إذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ
الْحَجِّ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، حَتَّى إذَا كَانَ
يَوْمُ النَّحْرِ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ
بِاَلَّذِي أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
} .
وَقَدْ سَمِعْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إنَّمَا
سُمِّيَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ مَنْ
كَانَ يَقِفُ بِعَرَفَةَ ، وَمَنْ كَانَ يَقِفُ بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَكَانَ
النِّدَاءُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَجْتَمِعُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِيهِ أَوْلَى
وَأَبْلَغَ فِي الْمُرَادِ .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْمَعْنَى ،
وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَمَّاهُ يَوْمَ
الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْوُقُوفُ
كُلُّهُ بِعَرَفَةَ .
سَمِعْت أَبَا سَعِيدٍ مُحَمَّدَ بْنَ طَاهِرٍ
الشَّهِيدَ يَقُولُ : سَمِعْت الْأُسْتَاذَ أَبَا الْمُظَفَّرِ طَاهِرَ بْنَ
مُحَمَّدِ شَاهْ بُورٍ يَقُولُ : إنَّمَا أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا بِبَرَاءَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ
تَضَمَّنَتْ نَقْضَ الْعَهْدِ الَّذِي كَانَ عَقَدَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ سِيرَةُ الْعَرَبِ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْعَقْدُ
إلَّا الَّذِي عَقَدَهُ أَوْ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَ أَلْسِنَةَ الْعَرَبِ بِالْحُجَّةِ ،
وَأَنْ يُرْسِلَ ابْنَ عَمِّهِ الْهَاشِمِيِّ مِنْ بَيْتِهِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ ،
حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُمْ مُتَكَلِّمٌ
.
وَهَذَا بَدِيعٌ فِي فَنِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اُخْتُلِفَ فِي قَوْلِ
عَلِيٍّ فِي التَّأْذِينِ : هَلْ كَانَ بِثَلَاثِ آيَاتٍ أَوْ تِسْعٍ إلَى
قَوْلِهِ : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } .
أَوْ إلَى قَوْلِهِ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
.
وَهَذَا إنَّمَا نَشَأَ مِنْ رِوَايَاتٍ وَرَدَتْ ،
مِنْهَا قَوْلُهُ : وَلَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ .
وَفِيهَا مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُقَاتِلَ
أَهْلَ الْكِتَابِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ تَأْذَيْنَهُ
إنَّمَا كَانَ إلَى قَوْلِهِ :
{ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ
إنَّمَا وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي أَوْقَاتٍ
مُتَبَايِنَةٍ بِأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ ، مِنْهَا مَا قَالَهُ فِي تَأْذِينِهِ ،
وَمِنْهَا مَا زَادَ عَلَيْهِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { إلَّا
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا
وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى
مُدَّتِهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ
مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ مَنْ خَاسَ بِعَهْدِهِ ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ
، فَأَذِنَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِي نَقْضِ عَهْدِ مَنْ خَاسَ ، وَأَمَرَ
بِالْوَفَاءِ لِمَنْ بَقِيَ عَلَى عَهْدِهِ إلَى مُدَّتِهِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ :
{ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إلَّا
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
الْمَعْنَى : كَيْفَ يَبْقَى لَهُمْ عَهْدٌ عِنْدَ
اللَّهِ وَهُمْ قَدْ نَقَضُوهُ ؛ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ قُرَيْشٌ الَّذِينَ
عَاهَدَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ
؛ أَمَرَ أَنْ يُتِمَّ لَهُمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ ، وَكَانَ قَدْ بَقِيَ
لَهُمْ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ؛ وَهَذَا وَهْمٌ ؛
فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ كَانَ عَهْدُهَا مَنْقُوضًا مِنْهُمْ وَمِنْ
الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ كَانَ الْفَتْحُ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ
كَانَ عَاهَدَ مِنْ الْعَرَبِ كَخُزَاعَةَ وَبَنِي مُدْلِجٍ ، فَلَا بُدَّ مِنْ
أَنْ يُوَفَّى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا
انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ
إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
.
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :
{ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } : فِيهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الْمَعْلُومَةُ : رَجَبٌ الْفَرْدُ ،
وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ .
الثَّانِي : أَنَّهَا شَوَّالٌ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ إلَى
آخِرِ الْمُحَرَّمِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ
النَّحْرِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهَا تَمَامُ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ كَانَتْ بَقِيَتْ
مِنْ عَهْدِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ
عَاهَدُوا ثُمَّ لَمْ يَنْقُضُوا
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : أَمَّا الْقَوْلُ
الْأَوَّلُ فَسَاقِطٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ نَشْتَغِلَ بِهِ ، لِانْعِقَادِ
الْإِجْمَاعِ عَلَى فَسَادِهِ ، وَيَأْتِي تَمَامُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذِهِ
السُّورَةِ .
وَأَمَّا سَائِرُ الْأَقْوَالِ فَمُحْتَمَلَةٌ ، إلَّا
أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ كَمَا
تَقَدَّمَ ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي كَانَ فِيهِ الْأَذَانُ ، وَبِهِ وَقَعَ
الْإِعْلَامُ ، وَعَلَيْهِ تَرَتَّبَ حَلُّ الْعَقْدِ الْمُرْتَبِطِ إلَيْهِ ،
وَبِنَاءُ الْأَجَلِ الْمُسَمَّى عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ } : هَذَا اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ مُخْتَصًّا بِكُلِّ كَافِرٍ
بِاَللَّهِ ، عَابِدٍ لِلْوَثَنِ فِي الْعُرْفِ ، وَلَكِنَّهُ عَامٌّ فِي
الْحَقِيقَةِ لِكُلِّ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ ، أَمَّا أَنَّهُ بِحُكْمِ قُوَّةِ
اللَّفْظِ يَرْجِعُ تَنَاوُلُهُ إلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ الَّذِينَ كَانَ
الْعَهْدُ لَهُمْ وَفِي جِنْسِهِمْ ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ فِيمَنْ كَفَرَ مِنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرُهُمْ ، فَيُقْتَلُونَ بِوُجُودِ عِلَّةِ الْقَتْلِ ،
وَهِيَ الْإِشْرَاكُ فِيهِمْ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ الْبَيَانُ بِالنَّصِّ
عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ ، وَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } :
عَامٌّ فِي كُلِّ مُشْرِكٍ لَكِنَّ السُّنَّةَ خَصَّتْ
مِنْهُ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ امْرَأَةٍ وَصَبِيٍّ ،
وَرَاهِبٍ ، وَحُشْوَةٍ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَبَقِيَ تَحْتَ
اللَّفْظِ مَنْ كَانَ مُحَارِبًا أَوْ مُسْتَعِدًّا لِلْحِرَابَةِ وَالْإِذَايَةِ
، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ : اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَكُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } : هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ؛ وَقَدْ قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : إنَّهُ يَخُصُّ مِنْهَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِقَوْلِهِ فِي
الْبَقَرَةِ : { وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } .
وَقُرِئَ : وَلَا تَقْتُلُوهُمْ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهَا فِي سُورَةِ
الْبَقَرَةِ .
وَقَدْ قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهَا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ ابْنُ خَطَلٍ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ
قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ
نَهَارٍ ، ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ } .
وَهَذَا نَصٌّ .
قُلْنَا :
هَذَا خَبَرٌ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ لَا
يَمْلِكُهَا كَافِرٌ أَبَدًا ، لِأَنَّ الْقِتَالَ إنَّمَا يَكُونُ لِلْكُفَّارِ ،
فَأَمَّا كَافِرٌ يَأْوِي إلَيْهَا فَلَا تَعْصِمُهُ وَلَا قُرَّةَ عَيْنٍ ،
وَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْحَدِيثِ وَلَا لَفْظِهِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَخُذُوهُمْ
وَاحْصُرُوهُمْ } : دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِسَارِ فِيهِمْ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ
ذِكْرُ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاقْعُدُوا
لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ
اغْتِيَالِهِمْ قَبْلَ الدَّعْوَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ } الْآيَةَ إلَى : {
فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ } لِمَا تَقَدَّمَ ، ( رَحِيمٌ )
بِخَلْقِهِ فِي إمْهَالِهِمْ ثُمَّ الْمَغْفِرَةُ لَهُمْ .
وَهَذَا مُبَيَّنٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا : لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ، فَإِذَا
فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ،
وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ }
.
فَانْتَظَمَ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَاطَّرَدَا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ } : دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى
مَا كَانَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَعَلَّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ
الرِّدَّةِ فِي قَوْلِهِ : لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى
عَلَّقَ الْعِصْمَةَ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ، فَتَعَلَّقَ
بِهِمَا .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ : { فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ } : وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى تَرْكِ قِتَالِهِمْ وَحَصْرِهِمْ
وَمَنْعِهِمْ عَنْ التَّصَرُّفِ ، وَأَلَّا يَرْصُدَ لَهُمْ غِيلَةً ، وَلَا
يَقْطَعَ عَلَى أَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ سَبِيلُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
{ وَاحْصُرُوهُمْ } : قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : امْنَعُوهُمْ عَنْ التَّصَرُّفِ
إلَى بِلَادِكُمْ وَالدُّخُولِ إلَّا لِلْقَلِيلِ إلَيْكُمْ ، إلَّا أَنْ
تَأْذَنُوا لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَيَدْخُلُوا إلَيْكُمْ بِأَمَانٍ مِنْكُمْ ؛
فَإِنَّ الْمَحْبُوسَ تَحْتَ سُلْطَانِ الْإِذْنِ ، مِنْ الْجَانِبَيْنِ ،
وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَبْسٌ وَلَا حَصْرٌ فَإِنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُهُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ
أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ
اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك } : مَعْنَاهُ
سَأَلَ جِوَارَك ، أَيْ أَمَانَك وَذِمَامَك فَأَعْطِهِ إيَّاهُ لِيَسْمَعَ
الْقُرْآنَ ؛ فَإِنْ قَبِلَ أَمْرًا فَحَسَنٌ ، وَإِنْ أَبَى فَرُدَّهُ إلَى
مَأْمَنِهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ : إذَا وُجِدَ الْحَرْبِيُّ فِي طَرِيقِ
بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : جِئْت أَطْلُبُ الْأَمَانَ ، فَقَالَ مَالِكٌ
: هَذِهِ أُمُورٌ مُشْكِلَةٌ ، وَأَرَى أَنْ يُرَدَّ إلَى مَأْمَنِهِ ، وَالْآيَةُ
إنَّمَا هِيَ فِيمَنْ يُرِيدُ سَمَاعَ الْقُرْآنِ وَالنَّظَرَ فِي الْإِسْلَامِ ؛
فَأَمَّا الْإِجَارَةُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ لِمَصْلَحَةِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَالنَّظَرُ فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ بِهِ مَنْفَعَةٌ ؛
وَذَلِكَ يَكُونُ مِنْ أَمِيرٍ أَوْ مَأْمُورٍ ؛ فَأَمَّا الْأَمِيرُ فَلَا
خِلَافَ فِي أَنَّ إجَارَتَهُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ لِلنَّظَرِ
وَالْمَصْلَحَةِ ، نَائِبٌ عَنْ الْجَمِيعِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ
الْمَضَارِّ .
وَأَمَّا إنْ كَانَ رَعِيَّةً رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ
دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ، وَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ
أَقْصَاهُمْ } .
وَاَلَّذِي مِنْهُمْ غَيْرُ الْأَمِيرِ ، وَهُوَ حُرٌّ
أَوْ عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ ، فَأَمَّا الْحُرُّ فَيَمْضِي أَمَانُهُ
عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ ، إلَّا أَنَّ ابْنَ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا
قَالَ : يَنْظُرُ الْإِمَامُ فِيهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ جِوَارَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ
وَكَذَلِكَ أَمْضَاهُ عُمَرُ عَلَى النَّاسِ ، وَتَوَعَّدَ بِالْقَتْلِ مَنْ
رَدَّهُ ، فَقَالَ : " لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ لِلْعِلْجِ إذَا اشْتَدَّ
فِي الْحَبْلِ مُطَرَّسٌ فَإِذَا سَكَنَ إلَى قَوْلِهِ قَتَلَهُ ؛ فَإِنِّي لَا
أُوتَى بِأَحَدٍ فَعَلَ
ذَلِكَ إلَّا ضَرَبْت عُنُقَهُ " .
وَأَمَّا الْعَبْدُ : فَلَهُ الْأَمَانُ فِي مَشْهُورِ
الْمَذْهَبِ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا أَمَانَ لَهُ ، وَهُوَ
الْقَوْلُ الثَّانِي لِعُلَمَائِنَا ، وَكَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَأَى أَنَّ مَنْ
لَا يُسْهَمُ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ لَا
أَمَانَ لَهُ ، لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ ، فَكَيْفَ يَسْقُطُ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ
حَقٌّ .
وَعُمْدَةُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّ عُمُومَ الْحَدِيثِ
يَدْخُلُ فِيهِ الْعَبْدُ وَالْمَرْأَةُ ، وَلِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ نَاقَضَ
فَقَالَ : إذَا أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْقِتَالِ جَازَ أَمَانُهُ ، وَلَا
يَصِحُّ أَنْ يُسْلَبَ جَوَازَ الْأَمْنِ مِنْ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ ؛
لِأَنَّهُ صَدَّهُ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَهُ بِالْإِسْلَامِ
وَالْآدَمِيَّةِ .
وَأَمَّا الصَّبِيُّ : فَعَدَمُ تَكْلِيفِهِ يُسْقِطُ
قَوْلَهُ بِلَا كَلَامٍ ، إلَّا أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ قَالَتْ : إذَا أَطَاقَ
الْقِتَالَ صَارَ فِي جُمْلَةِ الْجَيْشِ ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ دَلِيلُ ذَلِكَ ؛
وَجَازَ أَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاتِلَةِ ،
وَدَخَلَ فِي الْفِئَةِ الْحَامِيَةِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { حَتَّى
يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } : مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ
إلَّا وَهُوَ سَامِعٌ لِكَلَامِ اللَّهِ ، لَكِنْ بِوَاسِطَةِ اللُّغَاتِ
وَبِدَلَالَةِ الْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ ، وَكَذَلِكَ يَسْمَعُ كَلَامَ اللَّهِ
كُلُّ غَائِبٍ ، لَكِنَّ الْقُدُّوسَ لَا مِثْلَ لَهُ وَلَا لِكَلَامِهِ .
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُكَرِّمَ
أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ ، كَمَا فَعَلَ
بِمُوسَى وَمُحَمَّدٍ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : لَيْسَ يُرِيدُ بِقَوْلِهِ
: { حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } مُجَرَّدَ الْإِصْغَاءِ ، فَيَحْصُلَ
الْعِلْمُ لَهُ بِظَاهِرِ الْقَوْلِ ؛ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فَهْمَ
الْمَقْصُودِ مِنْ دَلَالَتِهِ عَلَى النُّبُوَّةِ ، وَفَهْمِ الْمَقْصُودِ بِهِ
مِنْ التَّكْلِيفِ ، وَلَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَى الْعَرَبِ وَجْهُ الْإِعْجَازِ
فِيهِ ، وَطَرِيقُ الدَّلَالَةُ عَلَى النُّبُوَّةِ ، لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ
أَسَالِيبِ فَصَاحَةِ الْعَرَبِ فِي النَّظْمِ وَالنَّثْرِ ، وَالْخُطَبِ
وَالْأَرَاجِيزِ ، وَالسَّجْعِ وَالْأَمْثَالِ ، وَأَنْوَاعِ فَصْلِ الْخِطَابِ ؛
فَإِنْ خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْعِلْمَ بِذَلِكَ ، وَالْقَبُولَ لَهُ صَارَ مِنْ
جُمْلَة الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ صُدَّ بِالطَّبْعِ ، وَمُنِعَ بِالْخَتْمِ ،
وَحَقَّ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ الْقَوْلُ رُدَّ إلَى مَأْمَنِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } : نَفَى اللَّهُ عَنْهُمْ الْعِلْمَ ؛ لِنَفْيِ
فَائِدَتِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ وَالِاسْتِبْصَارِ ، وَقَدْ يَنْتَفِي الشَّيْءُ
بِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ ؛ إذْ الشَّيْءُ إنَّمَا يُرَادُ لِمَقْصُودِهِ ،
فَإِذَا عَدِمَ الْمَقْصُودَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ ؛ فَأَمَرَ اللَّهُ
بِالرِّفْقِ بِهِمْ ، وَالْإِمْهَالِ لَهُمْ ، حَتَّى يَقَعَ الِاعْتِبَارُ أَنْ
مَنَّ اللَّهُ بِالْهُدَى وَالِاسْتِبْصَارِ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ
نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ
يَنْتَهُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى { وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
} : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّاعِنَ فِي الدِّينِ
كَافِرٌ ، وَهُوَ الَّذِي يَنْسِبُ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ ، أَوْ
يَعْتَرِضُ بِالِاسْتِخْفَافِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ الدِّينِ ؛ لِمَا ثَبَتَ مِنْ
الدَّلِيلِ الْقَطْعِيِّ عَلَى صِحَّةِ أُصُولِهِ وَاسْتِقَامَةِ فُرُوعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا طَعَنَ الذِّمِّيُّ
فِي الدِّينِ انْتَقَضَ عَهْدُهُ لِقَوْلِهِ : { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } إلَى : {
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } فَأَمَرَ اللَّهُ بِقَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ
إذَا طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ
بِشَرْطَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَكْثُهُمْ لِلْعَهْدِ .
وَالثَّانِي : طَعْنُهُمْ فِي الدِّينِ .
قُلْنَا :
الطَّعْنُ فِي الدِّينِ نَكْثٌ لِلْعَهْدِ ، بَلْ قَالَ
عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنْ عَمِلُوا مَا يُخَالِفُ الْعَهْدَ
انْتَقَضَ عَهْدُهُمْ .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رُفِعَ إلَيْهِ أَنَّ ذِمِّيًّا
نَخَسَ دَابَّةً عَلَيْهَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ ، فَرَمَحَتْ ، فَأَسْقَطَتْهَا ،
فَانْكَشَفَ بَعْضُ عَوْرَتِهَا ، فَأَمَرَ بِصَلْبِهِ فِي الْمَوْضِعِ وَقَدْ
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إذَا حَارَبَ الذِّمِّيُّ نُقِضَ عَهْدُهُ ، وَكَانَ [
مَالُهُ وَوَلَدُهُ ] فَيْئًا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ : وَلَا يُؤْخَذُ
وَلَدُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَقَضَ وَحْدَهُ
.
وَقَالَ : أَمَّا مَالُهُ فَيُؤْخَذُ .
وَهَذَا تَعَارُضٌ لَا يُشْبِهُ مَنْصِبَ مُحَمَّدٍ ؛
لِأَنَّ عَهْدَهُ هُوَ الَّذِي حَمَى وَلَده وَمَالَهُ ، فَإِذَا ذَهَبَ عَنْهُ
ذَهَبَ عَنْ وَلَدِهِ وَمَالِهِ
.
وَقَالَ أَشْهَبُ : إذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ
فَهُوَ عَلَى عَهْدِهِ ، وَلَا يَعُودُ الْحُرُّ فِي الرِّقِّ أَبَدًا .
وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْعَهْدَ
مَعْنًى مَحْسُوسًا ، وَإِنَّمَا الْعَهْدُ حُكْمٌ اقْتَضَاهُ النَّظَرُ ،
وَالْتَزَمَهُ الْمُسْلِمُونَ ، فَإِذَا نَقَضَهُ انْتَقَضَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ
مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ، فَإِنَّهَا تُعْقَدُ ؛ فَتُرَتَّبُ عَلَيْهَا
الْأَحْكَامُ ؛ فَإِذَا نُقِضَتْ وَنُسِخَتْ ذَهَبَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا
يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ
الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ
يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ } فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : دَلَّتْ
الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَعُمَّار الْمَسَاجِدِ بِالْإِيمَانِ
وَالصَّلَاةِ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ رَبَطَهَا بِهَا ، وَأَخْبَرَ عَنْهَا
بِمُلَازَمَتِهَا ، وَالنَّفْسُ تُطَمْئِنُ بِهَا وَتَسْكُنُ إلَيْهَا ، وَهَذَا
فِي ظَاهِرِ الصَّلَاحِ لَيْسَ فِي مَقَاطِعِ الشَّهَادَاتِ ، فَلَهَا وُجُوهٌ ،
وَلِلْعَارِفِينَ بِهَا أَحْوَالٌ ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ كُلُّ أَحَدٍ بِمِقْدَارِ
حَالِهِ وَعَلَى مُقْتَضَى صِفَتِهِ ؛ فَمِنْهُمْ الذَّكِيُّ الْفَطِنُ الْمُحَصِّلُ
لِمَا يَعْلَمُ اعْتِقَادًا وَإِخْبَارًا ، وَمِنْهُمْ الْمُغَفَّلُ ؛ فَكُلُّ
أَحَدٍ يَنْزِلُ عَلَى مَنْزِلَتِهِ وَيَقْدِرُ عَلَى صِفَتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : رَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّ
الْآيَةَ إنَّمَا قُصِدَ بِهَا قُرَيْشٌ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَفْخَرُونَ عَلَى
سَائِرِ النَّاسِ بِأَنَّهُمْ سُكَّانُ مَكَّةَ وَعُمَّارُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
، وَيَرَوْنَ بِذَلِكَ فَضْلًا لَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ ، فَنَفَى اللَّهُ ذَلِكَ
عَنْهُمْ شَرْعًا وَفَضِيلَةً ، لَا حِسًّا وَوُجُودًا ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْعِمَارَةَ
لِبَيْتِ اللَّهِ لَا تَكُونُ بِالْكُفْرِ بِهِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ
بِالْإِيمَانِ وَالْعِبَادَةِ وَأَدَاءِ الطَّاعَةِ ؛ سَمِعْت الشَّيْخَ
الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ الشَّاشِيَّ
يَقُولُ : كَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ يُسَمِّي
الشَّيْخَ الْإِمَامَ أَبَا إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيَّ إمَامَ الشَّافِعِيَّةِ
وَشَيْخَ الصُّوفِيَّةِ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ حَمَامَةَ الْمَسْجِدِ ؛
لِمُلَازِمَتِهِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْعَلُ لِنَفْسِهِ بَيْتًا
سِوَاهُ يُلَازِمُ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ ، وَيُوَاظِبُ الْقِرَاءَةَ
وَالتَّدْرِيسَ حَتَّى صَارَ إمَامَ الطَّرِيقَتَيْنِ : الْفِقْهِ وَالتَّصَوُّفِ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنْ
اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : نَفَى اللَّهُ الْمُوَالَاةَ بِالْكُفْرِ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ
خَاصَّةً ، وَلَا قُرْبَى أَقْرَبُ مِنْهَا ، كَمَا نَفَاهَا بَيْنَ النَّاسِ
بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ، بِقَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
} ؛ لَيُبَيِّنَ أَنَّ الْقُرْبَ قُرْبُ الْأَدْيَانِ لَا قُرْبُ الدِّيَارِ
وَالْأَبَدَانِ ، وَمِثْلُهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ : يَقُولُونَ لِي دَارُ الْأَحِبَّةِ
قَدْ دَنَتْ وَأَنْتَ كَئِيبٌ إنَّ ذَا لَعَجِيبُ فَقُلْت وَمَا تُغْنِي دِيَارٌ
قَرِيبَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقُلُوبِ قَرِيبُ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْإِحْسَانُ بِالْهِبَةِ وَالصِّلَةِ
مُسْتَثْنَى مِنْ الْوِلَايَةِ
: لِحَدِيثِ أَسْمَاءَ ؛ قَالَتْ { : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ رَاغِبَةً ، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ
أَفَأَصِلُهَا ؟ قَالَ : صِلِي أُمَّكِ
} .
وَتَمَامُهُ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ : { لَا يَنْهَاكُمْ
اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } : تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ
: { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } إمَّا بِالْمَآلِ وَسُوءِ
الْعَاقِبَةِ ، وَإِمَّا بِالْأَحْكَامِ فِي الْعَاجِلَةِ ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ أَيْ
وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَيَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِاخْتِلَافِ
الْمَوْضِعِ الْمَوْضُوعِ فِيهِ كُفْرًا وَإِيمَانًا .
الْآيَةُ الْعَاشِرَةُ قَوْله تَعَالَى { قُلْ إنْ كَانَ
آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ
وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ
تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي
سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاَللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى
{ قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ
مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا } : هَذَا بَيَانُ
فَضْلِ الْجِهَادِ ، وَإِشَارَةٌ إلَى رَاحَةِ النَّفْسِ وَعَلَاقَتِهَا
بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ
حَالِ مَنْ تَرَكَ الْهِجْرَةَ ، وَآثَرَ الْبَقَاءَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ
ثَلَاثَةَ مَقَاعِدَ : قَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ : أَتَذَرُ دِينَك
وَدِينَ آبَائِك وَتُسْلِمَ .
فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ .
وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ لَهُ :
أَتَذَرُ أَهْلَك وَمَالَك فَتُهَاجِرَ ، فَخَالَفَهُ ثُمَّ هَاجَرَ .
وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ ، فَقَالَ لَهُ :
تُجَاهِدُ فَتُقْتَلُ ، وَتُنْكَحُ أَهْلُك ، وَيُقْسَمُ مَالُك ، فَخَالَفَهُ
فَجَاهَدَ فَقَتَلَ .
فَحَقَّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْعَشِيرَةُ :
الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَبْلُغُ عِقْدَ الْعَشَرَةِ ، فَمَا زَادَ .
وَمِنْهُ الْمُعَاشَرَةُ ، وَهِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى
الْأَمْرِ بِالْعَزْمِ الْكَثِيرِ
.
وَقَوْلُهُ :
{ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أَيْ
اقْتَطَعْتُمُوهَا مِنْ غَيْرِهَا وَالْكَسَادُ : نُقْصَانُ الْقِيمَةِ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { غَزَا نَبِيٌّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ : لَا
يَتْبَعُنِي رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمَّا يَبْنِ
بِهَا ، أَوْ بَنَى دَارًا وَلَمْ يَسْكُنْهَا .
} الْحَدِيثَ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : {
فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } : قَوْلُهُ : فَتَرَبَّصُوا
صِيغَتُهُ الْأَمْرُ ، وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ ، وَأَمْرُ اللَّهِ الَّذِي
يَأْتِي فَتْحُ مَكَّةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَعْنَى الْآيَةِ
الْهِجْرَةُ ، وَيَكُونُ أَمْرُ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ الَّتِي تُنْزِلُ بِهِمْ
الذُّلَّ وَالْخِزْيَ ، حَتَّى يَغْزُوَهُمْ الْعَدُوُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ ،
وَيَسْلُبَهُمْ أَمْوَالَهُمْ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى {
لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } فِيهَا ثَلَاثُ
مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ
قَالَ مَالِكٌ { : لَمَّا انْهَزَمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَبَضَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي
طَلْحَةَ عَلَى عِنَانِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ مُرْ بِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ
انْهَزَمُوا فَنَضْرِبَ رِقَابَهُمْ
.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَوَخَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ ؟ فَقِيلَ لَهُ :
أَوَقَسَمَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ
خَرَجَ يُدَاوِي الْجَرْحَى ؟ فَقَالَ :
مَا عَلِمْت أَنَّهُ أَسْهَمَ لِامْرَأَةٍ فِي
مَغَازِيهِ } .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : وَكَانَتْ حُنَيْنٌ
فِي حَرٍّ شَدِيدٍ .
قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : قَالَ لَنَا مَالِكٌ :
حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ :
قَالَ رَجُلٌ لِصَفْوَانَ يَوْمَ حُنَيْنٍ : وَاَللَّهِ
لَا نَرْتَدُّ أَبَدًا .
فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ : وَاَللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ
قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ رَبٍّ مِنْ هَوَازِنَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْطَى صَفْوَانَ مَثْنَى مِئِينَ أَوْ ثَلَاثَ .
وَقَالَ صَفْوَانُ : لَقَدْ حَضَرْت حُنَيْنًا وَمَا أَحَدٌ
مِنْ الْخَلْقِ أَبْغَضُ إلَيَّ مِنْهُ ، فَمَا زَالَ يُعْطِينِي حَتَّى مَا كَانَ
أَحَدٌ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ الْخَلْقِ مِنْهُ .
وَكَانَ صَفْوَانُ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ،
وَابْنُ وَهْبٍ : سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ حِينَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَاهُ أَكَانَ مُسْلِمًا أَوْ
مُشْرِكًا ؟ قَالَ : مَا سَمِعْت شَيْئًا ، وَمَا أَرَاهُ كَانَ إلَّا مُشْرِكًا .
وَلَقَدْ قَالَ : رَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ خَيْرٌ مِنْ رَبٍّ
مِنْ
هَوَازِنَ وَمَا هَذَا بِكَلَامِ مُسْلِمٍ .
وَكَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ قَوْلًا حِينَ قَالَ صَفْوَانُ
: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ أُمَيَّةَ إذْ لَمْ يَرَ هَذَا الْأَسْوَدَ فَوْقَ
الْكَعْبَةِ .
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : كَانَ شِعَارُهُمْ
يَوْمَ حُنَيْنٍ ، يَا أَصْحَابَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
قَالَ مَالِكٌ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ وَجْهَهُ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ بِالسُّقْيَا جَاءَهُ
كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَكَانَ شَاعِرًا ، فَأَنْشُدهُ شِعْرَهُ لِيَعْلَم مَا عِنْدَهُ
وَيَنْظُرَ مَا فِي نَفْسِهِ ، فَأَنْشَدَهُ : قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ
إرْبٍ وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجَمَمْنَا السُّيُوفَا نُسَائِلُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ
لَقَالَتْ قَوَاطِعُهُنَّ دَوْسًا أَوْ ثَقِيفَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
وَالْقَصِيدَةُ مَشْهُورَةٌ ، وَتَمَامُهَا : فَلَسْت لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ
تَرَوْهَا بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنَّا أَلُوفَا وَتُنْتَزَعُ الْعُرُوشُ بِبَطْنِ
وَجٍّ وَتُصْبِحُ دَارُكُمْ مِنَّا خُلُوفَا وَتَأْتِيكُمْ لَنَا سَرْعَانُ خَيْلٍ
يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ
لَهَا مِمَّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهَفَاتٌ
يَزُرْنَ الْمُصْطَلَيْنَ بِهَا الْحُتُوفَا كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ
أَخْلَصَتْهَا قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تُضْرَبْ كَتِيفَا تَخَالُ جَدِيَّةُ
الْأَبْطَالِ فِيهَا غَدَاةَ الزَّحْفِ جَادِيًا مَدُوفَا أَجَدُّهُمْ أَلَيْسَ
لَهُمْ نَصِيحٌ مِنْ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا فَخَبِّرْهُمْ بِأَنَّا
قَدْ جَمَعْنَا عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنُّجْبَ الطُّرُوفَا وَأَنَّا قَدْ
أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا رَئِيسُهُمْ
النَّبِيُّ وَكَانَ صَلْبًا نَقِيَّ الثَّوْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا رَشِيدَ
الْأَمْرِ ذَا حُكْمٍ وَعِلْمٍ وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا نُطِيعُ
نَبِيَّنَا وَنُطِيعُ رَبًّا هُوَ الرَّحْمَنُ كَانَ بِنَا لَطِيفَا فَإِنْ
يُلْقُوا إلَيْنَا السَّلْمَ نَقْبَلْ وَنَجْعَلْكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا
وَإِنْ تَأْبَوْا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعْشًا ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مَضِيفَا
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَا لَقِينَا أَأَهْلَكْنَا
التِّلَادَ أَمْ الطَّرِيفَا وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا صَمِيمَ
الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً
فَجَدَّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأُنُوفَا بِكُلِّ مُهَنَّدٍ لَيِّنٍ صَقِيلٍ
نَسُوقُهُمْ بِهِ سَوْقًا عَنِيفَا لِأَمْرِ اللَّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتَّى
يَقُومَ الدِّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا وَنُنْسِي اللَّاتِي وَالْعُزَّى وَوُدَّ
وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشُّنُوفَا فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرُّوا
وَاطْمَأَنُّوا وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يُقْتَلْ خُسُوفَا فَأَجَابَهُ كِنَانَةُ
بْنُ عَبْدِ يَالِيلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، فَقَالَ : مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ
قِتَالَنَا فَإِنَّا بِدَارِ مَعْلَمٍ لَا نَرِيمُهَا وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ
مِنْ قَبْلِ مَا نَرَى وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا وَقَدْ جَرَّبَتْنَا
قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا وَقَدْ
عَلِمَتْ أَنْ قَالَتْ الْحَقَّ أَنَّنَا إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ
نُقِيمُهَا نُقَوِّمُهَا حَتَّى يَلِينَ شَرِيسُهَا وَيُعْرَفَ لِلْحَقِّ
الْمُبِينِ ظَلُومُهَا عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثٍ مُحَرَّقٍ كَلَوْنِ
السَّمَاءِ زِينَتُهَا نُجُومُهَا نُرَفِّعُهَا عَنَّا بِبِيضٍ صَوَارِمَ إذَا
جُرِّرَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا قَالُوا : فَلَمَّا سَمِعَتْ دَوْسٌ
بِأَبْيَاتِ كَعْبٍ هَذِهِ بَادَرَتْ بِإِسْلَامِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ،
وَأَصْحَابُ مَالِكٍ : قَالَ مَالِكٌ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ
سَلْبُهُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْإِمَامِ إلَّا
عَلَى وَجْهِ الِاجْتِهَادِ ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ فِي مَغَازِيهِ كُلِّهَا .
وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّهُ نَفَلَ فِي بَعْضِهَا يَوْمَ
حُنَيْنٍ ، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ ، إلَّا يَوْمَ
حُنَيْنٍ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ نَفْلَ
الْأَسْلَابِ وَغَيْرَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْخُمُسِ ، لَا مِنْ رَأْسِ
الْمَالِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخُمُسَ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى
لِلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ بِرَأْيِ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ
يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقْدَمُونَ لِلتِّجَارَةِ ، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ
نَجَسٌ } الْآيَةَ .
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَرَوَى غَيْرُهُ أَنَّهُ
لَمَّا أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مَكَّةَ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى
النَّاسِ ، فَقَالُوا : كَيْفَ بِمَا نُصِيبُ مِنْهُمْ فِي التِّجَارَةِ فِي
الْمِيرَةِ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ
} .
فَأَغْنَاهُمْ اللَّهُ بِالْجِزْيَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : { لَمَّا نَزَلَتْ
الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ : نَادِ
فِي أَذَانِك أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ } .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التِّلَاوَةُ بَعْدَ
الْأَذَانِ ؛ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ فِي الْعَامِ الثَّانِي كَرَّمَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَ
دِينَهُ عَنْ أَنْ يُخَالِطَهُمْ مُشْرِكٌ .
وَقِيلَ :
إذَا امْتَنَعَ دُخُولُ الْمُشْرِكِينَ مَكَّةَ
لِعِزَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَلِمَ يَبْقَى النَّاسُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ
مِنْ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ ؟ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى {
إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ
النَّجَاسَةَ لَيْسَتْ بِعَيْنٍ حِسِّيَّةٍ ، وَإِنَّمَا هِيَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ ،
أَمَرَ اللَّهَ بِإِبْعَادِهَا ، كَمَا أَمَرَ بِإِبْعَادِ الْبَدَنِ عَنْ الصَّلَاةِ
عِنْدَ الْحَدَثِ ، وَكِلَاهُمَا أَمْرٌ شَرْعِيٌّ لَيْسَ بِعَيْنٍ حِسِّيَّةٍ .
وَقَدْ ذَهِلَتْ الْحَنَفِيَّةُ عَنْ هَذِهِ
الْحَقِيقَةِ ؛ فَظَنُّوا أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ أَمْرٌ حِسِّيٌّ ، تَعُمُّ
زَوَالَ الْعَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، وَهُوَ إذَا
ظَهَرَتْ ، حِسِّيٌّ .
وَكَوْنُهَا بِعَيْنِهَا نَجِسَةً حُكْمِيٌّ ، وَبَقَاءُ
الْمَحِلِّ نَجَسًا بَعْدَ زَوَالِ عَيْنِهَا حُكْمِيٌّ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : { فَلَا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَا
يَقْرَبُونَ مَسْجِدًا سِوَاهُ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وَهِيَ النَّجَاسَةُ
مَوْجُودَةٌ فِيهِمْ ، وَالْحُرْمَةُ مَوْجُودَةٌ فِي الْمَسْجِدِ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا كَثِيرًا ؛ فَرَأَى
الشَّافِعِيُّ أَنَّ هَذَا مَخْصُوصٌ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يَتَعَدَّاهُ
إلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ
.
وَهَذَا جُمُودٌ مِنْهُ عَلَى الظَّاهِرِ الَّذِي
يُسْقِطُ هَذَا الظَّاهِرَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُلْ : لَا يَقْرَبُ
هَؤُلَاءِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ
وَلَوْ قَالَ : لَا يَقْرَبْ الْمُشْرِكُونَ وَالْأَنْجَاسُ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ لَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى التَّعْلِيلِ بِالشِّرْكِ أَوْ النَّجَاسَةِ
، أَوْ الْعِلَّتَيْنِ جَمِيعًا ، بَلْ أَكَّدَ الْحَالُ بَيَانَ الْعِلَّةِ
وَكَشَفَهَا ، فَقَالَ : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ } : يُرِيدُ وَلَا بُدَّ لِنَجَاسَتِهِمْ ، فَتَعَدَّتْ الْعِلَّةُ
إلَى كُلِّ مَوْضِعٍ مُحْتَرَمٍ بِالْمَسْجِدِيَّةِ .
وَمِمَّا قَالَهُ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ أَنَّ
الْكَافِرَ يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ بِإِذْنِ الْمُسْلِمِ ، وَاسْتَدَلَّ
عَلَيْهِ بِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَطَ
ثُمَامَةَ بْنَ أُثَالٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ مُشْرِكٌ } .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : هَذَا الْحَدِيثُ صَحِيحٌ ،
لَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ عَلِمَ
إسْلَامَهُ ، وَهَذَا وَإِنْ سَلَّمْنَاهُ فَلَا يَضُرُّنَا ؛ لِأَنَّ عِلْمَ
النَّبِيِّ بِإِسْلَامِهِ فِي الْمَآلِ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِهِ فِي الْحَالِ .
، وَقَالَ
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : الْعُمُومُ بِمَنْعِ الْمُشْرِكِينَ عَنْ قُرْبَانِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَخْصُوصٌ فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ .
وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ ، وَسَنَدٌ ضَعِيفٌ لَا يُخَصُّ
بِمِثْلِهِ الْعُمُومَاتُ الْمُطْلَقَةُ ، فَكَيْفَ الْمُعَلَّلَةُ بِالْعِلَّةِ
الْعَامَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِجَمِيعِهَا ، وَهِيَ الشِّرْكُ ؟ الْمَسْأَلَةُ
الْخَامِسَةُ : قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ
: هَذَا الْقَوْلُ وَالْحُكْمُ إنَّمَا هُوَ فِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
فَأَمَّا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فَلَا يَزِيدُ فَضْلًا
عَلَى غَيْرِهِ ؛ إذْ قَدْ دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ عِنْدَ إقْبَالِهِ لِتَجْدِيدِ
الْعَهْدِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ حِينَ خَشِيَ نَقْضَ الصُّلْحِ بِمَا أَحْدَثَهُ
بَنُو بَكْرٍ عَلَى خُزَاعَةَ .
قَالَ الْقَاضِي : وَهَذَا ضَعِيفٌ ، وَلَوْ صَحَّ
فَإِنَّ الْجَوَابَ عَنْهُ ظَاهِرٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ دُخُولَ ثُمَامَةَ فِي
الْمَسْجِدِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، وَدُخُولَ أَبِي سُفْيَانَ فِيهِ عَلَى
الْحَدِيثِ الْآخَرِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ
دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ نَصًّا ، وَمَنَعَ مِنْ دُخُولِ سَائِرِ
الْمَسَاجِدِ تَعْلِيلًا بِالنَّجَاسَةِ ، وَلِوُجُوبِ صِيَانَةِ الْمَسْجِدِ عَنْ
كُلِّ نَجَسٍ .
وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا
يَدْخُلُ الْكَافِرُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بِحَالٍ ، وَيَدْخُلُ غَيْرَهُ مِنْ
الْمَسَاجِدِ لِلْحَاجَةِ ، كَمَا دَخَلَ ثُمَامَةُ وَأَبُو سُفْيَانَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ
لِحَاجَةٍ أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ خَطَأٌ ، أَمَّا
دُخُولُهُ لِلْحَاجَةِ فَقَدْ أَفْسَدْنَاهُ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَمَّا
دُخُولُهُمْ كَذَلِكَ مُطْلَقًا فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ تَعْلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ
وَتَدْقِيقِهِ .
وَلَقَدْ كُنْت أَرَى بِدِمَشْقَ عَجَبًا ، كَانَ
لِجَامِعِهَا بَابَانِ : بَابٌ شَرْقِيٌّ وَهُوَ بَابُ جَيْرُونَ ، وَبَابٌ
غَرْبِيٌّ ، وَكَانَ النَّاسُ يَجْعَلُونَهُ طَرِيقًا يَمْشُونَ عَلَيْهَا
نَهَارَهُمْ كُلَّهُ فِي حَوَائِجِهِمْ ، وَكَانَ الذِّمِّيُّ إذَا أَرَادَ
الْمُرُورَ وَقَفَ عَلَى الْبَابِ حَتَّى يَمُرَّ بِهِ مُسْلِمٌ ، مُجْتَازٌ ،
فَيَقُولَ لَهُ الذِّمِّيُّ : يَا مُسْلِمُ ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَمُرَّ مَعَكَ
؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ، فَيَدْخُلُ مَعَهُ ، وَعَلَيْهِ
الْغِيَارُ عَلَامَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَإِذَا رَآهُ
الْقَيِّمُ صَاحَ بِهِ : ارْجِعْ ، ارْجِعْ ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُسْلِمُ : أَنَا
أَذِنْت لَهُ فَيَتْرُكُهُ الْقَيِّمُ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { بَعْدَ
عَامِهِمْ هَذَا } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ سَنَةُ تِسْعٍ
الَّتِي حَجَّ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ
.
الثَّانِي : أَنَّهُ سَنَةُ عَشْرٍ ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ
، وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ .
وَإِنَّ مِنْ الْعَجَبِ أَنْ يُقَالَ [ إنَّهُ ] سَنَةُ
تِسْعٍ ، وَهُوَ الْعَامُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْأَذَانُ وَلَوْ دَخَلَ غُلَامُ
رَجُلٍ دَارِهِ يَوْمًا ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ : لَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ
بَعْدَ يَوْمِك هَذَا لَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْيَوْمَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ .
فَالصَّحِيحُ أَنَّ النَّهْيَ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ ،
وَأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ النِّدَاءُ ،
وَلَوْ تَنَاصَفَ النَّاسُ فِي الْحَقِّ ، وَأَمْسَكَ كُلُّ أَحَدٍ عَمَّا لَا
يَعْلَمُ مَا وَقَعَ مِثْلُ هَذَا النِّزَاعُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ { وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } : الْمَعْنَى : إنْ خِفْتُمْ
الْفَقْرَ بِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْكُمْ بِالتِّجَارَةِ الَّتِي
كَانُوا يَجْلِبُونَهَا فَإِنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُ عَنْهَا ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ
تَعَلُّقَ الْقَلْبِ بِالْأَسْبَابِ فِي الرِّزْقِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ
الرِّزْقُ مَقْدُورًا ، وَأَمْرُ اللَّهِ وَقَسْمُهُ لَهُ مَفْعُولًا ،
وَلَكِنَّهُ عَلَّقَهُ بِالْأَسْبَابِ حِكْمَةً ؛ لِتَعْلَمَ الْقُلُوبُ الَّتِي
تَتَعَلَّقُ بِالْأَسْبَابِ مِنْ الْقُلُوبِ الَّتِي تَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّ
الْأَرْبَابِ ، وَلَيْسَ يُنَافِي النَّظَرَ إلَى السَّبَبِ التَّوَكُّلُ مِنْ
حَيْثُ إنَّهُ مُسَخَّرٌ مَقْدُورٌ ؛ وَإِنَّمَا يُضَادُّ التَّوَكُّلَ النَّظَرُ
إلَيْهِ بِذَاتِهِ ، وَالْغَفْلَةُ عَنْ الَّذِي سَخَّرَهُ فِي أَرْضِهِ
وَسَمَاوَاتِهِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { لَوْ تَوَكَّلْتُمْ
عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو
خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا }
.
فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَكُّلَ الْحَقِيقِيَّ لَا
يُضَادُّهُ الْغُدُوُّ وَالرَّوَاحُ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ ، لَكِنَّ شُيُوخَ
الصُّوفِيَّةِ قَالُوا : إنَّمَا تَغْدُو وَتَرُوحُ فِي الطَّاعَةِ ، فَهُوَ
السَّبَبُ الَّذِي يَجْلِبُ الرِّزْقَ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : قَوْلُهُ : {
وَأْمُرْ أَهْلَك بِالصَّلَاةِ
} .
وَالثَّانِي قَوْلُهُ : { إلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } فَلَيْسَ يَنْزِلُ الرِّزْقُ مِنْ
مَحِلِّهِ وَهُوَ السَّمَاءُ إلَّا مَا يَصْعَدُ إلَيْهَا وَهُوَ الذِّكْرُ
الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ ، وَلَيْسَ بِالسَّعْيِ فِي جِهَاتِ الْأَرْضِ
، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا رِزْقٌ
.
وَالصَّحِيحُ مَا أَحْكَمَتْهُ السُّنَّةُ عِنْدَ
فُقَهَاءِ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْأَسْبَابِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِنْ
الْحَرْثِ وَالتِّجَارَةِ وَالْغِرَاسَةِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ تَعْمَلُهُ
، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ مِنْ
التِّجَارَةِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَالْعِمَارَةِ لِلْأَمْوَالِ ، وَغَرْسِ
الثِّمَارِ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَضْرِبُ عَلَى الْكُفَّارِ
لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ، وَيَسْتَرْزِقُ مِنْ أَفْضَلِ
وُجُوهِ رِزْقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ الْأَغْنَامُ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ رَاضٍ عَنْهُمْ ، وَهَذِهِ كَانَتْ
صِفَةَ الْخُلَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْهُمْ ؛
يَسْلُكُونَ هَذِهِ السَّبِيلَ فِي الِاكْتِسَابِ وَالتَّعَلُّقِ بِالْأَسْبَابِ .
أَمَا إنَّهُ لَقَدْ كَانَ قَوْمٌ يَقْعُدُونَ بِصُفَّةِ
الْمَسْجِدِ مَا يَحْرُثُونَ وَلَا يَتَّجِرُونَ ، لَيْسَ لَهُمْ كَسْبٌ وَلَا
مَالٌ ، إنَّمَا هُمْ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ إذَا جَاءَتْ هَدِيَّةٌ أَكَلَهَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ ، وَإِنْ كَانَتْ صَدَقَةً
خَصَّهُمْ بِهَا ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِمُعَابٍ عَلَيْهِمْ ، لِإِقْبَالِهِمْ
عَلَى الْعِبَادَةِ ، وَمُلَازَمَتِهِمْ لِلذِّكْرِ وَالِاعْتِكَافِ ، فَصَارَتْ
جَادَّتَيْنِ فِي الدَّيْن وَمَسْلَكَيْنِ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَمَنْ آثَرَ
مِنْهُمَا وَاحِدًا لَمْ يَخْرُج عَنْ سُنَنِهِ ، وَلَا اقْتَحَمَ مَكْرُوهًا .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْلُهُ : { مِنْ
فَضْلِهِ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مِنْ حَيْثُ شَاءَ ،
وَعَلِمَ ؛ لِعُمُومِ فَضْلِهِ ، وَسَعَةِ رِزْقِهِ وَرَحْمَتِهِ .
الثَّانِي :
بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَخِصْبِ الْأَرْضِ ، فَأَخْصَبَ
تَبَالَةُ وَجُرَشُ ، فَحَمَلُوا إلَى مَكَّةَ الطَّعَامَ وَالْوَدَكَ ،
وَأَسْلَمَ أَهْلُ نَجْدٍ وَصَنْعَاءَ
.
الثَّالِثُ : بِالْجِزْيَةِ .
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي يَحْتَمِلُهَا
اللَّفْظُ وَيُرَادُ بِهِ جَمِيعُهَا ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يُرِيدَ بِهِ
يُغْنِيكُمْ اللَّهُ عَنْ الْكُفَّارِ فِيمَا يَجْلِبُونَ مِنْ التِّجَارَةِ
وَالرِّزْقِ إلَيْكُمْ بِجَلْبِكُمْ أَنْتُمْ لَهَا وَاسْتِغْنَائِكُمْ عَنْهَا
بِأَنْفُسِكُمْ فِي كُلِّ وَجْهٍ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْلُهُ : { إنْ شَاءَ } : قَالَ
عُلَمَاؤُنَا : لِيَعْلَمَ الْخَلْقُ أَنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِالِاجْتِهَادِ ،
وَإِنَّمَا هُوَ فَضْلٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَوَلَّى قِسْمَتَهُ ، وَذَلِكَ
بَيِّنٌ فِي قَوْلِهِ : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى {
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ } فِيهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْلُهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ } : أَمْرٌ بِمُقَاتَلَةِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ ؛ فَإِنَّ كُلَّهُمْ قَدْ
أَطْبَقَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ ، مِنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ
الْآخِرِ .
وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ : { فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ } .
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِيهِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { جَاهِدْ الْكُفَّارَ
وَالْمُنَافِقِينَ } .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ
يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ }
.
وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ أَنْوَاعًا مُتَعَدِّدَةً
مَذْكُورَةً فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بِأَلْفَاظٍ مُتَفَرِّقَةٍ ، فَإِنَّ
اسْمَ الْكُفْرِ يَجْمَعُهَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ
وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا } .
وَخَصَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِالْبَيَانِ فَقَالَ : { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ
حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ وَالْغَايَةُ
الْقُصْوَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { قَاتِلُوا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ : نَصٌّ فِي تَحْقِيقِ الْكُفْرِ
، وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ : الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ أَصْلَانِ فِي تَرْتِيبِ
الْأَحْكَامِ عَلَيْهِمَا فِي الدِّينِ ، وَهُمَا فِي وَضْعِ اللُّغَةِ
مَعْلُومَانِ .
وَالْإِيمَانُ هُوَ التَّصْدِيقُ لُغَةً أَوْ
التَّأْمِينُ .
وَالْكُفْرُ هُوَ السِّتْرُ ، وَقَدْ يَكُونُ
بِالْفِعْلِ حِسًّا ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْإِنْكَارِ وَالْجَحْدِ مَعْنًى ،
وَكِلَاهُمَا حَقِيقَةٌ ، أَوْ حَقِيقَةٌ وَمَجَازٌ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي
الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَغَيْرِهِ
.
وَقَدْ قَالَ شَيْخُ السُّنَّةِ وَالْقَاضِي أَبُو
بَكْرٍ : إنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ
لُغَةً ، وَقَدْ أَفَدْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ كُفْرَ الْمَعَانِي جُحُودُهَا
وَإِنْكَارُهَا فَالشَّرْعُ لَمْ يُعَلِّقْ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى
كُلِّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ كُفْرٍ ، وَإِنَّمَا عَلَّقَهُ عَلَى
بَعْضِهَا ، وَهِيَ الْكُفْرُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { قَاتِلُوا
الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } الْآيَةَ .
فَقَوْلُهُ :
{ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } نَصٌّ فِي الْكُفْرِ
بِذَاتِهِ يَقِينًا ، وَفِي الْكُفْرِ بِالصِّفَاتِ ظَاهِرًا : لِأَنَّ اللَّهَ
هُوَ الْمَوْجُودُ الَّذِي لَهُ الصِّفَاتُ الْعُلَا وَالْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ؛
فَكُلُّ مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ ، وَقَوْلُهُ : { وَلَا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ } نَصٌّ فِي صِفَاتِهِ ، فَإِنَّ الْيَوْمَ الْآخِرَ عَرَفْنَاهُ
بِقُدْرَتِهِ وَبِكَلَامِهِ ؛ فَأَمَّا عِلْمُنَا لَهُ بِقُدْرَتِهِ فَإِنَّ
الْقُدْرَةَ عَلَى الْيَوْمِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى
الْيَوْمِ الْآخِرِ .
وَأَمَّا عِلْمُنَا لَهُ بِالْكَلَامِ فَبِإِخْبَارِهِ
أَنَّهُ فَاعِلُهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ أَحَدٌ الْبَعْثَ فَقَدْ أَنْكَرَ
الْقُدْرَةَ وَالْكَلَامَ ، وَكَفَرَ قَطْعًا بِغَيْرِ كَلَامٍ ، وَقَوْلُهُ : {
وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } نَصٌّ فِي أَفْعَالِهِ
الَّتِي مِنْ أُمَّهَاتِهَا
إرْسَالُ الرُّسُلِ ، وَتَأْيِيدُهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ
النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ : صَدَقْتُمْ أَيُّهَا الرُّسُلُ ، فَإِذَا
أَنْكَرَ أَحَدٌ الرُّسُلَ أَوْ كَذَّبَهُمْ فِيمَا يُخْبِرُونَ عَنْهُ مِنْ
التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّدْبِ ، فَهُوَ كَافِرٌ ،
وَكُلُّ جُمْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ لَهُ تَفْصِيلٌ تَدُلُّ
عَلَيْهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي أَشَرْنَا ، بِهَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
التَّكْفِيرِ بِذَلِكَ التَّفْصِيلِ ، وَالتَّفْسِيقِ وَالتَّخْطِئَةِ
وَالتَّصْوِيبِ ؛ وَذَلِكَ كَالْقَوْلِ فِي التَّشْبِيهِ وَالتَّجْسِيمِ
وَالْجِهَةِ ، أَوْ الْخَوْضِ فِي إنْكَارِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ ،
وَالْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَيَاةِ ، فَهَذِهِ الْأُصُولُ يَكْفُرُ
جَاحِدُهَا بِلَا إشْكَالٍ .
وَكَقَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ : إنَّ الْعِبَادَ
يَخْلُقُونَ أَفْعَالَهُمْ ، وَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ مَا لَا يُرِيدُهُ اللَّهُ ،
وَإِنَّ نُفُوذَ الْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ عَلَى الْخَلْقِ بِالنَّارِ جَوْرٌ .
وَكَقَوْلِ الْمُشَبِّهَةِ : إنَّ الْبَارِيَ جِسْمٌ ،
وَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِجِهَةٍ ، وَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْمُحَالِ ، وَإِنَّهُ
تَعَالَى قَدْ نَصَّ عَلَى كُلِّ حَادِثَةٍ مِنْ الْأَحْكَامِ .
وَهَذَا كُلُّهُ كَذِبٌ صُرَاحٌ ، وَبَعْدَ هَذَا
تَفَاصِيلُ يَنْبَنِي عَلَيْهَا وَيُجَرُّ إلَيْهَا ، وَفِي التَّكْفِيرِ بِهَا
تَدْقِيقٌ .
وَمِنْ أَعْظَمِ الْإِشَارَةِ بِقَوْلِهِ : وَلَا
بِالْيَوْمِ الْآخِرِ الْإِخْبَارُ عَنْ النَّصَارَى الَّذِينَ يَقُولُونَ : إنَّ نَعِيمَ
الْجَنَّةِ وَعَذَابَ النَّارِ مَعَانٍ ؛ كَالسُّرُورِ وَالْهَمِّ ، وَلَيْسَتْ
صُوَرًا ، وَلَا فِيهَا أَكْلٌ وَلَا شُرْبٌ ، وَلَا وَطْءٌ وَلَا حَيَاةٌ ، وَلَا
مُهْلٌ يُشْرَبُ ، وَلَا نَارٌ تَلَظَّى .
وَقَوْلُهُ : { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ } إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ مِنْ التَّحْرِيمِ
بِعُقُولِهَا فِي السَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ ، وَمَا يَخْتَصُّ
بِتَحْرِيمِهِ الْإِنَاثُ دُونَ الذُّكُورِ ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِ
الزُّورِ ، وَعَمَّا كَانَتْ الرُّهْبَانُ تَفْعَلُهُ ، وَالْأَحْبَارُ مِنْ
الْيَهُودِ تَبْتَدِعُهُ مِنْ تَحْرِيمِ
مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ ،
أَوْ تَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ .
وَقَوْلُهُ :
{ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } إشَارَةً إلَى
هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ الِاعْتِقَادِ لِلْحَقِّ وَالْعَمَلِ بِمُقْتَضَى
الشَّرْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى : { مِنْ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ }
: وَفِي ذِكْرِهِمْ هَاهُنَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ كَانُوا أُمِرُوا بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ، فَأُمِرُوا
أَيْضًا بِقِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ ، لِمَا فِيهِ مِنْ
الْحَقِّ مِنْ ذِكْرِ الرَّسُولِ وَغَيْرِهِ ، وَكَانَ تَخْصِيصًا لِمَا
تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ الْعَامُّ عَلَى مَعْنَى التَّأْكِيدِ .
الثَّانِي : أَنَّ قَوْلَهُ : { مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ } تَأْكِيدٌ لِلْحُجَّةِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ مِنْ عَبَدَةِ
الْأَوْثَانِ لَمْ تَكُنْ عِنْدَهُمْ مُقَدَّمَةٌ مِنْ التَّوْحِيدِ
وَالنُّبُوَّةِ وَشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ ، فَجَاءَهُمْ الْأَمْرُ كُلُّهُ
فَجْأَةً عَلَى جَهَالَةٍ .
فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَقَدْ كَانُوا عَالِمِينَ
بِالتَّوْحِيدِ وَالرُّسُلِ وَالشَّرَائِعِ وَالْمِلَلِ ، وَخُصُوصًا ذِكْرَ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِلَّتِهِ وَأُمَّتِهِ ؛ فَلَمَّا
أَنْكَرُوهُ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِمْ الْحُجَّةُ ، وَعَظُمَتْ مِنْهُمْ
الْجَرِيمَةُ ، فَنَبَّهَ عَلَى مَحِلِّهِمْ بِذَلِكَ .
الثَّالِثُ : أَنَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالذِّكْرِ إنَّمَا
كَانَ لِأَجَلٍ قَوْله تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ
عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
.
وَاَلَّذِينَ يُخْتَصُّونَ بِفَرْضِ الْجِزْيَةِ
عَلَيْهِمْ هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ صِنْفِ الْكُفَّارِ ،
وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ
النَّصَارَى وَالْيَهُودُ يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ؟ قُلْنَا
: عَنْهُ جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدًا
مِنْهُمْ لَا يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ .
الثَّانِي
: أَنَّهُمْ ، وَإِنْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ
وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَذَّبُوا الرَّسُولَ ، وَلَمْ
يُحَرِّمُوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَلَا دَانُوا بِدِينِ الْحَقِّ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ }
: فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا
عَطِيَّةٌ مَخْصُوصَةٌ .
الثَّانِي : أَنَّهَا جَزَاءٌ عَلَى الْكُفْرِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ اشْتِقَاقَهَا مِنْ الْإِجْزَاءِ بِمَعْنَى
الْكِفَايَةِ ، كَمَا تَقُولُ : جَزَى كَذَا عَنِّي يَجْزِي إذَا قَضَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَقْدِيرِهَا : رَوَى
ابْنُ الْقَاسِمِ ، وَأَشْهَبُ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ،
وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ عَلَى
أَهْلِ الذَّهَبِ ، وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا عَلَى الْوَرِقِ ، وَإِنْ كَانُوا
مَجُوسًا .
وَكَذَلِكَ رَوَى مَالِكٌ ، عَنْ نَافِعٍ عَنْ أَسْلَمَ
مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ ،
وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، مَعَ ذَلِكَ أَرْزَاقُ
الْمُسْلِمِينَ وَضِيَافَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ .
وَقِيلَ : إنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَإِنَّمَا
هُوَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ وَيَجْتَهِدُ فِيهِ ؛ مِنْ الْغِنَى
وَالْفَقْرِ ، وَالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ، وَالِاقْتِدَاءُ بِعُمَرَ أُسْوَةٌ .
وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لُجَيْمٍ
قُلْت لِمُجَاهِدٍ : مَا بَالُ أَهْلِ الشَّامِ عَلَيْهِمْ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ
، وَعَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ دِينَارٌ ؟ قَالَ : إنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ
الْيَسَارِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاذٍ : { خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ
عِدْلَهُ مَعَافِرِيَّ } ، ثُمَّ ضَرَبَ الْجِزْيَةَ عُمَرُ فِي زَمَانِهِ عَلَى
مَا تَقَدَّمَ ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُرَاعَى فِي ذَلِكَ الثَّرْوَةُ
وَالْقِلَّةُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي مَحِلِّ الْجِزْيَةِ أَرْبَعَةُ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ عَرَبًا
كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ : إذَا رَضِيَتْ
الْأُمَمُ كُلُّهَا بِالْجِزْيَةِ قُبِلَتْ مِنْهُمْ .
الثَّالِثُ : قَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ : لَا تُقْبَلُ .
الرَّابِعُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : لَا تُقْبَلُ مِنْ
مَجُوسِ الْعَرَبِ ، وَتُقْبَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَجْهُ مَنْ قَالَ : إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ عَرَبًا كَانُوا أَوْ غَيْرَهُمْ تَخْصِيصُ اللَّهِ بِالذِّكْرِ أَهْلَ
الْكِتَابِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا تُقْبَلُ مِنْ الْأُمَمِ
كُلِّهَا فَالْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ عَنْ
سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ
أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ
خَيْرًا .
ثُمَّ قَالَ : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ ، اُغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا ، وَلَا
تَغْدِرُوا وَلَا تُمَثِّلُوا ، وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا .
وَإِذَا لَقِيت عَدُوَّك مِنْ الْمُشْرِكِينَ
فَادْعُهُمْ إلَى ثَلَاثِ خِلَالٍ ، فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوك إلَيْهَا
فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ : اُدْعُهُمْ إلَى الدُّخُولِ فِي
الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ فَعَلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ، ثُمَّ
اُدْعُهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ عَنْ دَارِهِمْ إلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ ،
وَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّهُمْ إنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ ،
وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ؛ فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا
مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي
عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَلَا يَكُونُ
لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ ، إلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ
الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمْ الْجِزْيَةَ ، وَإِنْ هُمْ
أَجَابُوك فَاقْبَلْ مِنْهُمْ ، وَكُفَّ عَنْهُمْ ، فَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ
بِاَللَّهِ وَقَاتِلْهُمْ } .
وَذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ فِي الْبُخَارِيِّ
وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحِيحِ { أَنَّ عُمَرَ تَوَقَّفَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ
الْمَجُوسِ ، حَتَّى أَخْبَرَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ } .
وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ وَهْبٍ أَنَّهُ لَيْسَ فِي
الْعَرَبِ مَجُوسٌ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَسْلَمَ ، فَمَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ
بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُرْتَدٌّ ؛ يُقْتَلُ بِكُلِّ حَالٍ إنْ لَمْ
يُسْلِمْ ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ جِزْيَةٌ .
وَالصَّحِيحُ قَبُولُهَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ ، وَفِي
كُلِّ حَالٍ عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَيْهَا وَالْإِجَابَةِ بِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : [ مَحِلُّ الْجِزْيَةِ ] :
وَمَحِلُّهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ الْأَحْرَارُ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ دُونَ
الْمَجَانِينِ ، وَهُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ ، دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
لِذَلِكَ .
وَاخْتُلِفَ فِي الرُّهْبَانِ ؛ فَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ
عَنْ مَالِكٍ أَنَّهَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ .
قَالَ مُطَرِّفٌ ، وَابْنُ الْمَاجِشُونِ : هَذَا إذَا
لَمْ يَتَرَهَّبْ بَعْدَ فَرْضِهَا ، فَإِنْ فُرِضَتْ ، لَمْ يُسْقِطْهَا
تَرَهُّبُهُ .
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ :
وَسَتَجِدُ قَوْمًا حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ ، فَذَرْهُمْ وَمَا حَبَسُوا
أَنْفُسَهُمْ لَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَهِيجُوا ، وَلَمْ يَقْتُلُوا لَمْ تُطْلَبْ
مِنْهُمْ جِزْيَةٌ ؛ لِأَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الْقَتْلِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { حَتَّى
يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ
} : فِيهِ خَمْسَةَ عَشَرَ قَوْلًا : الْأَوَّلُ : أَنْ
يُعْطِيَهَا وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ جَالِسٌ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ الثَّانِي :
يُعْطُونَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِأَيْدِيهِمْ يَمْشُونَ بِهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ .
الثَّالِثُ : يَعْنِي مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ آخِذِهِ ،
كَمَا تَقُولُ : كَلَّمَتْهُ فَمًا لِفَمٍ ، وَلَقِيَتْهُ كِفَّةً كِفَّةً ،
وَأَعْطَيْته يَدًا عَنْ يَدٍ .
الرَّابِعُ : عَنْ قُوَّةٍ مِنْهُمْ .
الْخَامِسُ : عَنْ ظُهُورٍ .
السَّادِسُ : غَيْرَ مَحْمُودِينَ وَلَا مَدْعُوٍّ
لَهُمْ .
السَّابِعُ : تُوجَأُ عُنُقُهُ .
الثَّامِنُ : عَنْ ذُلٍّ .
التَّاسِعُ : عَنْ غِنًى .
الْعَاشِرُ : عَنْ عَهْدٍ .
الْحَادِيَ عَشَرَ : نَقْدًا غَيْرَ نَسِيئَةٍ .
الثَّانِيَ عَشَرَ : اعْتِرَافًا مِنْهُمْ أَنَّ يَدَ
الْمُسْلِمِينَ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
.
الثَّالِثَ عَشَرَ : عَنْ قَهْرٍ .
الرَّابِعَ عَشَرَ : عَنْ إنْعَامٍ بِقَبُولِهَا
عَلَيْهِمْ .
الْخَامِسَ عَشَرَ : مُبْتَدِئًا غَيْرَ مُكَافِئٍ .
قَالَ الْإِمَامُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ مِنْهَا
مُتَدَاخِلَةٌ ، وَمِنْهَا مُتَنَافِرَةٌ ، وَتَرْجِعُ إلَى مَعْنَيَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُون الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْحَقِيقَةَ ، وَالْآخَرُ أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْمَجَازَ .
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَقِيقَةَ فَيَرْجِعُ
إلَى مَنْ قَالَ : إنَّهُ يَدْفَعُهَا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُسْتَنِيبٍ فِي
دَفْعِهَا أَحَدًا .
وَأَمَّا جِهَةُ الْمَجَازِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ
بِهِ التَّعْجِيلَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقُوَّةَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يُرِيدَ بِهِ الْمِنَّةَ وَالْإِنْعَامَ .
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : وَهُوَ قَائِمٌ وَالْآخِذُ
جَالِسٌ فَلَيْسَ مِنْ قَوْلِهِ عَنْ يَدٍ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ قَوْلِهِ : عَنْ
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ
: يَمْشُونَ بِهَا وَهُمْ كَارِهُونَ ، مِنْ الصَّغَارِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي عُبَيْدَةَ : وَلَا
مَقْهُورِينَ يَعُودُ إلَى الصَّغَارِ وَالْيَدِ ، وَحَقِيقَةُ الصَّغَارِ
تَقْلِيلُ الْكَثِيرِ مِنْ الْأَجْسَامِ ، أَوْ مِنْ الْمَعَانِي فِي
الْمَرَاتِبِ وَالدَّرَجَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِيمَا وَجَبَتْ الْجِزْيَةُ عَنْهُ ؛ فَقَالَ عُلَمَاءُ
الْمَالِكِيَّةِ : وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ الْقَتْلِ بِسَبَبِ الْكُفْرِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ بِقَوْلِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ
وَسُكْنَى الدَّارِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ مِنْ أَهْلِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ :
إنَّمَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ النُّصْرَةِ بِالْجِهَادِ .
وَاخْتَارَهُ الْقَاضِي أَبُو زَيْدٍ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ
سِرُّ اللَّهِ فِي الْمَسْأَلَةِ
.
وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهَا عُقُوبَةٌ [
بِأَنَّهَا ] وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْكُفْرِ ، وَهُوَ جِنَايَةٌ ؛ فَوَجَبَ أَنْ
يَكُونَ مُسَبِّبُهَا عُقُوبَةً ؛ وَلِذَلِكَ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ
الْعُقُوبَةَ ، وَهُمْ الْبَالِغُونَ الْعُقَلَاءُ الْمُقَاتِلُونَ .
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : الدَّلِيلُ عَلَى
أَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا عَنْ حَقْنِ الدَّمِ ، وَسُكْنَى الدَّارِ أَنَّهَا
تَجِبُ بِالْمُعَاقَدَةِ وَالتَّرَاضِي ، وَلَا تَقِفُ الْعُقُوبَاتُ عَلَى
الِاتِّفَاقِ وَالرِّضَا .
وَأَيْضًا فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ
وَالْإِعْسَارِ ، وَلَا تَخْتَلِفُ الْعُقُوبَاتُ بِذَلِكَ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً ،
وَالْعُقُوبَاتُ تَجِبُ مُعَجَّلَةً ؛ وَهَذَا لَا يَصِحُّ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهَا وَجَبَتْ بِالرِّضَا
فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِقِتَالِهِمْ حَتَّى
يُعْطُوهَا قَسْرًا .
وَأَمَّا إنْكَارُهُمْ اخْتِلَافَ الْعُقُوبَاتِ
بِالْقِلَّةِ وَالْيَسَارِ فَذَلِكَ بَاطِلٌ مِنْ الْإِنْكَارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
إنَّمَا يَبْعُدُ فِي الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ ، أَلَا
تَرَى أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الْبَدَنِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِالثُّيُوبَةِ ،
وَالْبَكَارَةِ ، وَالْإِنْكَارِ ، فَكَمَا اخْتَلَفَتْ عُقُوبَةُ الْبَدَنِ
بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْمُوجَبِ عَلَيْهِ لَا يُسْتَنْكَرُ أَنْ يَخْتَلِفَ
عُقُوبَةُ الْمَالِ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْمَالِ فِي الْكَثْرَةِ وَالْقِلَّةِ .
وَأَمَّا تَأْجِيلُهَا فَإِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ مَا
يَرَاهُ الْإِمَامُ مَصْلَحَةً ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِضَرْبَةِ لَازِبٍ فِيهَا .
وَقَدْ
اسْتَوْفَيْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَفَائِدَتُهَا أَنَّا إذَا قُلْنَا : إنَّهَا بَدَلٌ
عَنْ الْقَتْلِ فَإِذَا أَسْلَمَ سَقَطَتْ عَنْهُ لِسُقُوطِ الْقَتْلِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا دَيْنٌ اسْتَقَرَّ فِي
الذِّمَّةِ فَلَا يُسْقِطُهُ الْإِسْلَامُ كَأُجْرَةِ الدَّارِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : شَرَطَ اللَّهُ
تَعَالَى هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ ، وَهُمَا قَوْلُهُ : { عَنْ يَدٍ وَهُمْ
صَاغِرُونَ } ؛ لِلْفَرْقِ بَيْنَ مَا يُؤَدَّى عُقُوبَةً وَهِيَ الْجِزْيَةُ ،
وَبَيْنَ مَا يُؤَدَّى طُهْرَةً وَقُرْبَةً وَهِيَ الصَّدَقَةُ ، حَتَّى قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ
الْيَدِ السُّفْلَى } .
وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ ، وَالْيَدُ
السُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ " ؛ فَجَعَلَ يَدَ الْمُعْطِي فِي الصَّدَقَةِ
عُلْيَا ، وَجَعَلَ يَدَ الْمُعْطِي فِي الْجِزْيَةِ صَاغِرَةً سُفْلَى ، وَيَدَ
الْآخِذِ عُلْيَا ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ الرَّافِعُ الْخَافِضُ ، يَرْفَعُ مَنْ
يَشَاءُ وَيَخْفِضُ مَنْ يَشَاءُ ، وَكُلُّ فِعْلٍ أَوْ حُكْمٍ يَرْجِعُ إلَى
الْأَسْمَاءِ حَسْبَمَا مَهَّدْنَاهُ فِي الْأَمَدِ الْأَقْصَى " .
فَإِنْ قِيلَ ؛ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ
عَشْرَةَ : إذَا بَذَلَ الْجِزْيَةَ فَحَقَنَ دَمَهُ بِمَالٍ يَسِيرٍ مَعَ
إقْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ بِاَللَّهِ ؛ هَلْ هَذَا إلَّا كَالرِّضَا بِهِ ؟
فَالْجَوَابُ أَنَا نَقُولُ : فِي ذَلِكَ وَجْهَانِ مِنْ الْحِكْمَةِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ فِي أَخْذِهَا مَعُونَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَتَقْوِيَةً لَهُمْ
، وَرِزْقٌ حَلَالٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْهِمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الْكَافِرُ لَيَئِسَ
مِنْ الْفَلَاحِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْهَلَكَةُ ؛ فَإِذَا أَعْطَى الْجِزْيَةَ
وَأُمْهِلَ لَعَلَّهُ أَنْ يَتَدَبَّرَ الْحَقَّ ، وَيَرْجِعَ إلَى الصَّوَابِ ،
لَا سِيَّمَا بِمُرَاقَبَةِ أَهْلِ الدِّينِ ، وَالتَّدَرُّبِ بِسَمَاعِ مَا
عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عَظِيمَ كُفْرِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ
إدْرَارِ رِزْقِهِ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { لَا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى مِنْ اللَّهِ ، يُعَافِيهِمْ
وَيَرْزُقُهُمْ ، وَهُمْ يَدْعُونَ لَهُ الصَّاحِبَةَ وَالْوَلَدَ } .
وَقَدْ بَيَّنَ عُلَمَاءُ خُرَاسَانَ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ ، فَقَالُوا : إنَّ الْعُقُوبَاتِ تَنْقَسِمُ إلَى قِسْمَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : مَا فِيهِ هَلَكَةُ الْمُعَاقَبِ .
وَالثَّانِي : مَا يَعُودُ بِمَصْلَحَةٍ
عَلَيْهِ ، مِنْ زَجْرِهِ عَمَّا ارْتَكَبَ ، وَرَدِّهِ
عَمَّا اعْتَقَدَ وَفَعَلَ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى {
وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ
ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي هَذَا مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَخْبَرَ عَنْ كُفْرِ
غَيْرِهِ الَّذِي لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَدِئَ بِهِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ
؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْطِقُ بِهِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعْظَامِ لَهُ وَالرَّدِّ
عَلَيْهِ ، فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّنَا مَا تَكَلَّمَ
بِهِ أَحَدٌ ، فَإِذَا أَمْكَنَ مِنْ انْطِلَاقِ الْأَلْسِنَةِ بِهِ فَقَدْ أَذِنَ
فِي الْإِخْبَارِ عَنْهُ ، عَلَى مَعْنَى إنْكَارِهِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ
وَالرَّدِّ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ
قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ } : كُلُّ قَوْلِ أَحَدٍ إنَّمَا هُوَ بِفِيهِ ،
وَلَكِنَّ الْحِكْمَةَ فِيهِ أَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ لَا يَتَجَاوَزُ الْفَمَ ،
وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي تَحَرَّكَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بِاضْطِرَارٍ
، وَلَا يَقُومُ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ ، فَيَقِفُ حَيْثُ وُجِدَ ، وَلَا
يَتَعَدَّاهُ بِحَدٍّ ، بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ الصَّحِيحَةِ ، فَإِنَّهَا
تَنْتَظِمُ وَتَطَّرِدُ ، وَتُعَضِّدُهَا الْأَدِلَّةُ ، وَتَقُومُ عَلَيْهَا
الْبَرَاهِينُ ، وَتَنْتَشِرُ بِالْحَقِّ ، وَتَظْهَرُ بِالْبَيَانِ وَالصِّدْقِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { يُضَاهِئُونَ
} : يَعْنِي يُشَابِهُونَ .
وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ : امْرَأَةٌ ضَهْيَاءُ
لِلَّتِي لَا تَحِيضُ ، وَاَلَّتِي لَا ثَدْيَ لَهَا ، كَأَنَّهَا أَشْبَهَتْ
الرِّجَالَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { قَوْلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ
} : فِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ : الْأَوَّلُ : قَوْلُ
عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ : اللَّاتَ ، وَالْعُزَّى ، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى .
الثَّانِي : قَوْلُ الْكَفَرَةِ : الْمَلَائِكَةُ
بَنَاتُ اللَّهِ .
الثَّالِثُ :
قَوْلُ أَسْلَافِهِمْ ، فَقَلَّدُوهُمْ فِي الْبَاطِلِ ،
وَاتَّبَعُوهُمْ فِي الْكُفْرِ ، كَمَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ : {
إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ } وَفِي هَذَا ذَمُّ الِاتِّبَاعِ فِي
الْبَاطِلِ .
قَوْله تَعَالَى { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ
وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا
أُمِرُوا إلَّا لِيَعْبُدُوا إلَهًا وَاحِدًا لَا إلَهَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ
عَمَّا يُشْرِكُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
الْحَبْرُ : هُوَ الَّذِي يُحْسِنُ الْقَوْلَ وَيُنَظِّمُهُ وَيُتْقِنُهُ ،
وَمِنْهُ ثَوْبٌ مُحَبَّرٌ ، أَيْ جَمَعَ الزِّينَةَ .
وَيُقَالُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا ، وَقَدْ
غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ النَّاسِ ، فَقَالَ : إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ لِحَمْلِ
الْحِبْرِ وَهُوَ الْمِدَادُ وَالْكِتَابَةُ .
وَالرَّاهِبُ هُوَ مِنْ الرَّهْبَةِ : الَّذِي حَمَلَهُ
خَوْفُ اللَّهِ عَلَى أَنْ يُخْلِصَ إلَيْهِ النِّيَّةَ دُونَ النَّاسِ ،
وَيَجْعَلَ زِمَامَهُ لَهُ ، وَعَمَلَهُ مَعَهُ ، وَأُنْسَهُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { أَرْبَابًا مِنْ دُونِ
اللَّهِ } : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ : {
أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ
ذَهَبٍ ، فَقَالَ : مَا هَذَا يَا عَدِيُّ ؟ اطْرَحْ عَنْك هَذَا الْوَثَنَ .
وَسَمِعْته يَقْرَأُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ : {
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ } .
قَالَ :
أَمَا إنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ ،
وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ ، وَإِذَا
حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ } .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ
وَالتَّحْلِيلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ ، هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ : { وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ } ؛ بَلْ يَجْعَلُونَ التَّحْرِيمَ لِغَيْرِهِ .
.
الْآيَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ
لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } .
فِيهَا إحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : قَوْلُهُ : { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ } :
فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَكْلُهَا بِالرُّشَا ، وَهِيَ كُلُّ هَدِيَّةٍ
قُصِدَ بِهَا التَّوَصُّلُ إلَى بَاطِلٍ ، كَأَنَّهَا تُسَبِّبُ إلَيْهِ ؛ مِنْ
الرِّشَاءِ ، وَهُوَ الْحَبْلُ ؛ فَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْحُكْمِ فَهُوَ سُحْتٌ
، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا لِلْجَاهِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ } ، وَالرَّائِشَ ، وَهُوَ الَّذِي يَصِلُ بَيْنَهُمَا
، وَيَتَوَسَّطُ لِذَلِكَ مَعَهُمَا
.
الثَّانِي : أَخْذُهَا بِغَيْرِ الْحَقِّ ، كَمَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
} : إنْ قِيلَ فِيهِ : يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
فِي الْحُكْمِ بِالْحَقِّ وَالْقَضَاءِ بِالْعَدْلِ ، أَوْ قِيلَ فِيهِ : إنَّ
مَعْنَاهُ صَدُّهُمْ لِأَهْلِ دِينِهِمْ عَنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ
بِتَبْدِيلِهِمْ وَتَغْيِيرِهِمْ ، وَإِغْوَائِهِمْ وَتَضْلِيلِهِمْ ، فَهَذَا
كُلُّهُ صَحِيحٌ ، لَا يَدْفَعُهُ اللَّفْظُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } : الْكَنْزُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَالُ
الْمَجْمُوعُ ، كَانَ فَوْقَ الْأَرْضِ أَوْ تَحْتَهَا ، يُقَالُ : كَنَزَهُ
يَكْنِزُهُ إذَا جَمَعَهُ ، فَأَمَّا فِي الشَّرْعِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ : فَنَحْنُ لَا نَقُولُ : إنَّ الشَّرْعَ غَيْرُ اللُّغَةِ ،
وَإِنَّمَا نَقُولُ : إنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهَا تَصَرُّفَهَا فِي نَفْسِهَا بِتَخْصِيصِ
بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهَا ، وَقَصْرِ بَعْضِ مُتَنَاوَلَاتِهَا لِلْأَسْمَاءِ ،
كَالْقَارُورَةِ وَالدَّابَّةِ فِي بَعْضِ الْعَقَارِ وَالدَّوَابِّ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ الْمَالِ عَلَى كُلِّ حَالٍّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْ النَّقْدَيْنِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ
يَكُنْ حُلِيًّا .
الرَّابِعُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا دَفِينًا .
الْخَامِسُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ
تُؤَدَّ زَكَاتُهُ .
السَّادِسُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا لَمْ
تُؤَدَّ مِنْهُ الْحُقُوقُ .
السَّابِعُ : أَنَّهُ الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا مَا لَمْ
يُنْفَقْ وَيُهْلَكْ فِي ذَاتِ اللَّهِ
.
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مَا رَوَى ابْنُ هُرْمُزَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { تَأْتِي الْإِبِلُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا كَانَتْ إذَا
لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا ، تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا .
وَتَأْتِي الْغَنَمُ عَلَى صَاحِبِهَا عَلَى خَيْرِ مَا
كَانَتْ إذَا لَمْ يُعْطِ مِنْهَا حَقَّهَا تَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا وَتَنْطَحُهُ
بِقُرُونِهَا .
قَالَ
: وَمِنْ حَقِّهَا أَنْ تُحْلَبَ عَلَى الْمَاءِ ،
وَلَيَأْتِيَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِشَاةٍ يَحْمِلُهَا عَلَى
رَقَبَتِهِ لَهَا يُعَارُ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ .
فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ،
قَدْ بَلَّغْتُ .
وَيَأْتِي بِبَعِيرٍ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ لَهُ
رُغَاءٌ فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ
.
فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَك مِنْ اللَّهِ شَيْئًا ،
قَدْ بَلَّغْتُ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : حَتَّى ذَكَرَ الْإِبِلَ فَقَالَ : {
وَحَقُّهَا إطْرَاقُ فَحْلِهَا ، وَإِفْقَارُ ظَهْرِهَا
، وَحَلْبِهَا يَوْمَ وِرْدِهَا
} .
وَهَذَا مُحْتَمَلٌ لِكُلِّ جَامِعٍ فِي كُلِّ مُوطِنٍ
بِكُلِّ حَالٍ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي : أَنَّ الْكَنْزَ إنَّمَا
يُسْتَعْمَلُ لُغَةً فِي النَّقْدَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ [ تَحْرِيمٌ ]
ضُبِطَ غَيْرُهُ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ
.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ : أَنَّ الْحُلِيَّ
مَأْذُونٌ فِي اتِّخَاذِهِ وَلَا حَقَّ فِيهِ ، وَيَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الرَّابِعِ وَهُوَ الدَّفِينُ مَا
رَوَى مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِي الْإِبِلِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي
الْبَقَرِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا ، وَفِي التَّمْرِ
صَدَقَتُهُ ، و مَنْ دَفَنَ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أَوْ تِبْرًا أَوْ فِضَّةً
لَا يَدْفَعُهَا بَعْدَهَا لِغَرِيمٍ ، وَلَا يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْخَامِسِ مَا رَوَى الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنْ
قَوْلِ اللَّهِ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ
زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ ، إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ
، فَلِمَا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرَةً لِلْأَمْوَالِ .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّادِسِ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِهَا
: { وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا ، وَإِطْرَاقُ فَحْلِهَا } .
وَوَجْهُ الْقَوْلِ السَّابِعِ أَنَّ الْحُقُوقَ
أَكْثَرُ مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَالْمَسَاكِينُ لَا تَسْتَقِلُّ بِهِمْ الزَّكَاةُ
، وَرُبَّمَا حُبِسَتْ عَنْهُمْ ، فَكَنْزُ الْمَالِ دُونَ ذَلِكَ ذَنْبٌ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ
فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ فَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ
بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ .
وَخَالَفَهُ أَبُو ذَرٍّ وَغَيْرُهُ ، فَقَالَ :
الْمُرَادُ بِهَا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمُونَ رَوَى الْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُ ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ :
مَرَرْت بِالرَّبَذَةِ ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ ،
فَقُلْت لَهُ : مَا أَنْزَلَك مَنْزِلَك هَذَا ؟ قَالَ : كُنْت بِالشَّامِ ،
فَاخْتَلَفْت أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ
وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } فَقَالَ مُعَاوِيَةُ :
نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ
.
فَقُلْت : نَزَلَتْ فِينَا وَفِيهِمْ ، وَكَانَ بَيْنِي
وَبَيْنَهُ [ رِيبَةٌ ] فِي ذَلِكَ
.
فَكَتَبَ إلَى عُثْمَانَ يَشْكُونِي ، فَكَتَبَ إلَيَّ
عُثْمَانُ أَنْ أَقْدُمَ الْمَدِينَةَ
.
فَقَدِمْتُهَا ، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى
كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ ، فَذَكَرْت ذَلِكَ لِعُثْمَانَ .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : حَتَّى آذَوْنِي .
فَقَالَ لِي عُثْمَانُ : إنْ شِئْت تَنَحَّيْت فَكُنْت
قَرِيبًا ، فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ ، وَلَوْ أَمَّرُوا
عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْت وَأَطَعْت .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ عِنْدَ
الصَّحَابَةِ يُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ .
وَذَهَبَ عُمَرُ إلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ ؛
نَسَخَتْهَا : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } ؛ قَالَ عِرَاكُ بْنُ مَالِكٍ
: وَلَا شَكَّ فِي أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فِي تَنْقِيحِ
الْأَقْوَالِ ، وَجَلَاءِ الْحَقِّ : وَذَلِكَ يَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ مَدَارَكَ
: الْمُدْرَكُ الْأَوَّلُ : أَنَّ الْكُلَّ مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ
اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ ، وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَاهَا
وَقُضِيَتْ بَقِيَ الْمَالُ مُطَهَّرًا ، كَمَا قَالَ عُمَرُ .
الْمُدْرَكُ الثَّانِي : أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ فِي
أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ ، وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : {
وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } .
الْمُدْرَكُ الثَّالِثُ : تَخْلِيصُ الْحَقِّ مِنْ هَذَيْنِ
الْأَصْلَيْنِ ، فَنَقُولُ : أَمَّا الْكَنْزُ فَهُوَ مَالٌ مَجْمُوعٌ ، لَكِنْ
لَيْسَ كُلُّ مَالٍ دِينَ لِلَّهِ تَعَالَى فِيهِ حَقٌّ ، وَلَا حَقَّ لِلَّهِ
سِوَى الزَّكَاةُ ؛ فَإِخْرَاجُهَا يُخْرِجُ الْمَالَ عَنْ وَصْفِ الْكَنْزِيَّةِ
، ثُمَّ إنَّ الْكَنْزَ لَا
يَكُونُ إلَّا فِي الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ أَوْ
تِبْرِهَا ، وَهَذَا مَعْلُومٌ لُغَةً
.
ثُمَّ إنَّ الْحُلِيَّ لَا زَكَاةَ فِيهِ ؛
فَيُتَنَخَّلُ مِنْ هَذَا أَنَّ كُلَّ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أُدِّيَتْ زَكَاتُهُمَا
، أَوْ اُتُّخِذَتْ حُلِيًّا فَلَيْسَا بِكَنْزٍ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { وَاَلَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ } الْآيَةَ
.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَنْزَ فِي الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ خَاصَّةً ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّفَقَةِ الْوَاجِبُ لِقَوْلِهِ
: { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } وَلَا يَتَوَجَّهُ الْعَذَابُ إلَّا عَلَى
تَارِكِ الْوَاجِبِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْحُلِيَّ
لَا زَكَاةَ فِيهِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قُلْنَا : اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ، أَصْلُهُ قَوْلُ مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ : لَا زَكَاةَ فِي الْحُلِيِّ الْمُبَاحِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ .
وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِ شَيْءٌ .
فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ : فَأَخَذَ بِعُمُومِ
الْأَلْفَاظِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ فِي النَّقْدَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ
حُلِيٍّ وَغَيْرِهِ .
وَأَمَّا عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : إنْ قَصَدَ
التَّمَلُّكَ لِمَا أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الْعُرُوضِ ، وَهِيَ لَيْسَتْ
بِمَحَلٍّ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ ، كَذَلِكَ قَصْدُ قَطْعِ النَّمَاءِ فِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِاِتِّخَاذِهِمَا حُلِيًّا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ ، فَإِنَّ
مَا أَوْجَبَ مَا لَمْ يَجِبْ يَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ ، وَتَخْصِيصِ مَا
عَمَّ وَشَمَلَ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ مَا زَادَ عَلَى
أَرْبَعَةِ آلَافٍ كَنْزٌ ، وَعَزَوْهُ إلَى عَلِيٍّ .
وَلَيْسَ بِشَيْءٍ يُذْكَرُ ، لِبُطْلَانِهِ .
أَمَا إنَّهُ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ
يُفَرِّقُهَا } .
قَالَ أَبُو ذَرٍّ : الْأَكْثَرُونَ أَصْحَابُ عَشَرَةِ
آلَافٍ ، يُرِيدُ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ مَالًا هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ثَوَابًا ، إلَّا مَنْ فَرَّقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
وَهَذَا بَيَانٌ لِنُقْصَانِ الْمَرْتَبَةِ بِقِلَّةِ
الصَّدَقَةِ ، لَا لِوُجُوبِ التَّفْرِقَةِ بِجَمِيعِ
الْمَالِ ، مَا عَدَا الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ ، يُبَيِّنُهُ مَا رَوَى
التِّرْمِذِيُّ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : لَمَّا
نَزَلَتْ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ } قَالَ : { كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ : أُنْزِلَتْ فِي
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ .
لَوْ عَلِمْنَا أَيُّ الْمَالِ خَيْرٌ فَنَتَّخِذَهُ ؟
فَقَالَ : أَفْضَلُهُ لِسَانٌ ذَاكِرٌ ، وَقَلْبٌ شَاكِرٌ ، وَزَوْجَةٌ مُؤْمِنَةٌ
تُعِينُهُ عَلَى إيمَانِهِ } .
فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هَذَا جَوَابًا لِمَنْ عَلِمَ رَغْبَتَهُ فِي الْمَالِ فَرَدَّهُ إلَى مَنْفَعَةِ
الْمَالِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْفَرَاغِ ، وَعَدَمِ الِاشْتِغَالِ .
وَقَدْ بَيَّنَ أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ : أَيُّ
الْمَالِ خَيْرٌ فِي حَالَةٍ أَمْ أُخْرَى لِقَوْمٍ آخَرِينَ ؟ فَقَالَ : { خَيْرُ
مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ يَتَّبِعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ ، وَمَوَاقِعَ
الْقُطْرِ ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا } :
فَذَكَرَ ضَمِيرًا وَاحِدًا عَنْ مَذْكُورَيْنِ .
وَعَنْهُ جَوَابَانِ .
أَحَدُهُمَا :
أَنَّ قَوْلَهُ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ }
جَمَاعَةٌ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ كَنْزٌ ، فَمُرَجِّعُ قَوْلِهِ : " هَا "
إلَى جَمَاعَةِ الْكُنُوزِ .
الثَّانِي : أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ يَكْفِي
عَنْ الثَّانِي ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ
لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا }
.
وَهُمَا شَيْئَانِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : إنَّ
شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرِ الْأَسْ وَدِ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا
وَطَرِيقُ الْكَلَامِ الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ مَا لَمْ يُعَاصَيَا ، وَلَكِنَّهُ
اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : إنَّمَا وَهِمَ مَنْ
زَعَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ أَهْلُ الْكِتَابِ ، لِأَجْلِ قَوْلِهِ فِي
أَوَّلِ الْآيَةِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ كَثِيرًا مِنْ
الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ }
يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَرَجَعَ قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ } إلَيْهِمْ
.
وَهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
أَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ وَخُصُوصَهُ لَا يُؤْثِرُ فِي آخَرَ الْكَلَامِ
وَعُمُومِهِ ، لَا سِيَّمَا إذَا كَانَ مُسْتَقِلًّا [ بِنَفْسِهِ ] .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا إنَّمَا كَانَ يَظْهَرُ لَوْ
قَالَ : وَيَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ .
أَمَا وَقَدْ قَالَ : وَاَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ
الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ، فَقَدْ اسْتَأْنَفَ مَعْنًى آخَرَ يُبَيِّنُ أَنَّهُ
عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ ، لَا وَصْفًا لِجُمْلَةٍ عَلَى وَصْفٍ لَهَا .
وَيُعَضِّدُ ذَلِكَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ الْأَحْنَفَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ : جَلَسْت إلَى
مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَجَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ
وَالْهَيْئَةِ ، حَتَّى قَامَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ قَالَ : "
بَشِّرْ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، يُوضَعُ
عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ ،
وَيُوضَعُ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ
يَتَزَلْزَلُ " .
ثُمَّ وَلَّى فَجَلَسَ إلَى سَارِيَةٍ ، وَجَلَسْت
إلَيْهِ ، وَلَا أَدْرِي مَنْ هُوَ ، فَقُلْت لَهُ : لَا أَرَى الْقَوْمَ إلَّا
قَدْ كَرِهُوا مَا قُلْت لَهُمْ
.
قَالَ : إنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا قَالَ لِي
خَلِيلِي .
قُلْت :
مَنْ خَلِيلُك ؟ قَالَ : النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَا أَبَا ذَرٍّ ؛ أَتُبْصِرُ أَحَدًا ؟ فَنَظَرْت إلَى
الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ ، وَأَنَا أَرَى رَسُولَ اللَّهِ
يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ .
قُلْت : نَعَمْ .
قَالَ لِي : مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ
ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ ، إلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ ، وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا
يَعْقِلُونَ ،
إنَّمَا يَجْمَعُونَ لِلدُّنْيَا ، وَاَللَّهِ لَا
أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا ، وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ ، حَتَّى أَلْقَى
اللَّهَ } .
قَالَ الْقَاضِي : الْحَلَمَةُ : طَرَفُ الثَّدْيِ ،
وَالنُّغْضُ ، بَارِزُ عَظْمِ الْكَتِفِ الْمُحَدَّدِ .
وَرِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ لِهَذَا الْحَدِيثِ صَحِيحَةٌ ،
وَتَأْوِيلُهُ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ حَمَلَهُ عَلَى كُلِّ جَامِعٍ
لِلْمَالِ مُحْتَجِزٍ لَهُ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَنْ احْتَجَنَهُ
وَاكْتَنَزَهُ عَنْ الزَّكَاةِ
.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : مَا
رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : مَنْ آتَاهُ
اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا أَقْرَعَ
لَهُ زَبِيبَتَانِ ، يُطَوِّفُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ
يَعْنِي بِشَدْقَيْهِ يَقُولُ : أَنَا مَالُك ، أَنَا كَنْزُك .
ثُمَّ قَرَأَ : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ
} .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
قَالَ الْقَاضِي : قَوْلُهُ : مَا لَمْ تُؤَدَّ
زَكَاتُهُ ، يُرِيدُ أَوْ حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِ ، كَفَّكِ الْأَسِيرِ ، وَحَقِّ
الْجَائِعِ ، وَالْعَطْشَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُقُوقَ الْعَارِضَةَ
كَالْحُقُوقِ الْأَصْلِيَّةِ .
وَقَوْلُهُ : مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ شُجَاعًا يَعْنِي
حَيَّةً .
وَهَذَا تَمْثِيلُ حَقِيقَةٍ ؛ لِأَنَّ الشُّجَاعَ
جِسْمٌ وَالْمَالَ جِسْمٌ ، فَتَغَيُّرُ الصِّفَاتِ وَالْجِسْمِيَّةِ وَاحِدَةٌ ،
بِخِلَافِ قَوْلِهِ : يُؤْتَى بِالْمَوْتِ فَإِنَّ تِلْكَ طَرِيقَةٌ أُخْرَى .
وَإِنَّمَا خَصَّ الشُّجَاعَ ؛ لِأَنَّهُ الْعَدُوُّ
الثَّانِي لِلْخَلْقِ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِيهِنَّ : { مَا سَالَمْنَاهُنَّ مُنْذُ حَارَبْنَاهُنَّ } .
وَقَوْلُهُ : أَقْرَعُ ، يَعْنِي الَّذِي ابْيَضَّ
رَأْسُهُ مِنْ السُّمِّ .
وَالزَّبِيبَتَانِ : زُبْدَتَانِ فِي شِدْقَيْ الْإِنْسَانِ
إذَا غَضِبَ وَأَكْثَرَ مِنْ الْكَلَامِ ، قَالَتْ أُمُّ غَيْلَانَ بِنْتُ جَرِيرٍ
: رُبَّمَا أَنْشَدْت أَبِي حَتَّى تَزَبَّبَ شَدْقَايَ .
ضَرَبَ مَثَلًا لِلشُّجَاعِ الَّذِي يَتَمَثَّلُ
كَهَيْئَةِ الْمَالِ ، فَيَلْقَى صَاحِبَهُ غَضْبَانَ .
وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ : هُمَا نُقْطَتَانِ
سَوْدَاوَانِ فَوْقَ عَيْنَيْهِ
.
وَقِيلَ : هُوَ الشُّجَاعُ الَّذِي كَثُرَ سُمُّهُ
حَتَّى ظَهَرَ عَلَى شَدْقَيْهِ مِنْهُ كَهَيْئَةِ الزَّبِيبَتَيْنِ .
وَكَتَبَ أَهْلِ الْحَدِيثِ شُجَاعٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ
بَعْدَ الْعَيْنِ .
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ
كَتَبُوهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ ، وَقَرَءُوهُ مَنْصُوبًا لِئَلَّا يُشْكِلَ
بِالْمَمْدُودِ ، وَكَذَلِكَ نُظَرَاؤُهُ .
وَاللِّهْزِمَةُ : الشَّدْقَانِ .
وَفِي رِوَايَةٍ : يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ .
وَقِيلَ : هُمَا فِي أَصْلِ الْحَنَكِ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : { إنَّهُ يَمْثُلُ لَهُ مَالُهُ
شُجَاعًا يَتَّبِعُهُ فَيَضْطَرُّهُ فَيُعْطِيهِ يَدَهُ فَيَقْضِمَهَا كَمَا
يَقْضِمُ الْفَحْلُ } .
فَأَمَّا حَبْسُهُ لِيَدِهِ فَلِأَنَّهُ شَحَّ
بِالْمَالِ وَقَبَضَ بِهَا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا أَخْذُهُ بِفَمِهِ فَلِأَنَّهُ
أَكَلَهُ ، وَأَمَّا خُرُوجُهُ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ إلَى نُغْضِ كَتِفِهِ
فَلِتَعْذِيبِ قَلْبِهِ وَبَاطِنِهِ حِينَ امْتَلَأَ بِالْفَرَحِ بِالْكَثْرَةِ
فِي الْمَالِ وَالسُّرُورِ فِي الدُّنْيَا ؛ فَعُوقِبَ فِي الْآخِرَةِ بِالْهَمِّ
وَالْعَذَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْ لَمْ يَكْنِزْ
وَلَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَلَيْسَ يَكُونُ هَذَا حُكْمَهُ ؟ فَمَا
فَائِدَةُ ذِكْرِ الْكَنْزِ ؟ قُلْنَا : إذَا لَمْ يُنْفِقْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَلَمْ يَكْنِزْ ، وَلَكِنَّهُ بَذَّرَ مَالِهِ فِي السَّرَفِ وَالْمَعَاصِي
فَهَذَا يَعْلَمُ أَنَّ يَكُونُ مِثْلَ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ مِنْ طَرِيقِ
الْأَوْلَى .
فَإِنْ قِيلَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ
عَشْرَةَ : يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي وَقْتِ الْحَاجَةِ
، وَفَقْرِ الصَّحَابَةِ ، وَفَرَاغِ خِزَانَةِ بَيْتِ الْمَالِ .
قُلْنَا :
هَذَا بَاطِلٌ ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ قَدْ كَانَتْ
شُرِعَتْ ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَغْنِيَاءً ، وَبَعْضُهُمْ
فُقَرَاءً ، وَقَدْ كَانَ الْفَقِيرُ مِنْهُمْ يَرْبِطُ بَطْنَهُ بِالْحِجَارَةِ
مِنْ الْجُوعِ ، وَبُيُوتُ الصَّحَابَةِ الْأَغْنِيَاءِ مَمْلُوءَةٌ مِنْ
الرِّزْقِ ، يَشْبَعُ أُولَئِكَ ، وَيَجُوعُ هَؤُلَاءِ ، فَيَنْدُبَهُمْ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصَّدَقَةِ ، وَيُرَغِّبَهُمْ
فِي الْمُوَاسَاةِ ، وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِمْ الْخُرُوجَ عَنْ جَمِيعِ
أَمْوَالِهِمْ .
الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى : { يَوْمَ
يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجَنُوبُهُمْ
وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ
تَكْنِزُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
" مَنْ تَرَكَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ جُعِلَتْ
صَفَائِحَ يُعَذَّبُ بِهَا صَاحِبُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ " .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : "
وَاَللَّهِ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ رَجُلًا بِكَنْزٍ فَيَمَسُّ دِرْهَمٌ دِرْهَمًا
، وَلَا دِينَارٌ دِينَارًا ، وَلَكِنْ يُوَسِّعُ جِلْدَهُ حَتَّى يُوضَعُ كُلُّ
دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ عَلَى حِدَتِهِ
" .
وَعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُوتُ وَعِنْدَهُ أَحْمَرُ أَوْ
أَبْيَضُ إلَّا جُعِلَ لَهُ بِكُلِّ قِيرَاطٍ صَفِيحَةٌ مِنْ نَارٍ فَيُكْوَى
بِهَا مِنْ فَرْقِهِ إلَى قِدَمِهِ ، مَغْفُورٌ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ مُعَذَّبٌ } .
قَالَ الْقَاضِي : هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَمْ يَصِحَّ
سَنَدُهَا ، وَهِيَ بَعْدُ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَا لَمْ تُؤَدَّ زَكَاتُهُ ، فَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَسْأَلُ النَّاسَ ، فَمَاتَ فَوَجَدُوا لَهُ
عِشْرِينَ أَلْفًا ، فَقَالَ النَّاسُ
: كَنْزٌ
.
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : لَعَلَّهُ كَانَ يُؤَدِّي
زَكَاتَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَمَا أَدَّى زَكَاتَهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ .
وَمِثْلُهُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ : أَنَّهُ يُوَسَّعُ
جِلْدُهُ فَهَذَا إنَّمَا صَحَّ فِي الْكَافِرِ أَنَّهُ تَعْظُمُ جُثَّتُهُ
زِيَادَةً فِي عَذَابِهِ ، وَيَغْلُظُ جِلْدُهُ ، وَيَكْبُرُ ضِرْسُهُ ، حَتَّى
يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ .
فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لَهُ بِحَالٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
إنَّمَا كُوِيَتْ جَبْهَتُهُ أَوَّلًا لَعَلَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَزْوِيهَا
لِلسَّائِلِ كَرَاهِيَةً لِسُؤَالِهِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : يَزِيدُ يَغُضُّ
الطَّرْفَ عَنِّي كَأَنَّمَا زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَيَّ الْمَحَاجِمَ فَلَا
يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْنِ عَيْنَيْك مَا انْزَوَى
وَلَا تَلْقَنِي إلَّا وَأَنْفُك رَاغِمُ ثُمَّ يَلْوِي
عَنْ وَجْهِهِ ، وَيُعْطِيهِ جَنْبَهُ إذَا زَادَهُ فِي السُّؤَالِ ؛ فَإِنْ
أَكْثَرَ عَلَيْهِ وَلَّاهُ ظَهْرَهُ ؛ فَرَتَّبَ اللَّهُ الْعُقُوبَةَ عَلَى
حَالِ الْمَعْصِيَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ
: " مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ طَوَّقَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَنْقُرُ رَأْسَهُ " .
فَلَعَلَّهُ إنْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْكَيُّ مِنْ
خَارِجٍ ، وَالنَّقْرُ مِنْ دَاخِلٍ
.
وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ : لَمَّا طَلَبُوا بِكَثْرَةِ
الْمَالِ الْجَاهَ شَانَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ ، وَلَمَّا طَوَوْا كَشْحًا عَنْ
الْفَقِيرِ إذَا جَالَسَهُمْ كُوِيَتْ جَنُوبُهُمْ ، وَلَمَّا أَسْنَدُوا
بِظُهُورِهِمْ إلَى أَمْوَالِهِمْ ثِقَةً بِهَا وَاعْتِمَادًا عَلَيْهَا دُونَ
اللَّهِ كُوِيَتْ ظُهُورُهُمْ ، هَذَا وَالْكُلُّ مَعْنًى صَحِيحٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنْ كَانَ الْمُكْتَنِزُ
كَافِرًا فَهَذِهِ بَعْضُ عُقُوبَاتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَهَذِهِ
عُقُوبَتُهُ إنْ لَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا عَظُمَ الْوَعِيدُ فِي
هَذَا الْبَابِ لِمَا فِي اخْتِلَافِ الْعِبَادِ مِنْ الشُّحِّ عَلَى الْمَالِ
وَالْبُخْلِ بِهِ ؛ فَإِذَا خَافُوا مِنْ عَظِيمِ الْوَعِيدِ لَانُوا فِي أَدَاءِ
الطَّاعَةِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ
عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ
يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ
الدَّيْنُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا
الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } .
فِيهَا ثَمَانِ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمُوا
أَنَارَ اللَّهُ أَفْئِدَتَكُمْ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ،
وَزَيَّنَهَا بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ ، وَرَتَّبَ فِيهَا النُّورَ وَالظُّلْمَةَ
، وَرَكَّبَ عَلَيْهَا الْمَصَالِحَ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْعِبَادَاتِ
الدِّينِيَّةَ ، وَأَحْكَمَ الشُّهُورَ وَالْأَعْوَامَ ، وَنَظَّمَ بِالْكُلِّ
مِنْ ذَلِكَ مَا خَلَقَ مِنْ مَصْلَحَةٍ وَمَنْفَعَةٍ ، وَعِبَادَةٍ وَطَاعَةٍ ،
وَعَلِمَ ذَلِكَ النَّاسُ أَوَّلًا وَآخِرًا ، ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ؛ فَقَالَ
: { إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } إلَى : الْأَلْبَابِ .
وَقَالَ : { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً }
إلَى : بِالْحَقِّ .
فَأَخَذَ كُلُّ فَرِيقٍ ذَلِكَ فَاضْطَرَبُوا فِي
تَفْصِيلِهِ ، فَقَالَ الرُّومُ
: السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، وَالشُّهُورُ
مُخْتَلِفَةٌ ؛ شَهْرٌ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، وَشَهْرٌ ثَلَاثُونَ
يَوْمًا ، وَشَهْرٌ وَاحِدٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا .
وَقَالَ الْفُرْسُ : الشُّهُورُ كُلُّهَا ثَلَاثُونَ
يَوْمًا ، إلَّا شَهْرًا وَاحِدًا ، فَإِنَّهُ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا .
وَقَالَتْ الْقِبْطُ بِقَوْلِهَا : إنَّ الشَّهْرَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا ،
إلَّا أَنَّهُ إذَا كَمُلَ الْعَامُ أَلْغَتْ خَمْسَةَ أَيَّامٍ تُنْسِئَهَا
بِزَعْمِهَا .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي كُلِّ عَامٍ
مِنْ رُبْعِ يَوْمٍ مَزِيدًا عَلَى الْعَامِ ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ مِنْهُ فِي كُلِّ
أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ يَوْمٌ فَيُكْبَسُ أَيْ يُلْغَى ، وَيُزَادُ فِي الْعَدَدِ ،
وَيُسْتَأْنَفُ الْعَامُ بَعْدَهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ قَصْدًا لِتَرْتِيبِ
الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : تَحْقِيقُ الْقَوْلِ :
إنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّنَةَ اثْنَيْ عَشَرَ
شَهْرًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْبُرُوجَ فِي
السَّمَاءِ اثْنَيْ عَشَرَ بُرْجًا ، وَرَتَّبَ فِيهَا سَيْرَ الشَّمْسِ
وَالْقَمَرِ ، وَجَعَلَ مَسِيرَ الْقَمَرِ ، وَقَطْعَهُ لَلْفَلَكِ فِي كُلِّ
شَهْرٍ ، وَجَعَلَ سَيْرَ الشَّمْسِ فِيهَا ، وَقَطْعَهُ فِي كُلِّ عَامٍ ،
وَيَتَقَابَلَانِ فِي الِاسْتِعْلَاءِ فَيَعْلُو الْقَمَرُ إلَى الِاسْتِوَاءِ ،
وَتَسْفُلُ الشَّمْسُ ، وَتَعْلُو الشَّمْسُ ، وَيَسْفُلُ الْقَمَرُ ، وَهَكَذَا
عَلَى الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ ، وَفِي الشُّهُورِ الِاثْنَيْ عَشَرَ ،
وَجَعَلَ عَدَدَ أَيَّامِ السَّنَةِ الْقَمَرِيَّةِ رُبْعَ يَوْمٍ وَأَرْبَعَةً
وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَثَلَاثَمِائَةِ يَوْمٍ ، وَجَعَلَ أَيَّامَ السَّنَةِ
الشَّمْسِيَّةِ رُبْعَ يَوْمٍ وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا وَثَلَاثَمِائَةِ
يَوْمٍ ؛ فَرَكَّبَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا مَسْأَلَةً ، وَهِيَ إذَا قَالَ :
لَا أُكَلِّمُهُ الشُّهُورَ ، فَلَا يُكَلِّمُهُ حَوْلًا مُجْرِمًا : كَامِلًا
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ
عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ } .
وَقِيلَ : لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا .
وَأَرَى إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ أَنْ يَقْضِيَ
ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ شُهُورٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَلُّ الْجَمْعِ بِيَقِينِ الَّذِي
تَقْتَضِيهِ صِيغَةُ فُعُولٍ فِي جَمْعِ فَعْلٍ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ سَنَةً مِنْ السَّنِينِ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِقْدَارَ مَا يَجْتَمِعُ مِنْ الْكَسْرِ فِي
الزِّيَادَةِ فَيَلْغُونَ مِنْهُ شَهْرًا فِي سَنَةٍ ، وَقَصْدُهُمْ بِذَلِكَ
كُلِّهِ أَلَّا تَغَيَّرَ الشُّهُورُ عَنْ أَوْقَاتِهَا الَّتِي تَجْرِي عَلَيْهَا
فِي الْأَزْمِنَةِ الْأَرْبَعَةِ
: الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ، وَالْقَيْظِ وَالْخَرِيفِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مِمَّا ضَلَّ فِيهِ
جُهَّالُ الْأُمَمِ أَنَّهُمْ وَضَعُوا صَوْمَهُمْ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، وَكَانَ
وَضْعُ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ أَنْ يَكُونَ بِالْأَهِلَّةِ
حَتَّى يَخِفَّ تَارَةً وَيَثْقُلَ أُخْرَى ، حَتَّى يَعُمَّ الِابْتِلَاءُ
الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا ؛ فَيَخْتَلِفَ الْحَالُ فِيهِ عَلَى الْوَاحِدِ .
وَالنَّفْسُ كَثِيرًا مَا تَسْكُنُ إلَى ذَلِكَ أَوْ
يَخْتَلِفُ فِيهِ
الْحَالُ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَالْأَمَةِ لِذَلِكَ
الْمَعْنَى أَيْضًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { فِي
كِتَابِ اللَّهِ } : يُرِيدُ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ
.
فَقَالَ لَهُ : اُكْتُبْ فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلَى أَنْ
تَقُومَ السَّاعَةُ ؛ فَعَلِمَ اللَّهُ مَا يَكُونُ فِي الْأَزَلِ ، ثُمَّ
كَتَبَهُ ، ثُمَّ خَلَقَهُ كَمَا عَلِمَ وَكَتَبَ } .
؛
فَانْتَظَمَ الْعِلْمُ وَالْكِتَابُ وَالْخَلْقُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { يَوْمَ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } : مُتَعَلِّقٌ بِالْمَصْدَرِ ، وَهُوَ
قَوْلُهُ : { كِتَابِ اللَّهِ } ، كَمَا أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ مِنْ قَوْلِهِ :
فِي كِتَابِ اللَّهِ ، وَهُوَ : فِي ، لَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ عِدَّةَ ؛
لِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ حَالَ بَيْنَهُمَا ، وَلَكِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ
صِفَةٍ لِلْخَبَرِ ، كَأَنَّهُ قَالَ مَعْدُودَةً أَوْ مُؤَدَّاةً أَوْ
مَكْتُوبَةً فِي كِتَابِ اللَّهِ ، كَقَوْلِك : زَيْدٌ فِي الدَّارِ ، وَذَلِكَ
مُبَيَّنٌ فِي مَلْجَئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ " .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } : وَهِيَ :
رَجَبٌ الْفَرْدُ ، وَذُو الْقَعْدَةِ ، وَذُو
الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ .
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا
عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ : ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو
الْقَعْدَةِ ، وَذُو الْحِجَّةِ ، وَالْمُحَرَّمُ ؛ وَرَجَبٌ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : { وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ
جُمَادَى وَشَعْبَانَ } .
وَقَوْلُهُ :
{ حُرُمٌ } جَمْعُ حَرَامٍ ، كَأَنَّهُ يُوجِدُ
احْتِرَامَهَا بِمَا مَنَعَ فِيهَا مِنْ الْقِتَالِ ، وَأَوْقَعَ فِي قُلُوبِ
النَّاسِ لَهَا مِنْ التَّعْظِيمِ
.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : " رَجَبُ مُضَرَ "
فَبِمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو إِسْحَاقَ أَنَّ بَعْضَ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ ،
وَأَحْسِبُهُ مِنْ رَبِيعَةَ ، كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ
وَيُسَمُّونَهُ رَجَبَ ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَخْصِيصَهُ بِالْبَيَانِ بِاقْتِصَارِ مُضَرَ عَلَى تَحْرِيمِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ : { وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي
بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ }
.
وَذَلِكَ كُلُّهُ بَيَانٌ لِتَحْقِيقِ الْحَالِ ،
وَتَنْبِيهٌ عَلَى رَفْعِ مَا كَانَ وَقَعَ فِيهَا مِنْ الِاخْتِلَالِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { فَلَا
تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }
: فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَظْلِمُوا
أَنْفُسَكُمْ فِي الشُّهُورِ كُلِّهَا
.
وَقِيلَ فِي الثَّانِي : الْمُرَادُ بِذَلِكَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ .
وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِالظُّلْمِ عَلَى
قَوْلَيْنِ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ
بِتَحْلِيلِهِنَّ .
وَقِيلَ
: بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ فِيهِنَّ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ
إذَا عَظَّمَ شَيْئًا مِنْ جِهَةٍ صَارَتْ لَهُ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِذَا
عَظَّمَهُ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ مِنْ جِهَاتٍ صَارَتْ حُرْمَتُهُ مُتَعَدِّدَةً
بِعَدَدِ جِهَاتِ التَّحْرِيمِ ، وَيَتَضَاعَفُ الْعِقَابُ بِالْعَمَلِ السُّوءِ
فِيهَا ، كَمَا ضَاعَفَ الثَّوَابَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِيهَا ؛ فَإِنَّ مَنْ
أَطَاعَ اللَّهَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ لَيْسَ كَمَنْ أَطَاعَهُ فِي شَهْرٍ حَلَالٍ فِي بَلَدٍ حَلَالٍ فِي
بُقْعَةٍ حَلَالٍ .
وَكَذَلِكَ الْعِصْيَانُ وَالْعَذَابُ مِثْلُهُ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ وَالْحَالَيْنِ وَالصِّفَتَيْنِ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ بِحُكْمِ
اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ .
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { يَا
نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ
لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } لِعِظَمِهِنَّ وَشَرَفِهِنَّ فِي أَحَدِ
الْقَوْلَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فَإِنْ قِيلَ : و كَيْفَ
جَعَلَ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ ؟ قُلْنَا : عَنْهُ
جَوَابَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَارِيَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ،
وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، لَيْسَ عَلَيْهِ حَجْرٌ ، وَلَا لِعَمَلِهِ عِلَّةٌ ؛
بَلْ كُلُّ ذَلِكَ بِحِكْمَةٍ ، وَقَدْ يَظْهَرُ لِلْخَلْقِ وَجْهُ الْحِكْمَةِ
فِيهِ ، وَقَدْ يَخْفَى .
الثَّانِي : أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ النَّفْسَ
مَجْبُولَةٌ عَلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ ، فَلَمَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ
تَكَالِيفُ الْمُحَرَّمَاتِ جَعَلَ بَعْضَهَا أَغْلَظَ مِنْ بَعْضٍ ، لِيُعْتَادَ
بِكَفِّهَا عَنْ الْأَخَفِّ ، الْكَفُّ عَنْ الْأَغْلَظِ ، وَيَجْعَلُ بَعْضَ
الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ أَعْظَمَ حُرْمَةً مِنْ بَعْضٍ ؛ لِيُعْتَادَ فِي
الْخَفِيفِ الِامْتِثَالُ ، فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ فِي الْغَلِيظِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
أَوَّلِ هَذِهِ الْأَشْهُرِ [ الْحُرُمِ ] ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : أَوَّلُهَا الْمُحَرَّمُ
وَآخِرُهَا ذُو الْحِجَّةِ ، لِأَنَّهُ عَلَى تَقْرِيرِ شُهُورِ الْعَامِ ،
الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ .
الثَّانِي : أَنَّ أَوَّلَهَا رَجَبٌ ، وَآخِرُهَا الْمُحَرَّمُ
مَعْدُودَةً مِنْ عَامَيْنِ ؛ لِأَنَّ رَجَبًا لَهُ فَضْلُ الْإِفْرَادِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ أَوَّلَهَا ذُو الْقَعْدَةِ ؛
لِأَنَّ فِيهِ التَّوَالِيَ دُونَ التَّقْطِيعِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِقَوْلِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْدَادِهَا : { ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ : ذُو
الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ ؛ وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ
جُمَادَى وَشَعْبَانَ } .
وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الصَّحِيحِ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى {
وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
} .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ : {
مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
} .
وَقَالَ هَاهُنَا : { قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً
} : يَعْنِي مُحِيطِينَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ وَحَالَةٍ ، فَمَنَعَهُمْ ذَلِكَ
مِنْ الِاسْتِرْسَالِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { كَافَّةً } : مَصْدَرُ
حَالٍ ، وَوَزْنُهُ فَاعِلَةً ، وَهُوَ غَرِيبٌ فِي الْمَصَادِرِ ، كَالْعَافِيَةِ
وَالْعَاقِبَةِ ، اُشْتُقَّ مِنْ كِفَّةِ الشَّيْءِ ، وَهُوَ حَرْفُهُ الَّذِي لَا
يَبْقَى بَعْدَهُ زِيَادَةٌ عَلَيْهِ ، وَمِثْلُهُ عَامَّةً وَخَاصَّةً ، وَلَا
يُثَنَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُجْمَعُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ الطَّبَرِيُّ :
مَعْنَاهُ مُؤْتَلِفِينَ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ ، فَرُدَّ ذَلِكَ إلَى
الِاعْتِقَادِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْفِعْلِ وَالِاعْتِقَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } : يَعْنِي بِالنَّصْرِ وَعْدًا
مَرْبُوطًا بِالتَّقْوَى ، فَإِنَّمَا تَنْصُرُونَ بِأَعْمَالِكُمْ ، وَقَدْ
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ قَوْله تَعَالَى {
إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ
اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ
وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
فِيهَا ثَمَانِي مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى { النَّسِيءُ }
: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدِهِمَا : أَنَّهُ الزِّيَادَةُ ، يُقَالُ : نَسَأَ يَنْسَأُ ، إذَا زَادَ ؛
قَالَهُ الطَّبَرِيُّ .
الثَّانِي : أَنَّهُ التَّأْخِيرُ .
قَالَ الْأَزْهَرِيُّ : يُقَالُ أَنْسَأْت الشَّيْءَ
إنْسَاءً ، وَنَسَاءَ اسْمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ ، وَلَهُ مَعَانٍ
كَثِيرَةٍ .
أَمَّا الطَّبَرِيُّ فَاحْتَجَّ بِأَنَّهُ يَتَعَدَّى
بِحَرْفِ الْجَرِّ ، فَيُقَالُ : أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِك ، كَمَا تَقُولُ :
زَادَ اللَّهُ فِي أَجَلِك ، وَتَقُولُ : أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِك أَيْ
زَادَهُ مُدَّةً ، وَاكْتَفَى بِأَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ عَنْ الثَّانِي ،
وَمَنَعَ مِنْ قِرَاءَتِهِ بِغَيْرِ الْهَمْزِ ، وَرَدَّ عَلَى نَافِعٍ ، وَقَالَ : لَا يَكُونُ
بِتَرْكِ الْهَمْزِ إلَّا مِنْ النِّسْيَانِ ، كَمَا قَالَ : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } .
وَاحْتَجَّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ التَّأْخِيرُ بِنَقْلِ
الْعَرَبِ لِهَذَا التَّفْسِيرِ عَنْ أَوَائِلِهَا ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ عَنْهُمْ
مَشْيَخَةُ الْعَرَبِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ : مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ
نَنْسَأْهَا ، أَيْ نُؤَخِّرْهَا ، مَهْمُوزَةٌ ، وَقَدْ تُخَفَّفُ الْهَمْزُ ،
كَمَا يُقَالُ خَطِيَّةٌ وَخَطِيئَةٌ ، وَالصَّابِيُونَ وَالصَّابِئُونَ ،
وَتَخْفِيفُ الْهَمْزِ أَصْلٌ ، وَنَقْلُ الْحَرَكَةِ أَصْلٌ ، وَالْبَدَلُ
وَالْقَلْبُ أَصْلٌ كُلُّهُ لُغَوِيٌّ ، وَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَخْفَى هَذَا
عَلَى الطَّبَرِيِّ .
وَأَمَّا فَصْلُ التَّعَدِّي فَضَعِيفٌ ؛ فَإِنَّ
الْأَفْعَالَ الْمُتَعَدِّيَةَ بِالْوَجْهَيْنِ مِنْ وُجُوهِ حَرْفِ الْجَرِّ ،
وَفِي تَعَدِّيهَا بِهِ ، وَعَدَمِهِ كَثِيرَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : كَيْفِيَّةُ النَّسِيءِ :
ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جُنَادَةَ بْنَ عَوْفِ
بْنِ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيَّ كَانَ يُوَافِي الْمَوْسِمَ كُلَّ عَامٍ ، فَيُنَادِي
: أَلَا إنَّ أَبَا ثُمَامَةَ لَا يُعَابُ وَلَا يُجَابُ ، أَلَا وَإِنَّ صَفَرًا
الْعَامَ الْأَوَّلَ حَلَالٌ ، فَنُحَرِّمُهُ عَامًا ، وَنُحِلُّهُ عَامًا ،
وَكَانُوا مَعَ هَوَازِنَ وَغَطَفَانَ وَبَنِي سُلَيْمٍ .
وَفِي لَفْظَةٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إنَّا
قَدَّمْنَا الْمُحَرَّمَ وَأَخَّرْنَا صَفَرًا ، ثُمَّ يَأْتِي الْعَامُ الثَّانِي
فَيَقُولُ : إنَّا حَرَّمْنَا صَفَرًا وَأَخَّرْنَا الْمُحَرَّمَ ؛ فَهُوَ هَذَا
التَّأْخِيرُ .
الثَّانِي : الزِّيَادَةُ ؛ قَالَ قَتَادَةُ : عَمَدَ قَوْمٌ
مِنْ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فَزَادُوا صَفَرًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، فَكَانَ
يَقُومُ قَائِمُهُمْ فِي الْمَوْسِمِ فَيَقُولُ : أَلَا إنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ
حَرَّمَتْ الْعَامَ الْمُحَرَّمَ ، فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ ، ثُمَّ
يَقُومُ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَقُولُ : أَلَا إنَّ آلِهَتَكُمْ قَدْ
حَرَّمَتْ صَفَرًا فَيُحَرِّمُونَهُ ذَلِكَ الْعَامَ ، وَيَقُولُونَ :
الصَّفَرَانِ .
وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ
نَحْوَهُ قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَهُ صَفَرَيْنِ ،
فَلِذُلِّك قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا صَفَرَ } .
وَكَذَلِكَ رَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ .
الثَّالِثُ : تَبْدِيلُ الْحَجِّ ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ
بِإِسْنَادٍ آخَرَ : إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ .
قَالَ :
حَجُّوا فِي ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ ، ثُمَّ حَجُّوا
فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَرَ عَامَيْنِ ، فَكَانُوا
يَحُجُّونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ حَتَّى وَافَتْ حَجَّةُ
أَبِي بَكْرٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ فِي ذِي الْحِجَّةِ ،
فَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ
الصَّحِيحِ فِي خُطْبَتِهِ : { إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ
يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ } .
رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ ، وَاللَّفْظُ لَهُ
قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَيُّهَا النَّاسُ ، اسْمَعُوا قَوْلِي ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي
لَعَلِّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ يَوْمِي هَذَا فِي هَذَا الْمَوْقِفِ أَيُّهَا
النَّاسُ ، إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ
رَبَّكُمْ ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ، فِي بَلَدِكُمْ
هَذَا ، وَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ .
وَقَدْ بَلَّغْت ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ
فَلْيُؤَدِّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مَوْضُوعٌ
، وَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ، لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ ، قَضَى
اللَّهُ أَنْ لَا رِبَا ، وَإِنَّ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
مَوْضُوعٌ كُلُّهُ ، وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَإِنَّ
أَوَّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمَ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ ، كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ ،
فَهُوَ أَوَّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ .
أَمَّا بَعْدُ ، أَيُّهَا النَّاسُ ، فَإِنَّ
الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ ، وَلَكِنَّهُ إنْ يُطَعْ
فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ ،
فَاحْذَرُوهُ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَى دِينِكُمْ ، وَإِنَّ النَّسِيءَ زِيَادَةٌ
فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا إلَى قَوْلِهِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ .
وَإِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ، وَإِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ
اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةُ حُرُمٌ ؛ ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ،
وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ .
} وَذَكَرَ سَائِرَ الْحَدِيثِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي أَوَّلِ مَنْ أَنْسَأَ
: فِي ذَلِكَ كَلَامٌ طَوِيلٌ لُبَابُهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ
حَيًّا مِنْ بَنِي كِنَانَةَ ، ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ يُقَالُ
لَهُ الْقَلَمَّسُ ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ
عَدِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَكَانَ مَلِكًا ، فَكَانَ يُحِلُّ الْمُحَرَّمَ
عَامًا وَيُحَرِّمُهُ عَامًا ، فَكَانَ إذَا حَرَّمَهُ كَانَتْ ثَلَاثَةُ حُرُمٍ
مُتَوَالِيَاتٌ ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ فِي عَهْدِ
إبْرَاهِيمَ ، فَإِذَا أَحَلَّهُ أَدْخَلَ مَكَانَهُ صَفَرًا ، لِيُوَاطِئَ
الْعِدَّةَ ، يَقُولُ : قَدْ أَكْمَلْت الْأَرْبَعَةَ كَمَا كَانَتْ ؛ لِأَنِّي
لَمْ أُحِلَّ شَهْرًا إلَّا حَرَّمْت مَكَانَهُ آخَرَ ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ
كَذَلِكَ مِمَّنْ كَانَتْ تَدِينُ بِدِينِ الْقَلَمَّسِ ، فَكَانَ يَخْطُبُ
بِعَرَفَةَ فَيَقُولُ : " اللَّهُمَّ إنِّي لَا أُعَابُ وَلَا أُجَابُ ، وَلَا مَرَدَّ
لِمَا قَضَيْت ، اللَّهُمَّ إنِّي قَدْ أَحْلَلْت دِمَاءَ الْمُحِلِّينَ مِنْ
طَيِّئٍ وَخَثْعَمَ ، فَمَنْ لَقِيَهُمَا فَلْيَقْتُلْهُمَا " فَرَجَعَ
النَّاسُ وَقَدْ أَخَذُوا بِقَوْلِهِ
.
وَإِنَّمَا أَحَلَّ دِمَاءَ طَيِّئٍ وَخَثْعَمَ ؛
لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَحُجُّونَ مَعَ الْعَرَبِ ، وَلَا يُحَرِّمُونَ
الْحُرُمَ ، وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَهَا ، وَكَانَ سَائِرُ الْعَرَبِ
يُحَرِّمُونَ الْحُرُمَ .
ثُمَّ كَانَ ابْنُهُ عَلَى النَّاسِ كَمَا كَانَ الْقَلَمَّسُ
وَاسْمُهُ عَبَّادٌ ، ثُمَّ ابْنُهُ أَقْلَعُ ، ثُمَّ ابْنُهُ أُمَيَّةُ بْنُ
أَقْلَعَ بْنُ عَبَّادٍ ، ثُمَّ ابْنُهُ عَوْفُ بْنُ أُمَيَّةَ ، ثُمَّ ابْنُهُ
جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَحَجَّ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَّةَ الْوَدَاعِ ، وَجُنَادَةُ صَاحِبُ ذَلِكَ حَتَّى
بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ، وَأَكْمَلَ الْحُرُمَ ثَلَاثَةً مُتَوَالِيَاتٍ
وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ .
وَفِي رِوَايَةٍ : الْعَرَبُ كَانَتْ إذَا فَرَغَتْ مِنْ
حَجِّهَا اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ فَحَرَّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ، فَإِذَا أَرَادَ
أَنْ يُحِلَّ
شَيْئًا مِنْهَا لِغَنِيمَةٍ أَوْ لِغَارَةٍ أَحَلَّ
الْمُحَرَّمَ وَحَرَّمَ مَكَانَهُ صَفَرًا ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ
قَيْسِ بْنِ جَذْلٍ الطَّعَّانُ : لَقَدْ عَلِمَتْ مَعْدٌ أَنَّ قَوْمِي كِرَامُ
النَّاسِ أَنَّ لَهُمْ كِرَامَا فَأَيُّ النَّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرٍ وَأَيُّ
النَّاسِ لَمْ تَعْلِك لِجَامَا أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعْدٍ شُهُورَ
الْحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامًا وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرُ هَذَا بِزِيَادَةٍ عَلَيْهِ
فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ
الْإِنْسَاءَ كَانَ عِنْدَ الْعَرَبِ زِيَادَةً وَتَأْخِيرًا وَتَبْدِيلًا ،
وَأَقَلُّهُ صِحَّةً الزِّيَادَةُ ، لِقَوْلِهِ : { لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا
حَرَّمَ اللَّهُ } فَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْإِنْسَاءِ مَا كَانَ
تَبْدِيلًا [ أَوْ تَأْخِيرًا ] ، وَأَقَلُّهُ الزِّيَادَةُ .
وَالْمُوَاطَأَةُ هِيَ الْمُوَافَقَةُ ، تَقُولُ
الْعَرَبُ : وَاطَأْتُك عَلَى الْأَمْرِ ، أَيْ وَافَقْتُك عَلَيْهِ ، فَكَانُوا
يَحْفَظُونَ عِدَّةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ الَّتِي هِيَ أَرْبَعَةٌ ، لَكِنَّهُمْ
يُبَدِّلُونَ وَيُؤَخِّرُونَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْمُوَاطَأَةَ عَلَى الْعِدَّةِ
تَكْفِي ، وَإِنْ خَالَفَتْ فِي أَعْيَانِ الْأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَاتِ .
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَاءُ عِنْدَهُمْ
بِالثَّلَاثَةِ الْأَوْجُهِ ، فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْهَا الْوَجْهَيْنِ ، وَلَمْ
يَذْكُرْ الزِّيَادَةَ ، وَعِظَمَ التَّبْدِيلِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ
الْمُوَافَقَةُ فِي الْعَدَدِ ، فَكَانَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُخَالَفَةَ
فِي وَجْهٍ أَزْيَدُ فِي الْكُفْرِ ، وَأَعْظَمُ فِي الْإِثْمِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى {
زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } : قَدْ بَيَّنَّا الْكُفْرَ وَحَقِيقَتَهُ ،
وَذَكَرْنَا أَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْإِنْكَارِ ، فَمَنْ أَنْكَرَ شَيْئًا مِنْ
الشَّرِيعَةِ فَهُوَ كَافِرٌ ؛ وَلِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ ،
وَالزِّيَادَةُ [ فِيهِ ] وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ [ وَكَذَلِكَ
الزِّيَادَةُ فِي الْإِيمَانِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ ] ،
وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَاخْتِلَافَ النَّاسِ فِيهِمَا
وَالْحَقَّ مِنْ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى وَجْهٍ مُسْتَوْفًى ؛
لُبَابُهُ أَنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ اخْتَلَفُوا فِي الْإِيمَانِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ
قَالَ : هُوَ الْمَعْرِفَةُ قَالَهُ شَيْخُ السَّنَةِ ، وَاخْتَارَهُ لِسَانُ الْأُمَّةِ
فِي مَوَاضِعَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ التَّصْدِيقُ ؛ قَالَهُ
لِسَانُ الْأُمَّةِ أَيْضًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ الِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ
وَالْعَمَلُ .
فَمَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ مِنْهُمْ فَقَدْ
خَالَفَ اللُّغَةَ ، وَتَجَوَّزَ ظَاهِرَهَا إلَى وَجْهٍ مِنْ التَّأْوِيلِ فِيهَا .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُ التَّصْدِيقُ فَقَدْ وَافَقَ
مُطْلَقَ اللُّغَةِ ، لَكِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى التَّصْدِيقِ ، وَقَدْ
يَكُونُ بِمَعْنَى الْأَمَانِ قَالَ النَّابِغَةُ : وَالْمُؤْمِنُ الْعَائِذَاتِ الطَّيْرَ
يَمْسَحُهَا رُكْبَانُ مَكَّةَ بَيْنَ الْغَيْلِ وَالسِّنْدِ وَأَمَّا مَنْ قَالَ
: إنَّهُ الِاعْتِقَادُ وَالْقَوْلُ وَالْعَمَلُ فَقَدْ جَمَعَ الْأَقْوَالَ
كُلَّهَا ، وَرَكَّبَ تَحْتَ اللَّفْظِ مُخْتَلِفَاتٍ كَثِيرَةً ، وَلَمْ يَبْعُدْ
مِنْ طَرِيقِ التَّحْقِيقِ فِي جِهَةِ الْأُصُولِ وَلَا فِي جِهَةِ اللُّغَةِ ؛
أَمَّا فِي جِهَةِ اللُّغَةِ فَلِأَنَّ الْفِعْلَ يُصَدِّقُ الْقَوْلَ أَوْ
يُكَذِّبُهُ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ ، وَالرِّجْلَانِ
تَزْنِيَانِ ، وَالنَّفْسُ تُمَنَّى وَتَشْتَهِي ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ
أَوْ يُكَذِّبُهُ } .
فَإِذَا عَلِمَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلْيَتَكَلَّمْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ ، وَإِذَا
تَكَلَّمَ
بِمَا عَلِمَ فَلْيَعْمَلْ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ ،
فَيَطَّرِدُ الْفِعْلُ وَالْقَوْلُ وَالْعِلْمُ ، فَيَقَعُ إيمَانًا لُغَوِيًّا
شَرْعِيًّا ؛ أَمَّا لُغَةً فَلِأَنَّ الْعَرَبَ تَجْعَلُ الْفِعْلَ تَصْدِيقًا
قَالَ تَعَالَى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ
الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا
} وَصِدْقُ الْوَعْدِ اتِّصَالُ الْفِعْلِ بِالْقَوْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَجَازٌ .
قُلْنَا :
هَذِهِ حَقِيقَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ
الْأُصُولِ ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ } .
وَعَلَى ضِدِّهِ جَاءَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ } .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي
الزِّيَادَةِ فِيهِمَا وَالنُّقْصَانِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : فَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ أَوْ
التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ فَأَبْعَدَ الزِّيَادَةَ فِيهِ وَالنُّقْصَانَ ؛
لِأَنَّهَا أَعْرَاضٌ ؛ وَزَعَمُوا أَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْ النَّقْصَ لَا يُتَصَوَّرُ
فِي الْأَعْرَاضِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى فِي الْأَجْسَامِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْأَعْمَالُ فَتَصَوَّرَ
فِيهَا الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ
.
وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ : هَلْ يَزِيدُ الْإِيمَانُ
وَيَنْقُصُ ؟ فَقَالَ : يَزِيدُ ، وَلَمْ يَقُلْ يَنْقُصُ .
وَأَطْلَقَ غَيْرُهُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ عَلَيْهِ .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِلْمَ
يَزِيدُ وَيَنْقُصُ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ ، وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ ، وَالْكُلُّ
بَأْجٌ وَاحِدٌ وَحَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ ، لَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَخْرُجُ
وَاحِدٌ مِنْهَا عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا أَعْرَاضًا كَمَا بَيَّنَّا ؛
وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَزِيدُ بِذَاتِهِ وَلَا يَنْقُصُ بِهَا ،
وَإِنَّمَا لَهُ وُجُودٌ أَوَّلُ ، فَلِذَلِكَ الْوُجُودُ أَصْلٌ ، ثُمَّ إذَا
انْضَافَ إلَيْهِ وُجُودٌ مِثْلُهُ وَأَمْثَالُهُ كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِيهِ ،
وَإِنْ عُدِمْت تِلْكَ الزِّيَادَةُ فَهُوَ النَّقْصُ ، وَإِنْ عُدِمَ الْوُجُودُ
الْأَوَّلُ الَّذِي يَتَرَكَّبُ عَلَيْهِ الْمِثْلُ لَمْ يَكُنْ
زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ ؛ وَقَدْرُ ذَلِكَ فِي الْعِلْمُ
أَوْ فِي الْحَرَكَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ عِلْمًا فَرْدًا
، وَخَلَقَ مَعَهُ مِثْلَهُ أَوْ أَمْثَالَهُ بِمَعْلُومَاتٍ مُقَدَّرَةٍ فَقَدْ
زَادَ عِلْمُهُ ، فَإِنْ أَعْدَمَ اللَّهُ الْأَمْثَالَ فَقَدْ نَقَصَ أَيْ
زَالَتْ الزِّيَادَةُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَقَ حَرَكَةً وَخَلَقَ مَعَهَا
مِثْلَهَا أَوْ أَمْثَالَهَا ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ الْعِلْمَ بِهِ
مِنْ وَجْهٍ وَخَلَقَ لَهُ التَّصْدِيقَ بِهِ بِالْقَوْلِ النَّفْسِيِّ ، أَوْ
الظَّاهِرِ ، وَخَلَقَ لَهُ الْهُدَى لِلْعَمَلِ بِهِ [ وَلَيْسَ الْعَمَلُ ] ،
ثُمَّ خَلَقَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَمْثَالَهُ فَقَدْ زَادَ إيمَانُهُ .
وَبِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ فُضِّلَ
الْأَنْبِيَاءِ [ عَلَى ] الْخَلْقِ ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوهُ تَعَالَى مِنْ وُجُوهٍ
أَكْثَرَ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي عَلِمَهُ الْخَلْقُ بِهَا ، فَمَنْ عَذِيرِي
مِمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْأَعْمَالَ تَزِيدُ وَتَنْقُصُ وَلَا تَزِيدُ
الْمَعْرِفَةُ وَلَا تَنْقُصُ ؛ لِأَنَّهَا عَرَضٌ ، وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ
الْأَعْمَالَ أَعْرَاضٌ وَالْحَالَةُ فِيهِمَا وَاحِدَةٌ ؛ وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ
بِالزِّيَادَةِ فِي الْإِيمَانِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ ، فَقَالَ : {
وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إيمَانًا } .
{ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } .
وَقَالَ : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ
إيمَانًا } .
وَقَالَ فِي جِهَةِ الْكُفَّارِ : { فَزَادَتْهُمْ
رِجْسًا إلَى رِجْسِهِمْ } .
فَأَطْلَق الزِّيَادَةَ فِي الْوَجْهَيْنِ : وَقَدْ
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ مَالِكًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِعِلْمِهِ وَوَرَعِهِ
امْتَنَعَ مِنْ إطْلَاقِ النَّقْصِ فِي الْإِيمَانِ لِوُجُوهٍ بَيَّنَّاهَا فِي
كُتُبِ الْأُصُولِ ، مِنْهَا : أَنَّ الْإِيمَانَ يَتَنَاوَلُ إيمَانَ اللَّهِ
وَإِيمَانَ الْعَبْدِ ؛ فَإِذَا أُطْلِقَ إضَافَةُ النَّقْصِ إلَى مُطْلَقِ
الْإِيمَانِ دَخَلَ فِي ذَلِكَ إيمَانُ اللَّهِ ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَيْهِ
سُبْحَانَهُ لِاسْتِحَالَتِهِ فِيهِ عَقْلًا ، وَامْتِنَاعِهِ شَرَعَا .
وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ إضَافَةُ ذَلِكَ إلَى إيمَانِ
الْعَبْدِ عَلَى التَّخْصِيصِ
، بِأَنْ
يَقُولَ : إيمَانُ الْخَلْقِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْإِيمَانَ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي
يَجِبُ مَدْحُهَا ، وَيَحْرُمُ ذَمُّهَا شَرْعًا ، وَالنَّقْصُ صِفَةُ ذَمٍّ ؛
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّ الْمَدْحَ فِيهِ ، وَيَحْرُمُ
الذَّمُّ ، فَإِذَا تَحَرَّرَ لَكُمْ هَذَا وَيَسَّرَ اللَّهُ قَبُولَ
أَفْئِدَتِكُمْ لَهُ فَإِنَّهُ مُقَلِّبُ الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ .
.
فَإِنَّ قَوْله تَعَالَى : وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ
السَّابِعَةُ : { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } : بَيَانٌ لِمَا
فَعَلَتْهُ الْعَرَبُ مِنْ جَمْعِهَا بَيْنَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ ، فَإِنَّهَا أَنْكَرَتْ
وُجُودَ الْبَارِي ، فَقَالَتْ : وَمَا الرَّحْمَنُ ؟ فِي أَصَحِّ الْوُجُوهِ .
وَأَنْكَرَتْ الْبَعْثَ ، فَقَالَتْ : { مَنْ يُحْيِي
الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } .
وَأَنْكَرَتْ بَعْثَةَ الرُّسُلِ ، فَقَالَتْ : {
أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ
} .
وَزَعَمَتْ أَنَّ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلَ إلَيْهَا
، فَابْتَدَعَتْ مِنْ ذَاتِهَا مُقْتَفِيَةً لِشَهَوَاتِهَا التَّحْرِيمَ
وَالتَّحْلِيلَ ، ثُمَّ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَنْ غَيَّرَتْ دَيْنَ
اللَّهِ ، وَأَحَلَّتْ مَا حَرَّمَ ، وَحَرَّمَتْ مَا أَحَلَّ تَبْدِيلًا
وَتَحْرِيفًا ، وَاَللَّهُ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ، وَلَوْ كَرِهَ
الْمُشْرِكُونَ ، وَهَكَذَا فِي جَمِيعِ مَا فَعَلَتْ مِنْ تَغْيِيرِ الدَّيْنِ
وَتَبْدِيلِ الشَّرْعِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْلُهُ : { زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ
أَعْمَالِهِمْ } : أَيْ خَلَقَ لَهُمْ اعْتِقَادَ الْحُسْنِ فِيهَا ، وَهِيَ
قَبِيحَةٌ ، فَنَظَرُوا فِيهَا بِالْعَيْنِ الْعَوْرَاءِ ؛ لِطَمْسِ أَعْيُنِهِمْ
وَفَسَادِ بَصَائِرَهُمْ ؛ وَذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ فِي عَدَمِ الْهُدَى
لِلْكَافِرِينَ .
.
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ
الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ
إلَّا قَلِيلٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ : {
مَا لَكُمْ } : مَا : حَرْفُ اسْتِفْهَامٍ ، التَّقْدِيرُ : أَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ عَنْ كَذَا
؟ كَمَا تَقُولُ مَا لَك عَنْ فُلَانٍ مُعْرِضًا .
وَنِظَامُهُ الصِّنَاعِيُّ مَا حَصَّلَ لَك مَانِعًا
لِكَذَا أَوْ كَذَا .
وَكَذَا تَقُولُ : مَا لَك تَقُومُ وَتَقْعُدُ ؟
التَّقْدِيرُ : أَيُّ شَيْءٍ حَصَّلَ لَك مَانِعًا مِنْ الِاسْتِقْرَارِ ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } : يُقَالُ :
نَفَرَ إذَا زَالَ عَنْ الشَّيْءِ
.
وَتَصْرِيفُهُ نَفَرَ يَنْفِرُ نَفِيرًا ، وَنَفَرَتْ
الدَّابَّةُ تَنْفِرُ نُفُورًا ، وَكَأَنَّ النُّفُورَ فِي الْإِبَايَةِ ،
وَالنَّفِيرَ فِي الْإِقْبَالِ وَالسِّعَايَةِ .
وَقَدْ يُؤَلَّفَانِ عَلَى رَأْيِ مِنْ يَرَى تَأْلِيفَ الْمَعَانِي
الْمُخْتَلِفَةِ تَحْتَ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ بِوَجْهٍ يَبْعُدُ تَارَةً
وَيَقْرُبُ أُخْرَى ، وَيَكُونُ تَأْوِيلُهُ هَاهُنَا : زُولُوا عَنْ أَرْضِيكُمْ
وَأَهْلِيكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
.
=============
ج12. كتاب : أحكام القرآن ابن العربي
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مَحَلِّ النَّفِيرِ :
لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ غَزْوَةُ تَبُوكَ ، دَعَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَيْهَا فِي حَمَّارَةِ
الْقَيْظِ ، وَطَيِّبِ الثِّمَارِ ، وَبَرْدِ الظِّلَالِ ؛ فَاسْتَوْلَى عَلَى
النَّاسِ الْكَسَلُ ، وَغَلَبَهُمْ عَلَى الْمَيْلِ إلَيْهَا الْأَمَلُ ،
فَتَقَاعَدُوا عَنْهُ ، وَتَثَاقَلُوا عَلَيْهِ ، فَوَبَّخَهُمْ اللَّهُ عَلَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ هَذَا ، وَعَابَ عَلَيْهِمْ الْإِيثَارَ لِلدُّنْيَا عَلَى
ثَوَابِ الْآخِرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ { اثَّاقَلْتُمْ } : قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ : مَعْنَاهُ تَثَاقَلْتُمْ ، وَهَذَا تَوْبِيخٌ عَلَى تَرْكِ
الْجِهَادِ ، وَعِتَابٌ فِي التَّقَاعُدِ عَنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْخُرُوجِ .
وَنَحْوُ قَوْلِهِ : { مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ
انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
} هُوَ قَوْلُهُ : { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى
التَّهْلُكَةِ } الْمَعْنَى لَا تُقْبِلُوا عَلَى الْأَمْوَالِ إيثَارًا لَهَا
عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَلَا تَرْكَنُوا إلَى التِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ
، تَقْدِيمًا لَهَا عَلَى التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ الَّتِي تُنْجِيكُمْ مِنْ
الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى {
أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ } : يَعْنِي بَدَلًا مِنْ الْآخِرَةِ ،
وَيَرِدُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ نَثْرًا ، وَنَظْمًا ؛ قَالَ الشَّاعِرُ :
فَلَيْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً مُبَرَّدَةً بَاتَتْ عَلَى
الطَّهَيَانِ أَرَادَ لَيْتَ لَنَا بَدَلًا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ .
وَالطَّهَيَانُ : عُودٌ يُنْصَبُ فِي سَاحَةِ الدَّارِ
لِلْهَوَاءِ ، وَيُعَلَّقُ عَلَيْهِ إنَاءٌ لَيْلًا حَتَّى يَبْرُدَ .
عَاتَبَهُمْ عَلَى إيثَارِ الرَّاحَةِ فِي الدُّنْيَا
عَلَى الرَّاحَةِ فِي الْآخِرَةِ ؛ إذْ لَا تُنَالُ رَاحَةُ الْآخِرَةِ إلَّا بِنَصَبِ
الدُّنْيَا .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَدْ طَافَتْ رَاكِبَةً : { أَجْرُكِ عَلَى
قَدْرِ نَصَبِكِ } .
وَهَذَا لَا يَصْدُرُ إلَّا عَنْ قَلْبٍ مُوقِنٍ
بِالْبَعْثِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {
إلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا
غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاَللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذَا
تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ ، وَوَعِيدٌ مُؤَكَّدٌ ، فِي تَرْكِ النَّفِيرِ : وَمِنْ
مُحَقَّقَاتِ مَسَائِلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْأَمْرَ إذَا وَرَدَ فَلَيْسَ فِي
وُرُودِهِ أَكْثَرُ مِنْ اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ ؛ فَأَمَّا الْعِقَابُ عِنْدَ
التَّرْكِ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ ، وَلَا يَقْتَضِيهِ
الِاقْتِضَاءُ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعِقَابُ بِالْخَبَرِ عَنْهُ ، كَقَوْلِهِ :
إنْ لَمْ تَفْعَلُ كَذَا عَذَّبْتُكَ بِكَذَا ، كَمَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
؛ فَوَجَبَ بِمُقْتَضَاهَا النَّفِيرُ لِلْجِهَادِ ، وَالْخُرُوجُ إلَى
الْكُفَّارِ لِمُقَابَلَتِهِمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ
الْعُلْيَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي نَوْعِ الْعَذَابِ :
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ حَبْسُ الْمَطَرِ عَنْهُمْ .
فَإِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَهُوَ أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ
قَالَهُ ، وَإِلَّا فَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ هُوَ الَّذِي فِي الدُّنْيَا
بِاسْتِيلَاءِ الْعَدُوِّ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَوْلِ عَلَيْهِ ، وَبِالنَّارِ فِي
الْآخِرَةِ ، وَزِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ اسْتِبْدَالُ غَيْرِكُمْ ، كَمَا قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : { إلَّا
تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ
اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ
اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ
لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ
اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاَللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
النَّصْرُ : هُوَ الْمَعُونَةُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { ثَانِيَ
اثْنَيْنِ } : وَلِلْعَرَبِ فِي ذَلِكَ لُغَتَانِ : تَقُولُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ ،
وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ ، بِمَعْنَى أَحَدُهُمَا ،
مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ
.
وَتَقُولُ أَيْضًا : خَامِسُ أَرْبَعَةٍ ، أَيْ الَّذِي
صَيَّرَهُمْ خَمْسَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { إلَّا
تَنْصُرُوهُ } : يَعْنِي يُعِينُوهُ بِالنَّفِيرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ،
فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودِ
الْمَلَائِكَةِ .
رَوَى أَصْبَغُ ، وَأَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ
عَنْ مَالِكٍ : { ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ
لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ .
قَالَ : فَرَأَيْت مَالِكًا يَرْفَعُ بِأَبِي بَكْرٍ
جِدًّا لِهَذِهِ الْآيَةِ .
قَالَ : وَكَانُوا فِي الْهِجْرَةِ أَرْبَعَةً ،
مِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، وَرُقَيْطُ الدَّلِيلُ .
قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ : يُقَالُ أُرَيْقِطُ قَالَ
الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَحَقٌّ أَنْ يَرْفَعَ مَالِكٌ أَبَا بَكْرٍ
بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَفِيهَا عِدَّةُ فَضَائِلَ مُخْتَصَّةٍ لَمْ تَكُنْ
لِغَيْرِهِ ، مِنْهَا قَوْلُهُ : إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ، فَحَقَّقَ لَهُ
تَعَالَى [ قَوْلَهُ لَهُ ] بِكَلَامِهِ ، وَوَصَفَ الصُّحْبَةَ فِي كِتَابِهِ
مَتْلُوًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ : { يَا أَبَا
بَكْرٍ ، مَا ظَنُّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهَا ؟ } وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ
عُظْمَى ، وَفَضِيلَةٌ شَمَّاءُ ، لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ ثَالِثُ اثْنَيْنِ ، أَحَدُهُمَا أَبُو بَكْرٍ ،
كَمَا أَنَّهُ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَبِي بَكْرٍ ثَانِيَ اثْنَيْنِ
.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ
مَعَنَا } .
وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَبَنِي إسْرَائِيلَ : {
كَلًّا إنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ
} .
قَالَ لَنَا أَبُو الْفَضَائِلِ الْمُعَدِّلُ : قَالَ
لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ مُوسَى : { كَلًّا إنَّ مَعِي
رَبِّي سَيَهْدِينِ } وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ : { لَا تَحْزَنْ إنَّ
اللَّهَ مَعَنَا } .
لَا جَرَمَ لَمَّا كَانَ اللَّهُ مَعَ مُوسَى وَحْدَهُ
ارْتَدَّ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ ، فَرَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ ،
وَوَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْعِجْلَ .
وَلَمَّا قَالَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ مَعَنَا ، بَقِيَ أَبُو بَكْرٍ مُهْتَدِيًا مُوَحِّدًا ،
عَالِمًا عَازِمًا ، قَائِمًا بِالْأَمْرِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ اخْتِلَالٌ .
وَمِنْهَا قَوْلُهُ : { فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ
عَلَيْهِ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : عَلَى النَّبِيِّ .
الثَّانِي : عَلَى أَبِي بَكْرٍ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَهُوَ الْأَقْوَى ؛ لِأَنَّ
الصِّدِّيقَ خَافَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ
الْقَوْمِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ ؛ لِيَأْمَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَنَ جَأْشُهُ ، وَذَهَبَ رَوْعُهُ ، وَحَصَلَ
لَهُ الْأَمْنُ ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ شَجَرَ ثُمَامِهِ ، وَأَلْهَمَ الْوَكْرَ
هُنَالِكَ حَمَامَهُ ، وَأَرْسَلَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَيْهِ بَيْتًا ،
فَمَا أَضْعَفَ هَذِهِ الْجُنُودِ فِي ظَاهِرِ الْحِسِّ ؛ وَمَا أَقْوَاهَا فِي
بَاطِنِ الْمَعْنَى .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعُمَرَ حِينَ تَغَامَرَ مَعَ
أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ : { هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي ، إنَّ
النَّاسَ كُلَّهُمْ قَالُوا كَذَبْت ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت } .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ فِي
مُقَابَلَةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعَ ، فَقَالَ : { إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ
نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ ، بِتَأْنِيسِهِ لَهُ ، وَحَمْلِهِ
عَلَى عُنُقِهِ } [ وَوَفَائِهِ لَهُ
] بِوِقَايَتِهِ لَهُ [ بِنَفْسِهِ ] ، وَبِمُوَاسَاتِهِ
بِمَالِهِ ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ { أَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ ،
فَوُزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَلْقِ فَرَجَحَهُمْ
} ؛ وَبِهَذِهِ الْفَضَائِلِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : لَوْ كُنْت
مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا .
وَسَبَقَتْ لَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْفَضِيلَةُ عَلَى
النَّاسِ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ
عُثْمَانَ .
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : خَيْرُ النَّاسِ
بَعْدَ نَبِيِّهِمْ أَبُو بَكْرٍ
.
وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُ ذَلِكَ
مُسْتَوْفًى إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَهِيَ عُظْمَى فِي
الْفِقْهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } : وَهُوَ
خَرَجَ بِنَفْسِهِ ، فَارًّا عَنْ الْكَافِرِينَ بِإِلْجَائِهِمْ لَهُ إلَى ذَلِكَ
حَتَّى فَعَلَهُ ؛ فَنُسِبَ الْفِعْلُ إلَيْهِمْ ، وَرُتِّبَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَيْهِمْ
، وَذَمَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَتَوَعَّدَهُمْ ؛ فَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ عَلَى
الْقَتْلِ ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ الْمُكْرِهُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ ؛
لِإِلْجَائِهِ الْقَاتِلَ وَالْمُتْلِفَ إلَى الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ ،
وَكَذَلِكَ شُهُودُ الزِّنَا الْمُزَوِّرُونَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمَذْهَبِ ،
وَشُهُودُ الْقِصَاصِ إذَا شَهِدُوا بِالْقَتْلِ بَاطِلًا بِاخْتِلَافٍ بَيْنَ
عُلَمَائِنَا ؛ وَالْمَسْأَلَةُ عَسِيرَةُ الْمَأْخَذِ ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي
مَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَى
الْمُكْرَهِ لَا خِلَافَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ الْإِثْمِ بِهِ مَعَ
الْقَصْدِ إلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ
.
فَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمٍ فَإِنَّ
ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَالْأَسْبَابِ ، حَسْبَمَا
تَقْتَضِيهِ الْأَدِلَّةُ ؛ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ
دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفِرَارِ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ ، وَتَرْكِ الصَّبْرِ
عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنْ بَلَاءِ اللَّهِ ، وَعَدَمِ الِاسْتِسْلَامِ الْمُؤَدِّي
إلَى الْآلَامِ وَالْهُمُومِ ، وَأَلَّا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إلَى الْعَدُوِّ ،
تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكُمْ لَعَصَمَهُ مَعَ كَوْنِهِ
مَعَهُمْ ، وَلَكِنَّهَا سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَسِيرَةُ الْأُمَمِ ، حَكَمَ
اللَّهُ بِهَا لِتَكُونَ قُدْرَةً لِلْخَلْقِ ، وَأُنْمُوذَجًا فِي الرِّفْقِ ،
وَعَمَلًا بِالْأَسْبَابِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَتْ الْإِمَامِيَّةُ قَبَّحَهَا
اللَّهُ : حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ مَعَ كَوْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ
دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ وَنَقْصِهِ وَضَعْفِ قَلْبِهِ وَحَيْرَتِهِ .
أَجَابَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِثَلَاثَةِ
أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ قَوْلَهُ : لَا تَحْزَنْ ، لَيْسَ بِمُوجِبٍ
بِظَاهِرِهِ وُجُودَ الْحُزْنِ ، إنَّمَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ مِنْهُ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ ، فَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
لَهُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ
تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا
.
فَقَالَ لَهُ : { لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا } ؛
لِتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ .
الثَّانِي :
أَنَّ الصِّدِّيقَ لَا يَنْقُصُهُ إضَافَةُ الْحُزْنِ
إلَيْهِ ، كَمَا لَمْ تَنْقُصْ إبْرَاهِيمَ حِينَ قِيلَ عَنْهُ : { نَكِرَهُمْ
وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً }
.
وَلَمْ يَنْقُصْ مُوسَى قَوْلُهُ عَنْهُ : { فَأَوْجَسَ
فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }
.
وَهَذَانِ الْعَظِيمَانِ قَدْ وُجِدَتْ عِنْدَهُمْ
التَّقِيَّةُ نَصًّا ، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ هَاهُنَا بِاحْتِمَالٍ .
الثَّالِثُ : أَنَّ حُزْنَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِشَكٍّ وَحَيْرَةٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ خَوْفًا عَلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ ضَرَرٌ ،
وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْصُومًا مِنْ الضَّرَرِ ،
فَكَيْفَ يَكُونُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَعِيفَ الْقَلْبِ ، وَهُوَ
لَمْ يَسْتَخْفِ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ بَلْ
ظَهَرَ وَقَامَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ
بِقُوَّةِ يَقِينٍ ، وَوُفُورِ عِلْمٍ ، وَثُبُوتِ جَأْشٍ ، وَفَصْلٍ لِلْخُطْبَةِ
الَّتِي تُعْيِي الْمُحْتَالِينَ
.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ نُزُولِ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
إلَى الرُّومِ ، وَكَانَتْ غَزْوَةً بَعِيدَةً فِي وَقْتٍ شَدِيدٍ مِنْ حَمَّارَةِ
الْقَيْظِ ، وَعَدُوًّا كَثِيرًا ، اُسْتُنْفِرَ لَهَا النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَى
مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { خِفَافًا
وَثِقَالًا } : فِيهِ عَشَرَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ ،
عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ قَالَ : شُبَّانٌ وَكُهُولٌ ، مَا سَمِعَ اللَّهِ
عُذْرَ أَحَدٍ ؛ فَخَرَجَ إلَى الشَّامِ فَجَاهَدَ حَتَّى مَاتَ .
الثَّانِي : شُبَّانًا وَشِيبًا .
الثَّالِثُ : فِي الْيُسْرِ وَالْعُسْرِ .
الرَّابِعُ : فِي الْفَرَاغِ وَالشُّغْلِ .
الْخَامِسُ : مَعَ الْكَسَلِ وَالنَّشَاطِ .
السَّادِسُ : رِجَالًا وَرُكْبَانًا .
السَّابِعُ : صَاحِبُ صَنْعَةٍ وَمَنْ لَا صَنْعَةَ لَهُ .
الثَّامِنُ : جَبَانًا وَشُجَاعًا .
التَّاسِعُ : ذَا عِيَالٍ وَمَنْ لَا عِيَالَ لَهُ .
الْعَاشِرُ : الثَّقِيلُ : الْجَيْشُ كُلُّهُ ،
وَالْخَفِيفُ : الْمُقَدَّمَةُ
.
وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهَا غَيْرُ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ ، إلَّا أَنَّ هَذِهِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَى مَا بَقِيَ ،
وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِالْآيَةِ ، لَكِنْ مِنْهُ مَا
يَقْرُبُ ، وَمِنْهُ مَا يَبْعُدُ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : اُخْتُلِفَ فِي
إحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ نَسْخِهَا قَوْله عَلَى قَوْلَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا
فِي الْقِسْمِ الثَّانِي .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا غَيْرَ مَنْسُوخَةٍ ، وَقَدْ
تَكُونُ حَالَةٌ يَجِبُ فِيهَا نَفِيرُ الْكُلِّ إذَا تَعَيَّنَ الْجِهَادُ عَلَى
الْأَعْيَانِ بِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى قُطْرٍ مِنْ الْأَقْطَارِ ، أَوْ
بِحُلُولِهِ بِالْعُقْرِ ؛ فَيَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الْجِهَادُ
وَالْخُرُوجُ إلَيْهِ ؛ فَإِنْ قَصَّرُوا عَصَوْا .
وَلَقَدْ نَزَلَ بِنَا الْعَدُوُّ قَصَمَهُ اللَّهُ
سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَخَمْسمِائَةٍ ؛ فَجَاسَ دِيَارَنَا ، وَأَسَرَ
جِيرَتَنَا ، وَتَوَسَّطَ بِلَادَنَا فِي عَدَدٍ هَالَ النَّاسُ عَدَدَهُ ،
وَكَانَ كَثِيرًا ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ مَا حَدَّدُوهُ ، فَقُلْت لِلْوَالِي
وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ : هَذَا عَدُوُّ اللَّهِ ، وَقَدْ حَصَلَ فِي الشَّرَكِ
وَالشَّبَكَةِ ، فَلْتَكُنْ عِنْدَكُمْ بَرَكَةٌ ، وَلْتَظْهَرْ مِنْكُمْ إلَى
نُصْرَةِ دَيْنِ اللَّهِ الْمُتَعَيِّنَةِ عَلَيْكُمْ حَرَكَةٌ ، فَلْيَخْرُجْ
إلَيْهِ جَمِيعُ النَّاسِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ
الْأَقْطَارِ فَيُحَاطُ بِهِ فَإِنَّهُ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ إنْ يَسَّرَكُمُ
اللَّهُ لَهُ ؛ فَغَلَبَتْ الذُّنُوبُ ، وَوَجَفَتْ الْقُلُوبُ بِالْمَعَاصِي ،
وَصَارَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ثَعْلَبًا يَأْوِي إلَى وِجَارِهِ ، وَإِنْ
رَأَى الْمَكْرُوهَ بِجَارِهِ ؛ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ ،
وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ : إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ
بِقَوْلِهِ : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً } .
وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِي مَوْضِعِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إذَا كَانَ النَّفِيرُ
عَامًّا لِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ عَلَى الْحَوْزَةِ ، أَوْ اسْتِيلَائِهِ عَلَى
الْأُسَارَى كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا ، وَوَجَبَ الْخُرُوجُ خِفَافًا وَثِقَالًا
، وَرُكْبَانًا وَرِجَالًا ، عَبِيدًا وَأَحْرَارًا ، مَنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مِنْ
غَيْرِ إذْنِهِ ، وَمَنْ لَا أَبَ لَهُ ، حَتَّى يَظْهَرَ دَيْنُ اللَّهِ ،
وَتُحْمَى الْبَيْضَةُ ، وَتُحْفَظَ الْحَوْزَةُ ، وَيُخْزَى الْعَدُوُّ
،
وَيُسْتَنْقَذَ الْأَسْرَى .
وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا .
وَلَقَدْ رُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ عَاهَدَ
كُفَّارًا أَلَّا يَحْبِسُوا أَسِيرًا ، فَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ جِهَتِهِ
بِلَادُهُمْ ، فَمَرَّ عَلَى بَيْتٍ مُغْلَقٍ ، فَنَادَتْهُ امْرَأَةٌ : إنِّي
أَسِيرَةٌ ، فَأَبْلِغْ صَاحِبَك خَبَرِي .
فَلَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ ، اسْتَطْعَمَهُ عِنْدَهُ ،
وَتَجَاذَبَا ذَيْلَ الْحَدِيثِ انْتَهَى الْخَبَرُ إلَى هَذِهِ الْمُعَذَّبَةِ ،
فَأَلْقَاهُ إلَيْهِ ، فَمَا أَكْمَلَ حَدِيثَهُ حَتَّى قَامَ الْأَمِيرُ عَلَى
قَدَمِهِ ، وَخَرَجَ غَازِيًا مِنْ فَوْرِهِ ، وَمَشَى إلَى الْبَلَدِ حَتَّى
أَخْرَجَ الْأَسِيرَةَ ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْمَوْضِعِ ، فَكَيْفَ بِنَا
وَعِنْدَنَا عَهْدُ اللَّهِ أَلَّا نُسَلِّمَ إخْوَانَنَا إلَى الْأَعْدَاءِ ،
وَنَنْعَمُ وَهُمْ فِي الشَّقَاءِ ، أَوْ نَمْلِكُ بِالْحُرِّيَّةِ وَهُمْ
أَرِقَّاءُ .
يَالَلَّهِ ، وَلِهَذَا الْخَطْبِ الْجَسِيمِ ، نَسْأَلُ
اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِلْجُمْهُورِ ، وَالْمِنَّةَ بِصَلَاحِ الْآمِرِ
وَالْمَأْمُورِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَصْنَعُ الْوَاحِدُ إذَا
قَصَّرَ الْجَمِيعُ ؟ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قُلْنَا : يُقَالُ لَهُ :
وَأَيْنَ يَقَعَانِ مِمَّا أُرِيدُ ؟ مَكَانَك أَيُّهَا الْوَاحِدُ لَا يُفْتَى
وَمَالُك لَا يَكْفِي ، وَالْأَمْرُ لِلَّهِ فِيمَا يُرِيدُ مِنْ تَوْفِيقٍ ، أَوْ
قَطْعٍ لِلطَّرِيقِ ، وَقَدْ هَمَّهُمْ الْخَاطِرُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ،
وَزَمْزَمَ اللِّسَانُ بِهَا مُدَّةً
.
وَاَلَّذِي يُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ، وَيُطْفِئُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أُوَارَهَا أَنْ يَعْمِدَ مَنْ رَأَى تَقْصِيرَ الْخَلْقِ
إلَى أَسِيرٍ وَاحِدٍ فَيَفْدِيَهُ ؛ فَإِنَّ الْأَغْنِيَاءَ لَوْ اقْتَسَمُوا
فِدَاءَ الْأَسْرَى مَا لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا أَقَلُّ مِنْ دِرْهَمٍ
لِلرَّجُلِ الْوَاحِدِ ، فَإِذَا فَدَى الْوَاحِدُ فَقَدْ أَدَّى فِي الْوَاحِدِ
أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي الْجَمَاعَةِ ، وَيَغْزُو بِنَفْسِهِ إنْ
قَدَرَ ، وَإِلَّا جَهَّزَ غَازِيًا
.
فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فَقَدْ غَزَا ، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي
أَهْلِهِ فَقَدْ غَزَا } .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا
مِنْهَا إذَا هُمْ يَسْخَطُونَ
} .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ } : أَيْ يَعِيبُك .
وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ الْعَيْبُ
مُطْلَقًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُ الْعَيْبُ بِالْغَيْبِ ، يُقَالُ :
لَمَزَهُ يَلْمِزُهُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَضَمِّهَا قَالَ
تَعَالَى : { وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ } .
وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ
لُمَزَةٍ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ : { بُعِثَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِشَيْءٍ فَقَسَّمَهُ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ ، وَقَالَ : تَأْلَفُهُمْ .
فَقَالَ رَجُلٌ : مَا عَدَلْت .
فَقَالَ : يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ
يَمْرُقُونَ مِنْ الدَّيْنِ } .
هَكَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ، وَزَادَ غَيْرُهُ : {
فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُك فِي الصَّدَقَاتِ } } .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ كَانُوا
عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعَ ، وَكَانُوا مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، فَدَلَّ
ذَلِكَ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : عَلَى دَفْعِ الزَّكَاةِ
إلَيْهِمْ ، وَيَأْتِي تَمَامُ الْمَسْأَلَةِ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {
إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أُمَّهَاتِ الْآيَاتِ ، إنَّ اللَّهَ
بِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ ، وَأَحْكَامِهِ الْمَاضِيَةِ الْعَالِيَةِ ، خَصَّ
بَعْضَ النَّاسِ بِالْأَمْوَالِ دُونَ الْبَعْضِ ، نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ ،
وَجَعَلَ شُكْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إخْرَاجَ سَهْمٍ يُؤَدُّونَهُ إلَى مَنْ لَا
مَالَ لَهُ ، نِيَابَةً عَنْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَا ضَمِنَهُ بِفَضْلِهِ
لَهُمْ فِي قَوْلِهِ : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ
رِزْقُهَا } ؛ وَقَدَّرَ الصَّدَقَاتِ عَلَى حَسَبِ أَجْنَاسِ الْأَمْوَالِ ،
فَجَعَلَ فِي النَّقْدَيْنِ رُبْعَ الْعُشْرِ ، وَجَعَلَ فِي النَّبَاتِ الْعُشْرَ
، وَمَعَ تَكَاثُرِ الْمُؤْنَةِ نِصْفَ الْعُشْرِ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا
الْقَوْلِ فِي حَقِيقَةِ الصَّدَقَةِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : عَلَى
قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ مُقَدَّرٌ مُعَيَّنٌ ؛ وَبِهِ
قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ
مُقَدَّرٌ فَجَوَّزَ إخْرَاجَ الْقِيمَةِ فِي الزَّكَاةِ ؛ إذْ زَعَمَ أَنَّ
التَّكْلِيفَ وَالِابْتِلَاءَ إنَّمَا هُوَ فِي نَقْصِ الْأَمْوَالِ ، وَذَهَلَ
عَنْ التَّوْفِيَةِ لِحَقِّ التَّكْلِيفِ فِي تَعْيِينِ النَّاقِصِ ، وَأَنَّ
ذَلِكَ يُوَازِي التَّكْلِيفَ فِي قَدْرِ النَّاقِصِ ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ يُرِيدُ
أَنْ يَبْقَى مِلْكُهُ بِحَالِهِ ، وَيَخْرُجَ مِنْ غَيْرِهِ عَنْهُ ، فَإِذَا
مَالَتْ نَفْسُهُ إلَى ذَلِكَ ، وَعَلِقَتْ بِهِ ، كَانَ التَّكْلِيفُ قَطْعَ
تِلْكَ الْعَلَاقَةِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْقَلْبِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجُزْءِ
مِنْ الْمَالِ ، فَوَجَبَ إخْرَاجُ ذَلِكَ الْجُزْءِ بِعَيْنِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ
فِي كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ بِالصَّدَقَةِ :
وَمَنْ بَلَغَتْ صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَلَيْسَتْ
عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ ، فَإِنَّهَا تُقْبَلُ مِنْهُ ، وَيُعْطِيهِ
الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ .
قُلْنَا : قَدْ أَجَابَ عَنْهُ عُلَمَاؤُنَا
بِأَرْبَعَةِ أَجْوِبَةٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هَذَا خَبَرُ وَاحِدٍ يُخَالِفُ
الْأُصُولَ ، وَعِنْدَهُمْ إذَا خَالَفَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْأُصُولَ بَطَلَ فِي
نَفْسِهِ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَمْ يَخْرُجْ
مَخْرَجَ التَّقْوِيمِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ : وَمَنْ بَلَغَتْ
صَدَقَتُهُ بِنْتَ مَخَاضٍ ، وَعِنْدَهُ بِنْتُ لَبُونٍ ، فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ
مِنْهُ وَيُعْطَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ
: فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا عُرِفَتْ قِيمَتُهَا ، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ
الْقِيمَةِ إلَى التَّقْدِيرِ وَالتَّحْدِيدِ بِتَعَيُّنِ الشَّاتَيْنِ أَوْ
الْعِشْرِينَ دِرْهَمًا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْعِبَادَةِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ هَذَا إنَّمَا جَوَّزَ فِي الْجِيرَانِ ضَرُورَةَ
اخْتِلَافِ السِّنِينَ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى إجْزَائِهِ فِي الْأَصْلِ ،
فَبَقِيَ عَلَى حَالِهِ .
الرَّابِعُ : أَنَّ كِتَابَ عُمَرَ فِي الصَّدَقَةِ
الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ وَعَمِلَ بِهِ فِي الْأَقْطَارِ وَالْأَمْصَارِ أَوْلَى
مِنْ كِتَابِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الَّذِي لَمْ يَجِئْ إلَّا مِنْ طَرِيقٍ
وَاحِدَةٍ .
وَلَعَلَّهُ كَانَ لِقَضِيَّةٍ فِي عَيْنٍ مَخْصُوصَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي مَعْنَى تَسْمِيَتِهَا
صَدَقَةً : وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ الصِّدْقِ فِي مُسَاوَاةِ الْفِعْلِ
لِلْقَوْلِ ، وَالِاعْتِقَادِ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا .
وَبِنَاءُ " صَدَقَ " يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ شَيْءٍ
بِشَيْءٍ وَعَضُدُهُ بِهِ ، وَمِنْهُ صَدَاقُ الْمَرْأَةِ ؛ أَيْ تَحْقِيقُ
الْحِلِّ وَتَصْدِيقُهُ بِإِيجَابِ الْمَالِ وَالنِّكَاحِ عَلَى وَجْهٍ مَشْرُوعٍ .
وَيُخْتَلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بِتَصْرِيفِ الْفِعْلِ
، يُقَالُ : صَدَّقَ فِي الْقَوْلِ صَدَاقًا وَتَصْدِيقًا ، وَتَصَدَّقَتْ
بِالْمَالِ تَصَدُّقًا ، وَأَصْدَقَتْ الْمَرْأَةُ إصْدَاقًا .
وَأَرَادُوا بِاخْتِلَافِ الْفِعْلِ الدَّلَالَةَ عَلَى
الْمَعْنَى الْمُخْتَصِّ بِهِ فِي الْكُلِّ .
وَمُشَابَهَةُ الصِّدْقِ هَاهُنَا لِلصَّدَقَةِ أَنَّ
مَنْ أَيْقَنَ مِنْ دِينِهِ أَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ ، وَأَنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ
هِيَ الْمَصِيرُ ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الدَّانِيَةَ قَنْطَرَةٌ إلَى
الْأُخْرَى ، وَبَابٌ إلَى السُّوأَى أَوْ الْحُسْنَى عَمِلَ لَهَا ، وَقَدَّمَ
مَا يَجِدُهُ فِيهَا ؛ فَإِنْ شَكَّ فِيهَا أَوْ تَكَاسَلَ عَنْهَا وَآثَرَ
عَلَيْهَا بَخِلَ بِمَالِهِ ، وَاسْتَعَدَّ لِآمَالِهِ ، وَغَفَلَ عَنْ مَآلِهِ .
وَفِي كُتُبِ الذِّكْرِ تَحْقِيقُ ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى {
لِلْفُقَرَاءِ } : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أَفَادَتْ
هَذِهِ اللَّامُ [ فَقِيلَ ] لَامُ الْأَجَلِ ؛ كَقَوْلِك : هَذَا السَّرْجُ لِلدَّابَّةِ ،
وَالْبَابُ لِلدَّارِ ؛ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ هَذِهِ لَامُ التَّمْلِيكِ
؛ كَقَوْلِك : هَذَا الْمَالُ لِزَيْدٍ ؛ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُعْطَى جَمِيعُهَا
لِلْعَامِلَيْنِ عَلَيْهَا .
وَاعْتَمَدَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّ
اللَّهَ أَضَافَ الصَّدَقَةَ فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ إلَى مُسْتَحِقٍّ حَتَّى
يَصِحَّ مِنْهُ الْمِلْكُ عَلَى وَجْهِ التَّشْرِيكِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ بَيَانًا
لِلْمُسْتَحِقِّينَ .
وَهَذَا كَمَا لَوْ أَوْصَى لِأَصْنَافٍ مُعَيَّنِينَ ،
أَوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ .
وَتَعَلَّقَ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ
تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ } .
وَالصَّدَقَةُ مَتَى أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ
صَدَقَةُ الْفَرْضِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى
فُقَرَائِكُمْ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْأَصْنَافِ
الثَّمَانِيَةِ قُرْآنًا وَسُنَّةً
.
وَحَقَّقَ عُلَمَاؤُنَا الْمَعْنَى ، فَقَالُوا : إنَّ
الْمُسْتَحِقَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَكِنَّهُ أُحَالَ بِحَقِّهِ لِمَنْ
ضَمِنَ لَهُمْ رِزْقَهُمْ بِقَوْلِهِ : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا
عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } ؛ فَكَانَ كَمَا لَوْ قَالَ زَيْدٌ لِعَمْرٍو : إنَّ
لِي حَقًّا عَلَى خَالِدٍ يُمَاثِلُ حَقَّك يَا عَمْرُو أَوْ يُخَالِفُهُ ،
فَخُذْهُ مِنْهُ مَكَانَ حَقِّك فَإِنَّهُ يَكُونُ بَيَانًا لِمَصْرِفِ حَقِّ
الْمُسْتَحِقِّ لَا لِلْمُسْتَحِقِّ ، وَالصِّنْفُ الْوَاحِدُ فِي جِهَةِ
الْمَصْرِفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ كَالْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا يُبْطِلُ بِالْكَافِرِ فَإِنَّهُ
مَضْمُونٌ لَهُ الرِّزْقُ بِذَلِكَ الْوَعْدِ الْحَقِّ ، ثُمَّ لَيْسَ بِمَصْرِفٍ
لِلزَّكَاةِ .
قُلْنَا : كَذَلِكَ كُنَّا نَقُولُ : إنَّهُ تُصْرَفُ
الزَّكَاةُ إلَى الذِّمِّيِّ ، إلَّا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ بِقَوْلِهِ
: { أُمِرْت أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ وَأَرُدَّهَا عَلَى
فُقَرَائِكُمْ } ؛ فَخَصَّصْنَاهُ بِمَا خَصَّصَهُ بِهِ صَاحِبُ الشَّرِيعَةِ ،
الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ؛ وَمَا فَهِمَ الْمَقْصُودَ أَحَدٌ
فَهْمَ الطَّبَرِيِّ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : الصَّدَقَةُ لِسَدِّ خُلَّةِ
الْمُسْلِمِينَ ، وَلِسَدِّ خُلَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ وَذَلِكَ مِنْ مَفْهُومِ
مَأْخَذِ الْقُرْآنِ فِي بَيَانِ الْأَصْنَافِ وَتَعْدِيدِهِمْ .
وَاَلَّذِي جَعَلْنَاهُ فَصْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ
أَنَّ الْأَمَةَ اتَّفَقَتْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أُعْطِيَ كُلُّ صِنْفٍ حَظَّهُ
لَمْ يَجِبْ تَعْمِيمُهُ ، فَكَذَلِكَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ مِثْلُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رَوَى زِيَادُ بْنُ الْحَارِثِ
الصَّدَائِيُّ : أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَبَايَعْته ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : أَعْطِنِي مِنْ الصَّدَقَةِ .
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي
الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ هُوَ فِيهَا ، فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ ،
فَإِنْ كُنْت مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُك حَقَّك } .
وَقَدْ قَالَ النَّخَعِيُّ : إنْ كَانَ الْمَالُ
كَثِيرًا قَسَّمَهُ عَلَى الْأَصْنَافِ ، وَإِلَّا وَضَعَهُ فِي صِنْفٍ .
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ : إنْ أَخْرَجَهُ صَاحِبُهُ جَازَ
لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِي قِسْمٍ ، وَإِنْ قَسَّمَهُ الْإِمَامُ اسْتَوْعَبَ
الْأَصْنَافَ ؛ وَذَلِكَ فِيمَا قَالُوا : إنَّهُ إنْ كَانَ كَثِيرًا
فَلْيَعُمَّهُمْ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا كَانَ قَسْمُهُ ضَرَرًا عَلَيْهِمْ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَسَّمَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى
النَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَصْنَافِ ، فَأَمَّا الْإِمَامُ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ
مِنْ الْخَلْقِ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَغَيْرِهِ ، فَيَبْحَثُ عَنْ
النَّاسِ وَيُمْكِنُهُ تَحْصِيلُهُمْ ، وَالنَّظَرُ فِي أَمْرِهِمْ .
وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ
يَجْتَهِدُ الْإِمَامُ وَيَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحُجَّةِ هُوَ الْأَقْوَى .
وَتَحْصِيلُ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ
الْمُتَحَصِّلَ مِنْ أَصْنَافِ الْآيَةِ ثَلَاثَةُ
أَصْنَافٍ : وَهُمْ الْفُقَرَاءُ ، وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا ، وَفِي سَبِيلِ
اللَّهِ .
وَسَائِرُ الْأَصْنَافِ دَاخِلَةٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ
مِنْهَا .
فَأَمَّا الْعَامِلُونَ ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ
فَيَأْتِي بَيَانُ حَالِهِمْ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ بَيَانَ الْأَصْنَافِ مِنْ
مُهِمَّاتِ الْأَحْكَامِ ، فَنَقُولُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :
أَمَّا الْفَقِيرُ : فَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ
الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ ، وَالْمِسْكِينَ : الْفَقِيرُ السَّائِلُ .
وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ
وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ ،
وَاخْتَارَهُ ابْنُ شَعْبَانَ .
الثَّانِي : الْفَقِيرُ هُوَ الْمُحْتَاج الزَّمِنُ .
وَالْمِسْكِينُ هُوَ الْمُحْتَاجُ الصَّحِيحُ ؛ قَالَهُ
قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّ الْفَقِيرَ الْمُحْتَاجُ ،
وَالْمِسْكِينَ سَائِرُ النَّاسِ قَالَهُ إبْرَاهِيمُ وَغَيْرُهُ .
الرَّابِعُ ، الْفَقِيرُ الْمُسْلِمُ ، وَالْمِسْكِينُ
أَهْلُ الْكِتَابِ .
الْخَامِسُ : الْفَقِيرُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ ،
وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَهُ شَيْءٌ ؛ قَالَهُ الشَّافِعِيُّ .
السَّادِسُ : عَكْسُهُ ؛ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ،
وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ
.
السَّابِعُ : أَنَّهُ وَاحِدٌ ، ذَكَرَهُ لِلتَّأْكِيدِ .
الثَّامِنُ : الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ ،
وَالْمَسَاكِينُ الْأَعْرَابُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } : وَهُمْ الَّذِينَ يَقْدَمُونَ لِتَحْصِيلِهَا ،
وَيُوَكَّلُونَ عَلَى جَمْعِهَا ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَسْأَلَةٍ بَدِيعَةٍ ،
وَهِيَ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ فَالْقَائِمُ بِهِ يَجُوزُ
لَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ
.
وَمِنْ ذَلِكَ الْإِمَامَةُ ؛ فَإِنَّ الصَّلَاةَ ،
وَإِنْ كَانَتْ مُتَوَجِّهَةً عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ فَإِنَّ تَقَدُّمَ
بَعْضِهِمْ بِهِمْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ ، فَلَا جَرَمَ يَجُوزُ أَخْذُ
الْأُجْرَةِ عَلَيْهَا .
وَهَذَا أَصْلُ الْبَابِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { مَا
تَرَكْت بَعْدَ نَفَقَةِ عِيَالِي وَمَئُونَةِ عَامِلِي فَهُوَ صَدَقَةٌ } .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الْعَامِلُ فِي الصَّدَقَةُ
يَسْتَحِقُّ مِنْهَا كِفَايَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ بِسَبَبِ الْعَمَلِ ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ بَدَلًا عَنْ الْعَمَلِ ، حَتَّى لَمْ يَحِلَّ لِلْهَاشِمِيِّ ،
وَالْأُجْرَةُ تَحِلُّ لَهُ .
قُلْنَا : بَلْ هِيَ أُجْرَةٌ صَحِيحَةٌ ؛ وَإِنَّمَا
لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا الْهَاشِمِيُّ تَحَرِّيًا لِلْكَرَامَةِ وَتَبَاعُدًا عَنْ
الذَّرِيعَة ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا أُجْرَةٌ أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ أَمَلَكَهَا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ، وَلَيْسَ لَهُ وَصْفٌ
يَأْخُذُ بِهِ مِنْهَا سِوَى الْخِدْمَةِ فِي جَمْعِهَا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
الْمِقْدَارِ الَّذِي يَأْخُذُهُ الْعَامِلُونَ مِنْ الصَّدَقَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قِيلَ : هُوَ الثُّمُنُ بِقِسْمَةِ اللَّهِ لَهَا عَلَى
ثَمَانِيَةِ أَجْزَاءٍ ؛ قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّافِعِيُّ .
وَهَذَا تَعْلِيقٌ بِالِاسْتِحْقَاقِ الَّذِي سَبَقَ
الْخِلَافُ فِيهِ ، أَوْ بِالْمَحَلِّيَّةِ ، وَمَبْنِيٌّ عَلَيْهِ .
الثَّانِي : يُعْطَوْنَ قَدْرَ عَمَلِهِمْ مِنْ
الْأُجْرَةِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَصْلِ الَّذِي
انْبَنَى عَلَيْهِ هَذَا ، وَالْكَلَامُ عَلَى تَحْقِيقِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ غَيْرِ
الزَّكَاةِ ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ .
وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مِنْ
رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ ، وَدَاوُد بْنِ سَعِيدٍ ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ
دَلِيلًا ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ بِسَهْمِهِمْ فِيهَا نَصًّا ، فَكَيْفَ
يُخَلِّفُونَ عَنْهُ اسْتِقْرَاءً وَسَبْرًا .
وَالصَّحِيحُ الِاجْتِهَادُ فِي قَدْرِهِ ؛ لِأَنَّ
الْبَيَانَ فِي تَعْدِيدِ الْأَصْنَافِ إنَّمَا كَانَ لِلْمَحَلِّ لَا
لِلْمُسْتَحِقِّ .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ : فِيهِ
أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ
: مَنْ قَالَ : إنَّهُمْ مُسْلِمُونَ يُعْطَوْنَ
لِضَعْفِ يَقِينِهِمْ [ حَتَّى يُقَوَّوْا ] ، مَثَّلَهُمْ بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبٍ ، وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ ، وَالْعَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ .
وَمَنْ قَالَ : إنَّهُمْ كُفَّارُ مَثَّلَهُمْ بِعَامِرِ
بْنِ الطُّفَيْلِ
.
وَمِنْ قَالَ : إنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ وَلَهُمْ
إلَى الْإِسْلَامِ مَيْلٌ مَثَّلَهُمْ بِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ .
الثَّانِي :
قَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ : الْمُؤَلَّفَةُ
قُلُوبُهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ : أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، وَمِنْ بَنِي
مَخْزُومٍ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَرْبُوعٍ .
وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ .
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ سُهَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو ، وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى .
وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى حَكِيمُ بْنُ
حِزَامٍ .
وَمِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
وَمِنْ بَنِي فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ
بَدْرٍ .
وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ .
وَمِنْ بَنِي نَصْرٍ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ .
وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ .
وَمِنْ ثَقِيفٍ الْعَلَاءُ بْنُ حَارِثَةَ .
الثَّالِثُ :
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ قَالَ : كَانَ
صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ
، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، وَأَبُو سُفْيَانَ مِنْ
الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ .
وَكَانَ صَفْوَانُ يَوْمَ الْعَطِيَّةِ مُشْرِكًا .
وَقَالَ أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ :
الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ .
الرَّابِعُ :
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ : الْمُؤَلَّفَةُ
قُلُوبُهُمْ : أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ،
وَمُعَاوِيَةُ ابْنُهُ ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ
بْنُ كِلْدَةَ ؛ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ،
وَحُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى ، وَالْمُعَلَّى بْنُ
حَارِثَةَ الثَّقَفِيُّ ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ ،
وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَمَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ
، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو ،
وَسَعْدُ بْنُ يَرْبُوعٍ ، وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ السَّهْمِيُّ ، وَالْعَبَّاسُ
بْنُ مِرْدَاسٍ ، وَطُلَيْقُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَخَالِدُ بْنُ أُسَيْدَ بْنِ أَبِي
الْعَيْصِ ، وَشَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ ، وَأَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ ،
وَعِكْرِمَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَامِرٍ ، وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ ،
وَخَالِدُ بْنُ هِشَامٍ ، وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ،
وَسُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ ، وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ ،
وَمُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ ،
وَأُحَيْحَةُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ ، وَعَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ ،
وَنَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُرْوَةَ ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ ،
وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنُ مَالِكٍ ، وَخَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ بْنُ رَبِيعَةَ
، وَحَرْمَلَةُ بْنُ هَوْذَةَ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ بْنُ
عِقَالٍ ، وَقَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ ،
وَهِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ .
قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا أَبُو
سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَلَا شَكَّ فِيهِ وَلَا فِي ابْنِهِ .
وَأَمَّا حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ فَعَظِيمُ الْقَدْرِ فِي
الْإِسْلَامِ .
قَالَ مَالِكٌ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ فَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ .
قَالَ مَالِكٌ : وَبَلَغَنِي أَنْ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ
أَخْرَجَ مَا كَانَ أَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْمُؤَلَّفَةِ ، فَتَصَدَّقَ بَعْدَ ذَلِكَ بِهِ .
وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كِلْدَةَ
فَهُوَ ابْن طَبِيبِ الْعَرَبِ وَكَانَ مِنْهُمْ .
وَلَا خَفَاءَ بِعُيَيْنَةَ وَلَا بِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ
سَيِّدِ هَوَازِنَ .
وَأَمَّا سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فَرَجُلٌ عَظِيمٌ ، إنْ
كَانَ مُؤَلَّفًا بِالْعَطِيَّةِ فَلَمْ يَمُتْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إلَّا ، وَهُوَ مُؤَلَّفٌ عَلَى الْإِسْلَامِ
بِالْيَقِينِ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِرَسُولِهِ ، وَبَلَغَ
الْخَبَرُ إلَى مَكَّةَ مَاجَ أَهْلُ مَكَّةَ ، فَقَامَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو
خَطِيبًا ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُ أَنْ هَذَا الْأَمْرَ سَيَمْتَدُّ
امْتِدَادَ الشَّمْسِ فِي طُلُوعِهَا إلَى غُرُوبِهَا ، فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ
هَذَا مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَعْنِي أَبَا سُفْيَانَ .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ حُبِسَ عَلَى بَابِ عُمَرَ ،
فَأَذِنَ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَصُهَيْبٌ وَنَوْعُهُ .
فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ ، وَمَشْيَخَةُ قُرَيْشٍ :
يَأْذَنُ لِلْعَبِيدِ وَيَذْرُنَا ، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو : دُعِيتُمْ
فَأَجَابُوا ، وَأَسْرَعُوا وَأَبْطَأْتُمْ ، أَمَا وَاَللَّهِ لَمَا سَبَقُوكُمْ
بِهِ مِنْ الْفَضْلِ أَشَدُّ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا الَّذِي تُنَافِسُونَ فِيهِ ؛
إلَى أَمْثَالِ هَذَا الْخَبَرِ ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ الْبَصِيرَةِ فِي
الدِّينِ وَالْبَصَرِ .
وَأَمَّا حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى فَلَمْ
يَثْبُتْ عِنْدِي أَمَرَهُ ، إنَّمَا هُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ ،
وَاسْتَقْرَضَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ
أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَصَحَّ دَيْنُهُ وَيَقِينُهُ .
وَأَمَّا مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زَهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ فَأُمُّهُ رَقِيقَةُ بِنْتُ أَبِي
صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَالِدِ الْمِسْوَرِ بْنِ
مَخْرَمَةَ ، حَسُنَ إسْلَامُهُ ، وَهُوَ الَّذِي نَصَبَ أَعْلَامَ الْحَرَمِ
لِعُمَرَ مَعَ حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ، { وَهُوَ الَّذِي خَبَّأَ لَهُ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِثَّاءَ ، فَقَالَ : خَبَّأْت
هَذَا لَك ، خَبَّأْت هَذَا لَك
} .
وَأَمَّا عُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ أَبُو
أُمَيَّةَ الْجُمَحِيُّ فَلَيْسَ مِنْهُمْ ، مُسْلِمٌ حَنِيفِيٌّ ، أَمَا إنَّهُ
كَانَ مِنْ أَشَدِّهِمْ عَدَاوَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَجَاءَ لِقَتْلِهِ بِمَا شَرَطَ لَهُ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ ،
فَلَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ دَعَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَفْوَانَ ، فَأَسْلَمَ ، وَحَدِيثُهُ
طَوِيلٌ .
وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو فَلَا أَعْرِفُ .
وَأَمَّا الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ فَكَانَ فِي أَوَّلٍ
أَمْرِهِ كَأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ ؛ وَهِيَ شَنْشَنَةٌ أَعْرِفُهَا مِنْ
أَخْزَمَ ، وَمَنْ يُشْبِهُ أَخَاهُ فَلَمْ يَظْلِمْ .
حَسُنَ إسْلَامُهُ ، وَكَانَ بِالْمِسْكِ خِتَامُهُ .
وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ يَرْبُوعٍ فَهُوَ الْمُلَقَّبُ
بِالصِّرْمِ ، مَخْزُومِيٌّ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَيُّنَا أَكْبَرُ ؟ قَالَ : أَنَا أَقْدَمُ مِنْك ، وَأَنْتَ
أَكْبَرُ وَخَيْرٌ مِنِّي } ، وَلَمْ أَعْلَمْ تَأْلِيفَهُ .
وَأَمَّا عَدِيُّ بْنُ قَيْسٍ فَلَمْ أَعْرِفْهُ .
وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فَكَبِيرُ قَوْمِهِ
، حَسُنَ إسْلَامُهُ ، وَخَبَرُهُ مَشْهُورٌ .
وَأَمَّا طُلَيْقُ بْنُ سُفْيَانَ ، وَابْنُهُ حَكِيمٌ ؛
فَهُوَ وَابْنُهُ مَذْكُورَانِ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ .
وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ أُسَيْدَ بْنِ أَبِي الْعَيْصِ
بْنِ أُمَيَّةَ فَلَا أَعْرِفُ قِصَّتَهُ .
{ وَأَمَّا شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ فَكَانَ فِي
نَفْسِهِ شَيْءٌ ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا دَنَا مِنْهُمْ عَرَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ أَخَذَهُ أَفْكَلُ
، فَمَسَحَ صَدْرَهُ فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ } .
وَأَمَّا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ
الْعَبْدَرِيُّ فَهُوَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ ، وَاسْمُهُ حَبَّةُ ؛ لَا
أَعْرِفُهُ .
وَأَمَّا عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرٍ فَلَا أَعْرِفُهُ ،
أَمَا إنَّهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ ، وَلَسْت أُحَصِّلُ .
وَأَمَّا زُهَيْرُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَخَالِدُ بْنُ
هِشَامٍ فَلَا أَعْرِفُهُمَا .
وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ فَهُوَ أَخُو خَالِدِ
بْنِ الْوَلِيدِ .
وَأَمَّا سُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ فَلَا
أَعْرِفُهُ .
وَأَمَّا أَبُو السَّائِبِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا مُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ فَلَسْت أَعْلَمُ .
وَأَمَّا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ
مِنْ بَنِي عَدِيٍّ ، وَاسْمُهُ عَامِرٌ ، فَلَا أَعْرِفُهُ مِنْهُمْ ، عَلَى
أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيهِ فِي
الصَّحِيحِ : { وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ }
رَوَاهُ النَّسَائِيّ .
وَقَالَ فِيهِ : { وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ بِشَرٍّ لَا
خَيْرَ فِيهِ } وَرَبُّك أَعْلَمُ
.
وَأَمَّا أُحَيْحَةُ فَهُوَ أَخُو صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيَّةَ لَا أَعْرِفُ .
وَأَمَّا نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيُّ فَلَا
أَعْرِفُهُ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيُّ
الْكِلَابِيُّ فَهُوَ مِنْهُمْ وَأُسَيْدُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَحَسُنَ الْإِسْلَامُ
عِنْدَهُمَا .
وَأَمَّا خَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ فَهُوَ وَالِدُ الْعَدَّاءِ
بْنِ خَالِدٍ مُبَايِعُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ ، مِنْ بَنِي أَنْفِ النَّاقَةِ ، غَيْرُ مَمْدُوحٍ .
وَالْحُطَيْئَةُ لَا أَعْرِفُ ، وَكَذَلِكَ أَخُوهُ
حَرْمَلَةُ .
وَأَمَّا الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَمَشْهُورٌ فِيهِمْ .
وَأَمَّا قَيْسُ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنُ الْمُطَّلِبِ
الْقُرَشِيُّ الْمُطَّلِبِيُّ فَلَا أَعْلَمُهُ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ .
وَأَمَّا هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو فَلَا أَعْرِفُهُ .
وَقَدْ عُدَّ فِيهِمْ زَيْدُ الْخَيْرِ الطَّائِيُّ ،
وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ
.
اسْتِدْرَاكٌ : وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَلَمْ يَكُنْ
مِنْهُمْ ؛ كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ ، وَقَدْ ائْتَمَنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَقِرَاءَتِهِ وَخَلْطِهِ بِنَفْسِهِ ،
وَأَمَّا حَالُهُ فِي أَيَّامِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَشْهُرُ مِنْ هَذَا
وَأَظْهَرُ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْنَافَ الْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ ؛ فَمِنْهُمْ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ قَوِيُّ
بِالْأَدِلَّةِ وَالْعَطَاءِ ، وَلَمْ يَكُنْ جَمِيعُهُمْ كَافِرًا ؛ فَحَصِّلُوا
هَذَا فَإِنَّهُ مُهِمٌّ فِي الْقِصَّةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : اُخْتُلِفَ فِي بَقَاءِ
الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُمْ زَائِلُونَ ؛ قَالَهُ
جَمَاعَةٌ ، وَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ
.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُمْ بَاقُونَ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ
رُبَّمَا احْتَاجَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ قَطَعَهُمْ
عُمَرُ لِمَا رَأَى مِنْ إعْزَازِ الدِّينِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي : أَنَّهُ إنْ قَوِيَ الْإِسْلَامُ
زَالُوا ، وَإِنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِمْ أُعْطُوا سَهْمَهُمْ ، كَمَا كَانَ
يُعْطِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَإِنَّ
الصَّحِيحَ قَدْ رُوِيَ فِيهِ : { بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ
غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ } .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ : إذَا قُلْنَا
بِزَوَالِهِمْ فَإِنَّ سَهْمَهُمْ سَيَعُودُ إلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ كُلِّهَا ،
أَوْ مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي أَصْلِ
الْخِلَافِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : يُعْطَى نِصْفُ سَهْمِهِمْ لِعُمَّارِ
الْمَسَاجِدِ ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ
.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ .
وَهَذَا مِمَّا يَدُلُّك عَلَى أَنَّ الْأَصْنَافَ
الثَّمَانِيَةَ مَحَلٌّ لَا مُسْتَحَقُّونَ ؛ إذْ لَوْ كَانُوا مُسْتَحَقِّينَ
لَسَقَطَ سَهْمُهُمْ بِسُقُوطِهِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ
إلَى غَيْرِهِمْ ، كَمَا لَوْ أَوْصَى لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ
لَمْ يَرْجِعْ نَصِيبُهُ إلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
{ وَفِي الرِّقَابِ } : وَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ
الْمُكَاتَبُونَ ؛ قَالَهُ عَلِيٌّ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ،
وَجَمَاعَةٌ .
الثَّانِي
: أَنَّهُ الْعِتْقُ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْتَاعَ
الْإِمَامُ رَقِيقًا فَيُعْتِقَهُمْ ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُمْ لِجَمِيعِ
الْمُسْلِمِينَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ
.
وَعَنْ مَالِكٍ أَرْبَعُ رِوَايَاتٍ : إحْدَاهَا : أَنَّهُ لَا
يَتَعَيَّنُ مُكَاتِبًا ، وَلَا فِي آخِرِ نَجْمٍ مِنْ نُجُومِهِ ، وَلَوْ خَرَجَ
بِهِ حُرًّا .
وَقَدْ قَالَ مَرَّةً : فَلِمَنْ يَكُونُ الْوَلَاءُ ؟
وَقَالَ آخِرًا : مَا يُعْجِبُنِي ذَلِكَ ، وَمَا بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
وَلَا عُمَرَ وَلَا عُثْمَانَ فَعَلُوا ذَلِكَ .
الثَّانِيَةُ : رَوَى عَنْهُ مُطَرِّفٌ أَنَّهُ يُعْطَى
الْمُكَاتَبُونَ .
الثَّالِثَةُ : قَالَ : يَشْتَرِي مِنْ زَكَاتِهِ
رَقَبَةً فَيُعْتِقُهَا ، يَكُونُ وَلَاؤُهَا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ .
الرَّابِعَةُ : قَالَ مَالِكٌ : لَا آمُرُ أَحَدًا أَنْ
يَشْتَرِيَ رَقَبَةً مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ فَيُعْتِقُهَا .
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ شِرَاءُ الرِّقَابِ وَعِتْقُهَا ،
كَذَلِكَ هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَيْثُ ذَكَرَ الرَّقَبَةَ
فِي كِتَابِهِ إنَّمَا هُوَ الْعِتْقُ ، وَلَوْ أَرَادَ الْمُكَاتَبِينَ
لَذَكَرَهُمْ بِاسْمِهِمْ الْأَخَصِّ ، فَلَمَّا عَدْلَ إلَى الرَّقَبَةِ دَلَّ
عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الْعِتْقَ
.
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ قَدْ دَخَلَ فِي
جُمْلَةٍ الْغَارِمِينَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ ، فَلَا يَدْخُلُ
فِي الرِّقَابِ ، وَرُبَّمَا دَخَلَ فِي الْمُكَاتَبِ بِالْعُمُومِ ، وَلَكِنْ فِي
آخِرِ نَجْمٍ يُعْتَقُ بِهِ ، وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ ، وَلَا حَرَجَ
عَلَى مُعْطِي الصَّدَقَةِ فِي ذَلِكَ ؛ فَإِنَّ تَخْلِيصَهُ مِنْ الرِّقِّ ،
وَفَكِّهِ مِنْ حَبْسِ الْمِلْكِ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَلَا يَتَأَتَّى عَنْ
الْوَلَاءِ ؛ فَإِنَّ الْغَرَضَ تَخْلِيصُ الْمُكَاتَبِ مِنْ الرِّقِّ ، وَفَكُّهُ
مِنْ حَبْسِ الْمِلْكِ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ
مُحَمَّدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ : لَوْ اشْتَرَى
الْإِمَامُ مِنْ رَجُلٍ أَبَاهُ وَأَخَذَ الْمَالَ لِيُعْتِقَهُ عَنْ نَفْسِهِ ،
فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ .
وَكَذَلِكَ اخْتَلَفَ [ فِيهِ ] قَوْلُ مَالِكٍ ؛
فَمَنَعَهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ، وَأَجَازَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
: { الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ } ،
وَلِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِلثَّمَنِ مُقَابِلٌ
يُوَازِيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : وَكَذَلِكَ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي فَكِّ الْأُسَارَى مِنْهَا ؛ فَقَدْ قَالَ أَصْبَغُ :
لَا يَجُوزُ ذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : يَجُوزُ ذَلِكَ .
وَإِذَا كَانَ فَكُّ الْمُسْلِمِ عَنْ رَقِّ الْمُسْلِمِ
عِبَادَةً وَجَائِزًا مِنْ الصَّدَقَةِ فَأَوْلَى وَأَحْرَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
فِي فَكِّ الْمُسْلِمِ عَنْ رَقِّ الْكَافِرِ وَذُلِّهِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ : إذَا قُلْنَا :
إنَّهُ يُعَانُ مِنْهَا الْمُكَاتَبُ ، فَهَلْ نُعْتِقُ مِنْهَا بَعْضَ رَقَبَةٍ
يَنْبَنِي عَلَيْهَا ؟ فَإِذَا كَانَ نِصْفَ عَبْدٍ أَوْ عَشَرَةً يَكُونُ فِيهِ
فَكُّهُ عَنْ الرِّقِّ بِمَا قَدْ سَبَقَ مِنْ عِتْقِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ؛
ذَكَرَهُ مُطَرِّفٌ ، وَكَذَلِكَ أَقُولُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ : وَيَكُونُ
الْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُعْتَقَيْنِ كَالشَّرِيكَيْنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْمَسَائِلِ ، فَإِنَّ
فِيهِ تَفْرِيعًا كَثِيرًا .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ قَوْله تَعَالَى {
وَالْغَارِمِينَ } : وَهُمْ الَّذِينَ رَكِبَهُمْ الدَّيْنُ ، وَلَا وَفَاءَ
عِنْدَهُمْ [ بِهِ ] ، وَلَا خِلَافَ
فِيهِ .
اللَّهُمَّ إلَّا مَنْ ادَّانَ فِي سَفَاهَةٍ ،
فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْهَا ، نَعَمْ وَلَا مِنْ غَيْرِهَا إلَّا أَنْ يَتُوبَ
، فَإِنَّهُ إنْ أَخَذَهَا قَبْلَ التَّوْبَةِ عَادَ إلَى سَفَاهَةٍ مِثْلِهَا
أَوْ أَكْبَرَ مِنْهَا ، وَالدُّيُونُ وَأَصْنَافُهَا كَثِيرَةٌ .
وَتَفْصِيلُهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ : فَإِنْ كَانَ
مَيِّتًا قُضِيَ مِنْهَا دَيْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْغَارِمِينَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ : لَا يُقْضَى .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ الْبُخَارِيِّ
وَغَيْرِهِ : { مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا أَنَا أَوْلَى بِهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ، اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ؛ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلْيَرِثْهُ
عُصْبَتُهُ مَنْ كَانُوا ، وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي
فَأَنَا مَوْلَاهُ } .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : قَوْله تَعَالَى
{ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } : قَالَ مَالِكٌ : سُبُلُ اللَّهِ كَثِيرَةٌ ،
وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللَّهِ
هَاهُنَا الْغَزْوُ مِنْ جُمْلَةِ سَبِيلِ اللَّهِ ، إلَّا مَا يُؤْثَرُ عَنْ
أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ فَإِنَّهُمَا قَالَا : إنَّهُ الْحَجُّ .
وَاَلَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ
الْحَجَّ مِنْ جُمْلَةِ السُّبُلِ مَعَ الْغَزْوِ ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ بِرٍّ ،
فَأُعْطِيَ مِنْهُ بِاسْمِ السَّبِيلِ ، وَهَذَا يُحِلُّ عَقْدَ الْبَابِ ،
وَيَخْرُمُ قَانُونَ الشَّرِيعَةِ ، وَيَنْثُرُ سِلْكَ النَّظَرِ ، وَمَا جَاءَ
قَطُّ بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ أَثَرٌ .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : وَيُعْطَى مِنْهَا
الْفَقِيرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ ،
وَيُعْطَى الْغَنِيُّ عِنْدَ مَالِكٍ بِوَصْفِ سَبِيلٍ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ
كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ ، لَا
يُلْتَفَتُ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي يُؤْثَرُ عَنْهُ .
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إلَّا لِخَمْسَةٍ : غَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُعْطَى الْغَازِي [ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ] إلَّا إذَا كَانَ فَقِيرًا ، وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ
، وَعِنْدَهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ، وَلَا نَسْخَ فِي
الْقُرْآنِ إلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي
الْخَمْسِ فِي قَوْلِهِ : { وَلِذِي الْقُرْبَى } ؛ فَشَرَطَ فِي قَرَابَةِ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْفَقْرَ ؛ وَحِينَئِذٍ يُعْطَوْنَ
مِنْ الْخُمُسِ .
وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ : يُعْطَى مِنْ
الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ ، وَمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ آلَاتِ
الْحَرْبِ ، وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنْ الْحَوْزَةِ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ
سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ
.
{ وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ
الصَّدَقَةِ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي نَازِلَةِ سَهْلِ بْنِ
أَبِي حَثْمَةَ إطْفَاءً لِلثَّائِرَةِ
} .
الْمَسْأَلَةُ الْمُوفِيَةُ عِشْرِينَ : قَوْله تَعَالَى
{ وَابْنِ السَّبِيلِ } : يُرِيدُ الَّذِي انْقَطَعَتْ بِهِ الْأَسْبَابُ فِي سَفَرِهِ ،
وَغَابَ عَنْ بَلَدِهِ وَمُسْتَقَرِّ مَالِهِ وَحَالِهِ فَإِنَّهُ يُعْطَى مِنْهَا .
قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ ابْنِ سَحْنُونٍ : إذَا
وَجَدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ فَلَا يُعْطَى
.
وَلَيْسَ يَلْزَمُهُ أَنْ يُدْخِلَ تَحْتَ مِنَّةُ
أَحَدٍ ، وَقَدْ وَجَدَ مِنَّةَ اللَّهِ وَنِعْمَتَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا جَاءَ
الرَّجُلُ وَقَالَ : أَنَا فَقِيرٌ ، أَوْ مِسْكِينٌ ، أَوْ غَارِمٌ ، أَوْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ ابْنُ السَّبِيلِ ، هَلْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ ، أَمْ يُقَالُ
لَهُ : أَثْبِتْ مَا تَقُولُ ؟ فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ
يَثْبُتَ .
وَأَمَّا سَائِرُ الصِّفَاتُ فَظَاهِرُ الْحَالِ
يَشْهَدُ لَهَا وَيُكْتَفَى بِهِ فِيهَا .
ثَبَتَ {
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
جَاءَ إلَيْهِ قَوْمٌ ذَوُو حَاجَةٍ مُجْتَابِي النِّمَارِ ، فَحَثَّ عَلَى
الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ } .
وَفِي حَدِيثٍ : أَبْرَصُ وَأَقْرَعُ وَأَعْمَى قَالَ
مُخْبِرًا عَنْهُمْ : { إنَّا عَلَى مَا تَرَى } .
فَاكْتَفَى بِظَاهِرِ الْحَالِ .
وَكَذَلِكَ ابْنُ السَّبِيلِ يُكْتَفَى بِغُرْبَتِهِ ،
وَظَاهِرِ حَالَتِهِ ، وَكَوْنُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَعْلُومٌ بِفِعْلِهِ
لِذَلِكَ وَرُكُونِهِ فِيهِ .
وَإِنْ قَالَ : أَنَا مُكَاتَبٌ أَثْبَتَ ذَلِكَ ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ الرِّقُّ حَتَّى يُثْبِتَ الْحُرِّيَّةَ أَوْ سَبَبَهَا .
وَإِنْ ادَّعَى زِيَادَةً عَلَى الْفَقْرِ عِيَالًا ،
فَقَالَ الْقَرَوِيُّونَ : يَكْشِفُ عَنْ ذَلِكَ إنْ قَدَرَ ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ ؛
لِأَنَّ حَدِيثَ أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَأَنَا
ابْنُ سَبِيلٍ أَسْأَلُك بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي ، وَلَمْ
يُكَلِّفْهُ إثْبَاتَ السَّفَرِ ، وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ ؛ فَصَارَ هَذَا أَصْلًا
فِي دَعْوَى كُلِّ شَيْءٍ غَائِبٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا
قُلْنَا : إنَّ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ مُسْتَحِقُّونَ ، فَيَأْخُذُ كُلُّ
أَحَدٍ حَقَّهُ وَهُوَ الثُّمُنُ ، وَلَا مَسْأَلَةَ مَعَنَا .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْإِمَامَ يَجْتَهِدُ ، وَهُوَ
الصَّحِيحُ ؛ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ بِأَيِّ صِنْفٍ يَبْدَأُ .
فَأَمَّا الْعَامِلُونَ فَإِنْ قُلْنَا : إنَّ
أُجْرَتَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، فَلَا كَلَامَ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ أُجْرَتَهُمْ مِنْ الزَّكَاةِ
فَبِهِمْ نَبْدَأُ ، فَنُعْطِيهِمْ الثُّمُنَ عَلَى قَوْلٍ ، وَقَدْرَ
أُجْرَتِهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ فِي الشَّرْعِ ؛ فَإِنَّ الْخَبَرَ بِأَنْ يُعْطَى
كُلُّ أَجِيرٍ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ مَأْثُورُ اللَّفْظِ صَحِيحُ
الْمَعْنَى .
فَإِنْ أَخَذَ الْعَامِلُ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى صِنْفٌ
يُتَرَجَّحُ فِيهِ إلَّا صِنْفَيْنِ ؛ هُمَا سَبِيلُ اللَّهِ وَالْفُقَرَاءُ ،
أَوْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ إنْ قُلْنَا : إنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ
صِنْفَانِ ، فَأَمَّا سَبِيلُ اللَّهِ إذَا اجْتَمَعَ مَعَ الْفَقْرِ فَإِنَّ
الْفَقْرَ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى
مَالِ الصَّدَقَةِ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ دَفْعِ مَضَرَّةٍ ، كَمَا
تَقَدَّمَ ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ نَازِلَةٍ .
وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ فَالصَّحِيحُ
أَنَّهُمْ صِنْفَانِ ، وَلَا نُبَالِي بِمَا قَالَ النَّاسُ فِيهِمَا ، وَهَا
أَنَا ذَا أُرِيحُكُمْ مِنْهُ بِعَوْنِ اللَّهِ ؛ فَإِنْ قَالَ الْقَائِلُ بِأَنَّ
الْفَقِيرَ مَنْ لَهُ شَيْءٌ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ ، أَوْ
بِعَكْسِهِ ، فَإِنَّ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ هُوَ الْمُقَدَّمُ عَلَى مَنْ لَهُ
شَيْءٌ ، فَهَذَا الْمَعْنَى سَاقِطٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ .
وَأَمَّا إنْ قُلْنَا : إنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الَّذِي
لَا يَسْأَلُ ، وَالْمِسْكِينُ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ فَاَلَّذِي لَا يَسْأَلُ
أَوْلَى ؛ لِأَنَّ السَّائِلَ أَقْرَبُ إلَى التَّفَطُّنِ وَالْغِنَى ،
وَالْعِلْمُ بِهِ مِمَّنْ لَا يَسْأَلُ ، وَلَا يَفْطِنُ لَهُ فَيَتَصَدَّقُ
عَلَيْهِ .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّمِنَ مُقَدَّمٌ عَلَى
الصَّحِيحِ ، وَأَنَّ الْمُحْتَاجَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ ، وَأَنَّ
الْمُسْلِمَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْكِتَابِيِّ .
وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْهِجْرَةِ وَالتَّقَرُّبِ
بِذَهَابِ زَمَانِهِمَا ، فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ،
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ بِالْمَعْرِفَةِ وَكَفَانَا الْمَئُونَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : هَذِهِ
الْأَوْصَافُ الَّتِي ذَكَرْنَا شَأْنَهَا فِي الْأَصْنَافِ الَّتِي قَدَّمْنَا
بَيَانَهَا إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا فِيمَنْ لَا قَرَابَةَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُتَصَدِّقِ ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْقَرَابَةُ فَفِي ذَلِكَ
تَفْصِيلٌ عَرِيضٌ طَوِيلٌ .
فَأَمَّا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ فَقَدْ { قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِزَيْنَبِ امْرَأَةِ ابْنِ
مَسْعُودٍ : زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْت عَلَيْهِمْ بِهِ } .
يَعْنِي بِحُلِيِّهَا الَّذِي أَرَادَتْ أَنْ
تَتَصَدَّقَ بِهِ .
وَفِي حَدِيثِ بِئْرِ حَاءٍ : { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَةَ : أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي
الْأَقْرَبِينَ } ، فَجَعَلَهَا
أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ ، وَبَنِي عَمِّهِ .
وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي كُلِّ أُمٍّ
وَبِنْتٍ مِنْ الْحَدِيثِ .
وَأَمَّا صَدَقَةُ الْفَرْضِ فَإِنْ أَعْطَى الْإِمَامُ
صَدَقَةَ الرَّجُلِ لِوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَزَوْجِهِ الَّذِينَ تَلْزَمُهُ
نَفَقَةُ جَمِيعِهِمْ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ .
وَأَمَّا إنْ تَنَاوَلَ هُوَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا بِحَالٍ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ
يُسْقِطُ [ فِي ذَلِكَ ] بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَرْضًا .
وَأَمَّا إنْ أَعْطَاهَا لِمَنْ لَا تَلْزَمُهُ
نَفَقَتُهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ
جَوَّزَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ
.
قَالَ مَالِكٌ : خَوْفَ الْمَحْمَدَةِ .
وَقَالَ مُطَرِّفٌ : رَأَيْت مَالِكًا يَدْفَعُ
زَكَاتَهُ لِأَقَارِبِهِ .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَهُوَ إمَامٌ عَظِيمٌ : قَالَ
مَالِكٌ : أَفْضَلُ مَنْ وَضَعْت فِيهِ زَكَاتَك قَرَابَتُك الَّذِينَ لَا تَعُولُ .
وَقَدْ
{ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِزَوْجَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ : لَك أَجْرَانِ : أَجْرُ الْقَرَابَةِ
، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ } .
وَاخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي إعْطَاءِ الزَّكَاةِ
لِلزَّوْجَيْنِ ، فَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الْحَسَنِ : إنَّ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِ
مَالِكٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ .
وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ إنْ كَانَ يَسْتَعِينُ فِي
النَّفَقَةِ عَلَيْهَا بِمَا يُعْطِيهِ فَلَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا
يُنْفِقُ عَلَيْهَا وَيَصْرِفُ مَا يَأْخُذُ مِنْهَا مِنْ نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ
عَلَى نَفْسِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ
.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَجُوزُ بِحَالٍ .
وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ لِحَدِيثِ زَيْنَبَ امْرَأَةِ
ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ .
فَإِنْ قِيلَ : ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ .
قُلْنَا :
صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ وَالْفَرْضِ هَاهُنَا وَاحِدٌ ؛
لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ عَوْدِهِ عَلَيْهِ ، وَهَذِهِ
الْعِلَّةُ لَوْ كَانَتْ مُرَاعَاةً لَاسْتَوَى فِيهِ التَّطَوُّعُ وَالْفَرْضُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : إذَا كَانَ
الْفَقِيرُ قَوِيًّا ، فَقَالَ مَالِكٌ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي
الْمُخْتَصَرِ : يُعْطَى ، يَعْنِي لِتَحْقِيقِ صِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ : لَا يُجْزِيهِ ، وَبِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَحِلُّ
الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } .
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ غَيْرِهِ ، وَزَادَ فِيهِ
: { إلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ } .
وَقَالَ :
هَذَا غَرِيبٌ ، وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ دُونَ زِيَادَةٍ
لَا يُرْكَنُ إلَيْهِ ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذَا ؛ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِيهَا لِلْفُقَرَاءِ
الْأَصِحَّاءِ ، وَوُقُوفُهَا عَلَى الزَّمْنَى بَاطِلٌ ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ
ذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الِارْتِبَاطِ وَالِانْتِزَاعِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : مَنْ كَانَ
لَهُ نِصَابٌ مِنْ الزَّكَاةِ ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا أَمْ لَا ؟ فَقَالَ
عُلَمَاؤُنَا تَارَةً : مَنْ مَلَكَ نِصَابًا فَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا ؛
لِأَنَّهُ غَنِيٌّ تُؤْخَذُ مِنْهُ فَلَا تُدْفَعُ إلَيْهِ .
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي : يَأْخُذُ مِنْهَا ، وَقَدْ
ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ سَأَلَ
وَعِنْدَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا } .
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ :
إنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ كِفَايَةٌ تُغْنِيهِ فَهُوَ الْغَنِيُّ ، وَإِنْ كَانَ
أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ ، وَمَنْ زَادَ عَلَى النِّصَابِ ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ
كِفَايَةٌ لِمُؤْنَتِهِ وَلَا سَدَادٌ لِخُلَّتِهِ فَلَيْسَ بِغَنِيِّ فَيَأْخُذُ
مِنْهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ ، هَلْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ نِصَابًا أَمْ لَا ؟ عَلَى
قَوْلَيْنِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : إنْ كَانَ فِي
الْبَلَدِ زَكَاتَانِ : نَقْدٌ ، وَحَرْثٌ ، أَخَذَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى
الْأُخْرَى .
وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَى نِصَابًا ، وَإِنْ
كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ وَأَكْثَرُ ، فَإِنَّ الْغَرَضَ إغْنَاءُ
الْفَقِيرِ ، حَتَّى يَصِيرَ غَنِيًّا ، فَإِذَا أَخَذَ تِلْكَ فَإِنْ حَضَرَتْ
زَكَاةٌ أُخْرَى وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ أَخَذَهَا غَيْرُهُ ، وَإِلَّا عَادَ
عَلَيْهِ الْعَطَاءُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : لَا
تُصْرَفُ الصَّدَقَةُ إلَى آلِ مُحَمَّدٍ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ ، إنَّمَا هِيَ
أَوْسَاخُ النَّاسِ } .
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا ، وَقَدْ أَفَضْنَا
فِيهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نُفِيضَ فِيهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ ، وَهِيَ
مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو
هَاشِمٍ وَاحِدٌ ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ
وَلَا فِي إسْلَامٍ } .
قَالُوا
: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَعْطَاهُمْ الْخُمُسَ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ وَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ
قَبَائِلِ قُرَيْشٍ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ : آلُ مُحَمَّدٍ
عَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ : بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَآلُ هَاشِمٍ ، وَآلُ
عَبْدِ مَنَافٍ ، وَآلُ قُصَيٍّ ، وَآلُ غَالِبٍ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك
الْأَقْرَبِينَ } نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ : { يَا آلَ قُصَيٍّ ، يَا آلَ غَالِبٍ
، يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ ، يَا صَفِيَّةُ
عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ ، اعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ ؛ فَإِنِّي لَسْت
أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا
} .
فَبَيَّنَ بِمُنَادَاتِهِ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا : نَحْنُ
هُمْ .
يَعْنِي آلَ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً ، وَأَبَى ذَلِكَ
عَلَيْنَا قَوْمُنَا .
فَأَمَّا مَوَالِيهِمْ ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي
الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا ذَلِكَ فِي
الزَّكَاةِ لَا فِي التَّطَوُّعِ ، وَإِنَّمَا هُمْ بَنُو هَاشِمٍ أَنْفُسُهُمْ .
قِيلَ لَهُ يَعْنِي مَالِكًا : فَمَوَالِيهِ ؟ قَالَ :
لَا أَدْرِي مَا الْمَوَالِي ؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ
فَاحْتَجَجْت عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : { مَوْلَى الْقَوْمِ
مِنْهُمْ } ، فَقَالَ : وَقَدْ قَالَ : { ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ } .
قَالَ أَصْبَغُ : وَذَلِكَ فِي الْبِرِّ وَالْحُرْمَةِ ،
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } .
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ : مَوَالِيهِمْ
مِنْهُمْ لَا تَحِلُّ لَهُمْ [ الصَّدَقَةُ ] .
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ : لَا يُعْطَى آلُ
مُحَمَّدٍ مِنْ التَّطَوُّعِ .
وَأَجَازَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ ،
وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْوَسَخَ إنَّمَا قُرِنَ بِالْفَرْضِ خَاصَّةً .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي
رَافِعٍ ، { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا
عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ : اصْحَبْنِي ،
فَإِنَّك تُصِيبُ مِنْهَا ؛ فَقَالَ : حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَسْأَلَهُ .
فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ ، فَقَالَ : مَوْلَى الْقَوْمِ
مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ } .
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَلَوْ صَحَّ
لَوَجَبَ قَبُولُهُ ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ جَوَابَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّنْزِيهِ مِنْهُ .
الثَّانِي : أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْدُمُ وَيُطْعِمُ ، فَكَرِهَ لَهُ تَرْكَ
الْمَالِ الَّذِي لَمْ يُذَمَّ ، وَأَخْذَهُ لِمَالٍ هُوَ أَوْسَاخُ النَّاسِ ،
فَكَسْبُ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْهُ
.
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ
قَالَ : بَعَثَنِي أَبِي إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
إبِلٍ أَعْطَاهَا إيَّاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ .
قُلْنَا : لَمْ يَصِحَّ .
وَجَوَابُهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ ، فَرَدَّ إلَيْهِ مَا
اسْتَسْلَفَ مِنْ الصَّدَقَةِ ، فَأَكَلَهَا بِالْعِوَضِ .
وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ مُفَسَّرًا مُسْتَوْفًى فِي
شَرْحِ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَجُوزُ صَرْفُ صَدَقَةِ
بَنِي هَاشِمٍ إلَى فُقَرَائِهِمْ ، فَيُقَالُ لَهُ : أَيَأْكُلُونَ مِنْ
أَوْسَاخِهِمْ ؟ هَذَا جَهْلٌ بِحَقِيقَةِ
الْعِلَّةِ وَجِهَةِ الْكَرَامَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْلُهُ :
{ إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } : مُقَابَلَةُ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ ،
وَهِيَ جُمْلَةُ الصَّدَقَةِ بِجُمْلَةِ الْمَصْرِفِ لَهَا ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ
حِينَ أَرْسَلَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ : { قُلْ لَهُمْ : إنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ
عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ
} فَاخْتُصَّ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِزَكَاةِ بَلَدِهِ ؛ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْلُهَا
أَمْ لَا ؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : لَا تُنْقَلُ ، وَبِهِ
قَالَ سَحْنُونٌ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ إنْ
نَقَلَ بَعْضَهَا لِضَرُورَةٍ رَأَيْتُهُ صَوَابًا .
الثَّانِي : يَجُوزُ نَقْلُهَا ، وَقَالَهُ مَالِكٌ
أَيْضًا .
الثَّالِثُ :
يُقَسَّمُ فِي الْمَوْضِعِ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ
وَالْمَسَاكِينَ ، وَيُنْقَلُ سَائِرُ السِّهَامِ ، بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ .
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ لِقَوْلِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ
إذَا نَزَلَتْ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ فَالْمُسْلِمُ
أَخُو الْمُسْلِمُ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى
{ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ
أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } .
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ .
قَالَ الطَّبَرِيُّ : { بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَرَكْبٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ
يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَقَالُوا : يَظُنُّ هَذَا أَنَّهُ يَفْتَحُ قُصُورَ
الشَّامِ وَحُصُونَهَا ، فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ
وَقَوْلِهِمْ ، فَدَعَاهُمْ ، فَقَالَ : قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا ؟ فَحَلَفُوا :
مَا كُنَّا إلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، فَكَانَ مِمَّنْ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا
عَنْهُ يَقُولُ : أَسْمَعُ آيَةً تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ ، وَتَجِثُّ
الْقُلُوبُ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِك ، لَا يَقُلْ
أَحَدٌ أَنَا غَسَّلْت ، أَنَا كَفَّنْت ، أَنَا دَفَنْت .
قَالَ : فَأُصِيبُ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، فَمَا أَحَدٌ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا وَقَدْ وُجِدَ غَيْرُهُ } .
وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ ،
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : { رَأَيْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَشْتَدُّ قُدَّامَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْحِجَارَةُ تَنْكُبُهُ ، وَهُوَ
يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ، وَالنَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : أَبِاَللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ؟ لَا تَعْتَذِرُوا } .
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَزَلَ فِيمَا كَانَ مِنْ
الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ
مَا قَالُوهُ مِنْ ذَلِكَ جِدًّا أَوْ هَزْلًا ، وَهُوَ كَيْفَمَا كَانَ كُفْرٌ ؛
فَإِنَّ الْهَزْلَ بِالْكُفْرِ كُفْرٌ ، لَا خُلْفَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ ،
فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَخُو الْحَقِّ وَالْعِلْمِ ، وَالْهَزْلَ أَخُو الْبَاطِلِ
وَالْجَهْلِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : نَظَرُوا إلَى قَوْلِهِ : { أَتَتَّخِذُنَا
هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } .
فَإِنْ كَانَ الْهَزْلُ فِي سَائِرٍ الْأَحْكَامِ
كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ فَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ
عَلَى أَقَاوِيلَ ، جِمَاعُهَا ثَلَاثَةٌ : الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ .
الثَّانِي : لَا يَلْزَمُ الْهَزْلُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يَلْزَمُ .
فَقَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ : يَلْزَمُ نِكَاحُ
الْهَازِلِ .
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي
الْعُتْبِيَّةِ : لَا يَلْزَمُ
.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زِيَادٍ : يُفْسَخُ قَبْلُ
وَبَعْدُ .
وَلِلشَّافِعِيِّ فِي بَيْعِ الْهَازِلِ قَوْلَانِ ؛
وَكَذَلِكَ يَتَخَرَّجُ مِنْ قَوْلِ عُلَمَائِنَا فِيهِ الْقَوْلَانِ .
قَالَ مُتَأَخِّرُو أَصْحَابِنَا : إنْ اتَّفَقَا عَلَى
الْهَزْلِ فِي النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَمْ يَلْزَمْ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا غَلَبَ
الْجَدُّ الْهَزْلَ .
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : فَأَمَّا
الطَّلَاقُ فَيَلْزَمُ هَزْلُهُ ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسٍ
وَاحِدٍ يَتَعَلَّقُ بِالتَّحْرِيمِ وَالْقُرْبَةِ ، فَيَغْلِبُ اللُّزُومُ فِيهِ
عَلَى الْإِسْقَاطِ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : قَوْله تَعَالَى
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : [
الْمُجَاهَدَةُ ] : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ : جَاهِدْهُمْ بِيَدِك ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِك ، فَإِنْ
لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَطِّبْ فِي وُجُوهِهِمْ .
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : جَاهِدْ الْكُفَّارَ
بِالسَّيْفِ ، وَالْمُنَافِقِينَ بِاللِّسَانِ .
الثَّالِثُ : قَالَ الْحَسَنُ : جَاهِدْ الْكُفَّارَ
بِالسَّيْفِ ، وَالْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ .
وَاخْتَارَهُ قَتَادَةُ ، وَكَانُوا أَكْثَرَ مَنْ
يُصِيبُ الْحُدُودَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ عُلَمَاءُ
الْإِسْلَامِ مَا تَقَدَّمَ ، فَأَشْكَلَ ذَلِكَ وَاسْتَبْهَمَ ، وَلَا أَدْرِي
صِحَّةَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ فِي السَّنَدِ .
أَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ فِي
الشَّرِيعَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجَاهِدُ
الْكُفَّارَ بِالسَّيْفِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِمْ ، حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ
بَيَانُهُ .
وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ فَكَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِهِمْ
يُعْرِضُ عَنْهُمْ ، وَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ إسْلَامِهِمْ ، وَيَسْمَعُ
أَخْبَارَهُمْ فَيُلْغِيهَا بِالْبَقَاءِ عَلَيْهِمْ ، وَانْتِظَارِ الْفَيْئَةِ
إلَى الْحَقِّ بِهِمْ ، وَإِبْقَاءً عَلَى قَوْمِهِمْ ، لِئَلَّا تَثُورَ
نُفُوسُهُمْ عِنْدَ قَتْلِهِمْ ، وَحَذَرًا مِنْ سُوءِ الشُّنْعَةِ فِي أَنْ
يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ ؛ فَكَانَ
لِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَقْبَلُ ظَاهِرَ إيمَانِهِمْ ، وَبَادِئَ
صَلَاتِهِمْ ، وَغَزْوَهُمْ ، وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ ، وَتَارَةً
كَانَ يَبْسُطُ لَهُمْ وَجْهَهُ الْكَرِيمَ ، وَأُخْرَى كَانَ يُظْهِرُ
التَّغْيِيرَ عَلَيْهِمْ .
وَأَمَّا إقَامَةُ الْحُجَّةِ بِاللِّسَانِ فَكَانَتْ
دَائِمَةً ، وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ : إنَّ جِهَادَ الْمُنَافِقِينَ
بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهِمْ لِأَنَّ أَكْثَرَ إصَابَةِ الْحُدُودِ كَانَتْ
عِنْدَهُمْ ، فَإِنَّهُ
دَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ الْعَاصِي
بِمُنَافِقٍ ، إنَّمَا الْمُنَافِقُ بِمَا يَكُونُ فِي قَلْبِهِ مِنْ النِّفَاقِ
كَامِنًا ، لَا بِمَا تَتَلَبَّسُ بِهِ الْجَوَارِحُ ظَاهِرًا ، وَأَخْبَارُ
الْمَحْدُودِينَ يَشْهَدُ مَسَاقُهَا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَاغْلُظْ
عَلَيْهِمْ } : الْغِلْظَةُ نَقِيضُ الرَّأْفَةِ ، وَهِيَ شِدَّةُ الْقَلْبِ
وَقُوَّتُهُ عَلَى إحْلَالِ الْأَمْرِ بِصَاحِبِهِ .
وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اللِّسَانِ .
؛ فَإِنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا زَنَتْ أَمَةُ
أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ } .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى {
يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ
وَكَفَرُوا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا
إلَّا أَنْ أَغْنَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ
خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى { وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ } : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَوْلُ الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْد : إنْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ
مُحَمَّدٌ حَقًّا فَلَنَحْنُ شَرٌّ مِنْ الْحُمْرِ .
ثُمَّ إنَّهُ حَلَفَ مَا قَالَ ؛ قَالَهُ عُرْوَةُ
وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ
.
الثَّانِي :
أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ
حِينَ قَالَ : { لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ
مِنْهَا الْأَذَلَّ } ؛ قَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ جَمَاعَةُ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا
ذَلِكَ ؛ قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِعُمُومِ الْقَوْلِ ، وَوُجُودِ
الْمَعْنَى فِيهِ وَفِيهِمْ ، وَجُمْلَةُ ذَلِكَ اعْتِقَادُهُمْ وَقَوْلُهُمْ
إنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيٍّ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّ الْكُفْرَ يَكُونُ بِكُلِّ مَا يُنَاقِضُ التَّصْدِيقَ وَالْمَعْرِفَةَ ،
وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ لَا يَكُونُ إلَّا بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دُونَ
غَيْرِهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ
الْفِقْهِ وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَذَلِكَ لِسَعَةِ الْحِلِّ وَضِيقِ الْعَقْدِ
، وَذَلِكَ كَالطَّلَاقِ يَقَعُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ ، وَلَيْسَ يَقَعُ
النِّكَاحُ إلَّا بِاللَّفْظِ الْمَخْصُوصِ مَعَ الْقَوْلِ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { فَإِنْ
يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ } : فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوْبَةِ الْكَافِرِ
الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ
الْفُقَهَاءُ الزِّنْدِيقَ .
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ ، فَقَالَ
مَالِكٌ : لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ
.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : تُقْبَلُ .
وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَقُولُ
مَالِكٌ : إنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ لَا تُعْرَفُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ
الْإِيمَانَ وَيُسِرُّ الْكُفْرَ ، وَلَا يُعْلَمُ إيمَانُهُ إلَّا بِقَوْلِهِ .
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ الْآنَ ، وَفِي كُلِّ حِينٍ ،
يَقُولُ : أَنَا مُؤْمِنٌ ، وَهُوَ يُضْمِرُ خِلَافَ مَا يُظْهِرُ ، فَإِذَا
عَثَرْنَا عَلَيْهِ وَقَالَ : تُبْت لَمْ يَتَغَيَّرْ حَالُهُ .
وَقَبُولُ التَّوْبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا لِتَوْبَةٍ
تَتَغَيَّرُ فِيهَا الْحَالَةُ الْمَاضِيَةُ بِنَقِيضِهَا فِي الْآتِيَةِ .
وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّهُ إذَا جَاءَ تَائِبًا مِنْ
قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْثَرَ عَلَيْهِ قَبِلْنَا تَوْبَتَهُ ، وَهُوَ
الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ، فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِعُمُومٍ ، فَتَتَنَاوَلُ كُلَّ
حَالَةٍ ؛ وَإِنَّمَا تَقْتَضِي الْقَبُولَ الْمُطْلَقَةَ فَيَكْفِي فِي تَحْقِيقِ
الْمَعْنَى لِلَّفْظِ وُجُودُهُ مِنْ جِهَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ
عَلَى الِاسْتِيفَاءِ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَهَذَا الْقَدْرُ يَتَعَلَّقُ
بِالْأَحْكَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ
.
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ ثَلَاثِينَ قَوْله تَعَالَى : {
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ
وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى
يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا
يَكْذِبُونَ } .
فِيهَا عَشْرُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ الْآيَةُ
اُخْتُلِفَ فِي شَأْنِ نُزُولِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ :
أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَوْلًى لِعُمَرَ قَتَلَ حَمِيمًا لِثَعْلَبَةَ ،
فَوَعَدَ إنْ وَصَلَ إلَى الدِّيَةِ أَنْ يُخْرِجَ حَقَّ اللَّهِ فِيهَا ،
فَلَمَّا وَصَلَتْ إلَيْهِ الدِّيَةُ لَمْ يَفْعَلْ .
الثَّانِي : أَنَّ ثَعْلَبَةَ كَانَ لَهُ مَالٌ
بِالشَّامِ فَنَذَرَ إنْ قَدِمَ مِنْ الشَّامِ أَنْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ ، فَلَمَّا
قَدِمَ لَمْ يَفْعَلْ .
الثَّالِثُ : وَهُوَ أَصَحُّ الرِّوَايَاتِ أَنَّ {
ثَعْلَبَةَ بْنَ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيَّ الْمَذْكُورَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اُدْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا أَتَصَدَّقُ
مِنْهُ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَيْحَك يَا ثَعْلَبَةُ ، قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا
تُطِيقُهُ .
ثُمَّ عَاوَدَ ثَانِيَةً ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيِّ
اللَّهِ ، فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْت أَنْ تَصِيرَ مَعِي
الْجِبَالُ ذَهَبًا وَفِضَّةً لَصَارَتْ .
فَقَالَ : وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ لَئِنْ دَعَوْت
اللَّهَ فَرَزَقَنِي لَأُعْطِيَنَّ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ .
فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ
الْمَدِينَةُ ، فَتَنَحَّى عَنْهَا ، وَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا ،
حَتَّى جَعَلَ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي جَمَاعَةٍ ، وَيَتْرُكُ مَا
سِوَاهُمَا ، ثُمَّ نَمَتْ وَكَثُرَتْ حَتَّى تَرَكَ الصَّلَوَاتِ إلَّا
الْجُمُعَةَ ، وَهِيَ تَنْمُو حَتَّى تَرَكَ الْجُمُعَةَ ،
وَطَفِقَ يَلْقَى الرُّكْبَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ الْأَخْبَارِ ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْهُ ، فَأُخْبِرَ بِكَثْرَةِ غَنَمِهِ وَبِمَا صَارَ إلَيْهِ ،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَنَزَلَتْ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا
} .
وَنَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ : رَجُلٌ مِنْ
جُهَيْنَةَ ، وَآخَرُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ، وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَمُرَّا
بِثَعْلَبَةَ وَبِرَجُلٍ آخَرَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ، يَأْخُذَانِ مِنْهُمَا صَدَقَاتِهِمَا
، فَخَرَجَا حَتَّى أَتَيَا ثَعْلَبَةَ ، فَقَالَ : مَا هَذِهِ إلَّا جِزْيَةٌ ،
مَا هَذِهِ إلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ ، مَا أَدْرِي مَا هَذَا ؟ انْطَلِقَا حَتَّى
تَفْرُغَا وَعُودَا .
وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ ، فَعَمَدَ إلَى خِيَارِ
إبِلِهِ ، فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَهُمَا بِهَا ، فَلَمَّا
رَأَوْهَا قَالُوا : مَا يَجِبُ عَلَيْك هَذَا ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نَأْخُذَ
مِنْك هَذَا .
قَالَ : بَلْ فَخُذُوهُ .
فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ ، فَأَخَذُوهَا
مِنْهُ ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ صَدَقَاتِهِمَا رَجَعَا حَتَّى مَرَّا
بِثَعْلَبَةَ ، فَقَالَ : أَرُونِي كِتَابَكُمَا وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ لَهُمَا كِتَابًا فِي حُدُودِ الصَّدَقَةِ ، وَمَا
يَأْخُذَانِ مِنْ النَّاسِ فَأَعْطَيَاهُ الْكِتَابَ ، فَنَظَرَ إلَيْهِ ، فَقَالَ
: مَا هَذِهِ إلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ ، فَانْطَلِقَا عَنِّي حَتَّى أَرَى
رَأْيِي .
فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَمَّا رَآهُمَا قَالَ : يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمَا ،
وَدَعَا لِلسُّلَمِيِّ بِالْبَرَكَةِ ، فَأَخْبَرَاهُ بِاَلَّذِي صَنَعَ
ثَعْلَبَةُ ، وَاَلَّذِي صَنَعَ السُّلَمِيُّ ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَمِنْهُمْ
مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } الْآيَةَ ؛ وَعِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ ،
فَخَرَجَ حَتَّى
أَتَاهُ ، فَقَالَ : وَيْحَك يَا ثَعْلَبَةُ ، قَدْ
أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك كَذَا وَكَذَا فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ أَنْ يَقْبَلَ صَدَقَتَهُ مِنْهُ ، فَقَالَ :
إنَّ اللَّهَ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْك صَدَقَتَك فَقَامَ يَحْثُو التُّرَابَ
عَلَى رَأْسِهِ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قَدْ
أَمَرْتُك فَلَمْ تُطِعْنِي فَرَجَعَ ثَعْلَبَةُ إلَى مَنْزِلِهِ ، وَقُبِضَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ
شَيْئًا ، ثُمَّ أَتَى إلَى أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا ، ثُمَّ
أَتَى إلَى عُثْمَانَ بَعْدَ عُمَرَ فَلَمْ يَقْبِضْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَتُوُفِّيَ
فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } .
وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ
مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ } : قِيلَ
: إنَّهُ عَاهَدَ بِقَلْبِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ } إلَى قَوْلِهِ : { فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } وَهَذَا اسْتِنْبَاطٌ
ضَعِيفٌ ، وَاسْتِدْلَالٌ عَلَيْهِ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
عَاهَدَ اللَّهَ بِلِسَانِهِ ، وَلَمْ يَعْتَقِدْ بِقَلْبِهِ الْعَهْدَ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَاهَدَ اللَّهَ بِهِمَا
جَمِيعًا ، ثُمَّ أَدْرَكَتْهُ سُوءُ الْخَاتِمَةِ فَإِنَّ الْأَعْمَالَ
بِخَوَاتِيمِهَا ، وَالْأَيَّامَ بِعَوَاقِبِهَا .
وَلَفْظُ الْيَمِينِ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ ، وَلَيْسَ
فِي ظَاهِرِ الْقُرْآنِ يَمِينٌ إلَّا مُجَرَّدُ الِارْتِبَاطِ وَالِالْتِزَامِ ،
أَمَّا أَنَّهُ بِصِيغَةِ الْقَسَمِ فِي الْمَعْنَى فَإِنَّ اللَّامَ تَدُلُّ
عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَتَى بِلَامَيْنِ : اللَّامُ الْوَاحِدَةُ الْأُولَى لَامُ
الْقَسَمِ بِلَا كَلَامٍ ، وَالثَّانِيَةُ لَامُ الْجَوَابِ ، وَكِلَاهُمَا
لِلتَّأْكِيدِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّهُمَا لَامَا الْقَسَمِ ،
وَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ ،
وَكَيْفَمَا كَانَ الْأَمْرُ بِيَمِينٍ أَوْ بِالْتِزَامٍ مُجَرَّدٍ عَنْ
الْيَمِينِ ، أَوْ بِنِيَّةٍ ، فَإِنَّهُ عَهْدٌ .
وَكَذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ الْعَهْدَ
وَالطَّلَاقَ وَكُلَّ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمَرْءُ وَلَا يَفْتَقِرُ فِي
عَقْدِهِ إلَى غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْهُ مَا يَلْتَزِمُهُ
بِقَصْدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : لَا يَلْزَمُ
أَحَدًا حُكْمٌ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَلْفِظَ بِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إلَيْهِ مَا
رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ ، وَقَدْ سُئِلَ : إذَا نَوَى رَجُلٌ الطَّلَاقَ
بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَلْفِظْ بِهِ بِلِسَانِهِ ، يَلْزَمُهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟
فَقَالَ يَلْزَمُهُ ، كَمَا يَكُونُ مُؤْمِنًا بِقَلْبِهِ ، وَكَافِرًا بِقَلْبِهِ .
وَهَذَا أَصْلٌ بَدِيعٌ ، وَتَحْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ
عَقْدٌ لَا يَفْتَقِرُ الْمَرْءُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ فِي الْتِزَامِهِ ،
فَانْعَقَدَ عَلَيْهِ
بِنِيَّةٍ
.
أَصْلُهُ الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِنْصَافِ أَحْسَنَ
بَيَانٍ ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى
هَذَا الْغَرَضِ قَبْلَ هَذَا بِمِرْمَاةٍ مِنْ النَّظَرِ تُصِيبُهُ ، وَهَذَا
يُعَضِّدُهُ وَيُقَوِّيهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : إنْ كَانَ نَذْرًا
فَالْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ وَاجِبٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ ، وَتَرْكُهُ مَعْصِيَةٌ .
وَإِنْ كَانَتْ يَمِينًا فَلَيْسَ الْوَفَاءُ
بِالْيَمِينِ بِاتِّفَاقٍ ، بَيْدِ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ [ إنْ كَانَ نَذَرَ
الرَّجُلُ أَوْ ] إنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فَرْضُ الزَّكَاةِ
، فَسَأَلَ اللَّهَ مَالًا يَلْتَزِمُ فِيهِ مَا أَلْزَمَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ ،
وَيُؤَدِّي مَا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ فِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ ، فَلَمَّا آتَاهُ
اللَّهُ مَا سَأَلَ تَرَكَ مَا الْتَزَمَ مِمَّا كَانَ يَلْزَمُهُ فِي أَصْلِ
الدِّينِ لَوْ لَمْ يَلْتَزِمْهُ ، لَكِنَّ التَّعَاطِيَ بِطَلَبِ الْمَالِ
لِأَدَاءِ الْحُقُوقِ هُوَ الَّذِي أَوْرَطَهُ ، إذْ كَانَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِغَيْرِ نِيَّةٍ خَالِصَةٍ ، أَوْ كَانَ بِنِيَّةٍ لَكِنْ سَبَقَتْ فِيهِ
الْبِدَايَةُ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ فِيهَا الشَّقَاوَةُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : إنْ كَانَ هَذَا
الْمُعَاهِدُ عَارِفًا بِاَللَّهِ فَيَفْهَمُ وَجْهَ الْمُعَاهَدَةِ ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ عَارِفٍ بِاَللَّهِ فَكَيْفَ يَصِحُّ مُعَاهَدَةُ اللَّهِ مَعَ مَنْ
لَا يَعْرِفُهُ .
قُلْنَا : إنْ كَانَ وَقْتَ الْمُعَاهَدَةِ عَارِفًا
بِاَللَّهِ ، ثُمَّ أَذْهَبَ الْمَعْرِفَةَ سُوءُ الْخَاتِمَةِ فَلَا كَلَامَ ،
وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ الْمُعَاهَدَةِ مُنَافِقًا يُظْهِرُ الْإِيمَانَ
وَيُسِرُّ الْكُفْرَ فَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الْكُفَّارَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ
فَالْمُعَاهَدَةُ مَفْهُومَةٌ ، وَإِنَّ قُلْنَا : لَا يَعْرِفُونَهُ وَهُوَ
الصَّحِيحُ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْمُعَاهَدَةِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا مُعَاقَدَةٌ
بِعَزِيمَةٍ مُحَقَّقَةٍ بِذِكْرِ اللَّهِ ، فَإِنْ عَاهَدَ اللَّهَ مَنْ لَا
يَعْرِفُهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ إذَا ذَكَرَهُ فِي الْمُعَاقَدَةِ فَخَاصٌّ مِنْ
خَوَاصِّ أَوْصَافِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ رَبُّهُ فَيَنْعَقِدُ ذَلِكَ
عَلَيْهِ ، وَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ ، وَيَنْفُذُ عَلَيْهِ عِقَابُهُ ؛ لِأَنَّ
الْعَقْدَ يَتَعَلَّقُ بِهَذَا الذِّكْرِ اللَّازِمِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { بَخِلُوا بِهِ } :
اُخْتُلِفَ فِيهِ ؛ فَقِيلَ : الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ ، وَالشُّحُّ مَنْعُ
الْمُسْتَحَبِّ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا
آتَاهُمْ اللَّهُ } إلَى : { الْقِيَامَةِ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ } .
وَقِيلَ : هُمَا وَاحِدٌ .
وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي
الْمُتَقَدِّمِ مِنْ الْقَوْلِ ، وَمَا حَكَيْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ الصَّحِيحُ ،
وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا ، وَظَوَاهِرُ
الْقُرْآنِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : { فَأَعْقَبَهُمْ
نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ } : النِّفَاقُ فِي الْقَلْبِ هُوَ الْكُفْرُ ، وَإِذَا
كَانَ فِي الْأَعْمَالِ فَهُوَ مَعْصِيَةٌ ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي شَرْحِ
الصَّحِيحِ وَالْأُصُولِ ، وَفِيهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ، وَمَنْ
كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى
يَدَعَهَا : إذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا عَاهَدَ
غَدَرَ ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ
} .
رَوَتْهُ الصِّحَاحُ وَالْأَئِمَّةُ ، وَتَبَايَنَ
النَّاسُ فِيهِ حَزْقًا ، وَتَفَرَّقُوا فِرَقًا ، بِسَبَبِ أَنَّ الْمَعَاصِيَ
بِالْجَوَارِحِ لَا تَكُونُ كُفْرًا عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ ، وَلَا فِي دَلِيلِ
التَّحْقِيقِ .
وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا
اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ صَحَّ نِفَاقُهُ وَخَلَصَ ، وَإِذَا كَانَ
مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ كَانَتْ فِيهِ مِنْ النِّفَاقِ خَصْلَةٌ ، وَخَصْلَةٌ مِنْ
النِّفَاقِ نِفَاقٌ ، وَعُقْدَةٌ مِنْ الْكُفْرِ كُفْرٌ ، وَعَلَيْهِ يَشْهَدُ
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَالَ فِيهِ مِنْ نَكْثِهِ لِعَهْدِهِ ، وَغَدْرِهِ
الْمُوجِبِ لَهُ حُكْمَ النِّفَاقِ ؛ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّ ذَلِكَ إنَّمَا
هُوَ لِمَنْ يُحَدِّثُ بِحَدِيثٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُ ، وَيَعْهَدُ بِعَهْدٍ لَا
يَعْتَقِدُ الْوَفَاءَ بِهِ ، وَيَنْتَظِرُ الْأَمَانَةَ لِلْخِيَانَةِ فِيهَا .
وَتَعَلَّقُوا فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِحَدِيثٍ
خَرَّجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ سَلْمَانَ قَالَ : { دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مِنْ خِلَالِ
الْمُنَافِقِينَ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ،
وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ .
فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَقِيلَيْنِ ، فَلَقِيَهُمَا عَلِيٌّ فَقَالَ لَهُمَا : مَالِي
أَرَاكُمَا ثَقِيلَيْنِ ؟ قَالَا : حَدِيثًا سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُول اللَّه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِنْ خِلَالِ الْمُنَافِقِينَ إذَا حَدَّثَ
كَذَبَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ
، وَإِذَا
وَعَدَ أَخْلَفَ .
فَقَالَ عَلِيٌّ : أَفَلَا سَأَلْتُمَاهُ ؟ فَقَالَا :
هِبْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالَ : لَكِنِّي سَأَسْأَلُهُ .
فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَهُمَا ثَقِيلَانِ ، ثُمَّ
ذَكَرَ مَا قَالَا : فَقَالَ : قَدْ حَدَّثْتَهُمَا ، وَلَمْ أَضَعْهُ عَلَى
الْمَوْضِعِ الَّذِي يَضَعُونَهُ ، وَلَكِنَّ الْمُنَافِقَ إذَا حَدَّثَ وَهُوَ
يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَكْذِبُ ، وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ
أَنَّهُ يَخْلُفُ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ وَهُوَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنَّهُ يَخُونُ } .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذَا لَيْسَ بِمُمْتَنِعٍ
لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ضَعْفُ سَنَدِهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الدَّلِيلَ الْوَاضِحَ قَدْ قَامَ
عَلَى أَنَّ مُتَعَمِّدَ هَذِهِ الْخِصَالِ لَا يَكُونُ كَافِرًا ، وَإِنَّمَا
يَكُونُ كَافِرًا بِاعْتِقَادٍ يَعُودُ إلَى الْجَهْلِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ
أَوْ التَّكْذِيبِ لَهُ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إنَّمَا ذَلِكَ مَخْصُوصٌ
بِالْمُنَافِقِينَ زَمَانَ رَسُولِ اللَّهِ .
أَفَادَنِي أَبُو بَكْرٍ الْفِهْرِيُّ بِالْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى : { أَنَّ مُقَاتِلَ بْنَ حَيَّانَ قَالَ خَرَجْت زَمَانَ الْحَجَّاجِ
بْنِ يُوسُفَ ، فَلَمَّا كُنْت بِالرَّيِّ أُخْبِرْت أَنَّ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ
بِهَا مُخْتَفٍ مِنْ الْحَجَّاجِ ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ ، فَإِذَا هُوَ فِي نَاسٍ
مِنْ أَهْلِ وُدِّهِ .
قَالَ : فَجَلَسْت حَتَّى تَفَرَّقُوا .
ثُمَّ قُلْت : إنَّ لِي وَاَللَّهِ مَسْأَلَةً قَدْ
أَفْسَدَتْ عَلَيَّ عَيْشِي .
فَفَزِعَ سَعِيدٌ ، ثُمَّ قَالَ : هَاتِ .
فَقُلْت :
بَلَغَنَا أَنَّ الْحَسَنَ وَمَكْحُولًا وَهُمَا مَنْ
قَدْ عَلِمْت فِي فَضْلِهِمَا وَفِقْهِهِمَا فِيمَا يَرْوِيَانِ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ
فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ ، وَإِنْ صَلَّى وَصَامَ ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ : إذَا حَدَّثَ
كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ .
وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ
ثُلُثُ النِّفَاقِ .
وَظَنَنْت أَنِّي لَا أَسْلَمُ مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ
بَعْضِهِنَّ ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ
النَّاسِ .
قَالَ : فَضَحِكَ سَعِيدٌ ، وَقَالَ : هَمَّنِي
وَاَللَّهِ مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلُ الَّذِي أَهَمَّكَ .
فَأَتَيْت ابْنَ عُمَرَ وَابْنَ عَبَّاسٍ فَقَصَصْت
عَلَيْهِمَا مَا قَصَصْتَ عَلَيَّ ، فَضَحِكَا وَقَالَا : هَمَّنَا وَاَللَّهِ
مِنْ الْحَدِيثِ مِثْلُ الَّذِي أَهَمَّكَ .
فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ،
إنَّك قَدْ قُلْت : ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ ، وَإِنْ صَامَ
وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ : مَنْ إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ
أَخْلَفَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ
فَفِيهِ ثُلُثُ النِّفَاقِ ، فَظَنَنَّا أَنَّا لَمْ نَسْلَمْ مِنْهُنَّ أَوْ مِنْ
بَعْضِهِنَّ وَلَنْ يَسْلَمَ مِنْهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ .
قَالَ : فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَا لَكُمْ وَلَهُنَّ ؟ إنَّمَا خَصَصْت بِهِ
الْمُنَافِقِينَ ، كَمَا خَصَّهُمْ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ .
أَمَّا قَوْلِي : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ فَذَلِكَ قَوْلُ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ } لَا يَرَوْنَ
نُبُوَّتَكَ فِي قُلُوبِهِمْ ، أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : فَقُلْنَا : لَا .
قَالَ : فَلَا عَلَيْكُمْ ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ
بُرَآءُ .
وَأَمَّا قَوْلِي : إذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، فَذَلِكَ
فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } إلَى : يَكْذِبُونَ
.
أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قَالَ : فَقُلْنَا : لَا ،
وَاَللَّهِ لَوْ عَاهَدْنَا اللَّهَ عَلَى شَيْءٍ لَوَفَّيْنَا بِعَهْدِهِ .
قَالَ : فَلَا عَلَيْكُمْ ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ
بُرَآءُ .
وَأَمَّا قَوْلِي : إذَا ائْتُمِنَ خَانَ ، فَذَلِكَ
فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ } إلَى : { جَهُولًا } .
فَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُؤْتَمَنٌ عَلَى دِينِهِ ،
وَالْمُؤْمِنُ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ،
وَيَصُومُ وَيُصَلِّي فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَالْمُنَافِقُ لَا
يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْعَلَانِيَةِ ،
أَفَأَنْتُمْ كَذَلِكَ ؟ قُلْنَا : لَا .
قَالَ : فَلَا عَلَيْكُمْ ، أَنْتُمْ مِنْ ذَلِكَ
بُرَآءُ .
قَالَ :
ثُمَّ خَرَجْت مِنْ عِنْدِهِ فَقَضَيْت مَنَاسِكِي ،
ثُمَّ مَرَرْت بِالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، فَقُلْت لَهُ :
حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْك .
قَالَ : وَمَا هُوَ ؟ قُلْت : مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ
مُنَافِقٌ .
قَالَ : فَحَدَّثَنِي بِالْحَدِيثِ .
قَالَ : فَقُلْت : أَعْنَدَك فِيهِ شَيْءٌ غَيْرُ هَذَا
؟ قَالَ : لَا .
قُلْت :
أَلَا أُحَدِّثُك حَدِيثًا حَدَّثَنِي بِهِ سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ ، فَحَدَّثْته بِهِ ، فَتَعَجَّبَ مِنْهُ ، وَقَالَ : إنْ لَقِينَا
سَعِيدًا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ ، وَإِلَّا قَبِلْنَاك .
} قَالَ الْقَاضِي : هَذَا حَدِيثٌ مَجْهُولُ
الْإِسْنَادِ ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَفِيهِ نَحْوٌ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ
تَخْصِيصُهُ مِنْ عُمُومِهِ ، وَتَحْقِيقُهُ بِصِفَتِهِ ، أَمَّا قَوْلُهُ : {
إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّك لَرَسُولُ اللَّهِ } الْآيَةَ
، فَإِنَّهُ كَذِبٌ فِي الِاعْتِقَادِ ، وَهُوَ كُفْرٌ مَحْضٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ
لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } فَهِيَ الْآيَةُ الَّتِي نَتَكَلَّمُ فِيهَا
الْآنَ ، وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَصْحَبَهَا الِاعْتِقَادُ ،
بِخِلَافِ مَا عَاهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَهْدِ .
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِنِيَّةِ الْوَفَاءِ حِينَ
الْعَهْدِ ، وَطَرَأَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ تَحْصِيلِ الْمَالِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ
عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ } .
وَقَوْلُهُ فِيهِ : إنَّ الْمُؤْمِنَ يُصَلِّي فِي
السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ كَذَلِكَ ، فَقَدْ يَتْرُكُ
الصَّلَاةَ وَالْغُسْلَ تَكَاسُلًا إذَا أَسَرَّ ، وَيَفْعَلُهَا رِيَاءً إذَا
جَهَرَ وَلَا يُكَذِّبُ بِهِمَا ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّوْمِ مِثْلُهُ ، وَلَا
يَكُونُ مُنَافِقًا بِذَلِكَ ، لِمَا بَيَّنَّاهُ مِنْ أَنَّ الْمُنَافِقَ مَنْ
أَسَرَّ الْكُفْرَ ، وَالْعَاصِي مَنْ آثَرَ الرَّاحَةَ ، وَتَثَاقَلَ فِي
الْعِبَادَةِ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : هَذَا فِيمَنْ كَانَ الْغَالِبُ
عَلَيْهِ هَذِهِ الْخِصَالَ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ لَوْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ
الْمَعَاصِي مَا كَانَ بِهَا كَافِرًا مَا لَمْ
تُؤَثِّرْ فِي الِاعْتِقَادِ .
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّ الْبُخَارِيَّ رَوَى عَنْ
حُذَيْفَةَ أَنَّ النِّفَاقَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا الْيَوْمَ فَإِنَّمَا هُوَ الْكُفْرُ بَعْدَ
الْإِيمَانِ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ أَحَدًا لَا يُعْلَمُ مِنْهُ هَذَا ، كَمَا كَانَ
فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُهُ مِنْهُ
النَّبِيُّ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ دُونَ تَأْخِيرٍ ، فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ
مِنْ أَحَدٍ فِي زَمَانِنَا فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ : { مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ
فَقَدْ كَفَرَ ، وَأَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مِنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ } .
وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ
: إنَّ أُخُوَّةَ يُوسُفَ عَاهَدُوا أَبَاهُمْ فَأَخْلَفُوهُ ، وَحَدَّثُوهُ
فَكَذَّبُوهُ ، وَائْتَمَنَهُمْ عَلَيْهِ فَخَانُوهُ ، وَمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ .
وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْمُشْكِلَيْنِ .
تَحْقِيقُهُ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ
الْبَصْرِيَّ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ قَالَ : النِّفَاقُ نِفَاقَانِ :
نِفَاقُ الْكَذِبِ ، وَنِفَاقُ الْعَمَلِ ، فَأَمَّا نِفَاقُ الْكَذِبِ فَكَانَ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَّا نِفَاقُ
الْعَمَلِ فَلَا يَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { إلَى
يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الضَّمِيرَ
عَائِدٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى النِّفَاقِ .
عَبَّرَ عَنْهُ بِجَزَائِهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ :
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَ جَزَاءَهُ .
وَعَلَى ذِكْرِ هَذِهِ الْآيَةِ أُنَبِّئُكُمْ أَنِّي
كُنْت بِمَجْلِسِ الْوَزِيرِ الْعَادِلِ أَبِي مَنْصُورِ بْنِ حُمَيْرٍ عَلَى
رُتْبَةِ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ " تَرْتِيبِ الرِّحْلَةِ لِلتَّرْغِيبِ
فِي الْمِلَّةِ " ، فَقَرَأَ
الْقَارِئُ : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ } وَكُنْت فِي الصَّفِّ الثَّانِي مِنْ
الْحَلْقَةِ ، فَظَهَرَ أَبُو الْوَفَاءِ عَلِيُّ بْنُ عَقِيلٍ إمَامُ
الْحَنْبَلِيَّةِ بِهَا ، وَكَانَ مُعْتَزِلِيَّ الْأُصُولِ ، فَلَمَّا سَمِعْت
الْآيَةَ قُلْت لِصَاحِبٍ لِي كَانَ يَجْلِسُ عَلَى يَسَارِي : هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ
عَلَى رُؤْيَةِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ : "
لَقِيت فُلَانًا " إلَّا إذَا رَأَتْهُ .
فَصَرَفَ وَجْهَهُ أَبُو الْوَفَاءِ الْمَذْكُورُ
إلَيْنَا مُسْرِعًا ، وَقَالَ : تَنْتَصِرُ لِمَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ فِي أَنَّ [
اللَّهَ ] لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ ، فَقَدْ قَالَ : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا
فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } .
وَعِنْدَك أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَرَوْنَ اللَّهَ
فِي الْآخِرَةِ ، وَقَدْ شَرَحْنَا وَجْهَ الْآيَتَيْنِ فِي الْمُشْكِلَيْنِ ،
وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ : فَأَعْقَبَهُمْ هُوَ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ
يَلْقَوْنَهُ ، فَيَحْتَمِلُ عَوْدُ ضَمِيرِ " يَلْقَوْنَهُ " إلَى
ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي أَعْقَبَهُمْ الْمُقَدَّرُ بِقَوْلِنَا هُوَ ،
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ إلَى النِّفَاقِ مَجَازًا عَلَى تَقْدِيرِ الْجَزَاءِ
كَمَا بَيَّنَّاهُ .
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : قَوْله تَعَالَى { بِمَا
أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } : يُرِيدُ بِهِ
تَحْرِيمَ مُخَالَفَةِ الْعَهْدِ وَنَكْثِ الْعَهْدِ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ حَالُهُ .
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ : لَمَّا خَلَعَ
أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ
وَوَلَدَهُ ، فَقَالَ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَقُولُ : { يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ،
وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ
رَسُولِهِ ؛ وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ
عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَبَيْعَةِ رَسُولِهِ ، ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ الْقِتَالُ ،
وَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ ، وَلَا بَايَعَ فِي هَذَا
الْأَمْرِ إلَّا كَانَتْ الْفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ .
وَقَالَ ابْنُ خَيَّاطٍ : إنَّ بَيْعَةَ عَبْدِ اللَّهِ
لِيَزِيدَ كَانَتْ كُرْهًا ، وَأَيْنَ يَزِيدُ مِنْ ابْنِ عُمَرَ ، وَلَكِنْ رَأَى
بِدِينِهِ وَعِلْمِهِ التَّسْلِيمَ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالْفِرَارَ عَنْ
التَّعَرُّضِ لِفِتْنَةٍ فِيهَا مِنْ ذَهَابِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ مَا لَا
يَفِي بِخَلْعِ يَزِيدَ .
وَلَوْ تَحَقَّقَ أَنَّ الْأَمْرَ يَعُودُ بَعْدَهُ فِي
نِصَابِهِ ، فَكَيْفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ ؟ وَهَذَا أَصْلٌ عَظِيمٌ
فَتَفَهَّمُوهُ وَالْتَزِمُوهُ تَرْشُدُوا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { لَئِنْ
آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } : دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَنْ قَالَ :
إنْ مَلَكْت كَذَا فَهُوَ صَدَقَةٌ ، أَوْ عَلَيَّ صَدَقَةٌ ، إنَّهُ يَلْزَمُهُ ؛
وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ،
وَالْخِلَافُ فِي الطَّلَاقِ مِثْلُهُ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِتْقِ ، إلَّا أَنَّ
أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ : إنَّهُ يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي الْعِتْقِ ، وَلَا
يَلْزَمُ فِي الطَّلَاقِ .
وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَتَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا طَلَاقَ قَبْلَ نِكَاحٍ ، وَلَا نَذْرَ فِيمَا لَا
يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } .
وَسَرَدَ أَصْحَابُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَحَادِيثَ
كَثِيرَةً لَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا ، فَلَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ
يَبْقَ إلَّا ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَالْمَعَانِي مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَنَا .
وَقَدْ حَقَّقْنَا الْمَسْأَلَةَ بِطُرُقِهَا فِي
كِتَابِ التَّخْلِيصِ .
وَأَمَّا أَحْمَدُ فَزَعَمَ أَنَّ الْعِتْقَ قُرْبَةٌ ،
وَهِيَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِالنَّذْرِ ، بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ
تَصَرُّفٌ فِي مَحَلِّهِ ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ .
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنْ كَانَ الطَّلَاقُ لَا يَثْبُتُ فِي
الذِّمَّةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ يَنْعَقِدُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ إذَا صَادَفَ
مَحَلًّا ، وَرَبَطَهُ بِمِلْكٍ ، كَمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ : إنْ
دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، فَإِنَّ الْقَوْلَ يَنْعَقِدُ وَيَصِحُّ
وَيَلْزَمُ ، وَإِذَا دَخَلَتْ الدَّارَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْقَوْلِ السَّابِقِ
لَهُ ، اللَّازِمُ الْمُنْعَقِدُ ، الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ صَحِيحٍ تَصِحُّ
إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَيْهِ ، وَهِيَ الزَّوْجَةُ ؛ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا
: إذَا تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَإِذَا مَلَكْت هَذَا الْعَبْدَ فَهُوَ
حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّصَرُّفَ إلَى مَحَلِّهِ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ
وُقُوعُهُ فِيهِ ؛ فَيَلْزَمُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : إذَا دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إذَا دَخَلْت الدَّارَ
فَأَنْتَ
حُرٌّ
.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ : قَوْله تَعَالَى {
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } : حِيلَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ، وَصَرَّحَ بِنِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ ؛
فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ صَدَقَاتُهُمْ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِيمَانِ شَرْطٌ
لِقَبُولِ الصَّدَقَةِ وَالصَّلَاةِ وَسَائِرِ الْأَعْمَالِ ؛ وَلِذَلِكَ لَمْ
يَقْبَلْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا أَبُو
بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ وَلَا عُثْمَانُ ؛ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِلْمِهِ بِسَرِيرَتِهِ ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى
بُنَيَّاتِ صَدْرِهِ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ : { وَلَا
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : سَبَبُ
نُزُولِهَا : ثَبَتَ فِي الصِّحَاحِ وَالْمُصَنَّفَاتِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ قَالَ
: { سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ : لَمَّا
تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ
الصَّلَاةَ تَحَوَّلْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي صَدْرِهِ ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ : أَعَلَى عَدُوِّ اللَّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْقَائِلِ كَذَا
يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يُعَدِّدُ عَلَيْهِ آثَامَهُ قَالَ : وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ ، حَتَّى إذَا أَكْثَرْت عَلَيْهِ قَالَ : أَخِّرْ
عَنِّي يَا عُمَرُ ، إنِّي خُيِّرْت فَاخْتَرْت ، قَدْ قِيلَ لِي : { اسْتَغْفِرْ
لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ
} .
لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ
غُفِرَ لَهُ لَزِدْت .
قَالَ :
ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ، وَمَشَى مَعَهُ ، فَقَامَ عَلَى
قَبْرِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْهُ قَالَ : فَعَجِبْت لِي وَلِجَرَاءَتِي عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ .
قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا كَانَ إلَّا يَسِيرًا حَتَّى
نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ : { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ } إلَى آخَرِ
الْآيَتَيْنِ .
قَالَ : فَمَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدُ عَلَى مُنَافِقٍ ، وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ ، حَتَّى
قَبَضَهُ اللَّهُ } .
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : {
جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ مَاتَ أَبُوهُ ، فَقَالَ : أَعْطِنِي قَمِيصَك
أُكَفِّنْهُ فِيهِ ، وَصَلِّ عَلَيْهِ ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُ .
فَأَعْطَاهُ قَمِيصَهُ ، وَقَالَ : إذَا فَرَغْتُمْ فَآذِنُونِي فَلَمَّا
أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ جَذَبَهُ عُمَرُ ، وَقَالَ :
أَلَيْسَ قَدْ نَهَى اللَّهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى
الْمُنَافِقِينَ ؟ فَقَالَ : أَنَا بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ .
فَصَلَّى عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { وَلَا تُصَلِّ
عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ } فَتَرَكَ
الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
قَوْلِهِ : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } هَلْ هُوَ إيَاسٌ
أَوْ تَخْيِيرٌ ؟ فَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ إيَاسٌ بِدَلِيلِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ قَالَ : { فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } .
الثَّانِي
: أَنَّهُ قَالَ : إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ مُبَالَغَةً ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ : لَوْ
سَأَلْتنِي مِائَةَ مَرَّةٍ مَا أَجَبْتُك .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : {
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ } وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ
بَعْدَ الزِّيَادَةِ عَلَى السَّبْعِينَ ، وَحَيْثُ تُوجَدُ الْعِلَّةُ يُوجَدُ
الْحُكْمُ .
وَقَالَ قَوْمٌ : هُوَ تَخْيِيرٌ مِنْ اللَّهِ
لِنَبِيِّهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعُمَرَ : { إنِّي خُيِّرْت فَاخْتَرْت ؛ قَدْ قِيلَ لِي : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ
أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنَّ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي لَوْ زِدْت عَلَى السَّبْعِينَ
غُفِرَ لَهُ لَزِدْت } .
وَهَذَا أَقْوَى ؛ لِأَنَّ هَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ صَحِيحٌ
مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّخْيِيرِ ، وَتِلْكَ
اسْتِنْبَاطَاتٌ ، وَالنَّصُّ الصَّرِيحُ أَقْوَى مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ .
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ قَالَ : { فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } فَهَذَا فِي السَّبْعِينَ ، وَلَيْسَ مَا وَرَاءَ
السَّبْعِينَ كَالسَّبْعِينَ ، لَا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ ؛
أَمَّا مِنْ دَلِيلِ الْخِطَابِ فَإِنَّ دَلِيلَ الْخِطَابِ لَا يَكُونُ فِي
الْأَسْمَاءِ ؛ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الصِّفَاتِ ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي
أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَرَدَدْنَاهُ عَلَى الدَّقَّاقِ مِنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ الَّذِي يَجْعَلُهُ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ ، وَهُوَ خَطَأٌ
صِرَاحٌ وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ دَلِيلِ الْخِطَابِ فَظَاهِرٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ
الْحُكْمَ إذَا عُلِّقَ عَلَى اسْمٍ عَلَمٍ بَقِيَ غَيْرُهُ خَالِيًا عَنْ ذَلِكَ
الْحُكْمِ ، فَيُطْلَبُ الْحُكْمُ فِيهِ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ .
وَأَمَّا
قَوْلُهُمْ : إنَّهَا مُبَالَغَةٌ فَدَعْوَى .
وَلَعَلَّهُ تَقْدِيرٌ لِمَعْنَى ، حَتَّى لَقَدْ قَالَ
[ فِي ] ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرِ بْنُ فُورَكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ
التَّعْدِيلَ فِي الْخَمْسَةِ ؛ لِأَنَّهَا نِصْفُ الْعَقْدِ ، وَزِيَادَةُ
الْوَاحِدَةِ أَدْنَى الْمُبَالَغَةِ ، وَزِيَادَةُ الِاثْنَيْنِ لِأَقْصَى
الْمُبَالَغَةِ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسَدُ سَبْعًا ، عِبَارَةٌ عَنْ غَايَةِ
الْقُوَّةِ ، وَفِي الْأَمْثَالِ : أَخَذَهُ أَخْذَةَ سَبْعَةٍ أَيْ : غَايَةَ
الْأَخْذِ ، عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ ، وَهَذَا تَحَكُّمٌ ؛ إذْ يَحْتَمِلُ
أَنْ يَقُولَ : إنَّ الِاثْنَيْنِ أَوْسَطُ الْمُبَالَغَةِ ، وَالثَّلَاثَةُ
نِهَايَتُهَا ، وَذَلِكَ فِي الثَّمَانِيَةِ ، وَمِنْهُ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ
لِمَنْ بَالَغَ فِي عِوَضِ السِّلْعَةِ : أَثَمَنْتَ .
أَيْ : بَلَغْتَ الْغَايَةَ فِي الثَّمَنِ ، وَهَذِهِ
التَّحَكُّمَاتُ لَا قُوَّةَ فِيهَا ، وَالِاشْتِقَاقَاتُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا ؛
وَإِنَّمَا هِيَ مُلِحَّةٌ ، فَإِذَا عَضَّدَهَا الدَّلِيلُ كَانَتْ صَحِيحَةً .
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّهُ عَلَّلَهُ بِالْكُفْرِ ،
وَذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ السَّبْعِينَ ، وَالْكَافِرُ لَا يُغْفَرُ لَهُ .
قُلْنَا :
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ بَعْدَ السَّبْعِينَ
، فَيُقَالُ لَهُ : هَذَا الْحُكْمُ مِنْ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ إنَّمَا كَانَ
مُعَلَّقًا بِالسَّبْعِينَ ، وَالزِّيَادَةُ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ بِهِ ، كَمَا
تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ، وَإِنَّمَا عُلِمَ عَدَمُ الْمَغْفِرَةِ فِي الْكَافِرِ
بِدَلِيلٍ آخَرَ ، وَرَدَ مِنْ طُرُقٍ ، مِنْهَا قَوْلُهُ : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْت
لَهُمْ } الْآيَةَ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي إعْطَاءِ الْقَمِيصِ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : رُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ
إذْ طَلَبَ الْقَمِيصَ كَانَ عَلَى النَّبِيِّ قَمِيصَانِ قَالَ : أَعْطِهِ
الَّذِي يَلِي جِلْدَك } .
وَقَالُوا : { إنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ قَمِيصَهُ
مُكَافَأَةً عَلَى إعْطَائِهِ قَمِيصَهُ يَوْمَ بَدْرٍ لِلْعَبَّاسِ ، فَإِنَّهُ
لَمَا أُسِرَ وَاسْتُلِبَ ثَوْبُهُ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَذَلِكَ ، فَأَشْفَقَ ، وَطَلَبَ لَهُ قَمِيصًا ، فَمَا وَجَدَ لَهُ
فِي الْجُمْلَةِ قَمِيصًا يُقَادِرُهُ إلَّا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ ،
لِتَقَارُبِهِمَا فِي طُولِ الْقَامَةِ ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعْطَائِهِ الْقَمِيصَ أَنْ تَرْتَفِعَ الْيَدُ عَنْهُ فِي
الدُّنْيَا ، حَتَّى لَا يَلْقَاهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَهُ عِنْدَهُ يَدٌ
يُكَافِئُهُ بِهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَلَا
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ
} الْآيَةَ : نَصٌّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الصَّلَاةِ
عَلَى الْكُفَّارِ ، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ .
وَقَدْ وَهَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَقَالَ : إنَّ
الصَّلَاةَ عَلَى الْجِنَازَةِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ :
{ وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } فَنَهَى اللَّهُ عَنْ
الصَّلَاةِ عَلَى الْكُفَّارِ ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ،
وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَظِيمَةٌ ؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ
أَضْدَادِهِ كُلِّهَا عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَفْظًا ، وَبِاتِّفَاقِهِمْ
مَعْنًى .
فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَقَدْ اتَّفَقُوا
فِي الْوَجْهَيْنِ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ لَفْظًا أَوْ
مَعْنًى ، وَلَيْسَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ضِدًّا مَخْصُوصًا
لِلصَّلَاةِ عَلَى الْكَافِرِينَ ؛ بَلْ كُلُّ طَاعَةٍ ضِدٌّ لَهَا ، فَلَا
يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ تَخْصِيصُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ دُونَ سَائِرِ
الْأَضْدَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : صَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنِ أَبِي اُخْتُلِفَ فِيهَا عَلَى ثَلَاثَةِ
أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ خُيِّرَ فَاخْتَارَ .
الثَّانِي :
مَا رُوِيَ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مُرَاعَاةً لِوَلَدِهِ
، وَعَوْنًا لَهُ عَلَى صِحَّةِ إيمَانِهِ ، إينَاسًا لَهُ وَتَأْلِيفًا
لِقَوْمِهِ ؛ فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْلَمَ مِنْ الْخَزْرَجِ أَلْفُ رَجُلٍ } .
الثَّالِثُ :
مَا رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ قَالَ : { دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ ، فَقَالَ : قَدْ كُنْت أَسْمَعُ
قَوْلَك ، فَامْنُنْ عَلَيَّ الْيَوْمَ ، وَكَفِّنِّي بِقَمِيصِك ، وَصَلِّ
عَلَيَّ .
فَكَفَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ بِقَمِيصِهِ ، وَصَلَّى
عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ
صَلَاةٍ هِيَ ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لَمْ يُخَادِعْ إنْسَانًا قَطُّ .
قَالَ عِكْرِمَةُ : غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ كَلِمَةً حَسَنَةً قَالَ الْمُشْرِكُونَ : إنَّا مَنَعْنَا
مُحَمَّدًا أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ، وَإِنَّا نَأْذَنُ لَك .
فَقَالَ : لَا ، لِي فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ .
} قَالَ الْقَاضِي : وَاتِّبَاعُ الْقُرْآنِ أَوْلَى فِي
قَوْله تَعَالَى : { إنَّهُمْ كَفَرُوا بِاَللَّهِ } الْآيَةَ .
فَأَخْبَرَ عَنْهُ بِالْكُفْرِ وَالْمَوْتِ عَلَى
الْفِسْقِ .
وَهَذَا عُمُومٌ فِي الَّذِي نَزَلَتْ الْآيَةُ
بِسَبَبِهِ ، وَفِي كُلِّ مُنَافِقٍ مِثْلِهِ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
{ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا
يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاَللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ
إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا
وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ
نُزُولِهَا : فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : نَزَلَتْ فِي الْعِرْبَاضِ
بْنِ سَارِيَةَ .
الثَّانِي : نَزَلَتْ فِي بَنِي مُقَرِّنٍ مِنْ
مُزَيْنَةَ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ
.
الثَّالِثُ : نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
الْأَزْرَقِ ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى
.
الرَّابِعُ : نَزَلَتْ فِي سَبْعَةٍ مِنْ قَبَائِلَ
شَتَّى ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ .
الْخَامِسُ : فِي أَبِي مُوسَى ، وَأَصْحَابِهِ ؛
قَالَهُ الْحَسَنُ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ .
ثَبَتَ أَنَّ { أَبَا مُوسَى قَالَ : أَتَيْنَا
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ
، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ ، فَأَبَى أَنْ يَحْمِلَنَا ، فَاسْتَحْمَلْنَاهُ فَحَلَفَ
أَلَّا يَحْمِلَنَا ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ النَّبِيُّ أَنْ أَتَى بِنَهْبِ إبِلٍ ،
فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ ، فَلَمَّا قَبَضْنَاهَا قُلْنَا : تَغَفَّلْنَا
النَّبِيَّ يَمِينَهُ ، لَا نُفْلِحُ بَعْدَهَا أَبَدًا ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ :
يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّكَ حَلَفْت أَلَّا تَحْمِلَنَا ، وَقَدْ حَمَّلْتَنَا .
قَالَ : أَجَلْ ، وَلَكِنِّي لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ
فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إلَّا أَتَيْت الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمَعْنَى : إنَّ
اللَّهَ لَمَا اسْتَنْفَرَهُمْ لِغَزْوِ الرُّومِ ، وَدَعَاهُمْ إلَى الْخُرُوجِ
لِغَزْوَةِ تَبُوكَ بَادَرَ الْمُخْلِصُونَ ، وَتَوَقَّفَ الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُتَثَاقِلُونَ ، وَجَعَلُوا يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّخَلُّفِ ، وَيَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ بِأَعْذَارٍ
مِنْهَا كُفْرٌ ، كَقَوْلِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ : ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي
بِبَنَاتِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؛ فَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَى الصَّبْرِ عَنْهُنَّ ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا
تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } .
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : { لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ
قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ } .
وَقَالَ فِي أَهْلِ الْعُذْرِ الصَّحِيحِ : { لَيْسَ
عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى } إلَى : { مِنْ سَبِيلٍ } .
وَهُمْ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي حَالِهِمْ ، وَكَشَفُوا
عَنْ عُذْرِهِمْ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الَّتِي بَيَّنَ اللَّهُ فِي
قَوْلِهِ : { وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ } .
فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّاسَ
ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : صِنْفٌ مُعَذَّرٌ ، وَهُوَ الْمُقَصِّرُ .
وَصِنْفٌ ذُو عُذْرٍ .
وَصِنْفٌ لَمْ يَعْتَذِرْ بِعُذْرِهِ ، وَلَا أَظْهَرَ
شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ ، بَلْ أَعْرَضَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، يُقَالُ : عُذِّرَ
الرَّجُلُ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ : إذَا قَصَّرَ ، وَأَعْذَرَ إذَا أَبَانَ عَنْ
عُذْرِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَدْخُلُ عَلَى صَاحِبِهِ .
وَقَدْ قُرِئَ الْمُعْذِرُونَ بِإِسْكَانِ الْعَيْنِ ،
وَتَخْفِيفِ الذَّالِ ، وَبِذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ ؛ لَكِنْ
يَكْشِفُ الْمَعْنَى فِيهِ حَقِيقَةُ الْحَالِ مِنْهُ ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } وَهُمْ
الَّذِينَ أَبْدَوْا عَنْ عُذْرٍ صَحِيحٍ ، أَوْ عَلِمَ اللَّهُ صِدْقَ عُذْرِهِمْ
فِيمَا لَمْ يَبْدُ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ مِنْ حَالِهِمْ .
وَالْعَجَبُ مِنْ الْقَاضِي أَبِي إِسْحَاقَ يَقُولُ :
إنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ :
وَأَنَّهُمْ مَذْمُومُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا
لِيُؤْذَنَ لَهُمْ ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ الضُّعَفَاءِ أَوْ الْمَرْضَى لَمْ
يَحْتَاجُوا أَنْ يَسْتَأْذِنُوا ؛ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ؛ بَلْ كُلُّ
أَحَدٍ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعْلِمُهُ
بِحَالِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَرْئِيًّا فَالْعِيَانُ شَاهِدٌ لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ
كَانَ غَيْرَ مَرْئِيٍّ مِثْلَ عَجْزِ الْبَدَنِ وَقِلَّةِ الْمَالِ ، فَاَللَّهُ
شَهِيدٌ بِهِ ، وَهُوَ أَعْدَلُ الشَّاهِدِينَ ، يُلْقِي الْيَقِينَ عَلَى
رَسُولِهِ بِصِدْقِ عُذْرِ الْمُعْتَذِرِينَ إلَيْهِ ، وَيَخْلُقُ لَهُ الْقَبُولَ
فِي قَلْبِهِ لَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْله تَعَالَى { مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } : يُرِيدُ مِنْ طَرِيقٍ إلَى الْعُقُوبَةِ عَلَى
فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إحْسَانٌ فِي نَفْسِهِ ، وَالْحَسَنُ مَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ
الشَّرْعُ ، وَالْقَبِيحُ مَا نَهَى عَنْهُ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ هَاهُنَا
وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : هَذَا عُمُومٌ مُمَهَّدٌ
فِي الشَّرِيعَةِ ، أَصْلٌ فِي رَفْعِ الْعِقَابِ وَالْعِتَابِ عَنْ كُلِّ
مُحْسِنٍ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي الَّذِي يَقْتَصُّ مِنْ قَاطِعِ
يَدِهِ فَيُفْضِي ذَلِكَ بِالسِّرَايَةِ إلَى إتْلَافِ نَفْسِهِ ، فَقَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ
.
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : لَا دِيَةَ عَلَيْهِ
؛ لِأَنَّهُ مُحْسِنٌ فِي اقْتِصَاصِهِ مِنْ الْمُعْتَدِي عَلَيْهِ ، فَلَا
سَبِيلَ إلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا صَالَ فَحَلَّ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ
فِي دَفْعِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ؛ وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ لِمَالِكِهِ
قِيمَتُهُ ، وَكَذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا .
وَقَدْ أَوْمَأْنَا إلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ ، وَقَرَّرْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَلَا
عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لَا أَجِدُ مَا
أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } : أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَى قَبُولِ عُذْرِ الْمُعْتَذِرِ
بِالْحَاجَةِ وَالْفَقْرِ عَنْ التَّخَلُّفِ فِي الْجِهَادِ إذَا ظَهَرَ مِنْ
حَالِهِ صِدْقُ الرَّغْبَةِ ، مَعَ دَعْوَى الْمُعْجِزَةِ ، كَإِفَاضَةِ الْعَيْنِ
، وَتَغْيِيرِ الْهَيْئَةِ ؛ لِقَوْلِهِ : { تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ } الْآيَةَ ،
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْفَقِيرَ الْخُرُوجُ فِي الْغَزْوِ
وَالْجِهَادِ تَعْوِيلًا عَلَى النَّفَقَةِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ ، حَاشَا مَا
قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا دُونَ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ : إنَّ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ
عَادَةً لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَخَرَجَ عَلَى الْعَادَةِ ؛ وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ
إذَا لَمْ يَتَغَيَّرْ يَتَوَجَّهُ الْفَرْضُ عَلَيْهِ تَوَجُّهَهُ عَلَيْهِ ،
وَلَزِمَهُ أَدَاؤُهُ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا
رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : مِنْ قَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَا يُفِيدُ الْعِلْمَ
الضَّرُورِيَّ ، وَمِنْهَا مَا يَحْتَمِلُ التَّرْدِيدَ ؛ فَالْأَوَّلُ كَمَنْ
يَمُرُّ عَلَى دَارٍ قَدْ عَلَا فِيهَا النَّعْيُ ، وَخُمِشَتْ فِيهَا الْخُدُود ،
وَحُلِقَتْ الشُّعُورُ ، وَسَلَقَتْ الْأَصْوَاتُ ، وَخُرِقَتْ الْجُيُوبُ ،
وَنَادَوْا عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ بِالثُّبُورِ ، فَيُعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ .
وَأَمَّا الثَّانِي فَكَدُمُوعِ الْأَيْتَامِ عَلَى
أَبْوَابِ الْحُكَّامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ إخْوَةِ يُوسُفَ : {
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ } وَهُمْ الْكَاذِبُونَ ، وَجَاءُوا عَلَى
قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ، وَمَعَ هَذَا فَإِنَّهَا قَرَائِنُ يُسْتَدَلُّ بِهَا
فِي الْغَالِبِ ، وَتَنْبَنِي عَلَيْهَا الشَّهَادَةُ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ
بِنَاءً عَلَى ظَوَاهِرِ الْأَحْوَالِ وَغَالِبِهَا .
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
{ يَعْتَذِرُونَ إلَيْكُمْ إذَا رَجَعْتُمْ إلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ
نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : هَذِهِ
الْآيَةُ نَزَلَتْ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ هَاهُنَا ، وَنَزَلَتْ بَعْدَ
ذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ هَذَا بِآيَاتٍ ، فَأَمَّا هَذِهِ الَّتِي
أَعْقَبَتْ ذِكْرَ الْمُنَافِقِينَ فَمَعْنَاهَا التَّهْدِيدُ ، وَأَمَّا الْآيَةُ
الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ هَذَا فَمَعْنَاهَا الْأَمْرُ ، وَتَقْدِيرُهَا : اعْمَلُوا بِمَا
يُرْضِي اللَّهَ ، وَذَلِكَ أَنَّ النِّفَاقَ مَوْضِعُ تَرْهِيبٍ ، وَالْإِيمَانُ
مَحَلُّ تَرْغِيبٍ ، فَقُوبِلَ أَهْلُ كُلِّ مَحَلٍّ مِنْ الْخِطَابِ بِمَا
يَلِيقُ بِهِ ، كَمَا قِيلَ لِلْكُفَّارِ : اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ، عَلَى
مَعْنَى التَّهْدِيدِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } : الْبَارِي رَاءٍ مَرْئِيٌّ ، يَرَى
الْخَلْقَ ، وَيَرَوْنَهُ ، فَأَمَّا رُؤْيَتَهُمْ لَهُ فَفِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ ،
وَمِنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ لِلْخَلْقِ فَدَائِمَةٌ ،
فَهُوَ تَعَالَى يَعْلَمُ وَيَرَى
.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ : إنَّهُ
يَعْلَمُ وَلَا يَرَى ، وَمَتَى أُخْبِرَ عَنْهُ بِالرُّؤْيَةِ فَإِنَّهَا
رَاجِعَةٌ إلَى الْعِلْمِ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى
أَنَّهُ رَاءٍ بِرُؤْيَةٍ ، كَمَا أَنَّهُ عَالِمٌ بِعِلْمٍ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ
عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ ، وَخَبَرُهُ صَادِقٌ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ رَائِيًا
لَكَانَ مَئُوفًا ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا كَانَ مَئُوفًا ،
وَهُوَ الْمُتَقَدِّسُ عَنْ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ ، وَهَذِهِ الْعُمْدَةُ
الْعَقْلِيَّةُ لِعُلَمَائِنَا ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا
يَجِبُ لَهُ مِنْ صِفَتِهِ ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ نَعْتِهِ ،
فَلَزِمَنَا اعْتِقَادُهُ وَالْإِخْبَارُ بِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ }
: ذَكَرَهُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبَالِ ؛ لِأَنَّ
الْأَعْمَالَ مُسْتَقْبَلَةٌ ، وَالْبَارِي يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ قَبْلَ أَنْ
يَعْمَلَ ، وَيَرَاهُ إذَا عَمِلَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْجُودِ
وَالْمَعْدُومِ ، وَالرُّؤْيَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَوْجُودِ ، وَقَدْ
قَالَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، { عَنْ جِبْرِيلَ : مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك
تَرَاهُ ؛ فَإِنَّك إنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو
بَكْرٍ : قَوْلُهُ : { وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ } : مَعْنَاهُ يَجْعَلُهُ فِي
الظُّهُورِ مَحَلَّ مَا يَرَى .
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ مَالِكٍ فِي الْآيَةِ :
أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ : ابْنَ آدَمَ ، اعْمَلْ وَأَغْلِقْ عَلَيْك سَبْعِينَ
بَابًا ، يُخْرِجْ اللَّهُ عَمَلَكَ إلَى النَّاسِ .
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ ،
وَالْإِمَامُ مَالِكٌ ، إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا
يَتَعَلَّقُ بِرُؤْيَةِ النَّاسِ ، فَأَمَّا رُؤْيَةُ اللَّهِ فَإِنَّهَا
تَتَعَلَّقُ بِمَا يَسَّرَهُ ، كَمَا تَتَعَلَّقُ بِمَا يُظْهِرهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا
تُؤْثِرُ الْحُجُبَ فِي رُؤْيَتِهِ ، وَلَا تَمْنَعُ الْأَجْسَامَ عَنْ إدْرَاكِهِ .
وَفِي الْأَثَرِ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا عَبَدَ اللَّهَ فِي صَخْرَةٍ لَا بَابَ
لَهَا ، وَلَا كُوَّةَ لَأَخْرَجَ اللَّهُ عَمَلَهُ إلَى النَّاسِ كَائِنًا مَا
كَانَ ، وَاَللَّهُ يُطْلِعُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِ إخْوَانِهِمْ
مِنْ خَيْرٍ فَيُحِبُّونَهُ ، أَوْ شَرٍّ فَيَبْغَضُونَهُ } .
وَقَالَ اللَّهُ : { إذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدِي
شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا ، وَإِذَا تَقَرَّبَ إلَيَّ ذِرَاعًا
تَقَرَّبْت مِنْهُ بَاعًا ، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي آتَيْته أُهَرْوِلُ ، وَلَا
يَزَالُ الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا
أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ
بِهِ } .
وَفِي الصَّحِيحِ : { إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا
نَادَى فِي السَّمَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؛ إنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ ،
فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، ثُمَّ يُنَادِي جِبْرِيلُ : يَا مَلَائِكَةَ السَّمَاءِ ؛
إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ ، فَيُحِبُّهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ
؛ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ ، وَلَا أَرَاهُ فِي الْبُغْضِ
إلَّا مِثْلَ ذَلِكَ } .
إيضَاحٌ مُشْكِلٍ : قَوْلُهُ : " إذَا تَقَرَّبَ
الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْت مِنْهُ ذِرَاعًا مَثَلٌ ؛ لِأَنَّ الْبَارِئَ
سُبْحَانَهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْقُرْبُ بِالْمِسَاحَةِ ؛ وَإِنَّمَا قُرْبُهُ
بِالْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ لِلْجَمِيعِ ، وَبِالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ لِمَنْ
أَرَادَ ثَوَابَهُ .
وَقَوْلُهُ أَيْضًا : أَتَيْته أُهَرْوِلُ مِثْلُهُ فِي
التَّمْثِيلِ ، وَالْإِشَارَةُ بِهِ إلَى أَنَّ الثَّوَابَ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ
الْعَمَلِ ، فَضَرَبَ زِيَادَةَ الْأَفْعَالِ بَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْمُجَازَاةِ
عَلَى الْبَعْضِ مَثَلًا فِي زِيَادَةِ ثَوَابِهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ .
وَقَوْلُهُ : لَا يَزَالُ
الْعَبْدُ يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ ، إشَارَةٌ
إلَى أَنَّ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الْعَمَلِ تُوجِبُ مُوَاظَبَةَ الثَّوَابِ ،
وَتُطَهِّرُ الْمُوَاظَبَةُ الْأَعْضَاءَ عَنْ الْمَعَاصِي ؛ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ
الْجَوَارِحُ لِلَّهِ خَالِصَةً ؛ فَعَبَّرَ بِنَفْسِهِ تَعَالَى عَنْهَا
تَشْرِيفًا لَهَا حِينَ خَلَصَتْ مِنْ الْمَعَاصِي .
وَمِثْلُهُ النُّزُولُ ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ
إفَاضَةِ الْخَيْرِ وَنَشْرِ الرَّحْمَةِ .
.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَمَّا الْآيَةُ الْأُولَى
فِي الْمُنَافِقِينَ فَهِيَ عَلَى رَسْمِ التَّهْدِيدِ ، كَمَا بَيَّنَّاهُ ،
وَمَعْنَاهَا أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَعْتَقِدُونَ الْكُفْرَ ، وَيُظْهِرُونَ
أَعْمَالَ الْإِيمَانِ كَأَنَّهَا أَعْمَالُ بِرٍّ ، وَهِيَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ
بِغَيْرِ اعْتِقَادٍ وَلَا نِيَّةٍ ، فَاَللَّهُ يَرَاهَا كَذَلِكَ ، وَيُطْلِعُ
عَلَيْهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ ، فَأَمَّا اطِّلَاعُ رَسُولِهِ
فَبِعَيْنَيْهِ ، وَأَمَّا اطِّلَاعُ الْمُؤْمِنِينَ فَبِالْعَلَامَاتِ مِنْ
الْأَعْمَالِ وَالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الِاعْتِقَادِ ، وَذَلِكَ كَمَا
قَالَ : مَنْ أَسَرَّ سَرِيرَةً أَلْبَسَهُ اللَّهُ رِدَاءَهَا ، إنْ خَيْرًا
فَخَيْرٌ وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ
.
وَأَمَّا الْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا فَإِنَّ اللَّهَ يَرَاهُ
وَيَعْلَمُهُ ، فَيَعْلَمُهُ رَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي
تَقَدَّمَ ، وَنَرُدُّ الْعِلْمَيْنِ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ
فَنَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَمَوَاقِعِهَا .
أَمَّا الْمُنَافِقُ فَنَقْدَمُ إلَى عَمَلِهِ
فَنَجْعَلُهُ هَبَاءً مَنْثُورًا
.
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الَّذِي خَلَطَ فِي أَعْمَالِهِ
طَاعَةً بِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّهُ يُوَازِنُ بِهَا فِي الْكِفَّتَيْنِ ، فَمَا
رَجَحَ مِنْهَا عَلَى مِقْدَارِ عَمَلِهِ فِيهَا أَظْهَرَهُ عَلَيْهَا ، وَحَكَمَ
بِهِ لَهَا .
وَالْمَرْءُ يَكُونُ فِي مَوْطِنَيْنِ : أَحَدُهُمَا :
مَوْطِنُ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ قَبْضِ الرُّوحِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ
السَّادِسَةُ : فَإِنَّهُ وَقْتُ كَشْفِ الْغِطَاءِ ، وَسَلَامَةِ الْبَصَرِ عَنْ
الْعَمَى ، فَيُقَالُ لَهُ : { فَكَشَفْنَا عَنْك غِطَاءَك فَبَصَرُك الْيَوْمَ
حَدِيدٌ } .
فَانْظُرْ إلَى مَا كُنْت غَافِلًا عَنْهُ ، أَوْ بِهِ
مُتَهَاوِنًا .
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ عِنْدَ الْوَزْنِ ،
وَتَطَايُرِ الصُّحُفِ وَالْأَنْبَاءِ ، حِينَئِذٍ يَكُونُ بِإِظْهَارِ الْجَزَاءِ
، وَشَرْحِ صِفَةِ الْأَنْبَاءِ وَمَوَاطِنِهِ فِي كِتَابِ الذِّكْرِ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
{ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي قَوْله تَعَالَى { الْأَعْرَابُ }
: اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ لِسَبِيلِ الْعِلْمِ
تَسْلُكُونَهَا ، وَصَرَفَكُمْ عَنْ الْجَهَالَاتِ تَرْتَكِبُونَهَا أَنَّ بِنَاءَ
" عَرَبٍ " يَنْطَلِقُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ عَلَى مَعَانٍ لَا
تَنْتَظِمُ فِي مَسَاقٍ وَاحِدٍ ، وَعَلَى رَأْيِ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ
الْأَبْنِيَةَ تَنْظُرُ إلَى الْمَعَانِي مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ ؛ فَإِنَّ
ذَلِكَ قَدْ يَجِدُهُ الطَّالِبُ لَهُ ، وَقَدْ يَعْسُرُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ
يَعْدَمُهُ وَيَنْقَطِعُ لَهُ .
وَهَذَا الْبِنَاءُ مِمَّا لَمْ يَتَّفِقْ لِي رَبْطُ
مَعَانِيهِ بِهِ .
وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الْأَعْرَابِ فِي الْقُرْآنِ
هَاهُنَا ، وَجَاءَ فِي السُّنَّةِ ذِكْرُ الْعَرَبِ فِي أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ ؛
وَلُغَةُ الْعَرَبِ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَرَبِ ، وَالْعَرَبُ اسْمٌ مُؤَنَّثٌ ،
فَإِذَا صَغَّرُوهُ أَسْقَطُوا الْهَاءَ فَقَالُوا : عُرَيْبٌ .
وَيُقَالُ : عَرَبٌ وَعُرْبٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ
وَالْعَيْنِ ، وَبِضَمِّ الْفَاءِ وَبِإِسْكَانِ الْعَيْنِ .
وَالْعَارِبَةُ وَالْعَرْبَاءُ ؛ وَهُمْ أَوَائِلُهُمْ ،
أَوْ قَبَائِلُ مِنْهُمْ ، يُقَالُ إنَّهُمْ سَبْعٌ ، سَمَّاهُمْ ابْنُ دُرَيْدٍ
وَغَيْرُهُ .
وَيُقَالُ الْأَعْرَابُ وَالْأَعَارِيبُ .
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْأَعْرَابِيُّ لَزِيَمُ
الْبَادِيَةِ ، وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبٌ إلَى الْعَرَبِ وَكَأَنَّهُ يُشِيرُ إلَى
أَنَّ هَذِهِ النِّسْبَةَ قَدْ تَكُونُ نِسْبَةَ جِنْسٍ كَالْأَعْرَابِيِّ ،
وَقَدْ تَكُونُ نِسْبَةَ لِسَانٍ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَعَاجِمِ إذَا
تَعَلَّمَهَا .
وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ أَنَّ الْأَعْرَابَ جَمْعٌ ،
وَهُوَ بِنَاءٌ لَهُ فِي الْوَاحِدِ أَمْثَالٌ مِنْهَا : فُعْلٌ وَفَعْلٌ وَفِعْلٌ
وَفَعَلٌ ، كَقُفْلٍ وَأَقْفَالٍ ، وَفَلْسٍ وَأَفْلَاسٍ ، وَحِمْلٍ وَأَحْمَالٍ ،
وَجَمَلٍ وَأَجْمَالٍ ، وَلَمْ أَجِدْ عَرَبًا بِكَسْرِ الْفَاءِ إلَّا فِي نَوْعٍ
مِنْ النَّبَاتِ لَا يَسْتَجِيبُ مَعَ سَائِرِ
الْأَبْنِيَةِ ، وَيَا لَيْتَ شَعْرِي ، مَا الَّذِي
يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْأَعْرَابِيُّ مَنْسُوبًا إلَى الْأَعْرَابِ ،
وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبًا إلَى الْعَرَبِ ، وَيَكُونُ الْأَعْرَابُ هُمْ
الْعَرَبَ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : { يَا سَلْمَانُ ؛ لَا تَبْغَضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَك .
قَالَ : وَكَيْفَ أَبْغُضُك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ
: تَبْغُضُ الْعَرَبَ } .
وَقَالَ : { مَنْ غَشَّ الْعَرَبَ لَمْ يَدْخُلْ فِي
شَفَاعَتِي } .
وَقَالَ : { مِنْ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ هَلَاكُ
الْعَرَبِ } .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
{ لَتَفُرُّنَّ مِنْ الدَّجَّالِ حَتَّى تَلْحَقُوا بِالْجِبَالِ .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ فَأَيْنَ الْعَرَبُ
يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : هُمْ قَلِيلٌ
} .
وَقَالَ أَيْضًا : { سَامٌ أَبُو الْعَرَبِ ، وَيَافِثُ
أَبُو الرُّومِ ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشِ } .
وَمِنْ غَرِيبِ هَذَا الِاسْمِ أَنَّ بِنَاءَهُ فِي
التَّرْكِيبِ لِلتَّعْمِيمِ بِنَاءَ الْحُرُوفِ فِي الْمَخَارِجِ عَلَى
التَّرْتِيبِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَهِيَ فَائِدَةُ
الْقَوْلِ : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ، فَكَانَ مِمَّا عَلَّمَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَرَبُ
وَالْأَعْرَابُ وَالْعَرَبِيَّةِ ، وَلَا نُبَالِي كَيْفَ كَانَتْ كَيْفِيَّةُ التَّعَلُّمِ
مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى الْأَزْمِنَةِ الْمُتَقَادِمَةِ قَبْلَنَا ، وَقَبْلَ
فَسَادِ اللُّغَةِ ، فَكَانَ هَذَا اسْمَ اللِّسَانِ ، وَاسْمَ الْقَبِيلَةِ ،
حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا سَيِّدَهَا ، بَلْ سَيِّدَ الْأُمَمِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَى اللَّهُ لَهَا اسْمًا شَرِيفًا ، وَهُوَ
نَبِيٌّ ، رَسُولٌ إلَى سَائِرِ أَسْمَائِهِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهَا فِي شَرْحِ
الصَّحِيحِ وَالْقَبَسِ وَغَيْرِهِ ، وَأَعْطَى مَنْ آثَرَ دِينَهُ عَلَى أَهْلِهِ
وَمَالِهِ اسْمًا أَشْرَفَ مِنْ " عَرَبٍ " وَمِنْ " قُرَشٍ "
وَهُوَ " هَجَرَ " فَقَالَ : الْمُهَاجِرُونَ ، وَأَعْطَى مَنْ آوَى وَنَاضَلَ
اسْمًا أَشْرَفَ مِنْ الَّذِي كَانَ وَهُوَ " نَصْرٌ " فَقَالَ :
الْأَنْصَارُ ، وَعَمَّهُمْ بِاسْمٍ كَرِيمٍ شَرِيفِ الْمَوْضِعِ وَالْمَقْطَعِ ،
وَهُوَ
" صَحْبٌ " فَقَالَ : أَصْحَابِي ، وَأَعْطَى
مَنْ لَمْ يَرَهُ حَظًّا فِي التَّشْرِيفِ بِاسْمٍ عَامٍّ يَدْخُلُونَ بِهِ فِي
الْحُرْمَةِ ، وَهِيَ الْأُخُوَّةُ ، فَقَالَ : { وَدَدْتُ أَنِّي رَأَيْت
إخْوَانَنَا .
قُلْنَا :
أَلَسْنَا بِإِخْوَانِك يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ :
بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي ، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ }
فَمَنْ دَخَلَ فِي الْهِجْرَةِ أَوْ تَرَسَّمَ بِالنُّصْرَةِ فَقَدْ كَمُلَ لَهُ
شَرَفُ الصُّحْبَةِ ، وَمَنْ بَقِيَ عَلَى رَسْمِهِ الْأَوَّلِ بَقِيَ عَلَيْهِ
اسْمُهُ الْأَوَّلُ ، وَهُمْ الْأَعْرَابُ .
وَلِذَلِكَ قِيلَ { لَمَّا صَارَ سَلَمَةُ بْنُ
الْأَكْوَعِ فِي الرَّعِيَّةِ قَالَ لَهُ الْحَجَّاجُ : يَا سَلَمَةُ ، تَعَرَّبْت
، ارْتَدَدْت عَلَى عَقِبَيْك .
فَقَالَ :
إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَذِنَ لِي فِي التَّعْرِيبِ ، } وَبَعْدَ هَذَا فَاعْلَمُوا وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ كَانَ عَلَيْهِ فَرْضًا أَنْ
يَأْتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَكُونَ مَعَهُ ،
حَتَّى تَتَضَاعَفَ النُّصْرَةُ ، وَتَنْفَسِحَ الدَّوْحَةُ ، وَتَحْتَمِيَ
الْبَيْضَةُ ، وَيَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ دِينَهُمْ ، وَيَتَعَلَّمُوا شَرِيعَتَهُمْ حَتَّى يُبَلِّغُوهَا إلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { تَسْمَعُونَ
وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ } ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْكُمْ ، فَمَنْ تَرَكَ
ذَلِكَ ، وَبَقِيَ فِي إبِلِهِ وَمَاشِيَتِهِ ، وَآثَرَ مَسْقَطَ رَأْسِهِ ،
فَقَدْ غَابَ عَنْ هَذِهِ الْحُظُوظِ ، وَخَابَ عَنْ سَهْمِ الشَّرَفِ ، وَكَانَ
مَنْ صَارَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ صَارَ إلَيْهِ
مُؤَهَّلًا لِحَمْلِ الشَّرِيعَةِ وَتَبْلِيغِهَا ، مُتَشَرِّفًا بِمَا تَقَلَّدَ
مِنْ عُهْدَتِهَا ، وَكَانَ مَنْ بَقِيَ فِي مَوْضِعِهِ خَائِبًا مِنْ هَذَا
الْحَظِّ مُنْحَطًّا عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ .
وَاَلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُشَاهِدُونَ آيَاتِهِ ،
وَيُطَالِعُونَ غُرَّتَهُ الْبَهِيَّةِ ، كَانَ الشَّكُّ يَخْتَلِجُ فِي
صُدُورِهِمْ ، وَالنِّفَاقُ يَتَسَرَّبُ إلَى قُلُوبِهِمْ ، فَكَيْفَ
بِمَنْ غَابَ عَنْهُ ، فَعَنْ هَذَا وَقَعَ الْبَيَانُ
بِقَوْلِهِ : { الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا
يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَعَلَى إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ
مَغْرَمًا لَا مَغْنَمًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْلَمُ لَهُ اعْتِقَادُهُ ؛
فَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ وَسِيلَةً إلَى اللَّهِ ، وَقُرْبَةً وَرَغْبَةً فِي
صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرِضَاهُ عَنْهُ .
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ] تَكْمِلَةٌ :
مِنْ خَوَاصِّ هَؤُلَاءِ الْخَوَاصِّ وِسَادَةِ هَؤُلَاءِ السَّادَةِ {
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ
الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } .
وَهِيَ الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ ،
وَفِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَحْقِيقِ السَّبْقِ :
وَهُوَ التَّقَدُّمُ فِي الصِّفَةِ ، أَوْ فِي الزَّمَانِ ، أَوْ فِي الْمَكَانِ ،
فَالصِّفَةُ الْإِيمَانُ ، وَالزَّمَنُ لِمَنْ حَصَلَ فِي أَوَانٍ قَبْلَ أَوَانٍ
، وَالْمَكَانُ مَنْ تَبَوَّأَ دَارَ النُّصْرَةِ ، وَاِتَّخَذَهُ بَدَلًا عَنْ
مَوْضِعِ الْهِجْرَةِ ، وَهُمْ عَلَى ثَمَانِي مَرَاتِبَ : الْأُولَى : أَبُو
بَكْرٍ ، وَعُمَرُ ، وَعُثْمَانُ ، وَعَلِيٌّ ، وَسَعْدٌ ، وَبِلَالٌ ،
وَغَيْرُهُمْ .
الثَّانِيَةُ : دَارُ النَّدْوَةِ .
الثَّالِثَةُ : مُهَاجِرَةُ أَصْحَابِ الْحَبَشَةِ ،
كَعُثْمَانَ ، وَالزُّبَيْرِ .
الرَّابِعَةُ : أَصْحَابُ الْعَقَبَتَيْنِ ، وَهُمْ
الْأَنْصَارُ .
الْخَامِسَةُ : قَوْمٌ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِقُبَاءَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ .
السَّادِسَةُ : مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ .
السَّابِعَةُ : أَهْلُ بَدْرٍ .
الثَّامِنَةُ : أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَبِهِمْ انْقَطَعَتْ
الْأَوَّلِيَّةُ .
وَاخْتَارَ الشَّافِعِيُّ الثَّامِنَةَ فِي تَفْسِيرِ
الْآيَةِ ، وَاخْتَارَ فِي تَفْسِيرِهَا ابْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَقَتَادَةُ ،
وَالْحَسَنُ مَنْ صَلَّى إلَى الْقِبْلَتَيْنِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْقِرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ
: { وَالْأَنْصَارِ } : بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ ، فَيَكُونُونَ
أَيْضًا فِيهَا عَلَى مَرَاتِبَ مِنْهُمْ الْعُقْبِيُّونَ ، وَمِنْهُمْ أَهْلُ
الْقِبْلَتَيْنِ ، وَمِنْهُمْ الْبَدْرِيُّونَ ، وَمِنْهُمْ الرِّضْوَانِيَّةُ ،
وَيَكُونُ الْوَقْفُ فِيهِمَا وَاحِدًا
.
وَقُرِئَ : وَالْأَنْصَارُ بِرَفْعِ الرَّاءِ ، عَطْفًا
عَلَى " وَالسَّابِقُونَ " وَيُعْزَى ذَلِكَ إلَى عُمَرَ وَقِرَاءَةِ
الْحَسَنِ ، وَاخْتَارَهُ يَعْقُوبُ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ بِرَفْعِ
الرَّاءِ أَوْ خَفْضِهَا فَفِي الْأَنْصَارِ سَابِقٌ وَمُصَلٍّ فِي كُلِّ
طَائِفَةٍ وَاحِدٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : أَوَّلُ السَّابِقِينَ
مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ
أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ { قَوْلُ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ اتَّبَعَك عَلَى هَذَا
الْأَمْرِ ؟ قَالَ : حُرٌّ وَعَبْدٌ
} .
وَبِهَذَا احْتَجَّ شَيْخُ السُّنَّةِ أَبُو الْحَسَنِ
عَلِيُّ بْنُ الْجُبَّائِيُّ فِي مَجْلِسِ ابْنِ وَرْقَاءَ أَمِيرِ الْبَصْرَةِ
حِينَ ادَّعَى أَنَّ عَلِيًّا أَوَّلُهُمْ إسْلَامًا وَكَانَا شِيعِيِّينَ .
وَذَكَرَ أَيْضًا أَنَّ حَسَّانَ أَنْشَدَ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَتِهِمْ : إذَا تَذَكَّرْت شَجْوًا مِنْ
أَخِي ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا الثَّانِيَ التَّالِيَ
الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا فَلَمْ
يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا
قَالَ لَهُ : إنَّمَا كَانَ أَوَّلَ مَنْ صَدَّقَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْجَارُودِ ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَّانٍ النَّيْسَابُورِيُّ ،
أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَعْدِيٍّ عَنْ مُجَالِدٍ ، عَنْ
الشَّعْبِيِّ ، قَالَ : سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ ، مَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إسْلَامًا
؟ قَالَ : أَبُو بَكْرٍ ، أَوَ مَا سَمِعْت قَوْلَ حَسَّانَ : إذَا تَذَكَّرْت
شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاك أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلَا خَيْرَ
الْبَرِيَّةِ أَتْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا بَعْدَ النَّبِيِّ وَأَوْفَاهَا بِمَا
حَمَلَا الثَّانِيَ التَّالِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ وَأَوَّلَ النَّاسِ
مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلَا وَهَذَا خَبَرٌ اُشْتُهِرَ وَانْتَشَرَ ، فَقَالَ
أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ ، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
أَوَّلُ مَنْ صَلَّى أَبُو بَكْرٍ ، ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأَبْيَاتِ حَسَّانَ ،
وَذَكَرَهَا ثَلَاثَةً ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُبَيِّنًا فَضْلَ أَبِي بَكْرٍ وَسَبْقَهُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حِينَ غَامَرَهُ
: { دَعُوا لِي صَاحِبِي ، فَإِنِّي بُعِثْت إلَى
النَّاسِ كَافَّةً ، فَقَالُوا : كَذَبْت ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : صَدَقْت } ،
وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، مِنْهُمْ الزُّبَيْرُ ،
وَطَلْحَةُ ، وَسَعْدٌ ، وَعُثْمَانُ ، وَأَهْلُ الْعَقَبَتَيْنِ ، وَلَيْسَ فِي
تَقْدِمَةِ إسْلَامِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدِيثٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ،
لَا عَنْ سَلْمَانَ ، وَلَا عَنْ الْحَسَنِ ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَاَلَّذِينَ
اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ } : وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ قَرَأَ { الَّذِينَ } بِإِسْقَاطِ
الْوَاوِ نَعْتًا لِلْأَنْصَارِ ، فَرَاجَعَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، فَسَأَلَ
أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، فَصَدَّقَ زَيْدًا فَرَجَعَ إلَيْهِ عُمَرُ ، وَثَبَتَتْ
الْوَاوُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ :
أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي التَّابِعِينَ ؛ فَقِيلَ : هُمْ
مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ كَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَعَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ ، وَمَنْ دَانَاهُمْ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ ؛ وَقَدْ ثَبَتَ {
أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ شَكَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ : دَعُوا لِي أَصْحَابِي
، فَوَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ كُلَّ
يَوْمٍ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ } .
خَرَّجَهُ الْبَرْقَانِيُّ وَغَيْرُهُ .
وَقِيلَ :
هُمْ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَلَا عَايَنُوا مُعْجِزَاتِهِ ؛ وَلَكِنَّهُمْ سَمِعُوا
خَبَرَهُ فِي الْقَرْنِ الثَّانِي مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ اسْمٌ
مَخْصُوصٌ بِالْقَرْنِ الثَّانِي ، فَيُقَالُ صَحَابِيٌّ وَتَابِعِيٌّ بِهَذِهِ
الْخُطَّةِ ، لِمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، وَكَفَانَا أَنْ اتَّقَيْنَا
اللَّهَ ، وَاهْتَدَيْنَا بِهَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ ، وَاقْتَفَيْنَا آثَارَهُ ،
وَاسْمُ الْأُخُوَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا تِبْيَانًا لَنَا .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ
الْمَرَاتِبُ ، وَبُيِّنَتْ الْخُطَطُ فَإِنَّ السَّابِقَ إلَى كُلِّ خَيْرٍ ،
وَالْمُتَقَدِّمَ إلَى الطَّاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُصَلِّي فِيهَا وَالتَّالِي
بِهَا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ
أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ
الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } .
وَلَكِنْ مَنْ سَبَقَ أَكْرَمُ عِنْدَ اللَّهِ
مَرْتَبَةً ، وَأَوْفَى أَجْرًا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلسَّابِقِ مِنْ الْفَضْلِ
إلَّا اقْتِدَاءُ التَّالِي بِهِ ، وَاهْتِدَاؤُهُ بِهَدْيِهِ ، فَيَكُونُ لَهُ
ثَوَابُ عَمَلِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَمِثْلُ ثَوَابِ مَنْ اتَّبَعَهُ مُقْتَدِيًا
بِهِ ؛ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ سَنَّ
سُنَّةً حَسَنَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ
بِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا } .
وَلِذَلِكَ قُلْنَا : إنَّ الصَّلَاةَ فِي أَوَّلِ
الْوَقْتِ أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَنْهُ ، وَلَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ
فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ
قَالَ : { أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا } ؛ وَقَدْ
بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ
السَّبْقَ يَكُونُ بِالصِّفَاتِ وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ ، وَأَفْضَلُ هَذِهِ
الْوُجُوهِ سَبْقُ الصِّفَاتِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { نَحْنُ الْآخِرُونَ
السَّابِقُونَ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا ،
وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ
.
فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ،
فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ .
} فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ أَنَّ مَنْ سَبَقَنَا مِنْ
الْأُمَمِ بِالزَّمَانِ فَجِئْنَا بَعْدَهُمْ سَبَقْنَاهُمْ بِالْإِيمَانِ ، وَالِامْتِثَالِ
لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالِانْقِيَادِ إلَيْهِ ، وَالِاسْتِسْلَامِ لِأَمْرِهِ ،
وَالرِّضَا بِتَكْلِيفِهِ ، وَالِاحْتِمَالِ لِوَظَائِفِهِ ، لَا نَعْتَرِضُ
عَلَيْهِ ، وَلَا نَخْتَارُ مَعَهُ ، وَلَا نُبَدِّلُ بِالرَّأْيِ شَرِيعَتَهُ ،
كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الْكِتَابِ
.
وَذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ لِمَا قَضَاهُ ،
وَبِتَيْسِيرِهِ لِمَا يَرْضَاهُ ، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ
هَدَانَا اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : لَمَّا ذَمَّ اللَّهُ
الْأَعْرَابَ بِنَقْصِهِمْ وَحَطَّهُمْ عَنْ الْمَرْتَبَةِ الْكَامِلَةِ
لِسِوَاهُمْ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ أَحْكَامٌ ثَلَاثَةٌ : أَوَّلُهَا : أَنَّهُ
لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ ، حَسْبَمَا يَأْتِي فِي سُورَةِ
الْحَشْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
ثَانِيهَا : أَنَّ إمَامَتَهُمْ بِأَهْلِ الْحَضَرِ
مَمْنُوعَةٌ لِجَهْلِهِمْ بِالسُّنَّةِ وَتَرْكِهِمْ لِلْجُمُعَةِ .
ثَالِثُهَا : إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْبَادِيَةِ عَنْ
الْحَضَارَةِ .
وَاخْتُلِفَ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ ؛ فَقِيلَ : لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ مَرْتَبَةٌ عَالِيَةٌ ، وَمَنْزِلَةٌ شَرِيفَةٌ ، وَوِلَايَةٌ
كَرِيمَةٌ ، فَإِنَّهَا قَبُولُ قَوْلِ الْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ ، وَتَنْفِيذُ
كَلَامِهِ عَلَيْهِ ؛ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الصِّفَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
نُقْصَانَ صِفَتِهِ فِي عِلْمِهِ وَدِينِهِ .
وَقِيلَ : إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ ، لِمَا
فِيهِ مِنْ تَحْقِيقِ التُّهْمَةِ إذَا شَهِدَ أَهْلُ الْبَادِيَةِ بِحُقُوقِ
أَهْلِ الْحَاضِرَةِ ، وَتِلْكَ رِيبَةٌ ؛ إذْ لَوْ كَانَ صَحِيحًا لَكَانَ
أَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْحَضَرِيُّونَ ، فَعَدَمُ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُمْ
وَوُجُودُهَا عِنْدَ الْبَدْوِيِّينَ رِيبَةٌ تَقْتَضِي التُّهْمَةَ ، وَتُوجِبُ
الرَّدَّ ، وَعَنْ هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَيْهِمْ
فِيمَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ كَالْجِرَاحِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَكُونُ فِي
الْحَضَرِ مَاضِيَةٌ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : تَجُوزُ شَهَادَةُ
الْبَدْوِيِّ عَلَى الْحَضَرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَاعِي كُلَّ تُهْمَةٍ ؛ أَلَا
تَرَاهُ يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ،
فَلْيَنْظُرْهُ هُنَالِكَ مَنْ أَرَادَ اسْتِيفَاءَهُ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
{ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ
عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَك سَكَنٌ لَهُمْ وَاَللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَوْله تَعَالَى { خُذْ } : هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، فَيَقْتَضِي بِظَاهِرِهِ اقْتِصَارَهُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَأْخُذُ
الصَّدَقَةَ سِوَاهُ ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا سُقُوطُهَا بِسُقُوطِهِ ، وَزَوَالُ
تَكْلِيفِهَا بِمَوْتِهِ ، وَبِهَذَا تَعَلَّقَ مَانِعُو الزَّكَاةِ عَلَى أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ، وَقَالُوا عَلَيْهِ : إنَّهُ كَانَ يُعْطِينَا عِوَضًا
عَنْهَا التَّطْهِيرَ ، وَالتَّزْكِيَةَ لَنَا ، وَالصَّلَاةَ عَلَيْنَا ، وَقَدْ
عَدِمْنَاهَا مِنْ غَيْرِهِ ، وَنَظَمَ فِي ذَلِكَ شَاعِرُهُمْ فَقَالَ :
أَطَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَنَا فَيَا عَجَبًا مَا بَالُ مُلْكِ
أَبِي بَكْرٍ وَإِنَّ الَّذِي سَأَلُوكُمْ فَمَنَعْتُمْ لَكَالتَّمْرِ أَوْ
أَحْلَى لَدَيْهِمْ مِنْ التَّمْرِ سَنَمْنَعُهُمْ مَا دَامَ فِينَا بَقِيَّةٌ
كِرَامٌ عَلَى الضَّرَّاءِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ وَهَذَا صِنْفٌ مِنْ
الْقَائِمِينَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ، وَغَيْرُهُمْ كَفَرَ
بِاَللَّهِ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ ، وَأَنْكَرَ النُّبُوَّةَ ، وَسَاعَدَ
مُسَيْلِمَةَ ، وَأَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .
وَفِي هَذَا الصِّنْفِ الَّذِي أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ ،
وَأَنْكَرَ الزَّكَاةَ وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ لِعُمَرَ حِينَ خَالَفَ أَبَا بَكْرٍ
فِي قِتَالِهِمْ ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِقَبُولِ الصَّلَاةِ مِنْهُمْ وَتَرْكِ
الزَّكَاةِ ، حَتَّى يَتَعَهَّدَ الْأَمْرَ ، وَيَظْهَرَ حِزْبُ اللَّهِ ،
وَتَسْكُنَ سَوْرَةُ الْخِلَافِ ؛ فَشَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْحَقِّ
، وَقَالَ : وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ
وَالزَّكَاةِ ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقٌّ فِي الْمَالِ ، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي
عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَيْهِ .
قَالَ عُمَرُ : فَوَاَللَّهِ مَا هُوَ إلَّا أَنْ شَرَحَ
اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ ، فَعَرَفْت أَنَّهُ
الْحَقُّ
.
وَبِهَذَا اعْتَرَضَتْ الرَّافِضَةُ عَلَى الصِّدِّيقِ ،
فَقَالُوا : عَجِلَ فِي أَمْرِهِ ، وَنَبَذَ السِّيَاسَةَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ ،
وَأَرَاقَ الدِّمَاءَ .
قُلْنَا : بَلْ جَعَلَ كِتَابَ اللَّهِ بَيْنَ
عَيْنَيْهِ ، وَهَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَنْظُرُ إلَيْهِ ، وَالْقُرْآنَ يَسْتَنِيرُ بِهِ ، وَالسِّيَاسَةَ تُمَهِّدُ
سُبُلَهَا فَإِنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ
الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ .
وَصَدَقَ الصِّدِّيقُ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ : {
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي
الدِّينِ } ؛ فَشَرْطُهُمَا ، وَحَقَّقَ الْعِصْمَةَ بِهِمَا ، وَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا :
لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ حِينَ تَعَلَّقَ بِهَذَا
الْحَدِيثِ : فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {
إلَّا بِحَقِّهَا } .
وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْمَالِ ، فَالصَّلَاةُ تَحْقِنُ
الدَّمَ ، وَالزَّكَاةُ تَعْصِمُ الْمَالَ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { أُمِرْت
أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَيُقِيمُوا
الصَّلَاةَ ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ
} .
وَأَمَّا السِّيَاسَةُ فَمَا عَدَاهَا فَإِنَّهُ لَوْ
سَاهَلَهُمْ فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ لَقَوِيَتْ شَوْكَتُهُمْ ، وَتَمَكَّنَتْ فِي
الْقُلُوبِ بِدْعَتُهُمْ ، وَعَسُرَ إلَى الطَّاعَةِ صَرْفُهُمْ ، فَعَاجَلَ
بِالدَّوَاءِ قَبْلَ اسْتِفْحَالِ الدَّاءِ .
فَأَمَّا إرَاقَتُهُ لِلدِّمَاءِ فَبِالْحَقِّ الَّذِي
كَانَ عَصَمَهَا قَبْلَ ذَلِكَ ، وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ يَا مَعْشَرَ
الرَّافِضَةِ فِي تَوْطِيدِ الْإِسْلَامِ وَتَمْهِيدِ الدِّينِ آكَدُ مِنْ
إرَاقَتِهَا فِي طَلَبِ الْخِلَافَةِ ، وَكُلٌّ عِنْدَنَا حَقٌّ ، وَعَلَيْكُمْ
فِي إبْطَالِ كَلَامِكُمْ ، وَضِيقِ مَرَامِكُمْ خَنْقٌ .
فَأَمَّا قَوْلُهُمْ : إنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَلْتَحِقُ غَيْرُهُ
فِيهِ بِهِ ، فَهَذَا كَلَامُ جَاهِلٍ بِالْقُرْآنِ
غَافِلٍ عَنْ مَأْخَذِ الشَّرِيعَةِ ، مُتَلَاعِبٍ بِالدِّينِ ، مُتَهَافَتٍ فِي
النَّظَرِ ؛ فَإِنَّ الْخِطَابَ فِي الْقُرْآنِ لَمْ يُرِدْ بَابًا وَاحِدًا ،
وَلَكِنْ اخْتَلَفَتْ مَوَارِدُهُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا فِي غَرَضِنَا هَذِهِ
ثَلَاثَةٌ : الْأَوَّلُ : خِطَابٌ تَوَجَّهَ إلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ ، كَقَوْلِ :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ } وَكَقَوْلِهِ :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } وَنَحْوِهِ .
الثَّانِي : خِطَابٌ خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِهِ : { وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ
نَافِلَةً لَك } .
وَكَقَوْلِهِ فِي آيَةِ الْأَحْزَابِ : { خَالِصَةً لَك
مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } ؛ فَهَذَانِ مِمَّا أُفْرِدَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمَا ، وَلَا يُشْرِكُهُ فِيهِمَا أَحَدٌ لَفْظًا
وَمَعْنًى ، لِمَا وَقَعَ الْقَوْلُ بِهِ كَذَلِكَ .
الثَّالِثُ : خِطَابٌ خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَيُشْرِكُهُ فِيهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ
مَعْنَى وَفَعَلَا ، كَقَوْلِهِ : { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } .
وَكَقَوْلِهِ : { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ
فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } وَكَقَوْلِهِ : { وَإِذَا كُنْت
فِيهِمْ فَأَقَمْت لَهُمْ الصَّلَاةَ
} .
فَكُلُّ مَنْ دَلَكَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ مُخَاطَبٌ
بِالصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ مُخَاطَبٌ
بِالِاسْتِعَاذَةِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ خَافَ يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِتِلْكَ
الصِّفَةِ .
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ : { خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } فَإِنَّهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآمِرُ بِهَا ، وَالدَّاعِي إلَيْهَا ، وَهُمْ
الْمُعْطُونَ لَهَا ، وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ : { يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } وَ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمْ
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } .
وَقَدْ قِيلَ لَهُ : { فَإِنْ كُنْت فِي شَكٍّ مِمَّا
أَنْزَلْنَا إلَيْك فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِك } .
وَمَا كَانَ لِيَشُكَّ ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ
شَكَّ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ فِي وَقْتِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ : {
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } : الْأَصْلُ فِي فِعْلِ
كُلِّ إمَامٍ يَأْخُذُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَدْعُوَ لِلْمُتَصَدِّقِ بِالْبَرَكَةِ ؛
ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ " عَنْ ابْنِ أَبِي أَوْفَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَتَاهُ رَجُلًا بِصَدَقَتِهِ قَالَ : اللَّهُمَّ
صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ فَجَاءَهُ ابْنُ أَبِي أَوْفَى بِصَدَقَتِهِ ،
فَأَخَذَهَا مِنْهُ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا } فَإِنَّهُ مِنْ صِفَةِ الصَّدَقَةِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : تُزَكِّيهِمْ .
يَعْنِي أَنَّ الصَّدَقَةَ تَكُونُ سَبَبًا فِي
طَهَارَتِهِمْ وَتَنْمِيَتِهِمْ
.
وَأَهْلُ الصِّنَاعَةِ يَرَوْنَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَالَغُوا
فَقَالُوا : إنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ تُطَهِّرْهُمْ بِجَزْمِ الرَّاءِ ،
لِيَكُونَ جَوَابَ الْأَمْرِ ، وَاَلَّذِي نَرَاهُ أَنَّ كَوْنَهُ صِفَةً أَبْلُغُ
فِي نَعْتِ الصَّدَقَةِ ، وَأَقْطَعُ لِشَغَبِ الْمُخَالِفِ ، وَأَبْعَدُ مِنْ
الْمَجَازِ بِمَنْزِلَةٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { إنَّ
صَلَاتَك سَكَنٌ لَهُمْ } : يَعْنِي : دُعَاءَك .
وَقَدْ تَكُونُ الصَّلَاةُ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ فِي
الْأَظْهَرِ مِنْ مَعَانِيهَا ؛ قَالَ الْأَعْشَى : تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ
يَمَّمْت مُرْتَحِلًا يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الْأَوْصَابَ وَالْوَجَعَا عَلَيْك
مِثْلُ الَّذِي صَلَّيْت فَاغْتَمِضِي نَوْمًا فَإِنَّ لِجَنْبِ الْمَرْءِ
مُضْطَجِعَا وَالسَّكَنُ : مَا تَسْكُنُ إلَيْهِ النُّفُوسُ ، وَتَطْمَئِنُّ بِهِ
الْقُلُوبُ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : وَقَارٌ لَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي
هَذِهِ الصَّدَقَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا ؛ فَقِيلَ : هِيَ الْفَرْضُ ، أَمَرَ
اللَّهُ بِهَا هَاهُنَا أَمْرًا مُجْمَلًا لَمْ يُبَيِّنْ فِيهَا الْمِقْدَارَ ،
وَلَا الْمَحَلَّ ، وَلَا النِّصَابَ ، وَلَا الْحَوْلَ ؛ وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ
الْأَنْعَامِ الْمَحَلَّ وَحْدَهُ ، وَوَكَّلَ بَيَانَ سَائِرِ ذَلِكَ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَتَّبَ الشَّرِيعَةَ
بِالْحِكْمَةِ فِي الْعِبَادَاتِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ ؛ مِنْهَا مَا يَجِبُ
مَرَّةً فِي الْعُمْرِ كَالْحَجِّ ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ مَرَّةً فِي الْحَوْلِ
كَالزَّكَاةِ ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ كُلَّ يَوْمٍ كَالصَّلَاةِ .
وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِهَا التَّطَوُّعُ .
قِيلَ :
نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ تِيبَ عَلَيْهِمْ فَرَأَوْا أَنَّ
مِنْ تَوْبَتِهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقُوا ؛ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِهَذِهِ الْأَوَامِرِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : { أَتَى أَبُو لُبَابَةَ
وَأَصْحَابُهُ حِينَ أُطْلِقُوا ، وَتِيبَ عَلَيْهِمْ بِأَمْوَالِهِمْ إلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذِهِ أَمْوَالُنَا
فَتَصَدَّقْ بِهَا عَنَّا ، وَاسْتَغْفِرْ لَنَا .
فَقَالَ :
مَا أُمِرْت أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } } وَكَانَ ذَلِكَ
مَرْجِعَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ
.
وَأَبُو لُبَابَةَ مِمَّنْ فَرَّطَ فِي قُرَيْظَةَ ،
وَفِي تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَحِينَ تِيبَ عَلَيْهِ قَالَ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ، إنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَتَصَدَّقَ بِمَالِي ، وَأَهْجُرَ
دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْت فِيهَا الذَّنْبَ .
{ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: يَجْزِيك الثُّلُثُ } .
وَكَذَلِكَ {
قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ
مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إلَى اللَّهِ وَإِلَى
رَسُولِهِ .
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِك ، فَهُوَ خَيْرٌ لَك } .
قَالَ : فَإِنِّي أَمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ ،
وَلَا نَعْلَمُ هَلْ
هُوَ بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
أَوْ أَقَلَّ .
قَالَ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ : وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ
الثَّلَاثَةُ فِي مَعْنَى الصَّدَقَةِ مُحْتَمَلَةٌ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا صَدَقَةُ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ
التَّعَلُّقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِدَلِيلٍ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا مُرْتَبِطٌ بِمَا
قَبْلَهُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ مَا بَعْدَهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ أَشْهَبُ : قَالَ مَالِكٌ
فِي قَوْلِهِ : { وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا
وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ } .
نَزَلَتْ فِي شَأْنِ { أَبِي لُبَابَةَ بْنِ عَبْدِ
الْمُنْذِرِ ؛ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ
أَصَابَهُ الذَّنْبُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ أُجَاوِرُك ، وَأَنْخَلِعُ مِنْ
مَالِي .
فَقَالَ : يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ } .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { خُذْ مِنْ
أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } وَرَوَى ابْنُ
وَهْبٍ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ ، نَحْوَهُ .
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ : { ارْتَبَطَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى جِذْعٍ مِنْ جُذُوعِ
الْمَسْجِدِ بِسِلْسِلَةٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ، فَكَانَتْ ابْنَتُهُ
تَأْتِيهِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ فَتَحِلُّهُ فَيَتَوَضَّأُ ، وَهِيَ
الْأُسْطُوَانُ الْمُخْلَقُ نَحْوٌ مِنْ ثُلُثِهَا يُدْعَى أُسْطُوَانُ
التَّوْبَةِ ، وَمِنْهَا حَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَبَا لُبَابَةَ حِينَ نَزَلَتْ تَوْبَتُهُ } ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَبْرِ
أُسْطُوَانٌ ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ : الْجِدَارُ مِنْ الْمَشْرِقِ فِي حَدِّ
الْقَنَادِيلِ الَّتِي بَيْنَ الْأَسَاطِينِ الَّتِي فِي وَصْفِهَا أُسْطُوَانُ
التَّوْبَةِ وَبَيْنَ الْأَسَاطِينِ الَّتِي تَلِي الْقَبْرَ .
وَهَذَا غَرِيبٌ مِنْ رِوَايَةِ الزُّبَيْرِ عَنْ
مَالِكٍ ، وَجَمَعَ الرِّوَايَاتِ نَصٌّ عَنْ مَالِكٍ فِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ
فِي ذَلِكَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ : إذَا تَصَدَّقَ الرَّجُلُ بِجَمِيعِ مَالِهِ أَجْزَأَهُ إخْرَاجُ
الثُّلُثِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ : يَلْزَمُهُ
إخْرَاجُ الْكُلِّ ، وَتَعَلَّقَ مَالِكٌ بِقِصَّةِ أَبِي لُبَابَةَ فِي أَنَّ
رَدَّهُ إلَيْهِ مِنْ الْجَمِيعِ إلَى الثُّلُثِ ، وَهَذَا كَانَ قَوِيًّا لَوْلَا
أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك مِنْ
غَيْرِ تَحْدِيدٍ ، وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لُبَابَةَ .
وَقَدْ نَاقَضَ عُلَمَاؤُنَا ؛ فَقَالُوا : إنَّهُ إذَا
كَانَ مَالُهُ مُعَيَّنًا دَابَّةً أَوْ دَارًا أَوْ ضَيْعَةً فَتَصَدَّقَ
بِجَمِيعِهَا مَضَى ، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ بِالْكُلِّ ، فَتَخَمَّشَ وَجْهُ
الْمَسْأَلَةِ ، وَلَمْ يَتَبَلَّجْ مِنْهُ وَضَحٌ ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَيْهَا
فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ ، وَالْحَقُّ يُعَوِّدُ صَدَقَةَ الْكُلِّ عَلَيْهِ ،
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
: { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
هَذِهِ الْآيَةُ نَصٌّ صَرِيحٌ فِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ
الْآخِذُ لِلصَّدَقَاتِ ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ، وَالنَّبِيُّ وَاسِطَةٌ ،
فَإِنْ تُوُفِّيَ فَعَامِلُهُ هُوَ الْوَاسِطَةُ ، وَاَللَّهُ حَيٌّ لَا يَمُوتُ ،
فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ كَمَا قَالَتْ الْمُرْتَدَّةُ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ الصَّدَقَةَ
لَتَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي كَفِّ السَّائِلِ
فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ ، وَاَللَّهُ
يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ } .
وَكَنَّى بِكَفِّ الرَّحْمَنِ عَنْ الْقَبُولِ ؛ إذْ
كُلُّ قَابِلٍ لِشَيْءٍ يَأْخُذُهُ بِكَفِّهِ ، أَوْ يُوضَعُ لَهُ فِيهِ ، كَمَا
كَنَّى بِنَفْسِهِ عَنْ الْمَرِيضِ تَعَطُّفَا عَلَيْهِ بِقَوْلِ : " يَقُولُ
اللَّهُ عَبْدِي مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي " حَسْبَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى
{ وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ
وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلَّا الْحُسْنَى وَاَللَّهُ يَشْهَدُ إنَّهُمْ
لَكَاذِبُونَ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ وَالْمُقَصِّرِينَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ
فِي آيَاتٍ جُمْلَةٍ ، ثُمَّ طَبَّقَهُمْ طَبَقَاتٍ عُمُومًا وَخُصُوصًا ، فَقَالَ : { الْأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْرًا } .
وَقَالَ : { وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا
يُنْفِقُ مَغْرَمًا } .
{ وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ } ؛ وَهَذَا مَدْحٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ
الْفَاضِلُ مِنْ النَّاقِصِ وَالْمُحِقُّ مِنْ الْمُبْطِلِ ، ثُمَّ ذَكَرَ
السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، ثُمَّ قَالَ :
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ } .
وَقَالَ : { وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى
النِّفَاقِ } أَيْ اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ وَتَحَقَّقُوا بِهِ .
وَقَالَ :
وَآخَرُونَ يَعْنِي عَلَى التَّوَسُّطِ خَلَطُوا عَمَلًا
صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا ، ثُمَّ قَالَ : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ
اللَّهِ } وَهُمْ نَحْوٌ مِنْ سَبْعَةٍ ، مِنْهُمْ أَبُو لُبَابَةَ ، وَكَعْبٌ ،
وَمُرَارَةُ ، وَهِلَالٌ ، جَعَلَهُمْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَرَجَّأَهُمْ
بِالتَّوْبَةِ ، مُشِيرًا إلَى الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ ، ثُمَّ قَالَ : {
وَاَلَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا } .
أَسْقَطَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ مِنْهُمَا الْوَاوَ ،
كَأَنَّهُ رَدَّهُ إلَى مَنْ هُوَ أَهْلٌ مِمَّنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ، وَزَادَ
غَيْرُهُمَا الْوَاوَ ، كَأَنَّهُ جَعَلَهُمْ صِنْفًا آخَرَ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّ إسْقَاطَ الْوَاوِ تَجْعَلُهُ
مُبْتَدَأً ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ بَلْ هُوَ لِمَا تَقَدَّمَ وَصْفٌ ، وَلَنْ
يَحْتَاجَ إلَى إضْمَارٍ ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي سَبَبِ نُزُولِ
الْآيَةِ : رُوِيَ { أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ كُلُّهُمْ
يَنْتَمُونَ إلَى الْأَنْصَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بَنَوْا مَسْجِدًا
ضِرَارًا بِمَسْجِدِ قُبَاءَ ، وَجَاءُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَهُوَ خَارِجٌ إلَى تَبُوكَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَدْ
بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ ،
وَإِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتُصَلِّيَ فِيهِ لَنَا .
فَقَالَ النَّبِيُّ : إنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَشُغْلٍ ،
وَلَوْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ .
فَلَمَّا نَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ رَاجِعًا مِنْ سَفَرِهِ أَرْسَلَ قَوْمًا
لِهَدْمِهِ ، فَهُدِمَ وَأُحْرِقَ }
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى {
ضِرَارًا } : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : ضِرَارًا بِالْمَسْجِدِ ، وَلَيْسَ لِلْمَسْجِدِ
ضِرَارٌ ، إنَّمَا هُوَ ضِرَارٌ لِأَهْلِهِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَكُفْرًا }
: لَمَّا اتَّخَذُوا الْمَسْجِدَ ضِرَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُ لَا حُرْمَةَ
لِمَسْجِدِ قُبَاءَ وَلَا لِمَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَفَرُوا بِهَذَا الِاعْتِقَادِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ : { وَتَفْرِيقًا
بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } : يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً وَاحِدَةً فِي
مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ، فَأَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا شَمْلَهُمْ فِي الطَّاعَةِ ،
وَيَنْفَرِدُوا عَنْهُمْ لِلْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ ، وَهَذَا يَدُلُّك عَلَى
أَنَّ الْمَقْصِدَ الْأَكْثَرَ وَالْغَرَضَ الْأَظْهَرَ مِنْ وَضْعِ الْجَمَاعَةِ
تَأْلِيفُ الْقُلُوبِ ، وَالْكَلِمَةُ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَعَقْدُ الذِّمَامِ
وَالْحُرْمَةُ بِفِعْلِ الدِّيَانَةِ ، حَتَّى يَقَعَ الْأُنْسُ بِالْمُخَالَطَةِ
؛ وَتَصْفُوَ الْقُلُوبُ مِنْ وَضَرِ الْأَحْقَادِ وَالْحَسَادَةِ .
وَلِهَذَا الْمَعْنَى تَفَطَّنَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ حِينَ قَالَ : " إنَّهُ لَا تُصَلِّي جَمَاعَتَانِ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ ،
وَلَا بِإِمَامَيْنِ ، وَلَا بِإِمَامٍ وَاحِدٍ " خِلَافًا لِسَائِرِ
الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ الْمَنْعُ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ
تَشْتِيتًا لِلْكَلِمَةِ ، وَإِبْطَالًا لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ ، وَذَرِيعَةً إلَى
أَنْ نَقُولَ : مَنْ أَرَادَ الِانْفِرَادَ عَنْ الْجَمَاعَةِ كَانَ لَهُ عُذْرٌ ،
فَيُقِيمُ جَمَاعَتَهُ ، وَيُقِيمُ إمَامَتَهُ ؛ فَيَقَعُ الْخِلَافُ ، وَيَبْطُلُ
النِّظَامُ ، وَخَفِيَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُ مَعَهُمْ ،
وَهُوَ أَثْبَتُ قَدَمًا مِنْهُمْ فِي الْحِكْمَةِ ، وَأَعْلَمُ بِمَقَاطِعِ
الشَّرِيعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى {
وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ } : يُقَالُ :
أَرْصَدْتُ كَذَا لِكَذَا إذَا أَعْدَدْتَهُ مُرْتَقِبًا لَهُ ، وَالْخَبَرُ
بِهَذَا الْقَوْلِ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبِ ، سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ ، كَانَ قَدْ حَزَّبَ
الْأَحْزَابَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَ
مَعَهُمْ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، فَلَمَّا خَذَلَهُ اللَّهُ لَحِقَ بِالرُّومِ
يَطْلُبُ النَّصْرَ مِنْ مَلِكِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَبَ إلَى أَهْلِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ ، يَأْمُرُهُمْ
بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ ، لِيُصَلِّيَ فِيهِ إذَا رَجَعَ ، وَأَنْ
يَسْتَعِدُّوا قُوَّةً وَسِلَاحًا ؛ وَلِيَكُونَ فِيهِ اجْتِمَاعُهُمْ لِلطَّعْنِ
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ ،
فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَمْرِهِمْ ، وَأَرْسَلَ لِهَدْمِهِ وَحَرْقَهُ ،
وَنَهَاهُ عَنْ دُخُولِهِ ، فَقَالَ وَهِيَ :
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ : { لَا تَقُمْ
فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ
أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاَللَّهُ
يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ } .
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله
تَعَالَى { أَبَدًا } : ظَرْفُ زَمَانٍ ، وَظُرُوفُ الزَّمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ :
ظَرْفٌ مُقَدَّرٌ كَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ ، وَظَرْفٌ مُبْهَمٌ عَلَى لُغَتِهِمْ
، وَمُطْلَقٌ عَلَى لُغَتِنَا ؛ كَالْحِينِ وَالْوَقْتِ .
وَالْأَبَدُ مِنْ هَذَا الْقِسْمِ ، وَكَذَلِكَ
الدَّهْرُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ ،
وَمُلْجِئَةِ الْمُتَفَقِّهِينَ ، بَيْدَ أَنَّا نُشِيرُ فِيهِ هَاهُنَا إلَى
نُكْتَةٍ مِنْ تِلْكَ الْجُمَلِ ، وَهِيَ أَنَّ " أَبَدًا " وَإِنْ
كَانَ ظَرْفًا مُبْهَمًا لَا عُمُومَ فِيهِ ، وَلَكِنَّهُ إذَا اتَّصَلَ
بِالنَّهْيِ أَفَادَ الْعُمُومَ ، لَا مِنْ جِهَةِ مُقْتَضَاهُ ، وَلَكِنْ مِنْ
جِهَةِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : لَا تَقُمْ فِيهِ لَكَفَى فِي
الِانْكِفَافِ الْمُطْلَقِ ، فَإِذَا قَالَ " أَبَدًا " فَكَأَنَّهُ
قَالَ : لَا تَقُمْ فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ، وَلَا فِي حِينٍ مِنْ
الْأَحْيَانِ ، وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَهْلُ اللِّسَانِ ، وَقَضَى بِهِ فُقَهَاءُ
الْإِسْلَامِ ، فَقَالُوا : لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَبَدًا
طَلُقَتْ طَلْقَةً وَاحِدَةً .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى : { لَمَسْجِدٌ
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى } : اُخْتُلِفَ فِيهِ ، فَقِيلَ : هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ ؛ يُرْوَى عَنْ
جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالْحَسَنُ .
وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِهِ : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ }
وَمَسْجِدُ قُبَاءَ كَانَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ أُسِّسَ بِالْمَدِينَةِ .
وَقِيلَ : هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ .
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ وَأَشْهَبُ عَنْهُ
قَالَ مَالِكٌ : الْمَسْجِدُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ إذْ كَانَ يَقُومُ رَسُولُ اللَّهِ
وَيَأْتِيهِ أُولَئِكَ مِنْ هُنَالِكَ
.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ
لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوك قَائِمًا } هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَزَعَ مَالِكٌ بِاسْتِوَاءِ اللَّفْظَيْنِ
؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي ذَلِكَ تَقُومُ فِيهِ .
وَقَالَ فِي هَذَا قَائِمًا ؛ فَكَانَا وَاحِدًا ،
وَهَذِهِ نَزْعَةٌ غَرِيبَةٌ ، وَكَذَلِكَ رَوَى عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ
مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ قَالَ : { تَمَارَى رَجُلَانِ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ؛ فَقَالَ رَجُلٌ : هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ ؛
وَقَالَ آخَرُ : هُوَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ مَسْجِدِي
هَذَا } .
قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وَجَزَمَ
مُسْلِمٌ أَيْضًا بِمِثْلِهِ .
فَإِنْ قِيلَ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :
فَقَوْلُهُ : { فِيهِ فِيهِ } : ضَمِيرَانِ يَرْجِعَانِ إلَى مُضْمَرٍ وَاحِدٍ
بِغَيْرِ نِزَاعٍ ، وَضَمِيرُ الظَّرْفِ الَّذِي يَقْتَضِي الرِّجَالَ
الْمُتَطَهِّرِينَ هُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ ؛ فَذَلِكَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى
التَّقْوَى ، وَهُوَ مَسْجِدُ قُبَاءَ
.
وَالدَّلِيلُ
عَلَى أَنَّ ضَمِيرَ الرِّجَالِ الْمُتَطَهِّرِينَ هُوَ
ضَمِيرُ مَسْجِدِ قُبَاءَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ؛ قَالَ : نَزَلَتْ هَذِهِ
الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءَ :
{ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا } .
قَالَ : كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ ، فَنَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِيهِمْ .
وَقَالَ قَتَادَةُ { : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ قُبَاءَ : إنَّ
اللَّهَ قَدْ أَحْسَنَ عَلَيْكُمْ الثَّنَاءَ فِي الطَّهُورِ ؛ فَمَا تَصْنَعُونَ
؟ فَقَالُوا : إنَّا نَغْسِلُ أَثَرَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ بِالْمَاءِ } .
قُلْنَا : هَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الطَّهَارَةِ الْمُثْنَى بِهَا عَلَى
أَقْوَالٍ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِمَا نَحْنُ فِيهِ ، كَالتَّطَهُّرِ بِالتَّوْبَةِ
مِنْ وَطْءِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ وَشَبَهِهِ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : { مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ } فَإِنَّمَا
مَعْنَاهُ أَنَّهُ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ مُبْتَدَأِ تَأْسِيسِهِ
أَيْ لَمْ يُشْرَعْ فِيهِ ، وَلَا وُضِعَ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ مِنْهُ إلَّا عَلَى
اعْتِقَادِ التَّقْوَى .
وَاَلَّذِينَ كَانُوا يَتَطَهَّرُونَ ، وَأَثْنَى
اللَّهُ عَلَيْهِمْ جُمْلَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَحْتَاطُونَ عَلَى
الْعِبَادَةِ وَالنَّظَافَةِ ، فَيَمْسَحُونَ مِنْ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ
بِالْحِجَارَةِ تَنْظِيفًا لِأَعْضَائِهِمْ ، وَيَغْتَسِلُونَ بِالْمَاءِ تَمَامًا
لِعِبَادَتِهِمْ ، وَكَمَالًا لِطَاعَتِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : هَذَا ثَنَاءٌ مِنْ
اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَنْ أَحَبَّ الطَّهَارَةَ ، وَآثَرَ النَّظَافَةَ ،
وَهِيَ مُرُوءَةٌ آدَمِيَّةٌ ، وَوَظِيفَةٌ شَرْعِيَّةٌ رَوَى التِّرْمِذِيُّ
وَصَحَّحَهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ أَنْ
يَسْتَطِيبُوا بِالْمَاءِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِيهِمْ " .
وَفِي الصَّحِيحِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْمِلُ مَعَهُ الْمَاءَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ ، فَكَانَ
يَسْتَعْمِلُ الْحِجَارَةَ تَخْفِيفًا ، وَالْمَاءَ تَطْهِيرًا } ، وَاللَّازِمُ
فِي نَجَاسَةِ الْمَخْرَجِ التَّخْفِيفُ ، وَفِي نَجَاسَةِ سَائِرِ الْبَدَنِ أَوْ
الثَّوْبِ التَّطْهِيرُ ؛ وَتِلْكَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ
فِي حَالَتَيْ وُجُودِ الْمَاءِ وَعَدَمِهِ .
وَبِهِ قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ .
وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ : لَا يُسْتَجْمَرُ
بِالْأَحْجَارِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ .
وَفِعْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَوْلَى .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ
وَمَسَائِلِ الْخِلَافِ .
وَأَمَّا إنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ عَلَى الْبَدَنِ أَوْ
الثَّوْبِ فَلِعُلَمَائِنَا فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : فَقَالَ عَنْهُ ابْنُ
وَهْبٍ : يَجِبُ غَسْلُهَا بِالْمَاءِ فِي حَالَتَيْ الذِّكْرِ وَالنِّسْيَانِ ؛
وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ .
وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ : ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ
وَاجِبٍ ؛ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلِ الْحَالَيْنِ جَمِيعًا .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ : يَجِبُ فِي حَالَةِ
الذِّكْرِ دُونَ النِّسْيَانِ ؛ وَهِيَ مِنْ مُفْرَدَاتِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْوُجُوبِ الْمُطْلَقِ قَوْله
تَعَالَى { وَثِيَابَك فَطَهِّرْ } ؛ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِطَهَارَةِ ثِيَابِهِ
حَتَّى إنْ أَتَتْهُ الْعِبَادَةُ وَجَدْته عَلَى حَالَةٍ مُهَيَّأَةٍ
لِأَدَائِهَا .
وَقَدْ قَالَ قَوْمٌ : إنَّ الثِّيَابَ كِنَايَةٌ ،
وَذَلِكَ دَعْوَى لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا .
وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى سُقُوطِ طَهَارَتِهَا
بِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَغُسِلَ بِالْمَاءِ ؛ فَإِنَّ
الْحَجَرَ لَا يُزِيلُهُ .
قُلْنَا : هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ أَمَرَ بِهَا ،
وَعَفَا عَمَّا
وَرَاءَهَا
.
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ حَالِ الذِّكْرِ
وَالنِّسْيَانِ فَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ بُرْهَانُهُ ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ
بِأَنَّ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي
الْخِلَافِيَّاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : بَنَى أَبُو حَنِيفَةَ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى حَرْفٍ ، فَقَالَ : إنَّ النَّجَاسَةَ إذَا كَانَتْ
كَثِيرَةً وَجَبَتْ إزَالَتُهَا ، وَإِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً لَمْ تَجِبْ
إزَالَتُهَا ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِقَدْرِ الدِّرْهَمِ
الْبَغْلِيِّ يَعْنِي كِبَارَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي هِيَ عَلَى قَدْرِ
اسْتِدَارَةِ الدِّينَارِ ، قِيَاسًا عَلَى الْمَسْرَبَةِ .
وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ
الْمُقَدَّرَاتِ عِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا ؛ ؛ فَلَا يُقْبَلُ هَذَا
التَّقْدِيرُ مِنْهُ .
الثَّانِي :
أَنَّ هَذَا الَّذِي خُفِّفَ عَنْهُ فِي الْمَسْرَبَةِ
رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ ، وَالرُّخَصُ لَا يُقَاسَ عَلَيْهَا ،
فَإِنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْقِيَاسِ : فَلَا تُرَدُّ إلَيْهِ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْله تَعَالَى : {
أَحَقُّ } : هُوَ أَفْعَلُ مِنْ الْحَقِّ ، وَأَفْعَلُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بَيْنَ
شَيْئَيْنِ مُشْتَرَكَيْنِ ، لِأَحَدِهِمَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اشْتَرَكَا
فِيهِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْآخَرِ ، فَيُحَلَّى بِأَفْعَلَ ، وَأَحَدُ
الْمَسْجِدَيْنِ وَهُوَ مَسْجِدُ الضِّرَارِ بَاطِلٌ لَا حَظَّ لِلْحَقِّ فِيهِ ،
وَلَكِنْ خَرَجَ هَذَا عَلَى اعْتِقَادِ بَانِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ ، وَاعْتِقَادُ
أَهْلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قُبَاءَ
أَنَّهُ حَقٌّ ، فَقَدْ اشْتَرَكَا فِي الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ ،
لَكِنَّ أَحَدَ الِاعْتِقَادَيْنِ بَاطِلٌ عِنْدَ اللَّهِ ، وَالْآخَرُ حَقٌّ
بَاطِنًا وَظَاهِرًا ، وَهُوَ كَثِيرٌ كَقَوْلِهِ : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا } : يَعْنِي مِنْ أَهْلِ
النَّارِ .
وَلَا خَيْرَ فِي مَقَرِّ النَّارِ وَلَا مَقِيلِهَا ،
وَلَكِنَّهُ جَرَى عَلَى اعْتِقَادِ كُلِّ فِرْقَةٍ أَنَّهَا عَلَى خَيْرٍ ،
وَأَنَّ مَصِيرَهَا إلَيْهِ ؛ إذْ كُلُّ حِزْبٍ فِي قَضَاءِ اللَّهِ بِمَا
لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ، حَتَّى يَتَمَيَّزَ بِالدَّلِيلِ لِمَنْ عُضِّدَ
بِالتَّوْفِيقِ فِي الدُّنْيَا ، أَوْ بِالْعِيَانِ لِمَنْ ضَلَّ فِي الْآخِرَةِ ،
وَقَدْ جَاءَ بَعْدَ هَذَا :
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ : قَوْله تَعَالَى {
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ
مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ وَاَللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
وَهِيَ الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ أَرْبَعِينَ .
وَمَعْنَاهُ :
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى اعْتِقَادِ تَقْوَى
حَقِيقَةٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ ؟
وَإِنْ كَانَ قَصَدَ بِهِ التَّقْوَى ، وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ : الْعَسَلُ
أَحْلَى مِنْ الْخَلِّ ، فَإِنَّ الْخَلَّ حُلْوٌ ، كَمَا أَنَّ الْعَسَلَ حُلْوٌ
؛ وَكُلُّ شَيْءٍ مُلَائِمٌ فَهُوَ حُلْوٌ ، وَلِذَلِكَ يُقَالُ : احْلَوْلَى
الْعِشْقُ ، أَيْ كَانَ حُلْوًا ، لِكَوْنِهِ إمَّا عَلَى مُقْتَضَى اللَّذَّةِ
أَوْ مُوَافَقَةِ الْأُمْنِيَةِ ؟ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُقَدِّمُ
الْخَلَّ عَلَى الْعَسَلِ ، مُفْرَدًا بِمُفْرَدٍ وَمُضَافًا إلَى غَيْرِهِ
بِمُضَافٍ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى { فَانْهَارَ
بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } : قِيلَ : إنَّهُ حَقِيقَةٌ ، { وَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَهُدِمَ رُئِيَ الدُّخَانُ
يَخْرُجُ مِنْهُ } ، مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَغَيْرِهِ : حَتَّى
رُئِيَ الدُّخَانُ فِي زَمَانِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ .
وَقِيلَ : هَذَا مَجَازٌ ، الْمَعْنَى أَنَّ مَآلَهُ
إلَى نَارِ جَهَنَّمَ ، فَكَأَنَّهُ انْهَارَ إلَيْهِ ، وَهَوَى فِيهِ .
وَهَذَا كَقَوْلِهِ : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } إشَارَةٌ
إلَى أَنَّ النَّارَ تَحْتُ ، كَمَا أَنَّ الْجَنَّةَ فَوْقُ .
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَا رَأَيْت
الدُّخَانَ يَخْرُجُ مِنْهُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا لَكَانَ جَابِرٌ رَافِعًا لِلْإِشْكَالِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ اُبْتُدِئَ
بِنِيَّةِ تَقْوَى اللَّهِ ، وَالْقَصْدِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ ، فَهُوَ الَّذِي
يَبْقَى ، وَيَسْعَدُ بِهِ صَاحِبُهُ ، وَيَصْعَدُ إلَى اللَّهِ وَيُرْفَعُ
إلَيْهِ ، وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو
الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ
، وَيُخْبِرُ عَنْهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ : { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ
عِنْدَ رَبِّك } .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى
{ إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ
بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ
وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ
وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا
بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ
وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } .
فِيهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ مَسْأَلَةً : الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى : رُوِيَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اشْتَرِطْ لِرَبِّك وَلِنَفْسِك مَا شِئْت .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ،
وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ
وَأَمْوَالَكُمْ .
قَالَ : فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا ؟ قَالَ :
الْجَنَّةُ .
قَالَ : رَبِحَ الْبَيْعُ .
قَالَ : لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ فَنَزَلَتْ : {
إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ } } .
وَهَذَا مِمَّا لَا يُوجَدُ صَحِيحًا .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ : { ذَهَبَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ ، وَذَهَبَ
مَعَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : تَكَلَّمُوا
يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَأَوْجِزُوا ؛ فَإِنَّ عَلَيْنَا عُيُونًا قَالَ
الشَّعْبِيُّ : فَخَطَبَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ خُطْبَةً مَا
خَطَبَ الْمُرْدُ وَلَا الشِّيبُ مِثْلَهَا قَطُّ .
فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ اشْتَرِطْ لِرَبِّك ،
وَاشْتَرِطْ لِنَفْسِك ، وَاشْتَرِطْ لِأَصْحَابِك .
قَالَ :
أَشْتَرِطُ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا
بِهِ شَيْئًا ، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مَا تَمْنَعُونَ مِنْهُ
أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ، وَأَشْتَرِطُ
لِأَصْحَابِي الْمُوَاسَاةَ فِي ذَاتِ أَيْدِيكُمْ .
قَالُوا : هَذَا لَك ، فَمَا لَنَا ؟ قَالَ : الْجَنَّةُ .
قَالَ : اُبْسُطْ يَدَك } .
وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعًا فَإِنَّ مَعْنَاهُ
ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي هَذِهِ الْآيَةِ
جَوَازُ مُعَامَلَةِ السَّيِّدِ مَعَ عَبْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ
لِلسَّيِّدِ ، لَكِنْ إذَا مَلَكَهُ وَعَامَلَهُ فِيمَا جُعِلَ إلَيْهِ
وَتَاجَرَهُ بِمَا مَلَّكَهُ مِنْ مِلْكِهِ ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ لِلَّهِ ،
وَالْعِبَادُ بِأَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ لِلَّهِ ، وَأَمَرَهُمْ
بِإِتْلَافِهَا فِي طَاعَتِهِ ، وَإِهْلَاكِهَا فِي مَرْضَاتِهِ ، وَأَعْطَاهُمْ
الْجَنَّةَ عِوَضًا عَنْهَا إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِيهَا .
وَهُوَ عِوَضٌ عَظِيمٌ ، لَا يُدَانِيهِ مُعَوَّضٌ وَلَا
يُقَاسُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ
هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ : " ثَامِنَهُمْ وَاَللَّهِ وَأَغْلَى الثَّمَنَ
" ، يُرِيدُ أَنَّهُ أَعْطَاهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَجِبُ لَهُمْ فِي حُكْمِ
الْمُتَاجَرَةِ ، وَلَمْ يَأْتِ الرِّبْحُ عَلَى مِقْدَارِ الشِّرَاءِ ؛ بَلْ
زَادَ عَلَيْهِ وَأَرْبَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَالَ عُلَمَاؤُنَا :
كَمَا اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الْبَالِغِينَ الْمُكَلَّفِينَ كَذَلِكَ
اشْتَرَى مِنْ الْأَطْفَالِ ، فَآلَمَهُمْ وَأَسْقَمَهُمْ ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ
الْمَصْلَحَةِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ لِلْبَالِغِينَ ، وَالثَّوَابِ
لِلْوَالِدَيْنِ وَالْكَافِلَيْنِ فِيمَا يَنَالُهُمْ مِنْ الْهَمِّ ،
وَيَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْ التَّرْبِيَةِ وَالْكَفَالَةِ ؛ وَهَذَا بَدِيعٌ فِي بَابِهِ
مُوَافِقٌ لِمَا تَقَدَّمَ قَبْلَهُ ؛ فَإِنَّ الْبَالِغَ يَمْشِي إلَى الْقَتْلِ
مُخْتَارًا ، وَالطِّفْلَ يَنَالُهُ الْأَلَمُ اقْتِسَارًا .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي
التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ } : إخْبَارٌ مِنْ اللَّهِ أَنَّ هَذَا
كَانَ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ ،
وَقُلْنَا : إنَّ الْجِهَادَ وَمُحَارَبَةَ الْأَعْدَاءِ إنَّمَا أَصْلُهُ مِنْ
عَهْدِ مُوسَى ، فَسُبْحَانَ الْفَعَّالِ لِمَا يُرِيدُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ : { وَمَنْ أَوْفَى
بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ } : الْعَهْدُ يَتَضَمَّنُ الْوَفَاءَ وَالْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ ،
وَلَا بُدَّ مِنْ وَفَاءِ الْبَارِي تَعَالَى بِالْكُلِّ ، فَأَمَّا وَعْدُهُ
فَلِلْجَمِيعِ ، وَأَمَّا وَعِيدُهُ فَمَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْمُذْنِبِينَ
وَبِبَعْضِ الذُّنُوبِ ، وَفِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، فَيَنْفُذُ كَذَلِكَ .
وَقَدْ فَاتَ عُلَمَاءَنَا هَذَا الْمِقْدَارُ عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ
.
.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ : {
التَّائِبُونَ } : الرَّاجِعُونَ عَنْ الْحَالَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي مَعْصِيَةِ
اللَّهِ إلَى الْحَالَةِ الْمَحْمُودَةِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ .
وَالْعَابِدُونَ : هُمْ الَّذِينَ قَصَدُوا
بِطَاعَتِهِمْ وَجْهَهُ .
وَالْحَامِدُونَ : هُمْ الرَّاضُونَ بِقَضَائِهِ ،
وَالْمُصَرِّفُونَ نِعْمَتَهُ فِي طَاعَتِهِ .
وَالسَّائِحُونَ : هُمْ الصَّائِمُونَ فِي هَذِهِ
الْمِلَّةِ ، حَتَّى فَسَدَ الزَّمَانُ فَصَارَتْ السِّيَاحَةُ الْخُرُوجَ مِنْ
الْأَرْضِ عَنْ الْخَلْقِ ، لِعُمُومِ الْفَسَادِ وَغَلَبَةِ الْحَرَامِ ،
وَظُهُورِ الْمُنْكَرِ ، وَلَوْ وَسِعَتْنِي الْأَرْضُ لَخَرَجْت فِيهَا ، لَكِنَّ
الْفَسَادَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا ، فَفِي كُلِّ وَادٍ بَنُو نَحْسٍ ، فَعَلَيْك
بِخُوَيْصَةِ نَفْسِك وَدَعْ أَمْرَ الْعَامَّةِ .
الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ هُمْ الْقَائِمُونَ
بِالْفَرْضِ مِنْ الصَّلَاةِ ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّاهُونَ عَنْ
الْمُنْكَرِ ، الْمُغَيِّرُونَ لِلشِّرْكِ فَمَا دُونَهُ مِنْ الْمَعَاصِي ،
وَالْآمِرُونَ بِالْإِيمَانِ فَمَا دُونَهُ مِنْ الطَّاعَاتِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
مِنْ شُرُوطِهِ .
الْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ : خَاتِمَةُ الْبَيَانِ
وَعُمُومُ الِاشْتِمَالِ لِكُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ .
وَقَوْلُهُ :
{ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ } بِثَوَابِي إذَا كَانُوا
عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ، ثُمَّ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ فِي طَاعَتِي لِلْقَتْلِ ؛
فَحِينَئِذٍ تَكُونُ سِلْعَةً مَرْغُوبًا فِيهَا تَمْتَدُّ إلَيْهَا الْأَطْمَاعُ
، وَتَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ التِّجَارَاتِ وَالْمَتَاعِ ، فَأَمَّا نَفْسٌ لَا
تَكُونُ هَكَذَا ، وَلَا تَتَحَلَّى بِهَذِهِ الْحِلَى فَلَا يُبْذَلُ فِيهَا
فَلْسٌ ، فَكَيْفَ الْجَنَّةُ ؟ لَكِنَّ مَنْ مَعَهُ أَصْلُ الْإِيمَانِ فَهُوَ
مُبَشَّرٌ عَلَى قَدْرِهِ بِعَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ ، وَمَنْ اسْتَوْفَى
هَذِهِ الصِّفَاتِ فَلَهُ الْفَوْزُ قَطْعًا ، وَمَنْ خَلَطَ فَلَا يَقْنَطْ وَلَا
يَأْمَنْ ، وَلْيُمْسِ تَائِبًا ، وَيُصْبِحْ تَائِبًا ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ
فَسَائِلًا لِلتَّوْبَةِ ، فَإِنَّ سُؤَالَهَا دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ ، حَتَّى
يَمُنَّ اللَّهُ بِحُصُولِهَا .
فَهَذِهِ سَبْعُ مَسَائِلَ تَمَامُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ
فِي
الْآيَةِ
.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى
{ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ
أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ
إلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ
لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إنَّ إبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } .
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
سَبَبِ نُزُولِهَا : الْأُولَى : ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيِّبِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ { : لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ
دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو
جَهْلٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ فَقَالَ : يَا عَمِّ ؛ قُلْ لَا
إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ .
فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَبِي أُمَيَّةَ : أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَلَمْ يَزَالَا
يُكَلِّمَانِهِ حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ : أَنَا عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ
الْمُطَّلِبِ .
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَك مَا لَمْ أُنْهَ عَنْك .
فَنَزَلَتْ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ
آمَنُوا } وَنَزَلَتْ : { إنَّك لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت } } .
الثَّانِي :
رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اسْتَغْفَرَ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ ،
وَهُوَ مُشْرِكٌ ، فَلَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي
عَنْهُ رَبِّي .
فَقَالَ أَصْحَابُهُ : لَنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا
كَمَا اسْتَغْفَرَ النَّبِيُّ لِعَمِّهِ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } إلَى : { تَبَرَّأَ مِنْهُ } } .
الثَّالِثَةُ : رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى مَكَّةَ أَتَى رَضْمًا مِنْ حِجَارَةٍ
أَوْ رَسْمًا أَوْ قَبْرًا ، فَجَلَسَ إلَيْهِ ، ثُمَّ قَامَ مُسْتَغْفِرًا .
فَقَالَ : إنِّي اسْتَأْذَنْت رَبِّي فِي زِيَارَةِ
قَبْرِ أُمِّي ، فَأَذِنَ لِي
،
وَاسْتَأْذَنْته فِي الِاسْتِغْفَارِ لَهَا ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي فَمَا رُئِيَ
بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَئِذٍ
} .
وَرُوِيَ {
أَنَّهُ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِهَا حَتَّى سَخِنَتْ
عَلَيْهِ الشَّمْسُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ لَهَا ، حَتَّى
نَزَلَتْ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ } إلَى قَوْلِهِ : { تَبَرَّأَ مِنْهُ } } .
الرَّابِعَةُ : رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { أَنَّ رِجَالًا
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا لَهُ : يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ مِنْ آبَائِنَا مَنْ كَانَ يُحْسِنُ الْجِوَارَ ، وَيَصِلُ
الْأَرْحَامَ ، أَفَلَا نَسْتَغْفِرُ لَهُمْ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ : { مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ } } .
الْخَامِسَةُ : رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : { سَمِعْت
رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِأَبَوَيْهِ ، فَقُلْت : تَسْتَغْفِرُ لَهُمَا ، وَهُمَا
مُشْرِكَانِ ؟ فَقَالَ : أَوَلَمْ يَسْتَغْفِرْ إبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ ، فَذَكَرْته
لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ : { مَا كَانَ
لِلنَّبِيِّ } } .
وَهَذِهِ أَضْعَفُ الرِّوَايَاتِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا } : دَلِيلٌ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ :
إمَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ صَحِيحَةً ، فَنَهَى اللَّهُ
النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ .
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ الرِّوَايَةُ الْأُولَى هِيَ
الصَّحِيحَةَ وَيُخْبَرُ بِهِ عَمَّا فَعَلَ النَّبِيُّ ، وَيُنْهَى
الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يَفْعَلُوا مِثْلَهُ ، تَأْكِيدًا لِلْخَبَرِ ؛ وَسَائِرُ
الرِّوَايَاتِ مُحْتَمَلَاتٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : مَنَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ
وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْ طَلَبِ الْمَغْفِرَةِ لِلْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ
قَدَّرَ أَلَّا تَكُونَ ؛ وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ ، وَسُؤَالِ مَا قَدَّرَ أَنَّهُ
لَا يَفْعَلُهُ ، وَأَخْبَرَ عَنْهُ هُنَا .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ كَسَرُوا رُبَاعِيَّتَهُ ، وَشَجُّوا وَجْهَهُ :
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } .
فَسَأَلَ الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ .
قُلْنَا : عَنْهُ أَرْبَعَةُ أَجْوِبَةٍ : الْأَوَّلُ :
يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَبْلَ النَّهْيِ ، وَجَاءَ النَّهْيُ بَعْدَهُ .
الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ
سُؤَالًا فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عِنْدَهُمْ ، لَا لِسُؤَالِ إسْقَاطِ حُقُوقِ
اللَّهِ ، وَلِلْمَرْءِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَطْلُبَ
الْمَغْفِرَةَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ ، مَرْجُوٌّ إيمَانُهُمْ ، يُمْكِنُ
تَأَلُّفُهُمْ بِالْقَوْلِ الْجَمِيلِ ، وَتَرْغِيبُهُمْ فِي الدِّينِ بِالْعَفْوِ
عَنْهُمْ .
فَأَمَّا مَنْ مَاتَ فَقَدْ انْقَطَعَ مِنْهُ الرَّجَاءُ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَطْلُبَ لَهُمْ الْمَغْفِرَةَ
فِي الدُّنْيَا بِرَفْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُمْ حَتَّى إلَى الْآخِرَةِ ، كَمَا
قَالَ اللَّهُ : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا
كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { وَلَوْ
كَانُوا أُولِي قُرْبَى } : بَيَانٌ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُوجِبَةَ لِلشَّفَقَةِ
جِبِلَّةً ، وَلِلصِّلَةِ مُرُوءَةً تَمْنَعُ مِنْ سُؤَالِ الْمَغْفِرَةِ بَعْدَ
مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ .
قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ : هَذَا إنْ صَحَّ الْخَبَرُ ، وَإِلَّا
فَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ
نَبِيًّا قَبْلَهُ شَجَّهُ قَوْمُهُ ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْبِرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَالَ : { اللَّهُمَّ اغْفِرْ
لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ
} .
خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
مُخْبِرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ : {
سَأَسْتَغْفِرُ لَك رَبِّي إنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا }
فَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ فِي الِاسْتِغْفَارِ لِأَبِي طَالِبٍ ، إمَّا
اعْتِقَادًا ، وَإِمَّا نُطْقًا بِذَلِكَ ، كَمَا وَرَدَ فِي الرِّوَايَةِ
الثَّانِيَةِ ؟ فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ أَنَّ اسْتِغْفَارَ إبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ
كَانَ عَنْ وَعْدٍ قَبْلَ تَبَيُّنِ الْكُفْرِ مِنْهُ ؛ فَلَمَّا تَبَيَّنَ
الْكُفْرَ مِنْهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، فَكَيْفَ تَسْتَغْفِرُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ
لِعَمِّك ، وَقَدْ شَاهَدْت مَوْتَهُ كَافِرًا ؟ :
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : وَظَاهِرُ حَالِ الْمَرْءِ
عِنْدَ الْمَوْتِ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهِ فِي الْبَاطِنِ ، فَإِنْ مَاتَ عَلَى
الْإِيمَانِ حُكِمَ لَهُ بِالْإِيمَانِ ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ حُكِمَ
لَهُ بِالْكُفْرِ ، وَرَبُّك أَعْلَمُ بِبَاطِنِ حَالِهِ ، بَيْدَ { أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ؛ هَلْ نَفَعْت عَمَّك بِشَيْءٍ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُك وَيَحْمِيك ؟
قَالَ : سَأَلْت رَبِّي لَهُ ، فَجَعَلَهُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ تَغْلِي
مِنْهُ دِمَاغُهُ ، وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ } .
وَهَذِهِ شَفَاعَةٌ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ ، وَهِيَ
الشَّفَاعَةُ الثَّانِيَةُ ، وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي قَوْلِهِ :
فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ يَعْنِي بِمَوْتِهِ كَافِرًا
تَبَرَّأَ مِنْهُ .
وَقِيلَ : تَبَيَّنَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ .
وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .
وَقَدْ قَالَ عَطَاءٌ : مَا كُنْت لِأَمْتَنِعَ مِنْ
الصَّلَاةِ عَلَى أَمَةٍ حَبَشِيَّةٍ حُبْلَى مِنْ الزِّنَا ، فَإِنِّي رَأَيْت
اللَّهَ لَمْ يَحْجُبْ الصَّلَاةَ إلَّا عَنْ الْمُشْرِكِينَ ، فَقَالَ : { مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } .
وَصَدَقَ عَطَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ مِنْ ذَلِكَ
أَنَّ الْمَغْفِرَةَ جَائِزَةٌ لِكُلِّ مُذْنِبٍ ؛ فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ ،
وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ حَسَنَةٌ ؛ وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ ؛
لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ الصَّلَاةَ عَلَى الْعُصَاةِ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ؛ فَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا مَا لَا
جَوَابَ لَهُمْ عَنْهُ .
.
الْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى
{ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ
قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَى النَّبِيِّ رَدُّهُ مِنْ حَالَةِ الْغَفْلَةِ إلَى حَالَةِ
الذِّكْرِ ، وَتَوْبَةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ رُجُوعُهُمْ مِنْ حَالَةِ
الْمَعْصِيَةِ إلَى حَالَةِ الطَّاعَةِ ، وَانْتِقَالُهُمْ مِنْ حَالَةِ الْكَسَلِ
إلَى حَالَةِ النَّشَاطِ ، وَخُرُوجُهُمْ عَنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ وَالْقُعُودِ
إلَى حَالَةِ السَّفَرِ وَالْجِهَادِ
.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَتَوْبَةُ اللَّهِ تَكُونُ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : دُعَاؤُهُ إلَى التَّوْبَةِ ، يُقَالُ : تَابَ اللَّهُ
عَلَى فُلَانٍ ، أَيْ دَعَاهُ ، وَيُقَالُ : تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ : يَسَّرَهُ
لِلتَّوْبَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ خَبَرًا ، وَقَدْ يَكُونُ دُعَاءً .
وَيُقَالُ : تَابَ عَلَيْهِ : ثَبَّتَهُ عَلَيْهَا ، وَيُقَالُ :
تَابَ عَلَيْهِ : قَبِلَ تَوْبَتَهُ ؛ وَذَلِكَ كُلُّهُ صَحِيحٌ ، وَقَدْ جَمَعَ
لِهَؤُلَاءِ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَيَفْتَرِقُ فِي سَائِرِ النَّاسِ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَدْعُوهُ إلَى التَّوْبَةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ وَلَا يُيَسِّرُهَا
لَهُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهَا وَيُيَسِّرُهَا وَلَا يُدِيمُهَا ،
فَإِنْ دَامَتْ إلَى الْمَوْتِ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { فِي
سَاعَةِ الْعُسْرَةِ } : يَعْنِي جَيْشَ تَبُوكَ ؛ خَرَجَ النَّاسُ إلَيْهَا فِي
جَهْدٍ وَحَرٍّ وَرِجْلَةٍ وَعُرْيٍ وَحَفَاءٍ ، حَتَّى لَقَدْ رُوِيَ فِي
قَوْلِهِ : { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ } .
{ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إذَا مَا أَتَوْك
لِتَحْمِلَهُمْ قُلْت لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ } أَنَّهُمْ طَلَبُوا نِعَالًا .
وَفِي الْحَدِيثِ : { لَا يَزَالُ الرَّجُلُ رَاكِبًا
مَا انْتَعَلَ } .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ : { مِنْ بَعْدِ
مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ } : أَمَّا هَذَا فَلَيْسَ
لِلنَّبِيِّ فِيهِ مَدْخَلٌ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمُوَحِّدِينَ ، أَمَّا أَنَّهُ
قَدْ قِيلَ : إنَّهُ يَدْخُلُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ إذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ فِي
التَّخَلُّفِ فَعَذَرَهُ اللَّهُ فِي إذْنِهِ لَهُمْ ، وَتَابَ عَلَيْهِ
وَعَذَرَهُ ، وَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ صَوَابَ فِعْلِهِ بِقَوْلِهِ : { لَوْ
خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا } إلَى : { الْفِتْنَةَ } .
وَأَمَّا غَيْرُ النَّبِيِّ فَكَادَ تَزِيغُ قُلُوبُ
فَرِيقٍ مِنْهُمْ بِبَقَائِهِمْ بَعْدَهُ ، كَأَبِي حَثْمَةَ وَغَيْرِهِ ،
بِإِرَادَتِهِمْ الرُّجُوعَ مِنْ الطَّرِيقِ حِينَ أَصَابَهُمْ الْجَهْدُ ،
وَاشْتَدَّ عَلَيْهِمْ الْعَطَشُ ، حَتَّى نَحَرُوا إبِلَهُمْ ، وَعَصَرُوا
كُرُوشَهَا ، فَاسْتَسْقَى رَسُولُ اللَّهِ ، فَنَزَلَ الْمَطَرُ ؛ وَلِهَذَا
جَازَ لِلْإِمَامِ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ
اعْتَذَرَ إلَيْهِ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَالِ ، وَرِفْقًا بِالْخَلْقِ ،
اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْلُهُ
تَعَالَى : { وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَتْ
عَلَيْهِمْ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا
أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إلَّا إلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا
إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ ، وَبَرَدَ
الظِّلَالُ ، وَخَرَجَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ ، وَهِيَ الْعُسْرَةُ الَّتِي افْتَضَحَ
فِيهَا النَّاسُ ، وَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ قَدْ تَخَلَّفَ ، وَرَجُلٌ مِنْ
بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَآخَرُ مِنْ بَنِي وَاقِدٍ .
وَخَرَجَ رَجُلٌ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَسْقِي وَدِيًّا لَهُ ، فَقِيلَ لَهُ : كَيْفَ لَك
بِسَقْيِ وَدِيِّك هَذَا ، فَقَالَ : الْغَزْوُ خَيْرٌ مِنْ الْوَدِيِّ ، فَرَجَعَ
، وَقَدْ أَصْلَحَ اللَّهُ وَدِيَّهُ ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ هَجَرُوا كَعْبًا وَصَاحِبَيْهِ ،
وَلَمْ يَعْتَذِرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَذَرَ
غَيْرُهُمْ .
قَالَ : فَأَقَامَ كَعْبٌ وَصَاحِبَاهُ لَمْ
يُكَلِّمْهُمْ أَحَدٌ ، وَكَانَ كَعْبٌ يَدْخُلُ عَلَى الرَّجُلِ فِي الْحَائِطِ ،
فَيَقُولُ لَهُ : أَنْشُدُك اللَّهَ ، أَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ ؟ فَيَقُولُ : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ
هُمْ : كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ ، وَهِلَالُ بْنُ
أُمَيَّةَ .
كَمَا تَقَدَّمَ .
{ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ مَقْفِلَهُ مِنْ
تَبُوكَ ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ جَاءَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ يَعْتَذِرُونَ
إلَيْهِ ، وَهُمْ ثَمَانُونَ رَجُلًا ، فَقَبِلَ النَّبِيُّ ظَاهِرَ حَالِهِمْ ،
وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللَّهِ ، إلَّا هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ ،
فَإِنَّهُمْ صَدَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
{ قَالَ كَعْبٌ فِي حَدِيثِهِ : حَتَّى جِئْت
فَسَلَّمْت عَلَيْهِ ، فَتَبَسَّمَ تَبَسُّمَ
الْمُغْضَبِ ، ثُمَّ قَالَ لِي
: تَعَالَ فَجِئْت أَمْشِي حَتَّى جَلَسْت بَيْنَ
يَدَيْهِ ، فَقُلْت لَهُ : وَاَللَّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ .
فَقَالَ : أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ ، فَقُمْ ، حَتَّى
يَقْضِيَ اللَّهُ فِيك .
قَالَ كَعْبٌ : وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةَ ، مِنْ بَيْنِ مَنْ
تَخَلَّفَ عَنْهُ ، قَالَ : فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ ، أَوْ قَالَ : تَغَيَّرُوا
لَنَا حَتَّى تَنَكَّرَتْ لِي نَفْسِي ، وَالْأَرْضُ حَتَّى مَا هِيَ بِالْأَرْضِ
الَّتِي كُنْت أَعْرِفُ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ : فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ
الَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ وَلَا الْأَرْضُ بِالْأَرْضِ الَّتِي كُنْت أَعْرِفُ
وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ : وَصَلَّيْت الصُّبْحَ صَبِيحَةَ خَمْسِينَ
لَيْلَةً ، وَأَنَا كَمَا قَالَ اللَّهُ : { حَتَّى إذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ
الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ } .
إذَا صَارِخٌ يَصْرُخُ أَوْفَى عَلَى ظَهْرِ جَبَلِ
سَلْعٍ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ : أَبْشِرْ يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ ، أَبْشِرْ
، فَخَرَرْت سَاجِدًا } وَسَاقَ الْحَدِيثَ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَاقِبَ
الْمُذْنِبَ بِتَحْرِيمِ كَلَامِهِ عَلَى النَّاسِ أَدَبًا لَهُ ، وَهَكَذَا فِي
الْإِنْجِيلِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : وَعَلَى تَحْرِيمِ أَهْلِهِ
عَلَيْهِ ، وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَالْحَدِيثُ مُطَوَّلٌ ،
وَفِيهِ فِقْهٌ كَثِيرٌ قَدْ أَوْرَدْنَاهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ عَلَيْكُمْ ،
وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا وَإِيَّاكُمْ
.
الْآيَةُ الْخَامِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } .
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي تَفْسِيرِ الصَّادِقِينَ : وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُمْ
الَّذِينَ اسْتَوَتْ ظَوَاهِرُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ .
الثَّانِي : أَنَّهُمْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ
: { لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى {
الْمُتَّقُونَ } .
الثَّالِثُ
: أَنَّهُمْ الْمُهَاجِرُونَ ؛ وَقَدْ رُوِيَ كَمَا
قَدَّمْنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِلْأَنْصَارِ يَوْمَ سَقِيفَةِ بَنِي
سَاعِدَةَ : إنَّ اللَّهَ سَمَّانَا الصَّادِقِينَ ؛ فَقَالَ : { لِلْفُقَرَاءِ
الْمُهَاجِرِينَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { هُمْ الصَّادِقُونَ } ثُمَّ سَمَّاكُمْ
الْمُفْلِحِينَ ، فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ } .
وَقَدْ أَمَرَكُمْ اللَّهُ أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا
حَيْثُ كُنَّا ، فَقَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ }
.
الرَّابِعُ : أَنَّ الصَّادِقِينَ هُمْ الْمُسْلِمُونَ ،
وَالْمُخَاطَبُونَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ .
الْخَامِسُ :
الصَّادِقُونَ هُمْ الْمُوفُونَ بِمَا عَاهَدُوا ،
وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ
عَلَيْهِ } .
السَّادِسُ :
هُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابُهُ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ؛ أَوْ السَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ ، وَهُوَ السَّابِعُ
.
الثَّامِنُ : هُمْ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ خُلِّفُوا .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْقِيقِ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ : أَمَّا الْأَوَّلُ
: فَهُوَ الْحَقِيقَةُ وَالْغَايَةُ الَّتِي إلَيْهَا
الْمُنْتَهَى فِي هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَبِهَا يَرْتَفِعُ النِّفَاقُ فِي
الْعَقِيدَةِ ، وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْفِعْلِ ، وَصَاحِبُهَا يُقَالُ لَهُ
صِدِّيقٌ ، وَهِيَ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَمَنْ دُونَهُمَا عَلَى
مَنَازِلِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ
.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ بِالثَّانِي : فَهُوَ مُعْظَمُ
الصِّدْقِ ، وَمَنْ أَتَى الْمُعَظَّمَ فَيُوشِكُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْأَقَلُّ ،
وَهُوَ مَعْنَى
الْخَامِسِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُهُ ، وَقَدْ دَخَلَ فِيهِ
ذِكْرُهُ .
وَأَمَّا تَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ : فَهُوَ
الَّذِي يَعُمُّ الْأَقْوَالَ كُلَّهَا ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الصِّفَاتِ مَوْجُودَةٌ
فِيهِمْ .
وَأَمَّا الْقَوْلُ الرَّابِعُ : فَصَحِيحٌ وَهُوَ
بَعْضُهُ أَيْضًا ، وَيَكُونُ الْمُخَاطَبُ أَهْلَ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ .
وَالسَّادِسُ : تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ .
وَالسَّابِعُ : يَكُونُ الْمُخَاطَبُ الثَّمَانِينَ
رَجُلًا الَّذِينَ تَخَلَّفُوا وَاعْتَذَرُوا وَكَذَبُوا ، أُمِرُوا أَنْ
يَكُونُوا مَعَ الثَّلَاثَةِ الصَّادِقِينَ ؛ وَيَدْخُلُ هَذَا فِي جُمْلَةِ
الصِّدْقِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ } : قَدْ تَقَدَّمَتْ حَقِيقَةُ
التَّقْوَى ، وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ هَاهُنَا فِيهَا قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا
: اخْتَلَقُوا الْكَذِبَ .
وَالثَّانِي : فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ، وَهُمَا بَعْضُ
التَّقْوَى ، وَالصَّحِيحُ عُمُومُهَا
.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى
أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَاذِبِ وَلَا شَهَادَتُهُ .
قَالَ مَالِكٌ : لَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَاذِبِ فِي
حَدِيثِ النَّاسِ وَإِنْ صَدَقَ فِي حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : يُقْبَلُ حَدِيثُهُ ، وَالْقَبُولُ
فِيهِ مَرْتَبَةٌ عَظِيمَةٌ ، وَوِلَايَةٌ لَا تَكُونُ إلَّا لِمَنْ كَرُمَتْ
خِصَالُهُ ، وَلَا خَصْلَةَ هِيَ أَشَرُّ مِنْ الْكَذِبِ ، فَهِيَ تَعْزِلُ
الْوِلَايَاتِ ، وَتُبْطِلُ الشَّهَادَاتِ .
الْآيَةُ السَّادِسَةُ وَالْأَرْبَعُونَ : { مَا كَانَ
لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ
بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ
عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إنَّ اللَّهَ لَا
يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا
كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ
أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
} .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْله تَعَالَى
{ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ } : أَيْ مَا كَانَ لِهَؤُلَاءِ
الْمَذْكُورِينَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ
يُسْتَنْفَرُوا ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّفِيرُ مِنْهُمْ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ ،
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِنْفَارُ فِي كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَخَصَّ
هَؤُلَاءِ بِالْعِتَابِ لِقُرْبِهِمْ وَجِوَارِهِمْ ، وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ
بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَلَا
يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ } : دَلِيلٌ عِنْدَ عُلَمَائِنَا عَلَى
أَنَّ الْغَنِيمَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْإِدْرَابِ وَالْكَوْنِ فِي بِلَادِ
الْعَدُوِّ ؛ فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ سَهْمُهُ ؛ وَهُوَ قَوْلُ
أَشْهَبَ ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ ، وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ .
وَقَالَ مَالِكٌ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ : لَا شَيْءَ لَهُ
؛ لِأَنَّ اللَّهَ إنَّمَا كَتَبَ لَهُ بِالْآخِرَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ السَّهْمَ .
وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَسَائِلِ
الْخِلَافِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى { وَلَا
يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إلَّا
كُتِبَ لَهُمْ } : يَعْنِي كُتِبَ لَهُمْ ثَوَابُهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ فِي الْمُجَاهِدِ : إنَّ أَرْوَاثَ دَوَابِّهِ
وَأَبْوَالَهَا حَسَنَاتٌ ، وَرَعْيَهَا حَسَنَاتٌ ، وَقَدْ زَادَنَا اللَّهُ
تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ .
فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ بِعَيْنِهَا : { إنَّ
بِالْمَدِينَةِ قَوْمًا مَا سَلَكْتُمْ وَادِيًا ، وَلَا قَطَعْتُمْ شِعْبًا إلَّا
وَهُمْ مَعَكُمْ ، حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ } ؛ فَأَعْطَى لِلْمَعْذُورِ مِنْ
الْأَجْرِ مَا أَعْطَى لِلْقَوِيِّ الْعَامِلِ بِفَضْلِهِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّمَا يَكُونُ لَهُ
الْأَجْرُ غَيْرَ مُضَاعَفٍ ، وَيُضَاعَفُ لِلْعَامِلِ الْمُبَاشِرِ .
وَهَذَا تَحَكُّمٌ عَلَى اللَّهِ ، وَتَضْيِيقٌ لِسَعَةِ
رَحْمَتِهِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ .
وَلِذَلِكَ قَدْ رَابَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهِ ، فَقَالَ
أَنْتُمْ تُعْطَوْنَ الثَّوَابَ مُضَاعَفًا قَطْعًا ، وَنَحْنُ لَا نَقْطَعُ
بِالتَّضْعِيفِ فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مِقْدَارِ النِّيَّاتِ ،
وَهُوَ أَمْرٌ مُغَيَّبٌ ، وَاَلَّذِي يَقْطَعُ بِهِ أَنَّ هُنَالِكَ تَضْعِيفًا ،
وَرَبُّك أَعْلَمُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ وَصْفُ الْعَامِلِينَ
الْمُجَاهِدِينَ ، وَحَالُ الْقَاعِدِينَ التَّائِبِينَ ، وَلَمَّا ذَكَرَ
الْمُتَخَلِّفِينَ الْمُعْتَذِرِينَ بِالْبَاطِلِ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ :
ذَكَرُوا فِي بِشْرٍ مَا ذُكِرَ بِهِ أَحَدٌ ، فَقَالَ : { يَعْتَذِرُونَ
إلَيْكُمْ إذَا رَجَعْتُمْ } .
الْآيَةُ السَّابِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى
{ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِيهَا أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ جِمَاعُهَا أَرْبَعَةٌ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَرْسَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَلِّمُوا النَّاسَ الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ ، فَلَمَّا
نَزَلَ مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ رَجَعَ أُولَئِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
عُذْرَهُمْ ؛ قَالَهُ مُجَاهِدٌ
.
وَقَالَ : هَلَّا جَاءَ بَعْضُهُمْ وَبَقِيَ عَلَى
التَّعْلِيمِ الْبَعْضُ .
الثَّانِي :
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ مَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا جَمِيعًا ، وَيَتْرُكُوا نَبِيَّهُمْ ، وَلَكِنْ
يَخْرُجُ بَعْضُهُمْ ، وَيَبْقَى الْبَعْضُ فِيمَا يَنْزِلُ مِنْ الْقُرْآنِ ،
وَيَجْرِي مِنْ الْعِلْمِ وَالْأَحْكَامِ ، يُعَلِّمُهُ الْمُتَخَلِّفَ لِلسَّارِي
عِنْدَ رُجُوعِهِ ، وَقَالَهُ قَتَادَةُ .
الثَّالِثُ
: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا : إنَّهَا نَزَلَتْ فِي
الْجِهَادِ ، وَلَكِنْ لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَلَى مُضَرَ بِالسِّنِينَ أَجْدَبَتْ بِلَادُهُمْ ، فَكَانَتْ
الْقَبِيلَةُ مِنْهُمْ تُقْبِلُ بِأَسْرِهَا حَتَّى يَحُلُّوا بِالْمَدِينَةِ مِنْ
الْجَهْدِ ، وَيَعْتَلُّوا بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ كَاذِبُونَ ، فَضَيَّقُوا عَلَى
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْهَدُوهُمْ ،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ يُخْبِرُ رَسُولَهُ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُؤْمِنِينَ ،
فَرَدَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى
عَشَائِرِهِمْ ، وَحَذَّرَ قَوْمَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ ، فَذَلِكَ
قَوْلُهُ : { وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ
} .
الرَّابِعُ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ
: نَسَخَتْهَا : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَحْرِيرِ
الْأَقْوَالِ : أَمَّا نَسْخُ بَعْضِ هَذِهِ لِبَعْضٍ فَيَفْتَقِرُ إلَى
مَعْرِفَةِ
التَّارِيخِ فِيهَا .
وَأَمَّا الظَّاهِرُ فَنَسْخُ الِاسْتِنْفَارِ الْعَامِّ
؛ لِأَنَّهُ الطَّارِئُ ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ يَغْزُو فِي فِئَامٍ مِنْ النَّاسِ ، وَلَمْ يَسْتَوْفِ قَطُّ جَمِيعَ
النَّاسِ ، إلَّا فِي غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ
أَنَّ الْخُرُوجَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ لَا يَلْزَمُ الْأَعْيَانَ ، وَإِنَّمَا
هُوَ عَلَى الْكِفَايَةِ .
قَالَ الْقَاضِي : إنَّمَا يَقْتَضِي ظَاهِرُ هَذِهِ
الْآيَةِ الْحَثَّ عَلَى طَلَبِ الْعِلْمِ وَالنَّدْبَ إلَيْهِ دُونَ الْإِلْزَامِ
وَالْوُجُوبِ ، وَاسْتِحْبَابَ الرِّحْلَةِ فِيهِ وَفَضْلَهَا .
فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَلَيْسَ فِي قُوَّةِ الْكَلَامِ ؛
وَإِنَّمَا لَزِمَ طَلَبُ الْعِلْمِ بِأَدِلَّتِهِ ؛ فَأَمَّا مَعْرِفَةُ اللَّهِ
فَبِأَوَامِرِ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ .
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الرَّسُولِ فَلِوُجُوبِ الْأَمْرِ
بِالتَّصْدِيقِ بِهِ ، وَلَا يَصِحُّ التَّصْدِيقُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ .
وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْوَظَائِفِ فَلِأَنَّ مَا ثَبَتَ
وُجُوبُهُ ثَبَتَ وُجُوبُ الْعِلْمِ بِهِ لِاسْتِحَالَةِ أَدَائِهَا إلَّا
بِعِلْمٍ ، ثُمَّ يَنْشَأُ عَلَى هَذَا أَنَّ الْمَزِيدَ عَلَى الْوَظَائِفِ
مِمَّا فِيهِ الْقِيَامُ بِوَظَائِفِ الشَّرِيعَةِ كَتَحْصِينِ الْحُقُوقِ
وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ وَنَحْوِهِ مِنْ فُرُوضِ
الْكِفَايَةِ ؛ إذْ لَا يَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَهُ جَمِيعُ النَّاسِ ، فَتَضِيعَ
أَحْوَالُهُمْ وَأَحْوَالُ سِوَاهُمْ ، وَيَنْقُصَ أَوْ يَبْطُلَ مَعَاشُهُمْ ،
فَتَعَيَّنَ بَيْنَ الْحَالَيْنِ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْبَعْضُ مِنْ غَيْرِ
تَعْيِينٍ ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا يُيَسِّرُ اللَّهُ الْعِبَادَ لَهُ ،
وَيُقَسِّمُهُ بَيْنَهُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ بِسَابِقِ قُدْرَتِهِ
وَكَلِمَتِهِ ، وَيَأْتِي تَحْقِيقُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الطَّائِفَةُ : فِي
اللُّغَةِ : الْجَمَاعَةُ .
قِيلَ : وَيَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ عَلَى مَعْنَى
نَفْسِ طَائِفَةٍ .
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ ، فَإِنَّ الْهَاءَ فِي
مِثْلِ هَذَا إنَّمَا هِيَ لِلْكَثْرَةِ ، كَمَا يُقَالُ رَاوِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَ
يَأْتِي بِغَيْرِهِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُرَادَ هَاهُنَا جَمَاعَةٌ
لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عَقْلًا وَالْآخَرُ لُغَةً : أَمَّا الْعَقْلُ :
فَلِأَنَّ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ لَا يَتَحَصَّلُ بِوَاحِدٍ فِي الْغَالِبِ .
وَأَمَّا اللُّغَةُ : فَلِقَوْلِهِ : { لِيَتَفَقَّهُوا
} { وَلِيُنْذِرُوا } ؛ فَجَاءَ بِضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ .
وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ ، وَالشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ
قَبْلَهُ ، يَرَوْنَ أَنَّ الطَّائِفَةَ هَاهُنَا وَاحِدٌ .
وَيَعْتَضِدُونَ فِيهِ بِالدَّلِيلِ عَلَى وُجُوبِ
الْعَمَلِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
.
وَهُوَ صَحِيحٌ لَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّائِفَةَ
تَنْطَلِقُ عَلَى الْوَاحِدِ ، وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ أَنَّ خَبَرَ الشَّخْصِ
الْوَاحِدِ أَوْ الْأَشْخَاصِ خَبَرٌ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ مُقَابِلَهُ وَهُوَ
التَّوَاتُرُ لَا يَنْحَصِرُ بِعَدَدٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ ،
وَهَذِهِ إشَارَتُهُ .
الْآيَةُ الثَّامِنَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ
الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ } .
قَدْ قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ
بِأَوَامِرَ مُتَعَدِّدَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْمُتَعَلِّقَاتِ ، فَقَالَ : {
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ
مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
} .
وَقَالَ : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ } .
وَقَالَ : { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } .
وَقَالَ : { قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ } .
وَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ مُنَاسِبٌ ، وَالْمَقْصُودُ
قِتَالُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ ، وَقِتَالُ الْكُفَّارِ
أَيْنَمَا وُجِدُوا ، وَقِتَالُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جُمْلَتِهِمْ ، وَهُمْ
الرُّومُ ، وَبَعْضُ الْحُبْشَانِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَكَيَّفُ لِوَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : بِالِابْتِدَاءِ مِمَّنْ يَلِي ، فَيُقَاتِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَنْ
يَلِيهِ ، وَيَتَّفِقُ أَنْ يَبْدَأَ الْمُسْلِمُونَ كُلُّهُمْ بِالْأَهَمِّ
مِمَّنْ يَلِيهِمْ ، أَوْ الَّذِينَ يُتَيَقَّنُ الظَّفَرُ بِهِمْ .
وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ بِمَنْ نَبْدَأُ بِالرُّومِ
أَوْ بِالدَّيْلَمِ ؟ فَقَالَ : بِالرُّومِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي الْأَثَرِ : " اُتْرُكُوا
الرَّابِضِينَ مَا تَرَكُوكُمْ " يَعْنِي الرُّومَ وَالْحَبَشَ .
وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَصَحُّ ، وَبُدَاءَتُهُ
بِالرُّومِ قَبْلَ الدَّيْلَمِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُمْ
أَهْلُ الْكِتَابِ ؛ فَالْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ وَآكَدُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُمْ إلَيْنَا أَقْرَبُ ، أَعْنِي
أَهْلَ الْمَدِينَةِ .
الثَّالِثُ : أَنَّ بِلَادَ الْأَنْبِيَاءِ فِي
بِلَادِهِمْ أَكْثَرُ ، فَاسْتِنْقَاذُهَا مِنْهُمْ أَوْجَبُ .
الْآيَةُ التَّاسِعَةُ وَالْأَرْبَعُونَ قَوْله تَعَالَى
{ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ
هَذِهِ إيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إيمَانًا وَهُمْ
يَسْتَبْشِرُونَ } .
قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
وَنُقْصَانِهِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ ، وَاسْتِيفَاؤُهُ فِي كُتُبِ
الْأُصُولِ .
الْآيَةُ الْمُوفِيَةُ خَمْسِينَ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا مَا
أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ
ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } .
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :
{ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ
} : فِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : إذَا أُنْزِلَتْ
سُورَةٌ فِيهَا فَضِيحَتُهُمْ ، أَوْ فَضِيحَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ جَعَلَ يَنْظُرُ
بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ ، يَقُولُ : هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ إذَا
تَكَلَّمْتُمْ بِهَذَا فَيَنْقُلُهُ إلَى مُحَمَّدٍ ؟ وَذَلِكَ جَهْلٌ مِنْهُمْ
بِنُبُوَّتِهِ ، وَأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا شَاءَ مِنْ غَيْبِهِ .
الثَّانِي : إذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فِيهَا الْأَمْرُ
بِالْقِتَالِ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ نَظَرَ الرُّعْبِ ، وَأَرَادُوا
الْقِيَامَ عَنْهُ ، لِئَلَّا يَسْمَعُوا ذَلِكَ ، يَقُولُونَ : هَلْ يَرَاكُمْ
إذَا انْصَرَفْتُمْ مِنْ أَحَدٍ ؟ ثُمَّ يَقُومُونَ وَيَنْصَرِفُونَ ، صَرَفَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ :
يُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ انْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ قَوْمًا
انْصَرَفُوا فَصَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَلَكِنْ قُولُوا قَضَيْنَا الصَّلَاةَ .
وَهَذَا كَلَامٌ فِيهِ نَظَرٌ ، وَمَا أَظُنُّهُ يَصِحُّ
عَنْهُ ، فَإِنَّ نِظَامَ الْكَلَامِ أَنْ يُقَالَ : لَا يَقُلْ أَحَدٌ
انْصَرَفْنَا مِنْ الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ قَوْمًا قِيلَ فِيهِمْ : ثُمَّ
انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ كَانَ مَقُولًا فِيهِمْ
، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ .
وَقَدْ أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ
الْبُسْتِيُّ الْوَاعِظُ قَالَ : أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيُّ
سَمَاعًا عَلَيْهِ ، يَقُولُ : كُنَّا فِي جِنَازَةٍ ، فَقَالَ الْمُنْذِرُ بِهَا
: انْصَرِفُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ فَقَالَ : لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ انْصَرِفُوا ،
فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمٍ ذَمَّهُمْ : { ثُمَّ انْصَرَفُوا
صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } وَلَكِنْ قُولُوا : انْقَلِبُوا رَحِمَكُمْ اللَّهُ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي قَوْمٍ مَدَحَهُمْ : { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ
اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ : { صَرَفَ
اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } : إخْبَارٌ عَنْ أَنَّهُ صَارِفُ الْقُلُوبِ وَمُصَرِّفُهَا
وَقَالِبُهَا وَمُقَلِّبُهَا رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ فِي اعْتِقَادِهِمْ
أَنَّ قُلُوبَ الْخَلْقِ بِأَيْدِيهِمْ وَجَوَارِحَهُمْ بِحُكْمِهِمْ ،
يَتَصَرَّفُونَ بِمَشِيئَتِهِمْ ، وَيَحْكُمُونَ بِإِرَادَتِهِمْ ،
وَاخْتِيَارِهِمْ ، وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ أَشْهَبُ : مَا
أَبْيَنَ هَذَا فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ : { لَا يَزَالُ
بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إلَّا أَنْ تَقَطَّعَ
قُلُوبُهُمْ } .
وقَوْله تَعَالَى لِنُوحٍ : { أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ
مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ
} .
فَهَذَا لَا يَكُونُ أَبَدًا وَلَا يَرْجِعُ وَلَا
يُزَالُ .
الْآيَةُ الْحَادِيَةُ وَالْخَمْسُونَ قَوْله تَعَالَى {
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي
ثُبُوتِهَا : اعْلَمُوا وَفَّقَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ عَظِيمَةُ
الْقَدْرِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّافِضَةَ كَادَتْ الْإِسْلَامَ بِآيَاتٍ وَحُرُوفٍ
نَسَبَتْهَا إلَى الْقُرْآنِ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ أَنَّهَا مِنْ
الْبُهْتَانِ الَّذِي نَزَغَ بِهِ الشَّيْطَانُ ، وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ
نَقَلُوهَا وَأَظْهَرُوهَا حِينَ كَتَمْنَاهَا نَحْنُ ، وَقَالُوا : إنَّ
الْوَاحِدَ يَكْفِي فِي نَقْلِ الْآيَةِ وَالْحُرُوفِ كَمَا فَعَلْتُمْ ،
فَإِنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ آيَةً بِقَوْلِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ
ثَابِتٍ ، وَهِيَ قَوْلُهُ : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ } ؛ وَقَوْلُهُ : { مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ } .
قُلْنَا : إنَّ الْقُرْآنَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِنَقْلِ
التَّوَاتُرِ ، بِخِلَافِ السُّنَّةِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِنَقْلِ الْآحَادِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقُرْآنَ مُعْجِزَةُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّاهِدَةُ بِصِدْقِهِ ،
الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّتِهِ ، فَأَبْقَاهَا اللَّهُ عَلَى أُمَّتِهِ ،
وَتَوَلَّى حِفْظَهَا بِفَضْلِهِ ، حَتَّى لَا يُزَادَ فِيهَا وَلَا يُنْقَصَ
مِنْهَا .
وَالْمُعْجِزَاتُ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُعَايَنَةً إنْ
كَانَتْ فِعْلًا ، وَإِمَّا أَنْ تَثْبُتَ تَوَاتُرًا إنْ كَانَتْ قَوْلًا ،
لِيَقَعَ الْعِلْمُ بِهَا ، أَوْ تُنْقَلَ صُورَةُ الْفِعْلِ فِيهَا أَيْضًا
نَقْلًا مُتَوَاتِرًا حَتَّى يَقَعَ الْعِلْمُ بِهَا ، كَأَنَّ السَّامِعَ لَهَا
قَدْ شَاهَدَهَا ، حَتَّى تَنْبَنِيَ الرِّسَالَةُ عَلَى أَمْرٍ مَقْطُوعٍ بِهِ ،
بِخِلَافِ السُّنَّةِ ؛ فَإِنَّ الْأَحْكَامَ يُعْمَلُ فِيهَا عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ
؛ إذْ لَيْسَ فِيهَا مَعْنًى أَكْثَرُ مِنْ التَّعَبُّدِ .
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يُرْسِلُ كُتُبَهُ مَعَ الْوَاحِدِ ، وَيَأْمُرُ الْوَاحِدَ أَيْضًا
بِتَبْلِيغِ كَلَامِهِ ، وَيَبْعَثُ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق